فصل: تفسير الآيات (16- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (16- 18):

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}
لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد، ذكر دلائله السماوية، وبدأ بها ثم أتبعها بالدلائل الأرضية. وقال ابن عطية: لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها، عقب ذلك بهذه الآية كأنه قال: وإنّ في السماء لعبراً منصوبة عبر عن هذه المذكورة، وكفرهم بها، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو انتهى. والظاهر أن جعلنا بمعنى خلقنا، وفي السماء متعلق بجعلنا. ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا، وفي السماء المفعول الثاني، فيتعلق بمحذوف. والبروج جمع برج، وتقدم شرحه لغة. قال الحسن وقتادة: هي النجوم. وقال أبو صالح: الكواكب السيارة. وقال علي بن عيسى: اثنا عشر برجاً: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وهي منازل الشمس والقمر. وقال ابن عطية: قصور في السماء فيها الحرس، وهي المذكورة في قوله: {ملئت حرساً شديداً وشهباً} وقيل: الفلك اثنا عشر برجاً، كل برج ميلان ونصف. والظاهر أن الضمير في وزيناها عائد على البروج لأنها المحدث عنها، والأقرب في اللفظ. وقيل: على السماء، وهو قول الجمهور. وخص بالناظرين لأنها من المحسوسات التي لا تدرك إلا بنظر العين. ويجوز أن يكون من نظر القلب لما فيها من الزينة المعنوية، وهو ما فيها من حسن الحكم وبدائع الصنع وغرائب القدرة. والضمير في حفظناها عائد على السماء، ولذلك قال الجمهور: إن الضمير في وزيناها عائد على السماء حتى لا تختلف الضمائر، وحفظ السماء هو بالرجم بالشهب على ما تضمنته الأحاديث الصحاح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشياطين تقرب من السماء أفواجاً فينفرد المارد منها فيستمع، فيرمي بالشهاب فيقول لأصحابه. وهو يلتهب: إنه الأمر كذا وكذا، فتزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة فيزيدون على الكلمة مائة كلمة» ونحو هذا الحديث. وقال ابن عباس: إن الشهب تخرج وتؤذي، ولا تقتل. وقال الحسن: تقتل. وفي الأحاديث ما يدل على أنّ الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت الإسلام. وحفظت السماء حفظاً تاماً. وعن ابن عباس: كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها. والظاهر أنّ قوله: إلا من استرق، استثناء متصل والمعنى: فإنها لم تحفظ منه، ذكره الزهراوي وغيره والمعنى: أنه سمع من خبرها شيئاً وألقاه إلى الشياطين. وقيل: هو استثناء منقطع والمعنى: أنها حفظت منه، وعلى كلا التقديرين فمِن في موضع نصب. وقال الحوفي: من بدل من كل شيطان، وكذا قال أبو البقاء: حر على البدل أي: إلا ممن استرق السمع. وهذا الإعراب غير سائغ، لأن ما قبله موجب، فلا يمكن التفريغ، فلا يكون بدلاً، لكنه يجوز أن يكون إلا من استرق نعتاً على خلاف في ذلك. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون من في موضع رفع على الابتداء، وفأتبعه الخبر. وجاز دخول الفاء من أجل أنّ مِن بمعنى الذي، أو شرط انتهى. والاستراق افتعال من السرقة، وهي أخذ الشيء بخفية، وهو أن يخطف الكلام خطفة يسيرة. والسمع المسموع، ومعنى مبين: ظاهر للمبصرين.

.تفسير الآيات (19- 25):

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}
مددناها بسطناها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها. قال الحسن: أخذ الله طينة فقال لها: انبسطي فانبسطت. وقيل: بسطت من تحت الكعبة. ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية، كان النصب على الاشتغال أرجح من الرفع على الابتداء، فلذلك نصب والأرض. والرواسي: الجبال، وفي الحديث: «إن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة فثبتها الله بالجبال» ومِن في من كل للتبعيض، وعند الأخفش هي زائدة أي كل شيء. والظاهر أنّ الضمير في فيها يعود على الأرض الممدودة، وقيل: يعود على الجبال، وقيل: عليها وعلى الأرض معاً. قال ابن عباس، وابن جبير: موزون مقدر بقدر. وقال الزمخشري قريباً منه قال: وزن بميزان الحكمة، وقدر بمقدار يقتضيه لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان. وقال ابن عطية: قال الجمهور: معناه مقدر محرر بقصد وإرادة، فالوزن على هذا مستعار. وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة، وغير ذلك مما يوزن. وقال قتادة: موزون مقسوم. وقال مجاهد: معدود، وقال الزمخشري: أوله وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وبسطه غيره فقال: ما له منزلة، كما تقول: ليس له وزن أي: قدر ومنزلة. ويقال: هذا كلام موزون، أي منظوم غير منتثر. فعلى هذا أي: أنبتنا فيها، ما يوزن من الجواهر والمعادن والحيوان. وقال تعالى: {وأنبتها نباتاً حسناً} والمقصود بالإنبات الإنشاء والإيجاد.
وقرأ الأعرج وخارجة عن نافع: معائش بالهمز. قال ابن عطية: والوجه ترك الهمز، وعلل ذلك بما هو معروف في النحو. وقال الزمخشري: معايش بياء صريحة بخلاف الشمائل والخبائث، فإنّ تصريح الياء فيها خطأ، والصواب الهمزة، أو إخراج الياء بين بين. وتقدم تفسير المعايش أول الأعراف والظاهر أنّ من لمن يعقل ويراد به العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون، فإن الله هو الرزاق يرزقكم وإياهم. وقال معناه الفراء، ويدخل معهم ما لا يعقل بحكم التغليب كالأنعام والدواب، وما بتلك المثابة مما الله رازقه، وقد سبق إلى ظنهم أنهم الرازقون، وقال معناه الزجاج. وقال مجاهد: الدواب والأنعام والبهائم. وقيل: الوحوش والسباع والطير. فعلى هذين القولين يكون من لما لا يعقل. والظاهر أنّ مِن في موضع جر عطفاً على الضمير المجرور في لكم، وهو مذهب الكوفيين ويونس والأخفش. وقد استدل القائل على صحة هذا المذهب في البقرة في قوله: {وكفر به والمسجد الحرام} وقال الزجاج: من منصوب بفعل محذوف تقديره: وأعشنا من لستم أي: أمماً غيركم، لأنّ المعنى أعشناكم. وقيل: عطفاً على معايش أي: وجعلنا لكم من لستم له برازقين من العبيد والصناع. وقيل: والحيوان. وقيل: عطفاً على محل لكم. وقيل: من مبتدأ خبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي: ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش.
وهذا لا بأس به، فقد أجازوا ضربت زيداً وعمرو بالرفع على الابتداء أي: وعمرو ضربته، فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه. وتقدم شرح الخزائن. وإنْ نافية، ومن زائدة، والظاهر أنّ المعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والأنعام به، فتكون الخزائن وهي ما يحفظ فيه الأشياء مستعارة من المحسوس الذي هو الجسم إلى المعقول. وقال قوم: المراد الخزائن حقيقة، وهي التي تحفظ فيها الأشياء، وأن للريح مكاناً، وللمطر مكاناً، ولكل مكان ملك وحفظه، فإذا أمر الله بإخراج شيء منه أخرجته الحفظة. وقيل: المراد بالشيء هنا المطر، قاله ابن جريج.
وقرأ الأعمش: وما نرسله مكان وما ننزله، والإرسال أعم، وهي قراءة تفسير معنى لا أنها لفظ قرآن، لمخالفتها سواد المصحف. وعن ابن عباس، والحكم بن عيينة: أنه ليس عام أكثر مطراً من عام، ولكنّ الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع. ولواقح جمع لاقح، يقال: ريح لاقح جائيات بخير من إنشاء سحاب ماطر، كما قيل للتي لا تأتي بخير بل بشر ريح عقيم، أو ملاقح أي: حاملات للمطر. وفي صحيح البخاري: لواقح ملاقح ملقحة. وقال عبيد بن عمير: يرسل الله المبشرة تقم الأرض قمائم المثيرة، فتثير السحاب. ثم المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر. ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس كما قالوا: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، وسقى وأسقى قد يكونان بمعنى واحد. وقال أبو عبيدة: من سقى الشفة سقى فقط، أو الأرض والثمار أسقى، وللداعي لأرض وغيرها بالسقيا أسقى فقط. وقال الأزهري: العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام، ومن السماء، أو نهر يجري: أسقيته، أي جعلته شرباً له، وجعلت له منه مسقى. فإذا كان للشفة قالوا: سقى، ولم يقولوا أسقى. وقال أبو علي: سقيته حتى روي، وأسقيته نهراً جعلته شرباً له. وجاء الضمير هنا متصلاً بعد ضمير متصل كما تقدم في قوله: {أنلزمكموها} وتقدم أنّ مذهب سيبويه فيه وجوب الاتصال. وما أنتم له بخازنين أي: بقادرين على إيجاده، تنبيهاً على عظيم قدرته، وإظهار العجز. هم أي: لستم بقادرين عليه حين احتياجكم إليه. وقال سفيان: بخازنين أي بمانعين المطر. نحيي: نخرجه من العدم الصرف إلى الحياة. ونميت: نزيل حياته. ونحن الوارثون الباقون بعد فناء الخلق. والمستقدمين قال ابن عباس والضحاك: الأموات، والمستأخرين الأحياء. وقال قتادة وعكرمة وغيرهما: المستقدمين في الخلق والمستأخرين الذين لم يخلقوا بعد. وقال مجاهد: المستقدمين من الأمم والمستأخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن وقتادة أيضاً: في الطاعة والخير، والمستأخرين بالمعصية والشر. وقال ابن جبير: في صفوف الحرب، والمستأخرين فيها. وقيل: من قتل في الجهاد، والمستأخرين من لم يقتل. وقيل: في صفوف الصلاة، والمستأخرين بسبب النساء لينظروا إليهن. وقال قتادة أيضاً: السابقين إلى الإسلام والمتقاعسين عنه. والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر، والمعنى: أنه تعالى محيط علمه بمن تقدم وبمن تأخر وبأحوالهم، ثم أعلم تعالى أنه يحشرهم. وقرأ الأعمش: يحشرهم بكسر الشين. وقال ابن عباس ومروان بن الحكم، وأبو الحوراء: كانت تصلي وراء الرسول امرأة جميلة، فبعض يتقدم لئلا تفتنه وبعض يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة، فنزلت الآية فيهم. وفصل هذه الآية بهاتين الصفتين من الحكمة والعلم في غاية المناسبة.

.تفسير الآيات (26- 44):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}
لما نبه تعالى على منتهى الخلق وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه، نبههم على مبدأ أصلهم آدم، وما جرى لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى. وتقدم شيء من هذه القصة في أوائل البقرة عقب ذكر الأماتة والإحياء والرجوع إليه تعالى. وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة، وذكر الموازين فيه. وفي الكهف بعد ذكر الحشر، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه. فحيث ذكر منتهى هذا الخلق ذكر مبدأهم وقصته مع عدوه إبليس ليحذرهم من كيده، ولينظروا ما جرى له معه حتى أخرجه من الجنة مقر السعادة والراحة، إلى الأرض مقر التكليف والتعب، فيتحرزوا من كيده، ومن حمإ قال الحوفي بدل من صلصال، بإعادة الجار. وقال أبو البقاء: من حمإ في موضع جر صفة لصلصال. وقال ابن عباس: المسنون الطين ومعناه المصبوب، لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب، فكنى عن المصبوب بوصفه، لأنه موضوع له. وقال مجاهد وقتادة ومعمر: المنتن. قال الزمخشري: من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتناً. وقال غيره: من أسن الماء إذا تغير، ولا يصح لاختلاف المادتين. وقيل: مصبوب من سننت التراب والماء إذا صببته شيئاً بعد شيء، فكان المعنى: أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها. قال الزمخشري: وحمأ مسنون بمعنى مصور أنْ يكون صفة لصلصال، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصال ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر انتهى. وقيل: المسنون المصور من سنة الوجه، وهي صورته. قال الشاعر:
تريك سنة وجه غير مقرفة

وقيل: المسنون المنسوب أي: ينسب إليه ذريته.
والجان: هو أبو الجن، قاله ابن عباس. قال الزمخشري: والجان للجن كآدم للناس. وقال الحسن وقتادة: هو إبليس، خلق قبل آدم. وقال ابن بحر: هو اسم لجنس الجن، والإنسان المراد به آدم، ومن قبل أي: من قبل خلق الإنسان. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: والجأن بالهمز. والسموم قال ابن عباس: الريح الحارة التي تقتل. وعنه: نار لا دخان لها، منها تكون الصواعق. وقال الحسن: نار دونها حجاب. وعن ابن عباس: نفس النار، وعنه: لهب النار. وقيل: نار اللهب السموم. وقيل: أضاف الموصوف إلى صفته أي: النار السموم. وسويته أكملت خلقه، والتسوية عبارة عن الإتقان، وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت. ونفخت فيه من روحي أي: خلقت الحياة فيه، ولا نفخ هناك، ولا منفوخ حقيقة، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيي به فيه. وأضاف الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو: بيت الله، وناقة الله، أو الملك إذ هو المتصرف في الإنشاء للروح، والمودعها حيث يشاء.
وقعوا له أي: اسقطوا على الأرض. وحرف الجر محذوف من أن أي: ما لك في أن لا تكون. وأي: داع دعا بك إلى إبائك السجود. ولا سجد اللام لام الجحود، والمعنى: لا يناسب حالي السجود له. وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي: رأى نفسه أكبر من أن يسجد. وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار، وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما. وهنا نبه على مادة آدم وحده، وهنا فاخرج منها وفي الأعراف: {فاهبط منها} وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها. وقد تقدمت منها مباحث في سورة البقرة، والأعراف، أعادها المفسرون هنا، ونحن نحيل على ما تقدم إلا ما له خصوصية بهذه السورة فنحن نذكره.
فتقول: وضرب يوم الدين غاية للعنة، إما لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم، وإما أن يراد أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه. ويوم الدين، ويوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، واحد. وهو وقت النفخة الأولى حتى تموت الخلائق. ووصف بالمعلوم إما لانفراد الله بعلمه كما قال: {قل إنما علمها عند ربي} {إن الله عنده علم الساعة} أو لأنه معلوم فناء العالم فيه، فيكون قد عبر بيوم الدين، وبيوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، بما كان قريباً من ذلك اليوم. قال الزمخشري: ومعنى إغوائه إياه نسبته لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فأفضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود الأحسن، وتعريض للثواب بالتواضع، والخضوع لأمر الله، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والضمير في لهم عائد على غير مذكور، بل على ما يفهم من الكلام، وهو ذرية آدم. ولذلك قال في الآية الأخرى: {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} والتزين تحسين المعاصي لهم ووسوسته حتى يقعوا فيها في الأرض أي: في الدنيا التي هي دار الغرور لقوله تعالى: {أخلد إلى الأرض واتبع هواه} أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم، والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده أقدر. أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض، ولأرفعن رتبني فيها أي: لأزينها في أعينهم، ولا حدثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها، ونحوه: يجرح في عراقيبها نصلي قاله الزمخشري. وإلاّ عبادك استثناء القليل من الكثير، إذ المخلصون بالنسبة إلى الغاوين قليل، واستثناؤهم إبليس، لأنه علم أنّ تزيينه لا يؤثر فيهم، وفيه دليل على جلاله هذا الوصف، وأنه أفضل ما اتصف به الطائع.
وقرأ الكوفيون، ونافع، والحسن، والأعرج: بفتح اللام، ومعناه إلا من أخلصته للطاعة أنت، فلا يؤثر فيه تزييني. وقرأ باقي السبعة والجمهور: بكسرها أي: إلا من أخلص العمل لله ولم يشرك فيه غيره. ولا راءى به، والفاعل لقال الله أي: قال الله. والإشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي: الإخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل، لأنّ من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه. وقيل: لما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى: هذا أمر مصيره إليّ، ووصفه بالاستقامة، أي: هو حق، وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليست لك. والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان أي: إليه يصيرالنظر في أمرك. وقال الزمخشري: هذا طريق حق عليّ أن أراعيه، وهو أن يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته انتهى. فجعل هذا إشارة إلى انتفاء تزيينه وإغوائه. وكونه ليس له عليهم سلطان، فكأنه أخذ الإشارة إلى ما استثناه إبليس، وإلى ما قرره تعالى بقوله: إن عبادي. وتضمن كلامه مذهب المعتزلة. وقال صاحب اللوامح: أي: هذا صراط عهدة استقامته عليّ. وفي حفظه أي: حفظه عليّ، وهو مستقيم غير معوج. وقال الحسن: معنى عليّ إليَّ. وقيل: عليّ كأنه من مرّ عليه مرّ عليّ أي: على رضواني وكرامتي. وقرأ الضحاك، وابراهيم. وأبو رجاء، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، وقيس بن عباد، وحميد، وعمرو بن ميمون، وعمارة بن أبي حفصة، وأبو شرف مولى كندة، ويعقوب: عليّ مستقيم أي: عال لارتفاع شأنه. وهذه القراءة تؤكد أنّ الإشارة إلى الإخلاص وهو أقرب إليه. والإضافة في قوله: إنّ عبادي، إضافة تشريف أي: أنّ المختصين بعبادتي، وعلى هذا لا يكون قوله: إلا من اتبعك، استثناء متصلاً، لأنّ من اتبعه لم يندرج في قوله: إنّ عبادي: وإنْ كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون: إلاّ من اتبعك استثناء من عموم، ويكون فيه دلالة على استثناء الأكثر، وبقاء المستثنى منه أقل، وهي مسألة اختلف فيها النحاة. فأجاز ذلك الكوفيون وتبعهم من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن خروف، ودلائل ذلك مسطرة في كتب النحو. والذي يظهر أنّ إبليس لما استثنى العباد المخلصين كانت الصفة ملحوظة في قوله: إنّ عبادي أي: عبادي المخلصين الذين ذكرتهم ليس لك عليهم سلطان. ومن في الغاوين لبيان الجنس أي: الذين هم الغاوون. وقال الجبائي: هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما تقول العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة. قال: وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه، ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين. وقال ابن عطية: وأجمعين تأكيد، وفيه معنى الحال انتهى.
وهذا جنوح لمذهب من يزعم أنّ أجمعين تدل على اتحاد الوقت، والصحيح أنّ مدلوله مدلول كلهم.
والظاهر أن جهنم هي واحدة، ولها سبعة أبواب. وقيل: أبواب النار أطباقها وأدراكها، فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصائبين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين. وقرأ ابن القعقاع: جز بتشديد الزاي من غير همز، ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي، ثم وقف بالتشديد نحو: هذا فرج، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف. واختلف عن الزهري، ففي كتاب ابن عطية: وقرأ ابن شهاب بضم الزاي، ولعله تصحيف من الناسخ، لأني وجدت في التحرير: وقرأ ابن وثاب بضمها مهموزاً فيهما. وقرأ الزهري بتشديد الزاي دون همز، وهي قراءة ابن القعغقاع. وأنّ فرقة قرأت بالتشديد منهم: ابن القعقاع. وفي كتاب الزمخشري وكتاب اللوامح: أنه قرأ بالتشديد، وفي اللوامح هو وأبو جعفر.