فصل: تفسير الآيات (23- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 25):

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}
{أف} اسم فعل بمعنى أتضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلاّ قليلاً نحو: أف وأوه بمعنى أتوجع، وكان قياسه أن لا يبنى لأنه لم يقع موقع المبني. وذكر الزناتي في كتاب الحلل له: إن في أف لغات تقارب الأربعين ونحن نسردها مضبوطة كما رأيناها وهي: أف أفِ أفُ أفَّ أفِّ أفُّ أفا أفّ أفّ أفا أفٍ أفٌ أف أفء أفيّ بغير إمالة أفيّ بالإمالة المحضة أفي بالإمالة بين بين أفيْ أفوْ أفّهْ أفّهْ أفّه فهذا اثنان وعشرون مع الهمزة المضمومة إفْ أفّ إف إفٍ إفٍّ إفا إفٌّ إفُّ إفا إفيِّ بالإمالة إفيْ فهذه إحدى عشرة مع الهمزة المكسورة أفْ أفّ آفّ آفٍّ أفيّ. وذكر ابن عطية أفاه بهاء السكت وهي تمام الأربعين. النهر الزجر بصياح وإغلاظ. قال العسكريّ: وأصله الظهور، ومنه النهر والانتهار، وأنهر الدم أظهره وأساله، وانتهر الرجل أظهر له الإهانة بقبح الزجر والطرد. وقال ابن عطية: الانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ. وقال الزمخشري: النهي والنهر والنهم أخوات. التبذير الإسراف قاله أبو عبيدة يعني في النفقة، وأصله التفريق ومنه سمي البذر بذراً لأنه يفرق في المزرعة. وقال الشاعر:
ترائب يستضيء الحلي فيها ** كجمر النار بذر بالظلام

ويروى بدد أي فرق. المحسور قال الفراء: تقول العرب بعير محسور إذا انقطع سيره، وحسرت الدابة حتى انقطع سيرها، ويقال حسير فعيل بمعنى مفعول ويجمع على حسرى. قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها ** فبيض وأما جلدها فصليب

القسطاس بضم القاف وكسرها وبالسين الأولى والصاد. قال مؤرج السدوسي: هي الميزان بلغة الروم وتأتي أقوال المفسرين فيه. المرح شدّة الفرح، يقال: مرح يمرح مرحاً. الطول ضد القصر، ومنه الطول خلاف العرض. الحجاب ما ستر الشيء عن الوصول إليه. الرفات قال الفراء: التراب. وقيل: الذي بولغ في دقه حتى تفتت، ويقال: رفت الشيء كسره يرفته بالكسر والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء مكسر، وفعال بناء لهذا المعنى كالحطام والفتات والرضاض والدقاق.
{وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوّابين غفوراً}.
قرأ الجمهور {وقضى} فعلاً ماضياً من القضاء. وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل: وقضاء ربك مصدر {قضى} مرفوعاً على الابتداء و{أن لا تعبدوا} الخبر. وفي مصحف ابن مسعود وأصحابه وابن عباس وابن جبير والنخعي وميمون بن مهران من التوصية. وقرأ بعضهم: وأوصى من الإيصاء، وينبغي أن يحمل ذلك التفسير لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف والمتواتر هو {وقضى} وهو المستفيض عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم في أسانيد القراء السبعة.
{وقضى} هنا قال ابن عباس والحسن وقتادة بمعنى أمر. وقال ابن مسعود وأصحابه: بمعنى وصى. وقيل: أوجب وألزم وحكم. وقيل: بمعنى أحكم. وقال ابن عطية: وأقول أن المعنى {وقضى ربك} أمره {أن لا تعبدوا إلا إياه} وليس في هذه الألفاظ إلاّ أمر بالاقتصار على عبادة الله، فذلك هو المقضي لا نفس العبادة، والمقضي هنا هو الأمر انتهى. كأنه رام أن يترك قضى على مشهور موضوعها بمعنى قدر، فجعل متعلقه الأمر بالعبادة لا العبادة لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئاً بمعنى أن يقدر إلاّ ويقع، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق قضى هو {أن لا تعبدوا} وسواء كانت {أن} تفسيرية أم مصدرية. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ألزم ربك عبادته و{لا} زائدة انتهى. وهذا وهم لدخول {إلا} على مفعول {تعبدوا} فلزم أن يكون منفياً أو منهياً والخطاب بقوله {لا تعبدوا} عامّ للخلق. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون {قضى} على مشهورها في الكلام ويكون الضمير في {تعبدوا} للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة انتهى.
قال الحوفي: الباء متعلقة بقضى، ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره وأوصى {بالوالدين إحساناً} و{إحساناً} مصدر أي تحسنوا إحساناً. وقال ابن عطية: قوله {وبالوالدين إحساناً} عطف على أن الأولى أي أمر الله {أن لا تعبدوا إلا أياه} وأن تحسنوا {بالوالدين إحساناً} وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله: {وبالوالدين إحساناً} مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله، ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين. وقال الزمخشري: لا يجوز أن تتعلق الباء في {بالوالدين} بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته. وقال الواحدي في البسيط: الباء في قوله {بالوالدين} من صلة الإحسان، وقدمت عليه كما تقول: بزيد فامرر، انتهى. وأحسن وأساء يتعدى بإلى وبالباء قال تعالى: {وقد أحسن بي} وقال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

وكأنه تضمن أحسن معنى لطف، فعدّي بالباء و{إحساناً} إن كان مصدراً ينحل لأن والفعل فلا يجوز تقديم متعلقه به، وإن كان بمعنى أحسنوا فيكون بدلاً من اللفظ بالفعل نحو ضربا زيداً، فيجوز تقديم معموله عليه، والذي نختاره أن تكون {أن} حرف تفسير و{لا تعبدوا} نهي و{إحساناً} مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كما عطف في:
يقولون لا تهلك أسى وتجملِ

وقد اعتنى بالأمر بالإحسان إلى الوالدين حيث قرن بقوله: {لا تعبدوا} وتقديمهما اعتناء بهما على قوله: {إحساناً} ومناسبة اقتران برّ الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث إنه تعالى هو الموجد حقيقة، والوالدان وساطة في إنشائه، وهو تعالى المنعم بإيجاده ورزقه، وهما ساعيان في مصالحه.
وقال الزمخشري: {إما} هي الشرطية زيدت عليها ما توكيداً لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول أن تكرمنّ زيداً يكرمك، ولكن إما تكرمنَّه انتهى. وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين إما ونون التوكيد، وأن يأتي بأن وحدها ونون التوكيد، وأن يأتي بإما وحدها دون نون التوكيد. وقال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما يعني مع النون وعدمها، وعندك ظرف معمول ليبلغن، ومعنى العندية هنا أنهما يكونان عنده في بيته وفي كنفه لا كافل لهما غيره لكبرهما وعجزهما، ولكونهما كلاً عليه وأحدهما فاعل {يبلغن} و{أو كلاهما} معطوف على {أحدهما}.
وقرأ الجمهور {يبلغن} بنون التوكيد الشديدة والفعل مسند إلى {أحدهما}. وروي عن ابن ذكوان بالنون الخفيفة. وقرأ الأخوان: إما يبلغان بألف التثنية ونون التوكيد المشدّدة وهي قراءة السلمي وابن وثاب وطلحة والأعمش والجحدري. فقيل الألف علامة تثنية لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، وأحدهما فاعل و{أو كلاهما} عطف عليه، وهذا لا يجوز لأن شرط الفاعل في الفعل الذي لحقته علامة التثنية أن يكون مسند المثنى أو معرف بالعطف بالواو، ونحو قاما أخواك أو قاما زيد وعمرو على خلاف في هذا الأخير هل يجوز أو لا يجوز، والصحيح جوازه و{أحدهما} ليس مثنى ولا هو معرف بالعطف بالواو مع مفرد. وقيل: الألف ضمير الوالدين و{أحدهما} بدل من الضمير و{كلاهما} عطف على {أحدهما} والمعطوف على البدل بدل. وقال الزمخشري. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان {كلاهما} كان {كلاهما} توكيداً لا بدلاً، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلاً وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل {كلاهما} فحسب فلما قيل {أحدهما أو كلاهما} علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلاً مثل الأول. وقال ابن عطية: وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغانّ يكون قوله {أحدهما} بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ** وأخرى رمى فيها الزمان فشُلَّتِ

انتهى. ويلزم من قوله أن يكون {كلاهما} معطوفاً على {أحدهما} وهو بدل، والمعطوف على البدل بدل، والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه بدلاً، وإذا جعلت {أحدهما} بدلاً من الضمير فلا يكون إلاّ بدل بعض من كل، وإذا عطفت عليه {كلاهما} فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل، لأن {كلاهما} مرادف للضمير من حيث التثنية، فلا يكون بدل بعض من كل، ولا جائز أن يكون بدل كل من كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من {كلاهما} فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه.
وأما قول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر: وكنت كذي رجلين. البيت.
فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطف بالواو، وأيضاً فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه، و{كلاهما} يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه، فليس من المقسم. ونقل عن أبي علي أن {كلاهما} توكيد وهذا لا يتم إلاّ بأن يعرب {أحدهما} بدل بعض من كل، ويضمر بعده فعل رافع الضمير، ويكون {كلاهما} توكيداً لذلك الضمير، والتقدير أو يبلغا {كلاهما} وفيه حذف المؤكد. وقد أجازه سيبويه والخليل قال: مررت بزيد وإياي أخوه أنفسهما بالرفع والنصب، الرفع على تقديرهما صاحباي أنفسهما، والنصف على تقدير أعينهما أنفسهما، إلاّ أن المنقول عن أبي علي وابن جنيّ والأخفش قبلهما أنه لا يجوز حذف المؤكد وإقامة المؤكد مقامه، والذي نختاره أن يكون {أحدهما} بدلاً من الضمير و{كلاهما} مرفوع بفعل محذوف تقديره أو يبلغ {كلاهما} فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات، وصار المعنى أن يبلغ أحد الوالدين أو يبلغ {كلاهما} {عندك الكبر}. وجواب الشرط {فلا تقل لهما أف} وتقدم مدلول لفظ أف في المفردات واللغات التي فيها، وإذا كان قد نهى أن يستقبلهما بهذه اللفظة الدالة على الضجر والتبرم بهما فالنهي عما هو أشدّ كالشتم والضرب هو بجهة الأولى، وليست دلالة أف على أنواع الإيذاء دلالة لفظية خلافاً لمن ذهب إلى ذلك.
وقال ابن عباس: {أف} كلمة كراهة بالغ تعالى في الوصية بالوالدين، واستعمال وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال حتى لا نقول لهما عند الضجر هذه الكلمة فضلاً عما يزيد عليها. قال القرطبي: قال علماؤنا: وإنما صار قول {أف} للوالدين أردأ شيء لأن رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية، وردّ وصية الله. و{أف} كلمة منقولة لكل شيء مرفوض ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم انتهى. وقرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى ونافع وحفص {أف} بالكسر والتشديد مع التنوين. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر كذلك بغير تنوين. وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتحها مشدّدة من غير تنوين. وحكى هارون قراءة بالرفع والتنوين. وقرأ أبو السمال {أف} بضم الفاء من غير تنوين. وقرأ زيد بن عليّ أفاً بالنصب والتشديد والتنوين. وقرأ ابن عباس {أف} خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت في {أف}.
وقال مجاهد: إن معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول اللذين رأيا منك في حال الصغر فلا تقذِّرهما وتقول {أف} انتهى. والآية أعم من ذلك. ولما نهاه تعالى أن يقول لهما ما مدلوله أتضجر منكما ارتقى إلى النهي عما هو من حيث الوضع أشد من {أف} وهو نهرهما، وإن كان النهي عن نهرهما يدل عليه النهي عن قول {أف} لأنه إذا نهى عن الأدنى كان ذلك نهياً عن الأعلى بجهة الأولى، والمعنى ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك {وقل لهما} بدل قول أف ونهرهما {قولاً كريماً} أي جامعاً للمحاسن من البر وجودة اللفظ.
قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد اللفظ. وقيل: {قولاً كريماً} أي جميلاً كما يقتضيه حسن الأدب. وقال عمر: أن تقول يا أبتاه يا أمّاه انتهى. كما خاطب إبراهيم لأبيه يا أبت مع كفره، ولا تدعوهما بأسمائهما لأنه من الجفاء وسوء الأدب ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشة نحلني أبو بكر كذا. ولما نهاه تعالى عن القول المؤذي وكان لا يستلزم ذلك الأمر بالقول الطيب أمره تعالى بأن يقول لهما القول الطيب السار الحسن، وأن يكون قوله دالاً على التعظيم لهما والتبجيل.
وقال عطاء: تتكلم معهما بشرط أن لا ترفع إليهما بصرك ولا تشد إليهما نظرك لأن ذلك ينافي القول الكريم. وقال الزجاج قولاً سهلاً سلساً لا شراسة فيه، ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}. وقال القفال في تقريره وجهان. أحدهما: أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. الثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه. وقال ابن عطية: استعارة أي اقطِعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وذلك بسبب عظم الحق انتهى. وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى {جناح الذل}؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال: {واخفض جناحك للمؤمنين} فاضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن يجعل لذله أو لذله جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً، وللقرة زماناً مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى. والمعنى أنه جعل اللين ذلاً واستعار له جناحاً ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه. وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله:
لا تسقني ماء الملام فإنني ** صب قد استعذبت ماء بكائيا

جاءه رجل بقصعة وقال له اعطني شيئاً من ماء الملام، فقال له: حتى تأتيني بريشة من جناح الذل.
وجناحا الإنسان جانباه، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما. وقال بعض المتأخرين فأحسن:
أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى ** فلم أستطع من أرضهم طيرانا

وقرأ الجمهور {من الذل} بضم الذال. وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقراً إليهما حالة الصغر. قال أبو البقاء: {من الرحمة} أي من أجل الرحمة، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة باخفض، ويجوز أن يكون حالاً من جناح. وقال ابن عطية: من الرحمة هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى. ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها. ثم نبَّه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهما وهي تربيتهما له صغيراً، وتلك الحالة مما تزيده إشفاقاً ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه. وقال قتادة: نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني {وقل ربِّ ارحمهما} بقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} وقيل: هي مخصوصة في حق المشركين. وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان، والظاهر أن الكاف في {كما} للتعليل أي {رب ارحمهما} لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار. وقال الحوفي: الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل تربيتي صغيراً.
وقال أبو البقاء: {كما} نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما. وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثاراً كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم. ولما نهى تعالى عن عبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولاسيما عند الكبر وكان الإنسان ربما تظاهر بعبادة وإحسان إلى والديه دون عقد ضمير على ذلك رياء وسمعة، أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من دون قصد عبادة الله والبر بالوالدين. ثم قال: {إن تكونوا صالحين} أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وأبتم إلى الخير فإنه غفور لما فرط من هِناتكم. والظاهر أن هذا عام لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج فيه من جنى على أبويه ثم تاب من جنايته. وقال ابن جبير: هي في المبارزة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلاّ الخير.