فصل: تفسير الآيات (10- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 13):

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)}
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب، ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان، وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع، وما عطف عليه فذكر منها الأغلب، ثم عمم بقوله: ومن كل الثمرات، ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم، والنهار الذي هو معاش، ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه، ثم بما ذرأ في الأرض.
والظاهر أنّ لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي: ماء كائناً لكم منه شراب. ويجوز أن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافاً، وشراب مبتدأ. لما ذكر إنزال الماء أخذ في تقسيمه. والشراب هو المشروب، والتبعيض في منه ظاهر، وأما في منه شجر فمجاز، لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء كما قال: أسنمة الآبال في ربابه، أي في سحاب المطر. وقال ابن الأنباري: هو على حذف المضاف، إما قبل الضمير أي: ومن جهته، أو سقيه شجر، وإما قبل شجر أي: شرب شجر كقوله {وأُشربوا في قلوبهم العجل} أي حبه. والشجر هنا كل ما تنبته الأرض قاله الزجاج. وقال: نطعمها اللحم إذا عز الشجر، فسمى الكلأ شجراً. وقال ابن قتيبة: الشجر هنا الكلأ، وفي حديث عكرمة: «لا تأكلوا الشجر فإنه سحت» يعني الكلأ.
ويقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى، وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، قال الزجاج: من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات. وقرأ زيد بن علي: تسيمون بفتح التاء، فإن سمع متعدياً كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازماً فتأويله على حذف مضاف تسيمون أي: تسيم مواشيكم لما ذكر، ومنه شجر. أخذ في ذكر غالب ما ينتفع به من الشجر إنْ كان المراد من قوله: ومنه شجر العموم، وإن كان المراد الكلأ فهو استئناف اخبار منافع الماء. ويقال: نبت الشيء وأنبته الله فهو منبوت، وهذا قياسه منبت. وقيل: يقال أنبت الشجر لازماً. وأنشد الفراء:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ** قطينا بهم حتى إذا أنبت البقل

أي نبت. وكان الأصمعي يأبى أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر: ننبت بنون العظمة. وقرأ الزهري: ننبت بالتشديد قيل: للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبيّ: ينبت من نبت ورفع الزرع وما عطف عليه. وخص الأربعة بالذكر لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع. وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه، والاطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأنّ ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال: ومن كل الثمرات، أتى بلفظ مِن التي للتبعيض، لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة.
ولما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل أعقبه بقوله: ويخلق ما لا تعلمون، كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، ثم قال: ومن كل الثمرات، تنبيهاً على أنّ تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر، كما أن تفصيل ما خلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر. وختم ذلك تعالى بقوله: لآية لقوم يتفكرون، لأنّ النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر. ألا ترى أنّ الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به، فينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى، وتخرج الأوراق والأزهار والأكمام، والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع، وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى.
وقرأ الجمهور: والشمس وما بعده منصوباً، وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة إن كان مسخرات اسم مفعول، وهو إعراب الجمهور. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: أنه سخرها أنواعاً من التسخير جمع مسخر بمعنى: تسخير من قولك: سخره الله مسخراً، كقولك: سرحه مسرحاً، كأنه قيل: وسخرها لكم تسخيرات بأمره انتهى. وقرأ ابن عامر: والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر، وحفص والنجوم مسخرات برفعهما، وهاتان القراءتان يبعدان قول الزمخشري إنّ مسخرات بمعنى تسخيرات. وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن مصرف: والرياح مسخرات في موضع، والنجوم وهي مخالفة لسواد المصحف. والظاهر في قراءة نصب الجميع أنّ والنجوم معطوف على ما قبله. وقال الأخفش: والنجوم منصوب على إضمار فعل تقديره: وجعل النجوم مسخرات، فأضمر الفعل. وعلى هذا الإعراب لا تكون مسخرات حالاً مؤكدة، بل مفعولاً ثانياً لجعل إن كان جعل المقدرة بمعنى صير، وحالاً مبينة إن كان بمعنى خلق. وتقدم شرح تسخير هذه النيرات في الأعراف. وجمع الآيات هنا، وذكر العقل، وأفرد فيما قبل، وذكر التفكر لأنّ فيما قبل استدلالاً بإنبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، والاستدلال هنا متعدّد، ولأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وما درأ معطوف على الليل والنهار يعني: ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلفاً ألوانه من البياض والسواد وغير ذلك. وقيل: مختلفاً ألوانه أصنافه كما تقول: هذه ألوان من الثمر ومن الطعام. وقيل: المراد به المعادن. إنّ في ذلك أي: فيما ذرأ على هذه الحال من اختلاف الألوان، أو أنّ في ذلك أي: اختلاف الألوان. وختم هذا بقوله: يذكرون، ومعناه الاعتبار والاتعاظ، كان علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان فقيل: يذكرون أي: يتذكرون ما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض.

.تفسير الآيات (14- 16):

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)}
لما ذكر تعالى الاستدلال بما ذرأ في الأرض، ذكر ما امتن به من تسخير البحر. ومعنى تسخيره: كونه يتمكن الناس من الانتفاع به للركوب في المصالح، وللغوص في استخراج ما فيه، وللاصطياد لما فيه. والبحر جنس يشمل الملح والعذب، وبدأ أولاً من منافعه بما هو الأهم وهو الأكل، ومنه على حذف مضاف أي: لتأكلوا من حيوانه طرياً، ثم ثنى بما يتزين به وهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان، ونبه على غاية الحلية وهو اللبس. وفيه منافع غير اللبس، فاللحم الطري من الملح والعذب، والحلية من الملح. وقيل: إنّ العذب يخرج منه لؤلؤ لا يلبس إلا قليلاً وإنما يتداوى به، ويقال: إنّ في الزمرد بحرياً، فأما لتأكلوا فعام في النساء والرجال، وأما تلبسونها فخاص بالنساء. والمعنى: يلبسها نساؤكم. وأسند اللبس إلى الذكور، لأنّ النساء إنما يتزيَّن بالحلية من أجل رجالهن، فكأنها زينتهم ولباسهم. ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه والاستخراج للحلية، ذكر نعمة تصرف الفلك فيه ماخرة أي: شاقة فيه، أو ذات صوت لشق الماء لحمل الأمتعة والأقوات للتجارة وغيرها، وأسند الرؤية إلى المخاطب المفرد فقال: وترى، وجعلها جملة معترضة بين التعليلين: تعليل الاستخراج، وتعليل الابتغاء، فلذلك عدل عن جمع المخاطب، والظاهر عطف، ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه. وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفاً على علة محذوفة أي: لتبتغوا بذلك. ولتبتغوا، وأن يكون على إضمار فعل أي: وفعل ذلك لتبتغوا. والفضل هنا حصول الأرباح بالتجارة، والوصول إلى البلاد الشاسعة، وفي هذا دليل على جواز ركوب البحر. ولعلكم تشكرون، على ما منحكم من هذه النعم. قيل: خلق الله الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجيال، لم تدر الملائكة مم خلقت. وعطف وأنهاراً على رواسي. ومعنى ألقى: جعل، ألا ترى إلى قوله: {ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً} وقوله: وجعل فيها رواسي، من فوقها. وقال {وألقيت عليك محبة مني} أي: جعلت. وقال ابن عطية: قال المتأولون: ألقى بمعنى خلق وجعل، وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن ألقى يقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن، عن قيس بن عباد: أنّ الله تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور إلى آخر الكلام السابق، وهو أيضاً مروي عن وهب بن منبه. وقال ابن عطية أيضاً: وقوله: وأنهاراً، منصوب بفعل مضمر تقديره: وجعل، أو خلق أنهاراً. أو إجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى، ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار انتهى.
وأي إجماع في هذا، وقد حكى عن المتأولين أنّ ألقى بمعنى خلق وجعل، وقال الزمخشري: وأنهاراً، وجعل فيها أنهاراً لأنّ ألقى فيه معنى جعل. ألا ترى إلى قوله: {ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً} وقال أبو البقاء: أي وشق أنهاراً وعلامات أي: وضع علامات، ويجوز أن يعطف على رواسي. وقال أبو عبد الله الرازي: ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال، فلهذا السبب أتبع ذكرها بتفجير الأنهار، وسبلاً طرقاً إلى مقاصدكم لعلكم تهتدون بالسبل إلى مقاصدكم، هذا هو الظاهر، ويدل عليه ما بعده. وقال تعالى: وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون. وقيل: تهتدون أي: بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها، فهو من الهداية إلى الحق، ودين الله. وعلامات هي معالم الطرق، وكل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك قاله الزمخشري، وهو معنى قول ابن عباس. وقال أبو عبد الله الرازي: ورأيت جماعة يتعرفون الطرقات بشم التراب. وقال ابن عيسى: العلامة صورة يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة. وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر أي: فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها، وعلامات أي: عبرة وإعلاماً في كل سلوك، فقد يهتدي بالجبال وبالأنهار وبالسبل انتهى. وقال ابن الكلبي: العلامات الجبال. وقال النخعي ومجاهد: النجوم. وأغرب ما فسرت به العلامات أنها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تسمى بالعلامات، وذلك في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن، فإذا ظهرت كانت علامة للوصول لبلاد الهند وأمارة للنجاة. وقرأ الجمهور: وبالنجم، على أنه اسم جنس، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب: وبالنجم بضم النون والجيم، وقراءة الحسن: بضم النون. وفي اللوامح الحسن: النجم بضمتين، وابن وثاب: بضمة واحدة، وجاء كذلك عن ابن هشام الرفاعي، ولا شك في أنه يذكره عن أصحاب عاصم انتهى. وذلك جمع كسقف وسقف، ورهن وترهن، وجعله مما جمع على فعل أولى من حمله على أنه أراد النجوم، فحذف الواو. إلا أن ابن عصفور ذكر أن قولهم: النجم من ضرورة الشعر، وأنشد:
إن الذي قضى بذا قاض حكم ** أن يرد الماء إذا غاب النجم

قال: يريد النجوم. مثل قوله:
حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق

يريد: الحلوق. والتسكين: قيل تخفيف، وقيل: لغة. وعن السدي: هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي. وقال الفراء: المراد الجدي والفرقدان انتهى. قيل: والجدي هو السابع من بنات نعش الصغرى، والفرقدان الأولان منها، وليس بالجدي الذي هو المنزلة، وبعضهم يصغره فيقول: جدي. وفي الحديث عن ابن عباس أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قوله: وبالنجم، فقال: «هو الجدي» ولو صح هذا لم يعدل أحد عنه. وقال ابن عباس: عليه قبلتكم، وبه تهتدون في بركم وبحركم.
وقيل: هو القطب الذي لا يجري. وقيل: هو الثريا. وقال الشاعر:
إذا طلب الجوزاء والنجم طالع ** فكل مخاضات الفرات معابر

وقال آخر:
حتى إذا ما استقل النجم في غلس ** وغودر البقل ملوى ومحصود

أي ومنه ملوى، ومنه محصود، وذلك إنما يكون عند طلوع الثريا. وهم: ضمير غيبة خرج من الخطاب إلى الغيبة، كان الضمير النعت به إلى قريش إذ كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم. وقدم المجرور على ما يتعلق به اعتناء ولأجل الفاصلة. والزمخشري على عادته كأنه قيل: وبالنجم خصوصاً هم يهتدون.

.تفسير الآيات (17- 23):

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}
ذكر تعالى التباين بين من يخلق وهو الباري تعالى، وبين من لا يخلق وهي الأصنام، ومن عبد ممن لا يعقل، فجدير أن يفرد بالعبادة من له الإنشاء دون غيره. وجيء بمن في الثاني لاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل، أو لاعتقاد الكفار أنّ لها تأثيراً وأفعالاً، فعوملت معاملة أولي العلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق، أو لتخصيصه بمن يعلم. فإذا وقعت البينونة بين الخالق وبين غير الخالق، من أولي العلم فكيف بمن لا يعلم البتة كقوله: {ألهم أرجل يمشون بها} أي: أن آلهتهم منحطة عن حال من له أرجل، لأنّ من له هذه حي، وتلك أموات، فكيف يصح أن يعبد لا أن من له رجل يصح أن يعبد؟ قال الزمخشري: (فإن قلت): هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ (قلت): حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه وبينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق، ثم وبخهم بقوله: أفلا تذكرون، أي: مثل هذا لا ينبغي أن تقع فيه الغفلة. والنعمة يراد بها النعم لا نعمة واحدة، يدل على ذلك قوله تعالى: {وإن تعدوا} وقوله: {لا تحصوها} إذ ينتفي العدو الإحصاء في الواحدة، والمعنى: لا تحصوا عدها، لأنها لكثرتها خرجت عن إحصائكم لها، وانتفاء إحصائها يقتضي انتفاء القيام بحقها من الشكر. ولما ذكر نعماً سابقة أخبر أنّ جميع نعمه لا يطيقون عدها. وأتبع ذلك بقوله: إن الله لغفور رحيم، حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. ولما كان الإنسان غير قادر على أداء شكر النعم، وأن له حالة يعرض فيها منه كفرانها قال في عقب الآية التي في ابراهيم: {إن الإنسان لظلوم كفار} أي لظلوم بترك الشكر كفار للنعمة. وفي هذه الآية ذكر الغفران والرحمة لطفاً به، وإيذاناً في التجاوز عنه. وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون، وضمنه الوعيد لهم، والإخبار بعلمه تعالى. وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم.
وقرأ الجمهور: بالتاء من فوق في تسرون وتعلنون وتدعون، وهي قراءة: مجاهد، والأعرج، وشيبة، وأبي جعفر، وهبيرة، عن عاصم على معنى: قل لهم. وقرأ عاصم في مشهوره: يدعون بالياء من تحت، وبالتاء في السابقتين. وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله: يعلم الذي يبدون وما يكتمون، وتدعون بالتاء من فوق في الثلاثة. وقرأ طلحة: ما يخفون وما يعلنون، وتدعون بالتاء من فوق، وهاتان القراءتان مخالفتان لسواد المصحف، والمشهور ما روي عن الأعمش وغيره، فوجب حملها على التفسير، لا على أنها قرآن.
ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره، نص على أنّ آلهتهم لا تخلق، وعلى أنها مخلوقة. وأخبر أنهم أموات. وأكد ذلك بقوله: غير أحياء، ثم نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم، فضلاً عن العلم الذي تتصف به العقلاء. وعبر بالذين وهو للعاقل عومل غيره معاملته، لكونها عبدت واعتقدت فيها الألوهية، وقرأ محمد اليماني: يدعون بضم الياء وفتح العين مبنياً للمفعول، والظاهر أنّ قوله: وهم يخلقون، أي: الله أنشأهم واخترعهم. وقال الزمخشري: ووجه آخر وهو أن يكون المعنى: أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على ذلك فهم أعجز من عبدتهم انتهى. وأموات خبر مبتدأ محذوف أي: هم أموات. ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر. والظاهر أن هذه كلها مما حدث به عن الأصنام، ويكون بعثهم إعادتها بعد فنائها. ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} وقيل: معنى بعثها إثارتها، كما تقول: بعثت النائم من نومه إذ نبهته، كأنه وصفهم بغاية الجمود أي: وإن طلبتهم بالتحريك أو حركتهم لم يشعروا بذلك، ونفى عنهم الحياة لأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطف التي ينشئها الله حيواناً، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأما الأصنام من الحجارة والخشب فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها. وقيل: والذين تدعون، هم الملائكة، وكان ناس من الكفار يعبدونهم. وأموت أي: لابد لهم من الموت، وغير أحياء أي: غير باق حياتهم، وما يشعرون أي: لا علم لهم بوقت بعثهم. وجوزوا في قراءة: والذين يدعون، بالياء من تحت أن يكون قوله: أو موت، يراد به الكفار الذين ضميرهم في: يدعون، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال. غير مهتدين وما بعده عائد عليهم، والبعث الحشر من قبورهم. وقيل: في هذا التقدير وعيد أي: أيان يبعثون إلى التعذيب. وقيل: الضمير في وما يشعرون، للأصنام وفي: يبعثون، لعبدتها. أي: لا تشعر الأصنام متى تبعث عبدتها. وفيه تهكم بالمشركين، وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعث عبدتهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم. وتلخص من هذه الأقوال أن تكون الإخبار بتلك الجمل كلها من المدعوين آلهة، أما الأصنام، وأما الملائكة، أو يكون من قوله: أموات إلى آخره، إخباراً عن الكفار. أو يكون وما يشعرون أيان يبعثون، فقط إخباراً عن الكفار، أو يكون وما يشعرون إخباراً عن المدعوين، ويبعثون: إخباراً عن الداعين العابدين. وقرأ أبو عبد الرحمن إيان بكسر الهمزة، وهي لغة قومه سليم. والظاهر أنّ قوله: إيان، معمول ليبعثون، والجملة في موضع نصب بيشعرون، لأنه معلق.
إذ معناه العلم. والمعنى: أنه نفى عنهم علم ما انفرد بعلمه الحي القيوم، وهو وقت البعث إذا أريد بالبعث الحشر إلى الآخرة. وقيل: تم الكلام عند قوله: وما يشعرون. وأيان يبعثون ظرف لقوله: آلهكم إله واحد، أخبر عن يوم القيامة أنّ الإله فيه واحد انتهى. ولا يصح هذا القول لأنّ أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفاً، إما استفهاماً، وإما شرطاً. وفي هذا التقدير تكون ظرفاً بمعنى وقت مضافاً للجملة بعدها، معمولاً لقوله: واحد، كقولك: يوم يقوم زيد قائم. وفي قوله: أيان يبعثون دلالة على أنه لابد من البعث، وأنه من لوازم التكليف. ولما ذكر تعالى ما اتصفت به آلهتهم بما ينافي الألوهية، أخبر تعالى أنّ إله العالم هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ وأن الذين لا يؤمنون بالجزاء بعد وضوح بطلان أن تكون الإلهية لغيره بل له وحده، هم مستمرون على شركهم، منكرون وحدانيته، مستكبرون عن الإقرار بها، لاعتقادهم الإلهية لأصنامهم وتكبرها في الوجود. ووصفهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة مبالغة في نسبة الكفر إليهم، إذ عدم التصديق بالجزاء في الآخرة يتضمن التكذيب بالله تعالى وبالبعث، إذ من آمن بالبعث يستحيل أن يكذب الله عز وجل. وقيل: مستكبرون عن الإيمان برسول الله وأتباعه. وقال العلماء: كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان. وفي الحديث الصحيح: «إنّ المستكبرين يجيؤون أمثال الذر يوم القيامة، يطؤهم الناس بأقدامهم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وتقدم الكلام في {لا جرم} في هود. وقرأ عيسى الثقفي إن بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله. وقال بعض أصحابنا: وقد يغني لا جرم عن لفظ القسم، تقول: لا جرم لآتينك، فعلى هذا يكون لقوله: إن الله بكسر الهمزة تعلق بلا جرم، ولا يكون استئنافاً. وقد قال بعض الأعراب لمرداس الخارجي: لا جرم والله لأفارقنك أبداً، نفى كلامه تعلقها بالقسم. وفي قوله: يعلم ما يسرون وما يعلنون وعيد وتنبيه على المجازاة، وقال يحيى بن سلام، والنقاش: المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ولا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين، يأخذ كل واحد منهم بقسطه.