فصل: تفسير الآيات (45- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 49):

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)}
نزلت {وإذا قرأت القرآن} في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب، كانوا يؤذون الرسول إذا قرأ القرآن، فحجب الله أبصارهم إذا قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه قاله الكلبي: وعن ابن عباس نزلت في امرأة أبي لهب، دخلت منزل أبي بكر وبيدها فهر والرسول صلى الله عليه وسلم عنده، فقالت: هجاني صاحبك، قال: ما هو بشاعر، قالت: قال {في جيدها حبل من مسد} وما يدريه ما في جيدي؟ فقال لأبي بكر: «سلها هل ترى غيرك فإن ملكاً لم يزل يسترني عنها» فسألها فقالت: أتهزأ بي ما أرى غيرك؟ فانصرفت ولم تر الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل: نزلت في قوم من بني عبد الدار كانوا يؤذونه في الليل إذا صلى وجهر بالقراءة، فحال الله بينهم وبين أذاه.
ولما تقدّم الكلام في تقرير الإلهية جاء بعده تقرير النبوة وذكر شيء من أحوال الكفرة في إنكارها وإنكار المعاد، والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة بل المعنى على أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم، فإنك تقول لمن يقرأ شيئاً من القرآن هذا يقرأ القرآن، والظاهر أن القرآن هنا هو ما قرئ من القرآن أي شيء كان منه. وقيل: ثلاث آيات منه معينة وهي في النحل {أولئك الذين طبع} إِلى {الغافلون} وفي الكهف {ومن أظلم} إِلى {إذا أبدا} وفي الجاثية {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} إِلى {أفلا تتذكرون} وعن كعب أن الرسول كان يستتر بهذه الآيات، وعن ابن سيرين أنه عينها له هاتف من جانب البيت، وعن بعضهم أنه أسر زماناً ثم اهتدى قراءتها فخرج لا يبصره الكفار وهم يتطلبونه تمس ثيابهم ثيابه. قال القرطبي: ويزاد إلى هذه الآي أول يس إلى {فهم لا يبصرون} ففي السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين نام على فراشه خرج ينثر التراب على رؤوس الكفار فلا يرونه وهو يتلو هذه الآيات من يس، ولم يبق أحد منهم إلاّ وضع على رأسه تراباً. والظاهر أن المعنى جعلنا بين رؤيتك وبين أبصار الذين لا يؤمنون بالآخرة كما ورد في سبب النزول.
وقال قتادة والزجّاج وجماعة ما معناه: {جعلنا} بين فهم ما تقرأ وبينهم {حجاباً} فلا يقرون بنبوتك ولا بالبعث، فالمعنى قريب من الآية بعدها، والظاهر إقرار {مستوراً} على موضوعه من كونه اسم مفعول أي {مستوراً} عن أعين الكفار فلا يرونه، أو {مستوراً} به الرسول عن رؤيتهم. ونسب الستر إليه لما كان مستوراً به قاله المبرد، ويؤول معناه إلى أنه ذو ستر كما جاء في صيغة لابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر. وقالوا: رجل مرطوب أي ذو رطبة ولا يقال رطبته، ومكان مهول أي ذو هول، وجارية مغنوجة ولا يقال هلت المكان ولا غنجت الجارية.
وقال الأخفش وجماعة {مستوراً} ساتراً واسم الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما قالوا مشؤوم وميمون يريدون شائم ويامن. وقيل: مستور وصف على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر، وردّ بأن المبالغة إنما تكون باسم الفاعل ومن لفظ الأول {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} تقدم تفسيره في أوائل الأنعام {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده}. قيل: دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ ومر بالتوحيد، ثم قال: «يا معشر قريش قولوا لا إله إلاّ الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم» فولوا وأنفروا فنزلت هذه الآية. والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته ومروره بتوحيد الله، والمعنى إذا جاءت مواضع التوحيد فرّ الكفار إنكاراً له واستبشاعاً لرفض آلهتهم واطّراحها.
وقال الزمخشري: وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة و{وحده} من باب رجع عوده على بدئه وافعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسدّ الحال، أصله يحد وحده بمعنى واحداً انتهى. وما ذهب إليه من أن {وحده} مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه و{وحده} عند سيبويه ليس مصدراً بل هو اسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فوحده عنده موضوع موضع إيحاد، وإيحاد موضوع موضع موحد. وذهب يونس إلى أن {وحده} منصوب على الظرف، وذهب قوم إلى أنه مصدر لا فعل له، وقوم إلى أنه مصدر لأوحد على حذف الزيادة، وقوم إلى أنه مصدر لوحد كما ذهب إليه الزمخشري وحجج هذه الأقوال مذكورة في كتب النحو. وإذا ذكرت {وحده} بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيداً فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل، أي موحداً له بالضرب، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير {وإذا ذكرت ربك} موحداً له بالذكر وعلى مذهب أبي العباس يجوز أن يكون التقدير موحداً بالذكر.
و{نفوراً} حال جمع نافر كقاعد وقعود، أو مصدر على غير المصدر لأن معنى {ولوا} نفروا، والظاهر عود الضمير في {ولوا} على الكفار المتقدم ذكرهم. وقالت فرقة: هو ضمير الشياطين لأنهم يفرون من القرآن دل على ذلك المعنى وإن لم يجر لهم ذكر. وقال أبو الحوراء أوس بن عبد الله: ليس شيء أطرد للشيطان من القلب من لا إله إلاّ الله ثم تلا {وإذا ذكرت} الآية. وقال علي بن الحسين: هو البسملة {نحن أعلم بما يستمعون به} أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك واللغو، كان إذا قرأ صلى الله عليه وسلم قام رجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره، فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار.
وبما متعلق بأعلم، وما كان في معنى العلم والجهل وإن كان متعدياً لمفعول بنفسه فإنه إذا كان في باب أفعل في التعجب، وفي أفعل التفضيل تعدى بالباء تقول: ما أعلم زيداً بكذا وما أجهله بكذا، وهو أعلم بكذا وأجهل بكذا بخلاف سائر الأفعال المتعدية لمفعول بنفسه، فإنه يتعدى في أفعل في التعجب وأفعل التفضيل باللام، تقول: ما أضرب زيداً لعمرو وزيد أضرب لعمرو من بكر. وبه قال الزمخشري في موضع الحال كما تقول: يستمعون بالهزء أي هازئين {وإذ يستمعون} نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وبما به يتناجون، إذ هم ذوو نجوى {إذ يقول} بدل من {إذ هم} انتهى.
وقال الحوفي: لم يقل يستمعونه ولا يستمعونك لما كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط، وكان مضمناً أن الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا: مجنون أو مسحور، جاء الاستماع بالباء وإلى ليعلم أن الاستماع ليس المراد به تفهم المسموع دون هذا المقصد {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} فإذا الأولى تتعلق بيستمعون به وكذا {وإذ هم نجوى} لأن المعنى نحن أعلم بالذي يستمعون به إليك وإلى قراءتك وكلامك إنما يستمعون لسقطك وتتبع عيبك والتماس ما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم ولهذا ذكر تعديته بالباء وإلى انتهى. وقال أبو البقاء: يستمعون به. قيل: الباء بمعنى اللام، لا وإذ ظرف ليستمعون الأولى، والنجوى مصدر، ويجوز أن يكون جمع نجى كقتيل وقتلى، وإذ بدل من {إذ} الأولى. وقيل: التقدير اذكر إذ تقول. وقال ابن عطية: الضمير في به عائد على ما هو بمعنى الذي، والمراد الاستخفاف والإعراض فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم، ففضح الله بهذه الآية سرهم والعامل في {إذ} الأولى وفي المعطوف {يستمعون} الأولى انتهى. تناجوا فقال النضر: ما أفهم ما تقول، وقال أبو سفيان: أرى بعضه حقاً، وقال أبو جهل: مجنون، وقال أبو لهب: كاهن، وقال حويطب: شاعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين، وبعضهم إنما يعلمه بشر، وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله. فتناجوا يقولون ساحر مجنون، والظاهر أن {مسحوراً} من السحر أي خبل عقله السحر. وقال مجاهد: مخدوعاً نحو {فأنى تسحرون} أي تخدعون. وقال أبو عبيدة: {مسحوراً} معناه أن له سحراً أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب فهو مثلكم وليس بملك، وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره ولكل من أكل أو شرب من آدمي وغيره مسحور. قال:
أرانا موضعين لأمر غيب ** ونسحر بالطعام والشراب

أي نغذى ونعلل ونسحر. قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ** عصافير من هذا الأنام المسحر

قال ابن قتيبة: لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية: الآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة من السحر بكسر السين لأن في قولهم ضرب مثل، وأما على أنها من السحر الذي هو الرئة ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له، و{الأمثال} تقدم ما قالوه في تناجيهم وكان ذلك منهم على جهة التسلية والتلبيس، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقربها لتخييل الطارئين عليهم هو أنه ساحر فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب فيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره عليهم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان، أو سبيلاً إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله بضربهم الأمثال واتّباعهم كل حيلة في جهتك.
وحكى الطبري أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه {وقالوا أئذا كنا} هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربوا له الأمثال وقالوا عنه إنه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه، واستبعدوا أنه بعدما يصير الإنسان رفاتاً يحييه الله ويعيده، وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي شرحه في الآية بعد هذا، ومن قرأ من القراء إذاً وإنّا معاً أو إحداهما على صورة الخبر فلا يريد الخبر حقيقة لأن ذلك كان يكون تصديقاً بالبعث والنشأة الآخرة، ولكنه حذف همزة الاستفهام لدلالة المعنى. وفي الكلام حذف تقديره إذا كنا تراباً وعظاماً نبعث أو نعاد، وحذف لدلالة ما بعده عليه وهذا المحذوف هو جواب الشرط عند سيبويه، والذي تعلق به الاستفهام وانصب عليه عند يونس وخلقاً حال وهو في الأصل مصدر أطلق على المفعول أي مخلوقاً.

.تفسير الآيات (50- 52):

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}
الجديد معروف. نغضت سنه: تحركت قال. ونغضت من هرم أسنانها. تنغض وتنغض نغضاً ونغوضاً، وأنغض رأسه حركه برفع وخفض. قال:
لما رأتني انغضت لي الرأسا

وقال الآخر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ** كأنه يطلب شيئاً أطعما

وقال الفراء: أنغض رأسه حركه إلى فوق وإلى أسفل. وقال أبو الهيثم: إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له فقد أنغض رأسه. وقال ذو الرمّة:
ظعائن لم يسكنّ أكناف قرية ** بسيف ولم ينغض بهن القناطر

{قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً}.
قال الزمخشري: لما قالوا {أئذا كنا عظاماً} قيل لهم {كونوا حجارة أو حديداً} فردّ قوله {كونوا} على قولهم {كنا} كأنه قيل {كونوا حجارة أو حديداً} ولا تكونوا عظاماً فإنه يقدر على إحيائكم. والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحي وغضاضته بعدما كنتم عظاماً يابسة، مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى حالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي ومن جنس ما ركب به البشر، وهو أن تكونوا {حجارة} يابسة {أو حديداً} مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة {أو خلقاً مما يكبر} عندكم عن قبول الحياة، ويعظم في زعمكم على الخالق احياؤه فإنه يحييه.
وقال ابن عطية: كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي لابد من بعثكم. وقوله {كونوا} هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع أفعل، وبهذه الآية مثل بعضهم وفي هذا عندي نظر وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب كقوله تعالى: {فادرؤوا عن أنفسكم الموت} ونحوه. وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا {الذي فطركم} كذلك هو يعيدكم انتهى. وقال مجاهد: المعنى {كونوا} ما شئتم فستعادون. وقال النحاس: هذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم {حجارة أو حديداً} لبعثتم كما خلقتم أول مرة انتهى.
{أو خلقا مما يكبر في صدوركم} صلابته وزيادته على قوة الحديد وصلابته، ولم يعينه ترك ذلك إلى أفكارهم وجولانها فيما هو أصلب من الحديد، فبدأ أولاً بالصلب ثم ذكر على سبيل الترقي الأصلب منه ثم الأصلب من الحديد، أي افرضوا ذواتكم شيئاً من هذه فإنه لابد لكم من البعث على أي حال كنتم.
وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمر والحسن وابن جبير والضحاك الذي يكبر الموت، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم. وهذا التفسير لا يتم إلاّ إذا أريد المبالغة لا نفس الأمر، لأن البدن جسم والموت عرض ولا ينقلب الجسم عرضاً ولو فرض انقلابه عرضاً لم يكن ليقبل الحياة لأجل الضدية. وقال مجاهد: الذي يكبر السموات والأرض والجبال ولما ذكر أنهم لو كانوا أصلب شيء وأبعده من حلول الحياة به كان خلق الحياة فيه ممكناً. قالوا: من الذي هو قادر على صيرورة الحياة فينا وإعادتنا فنبههم على ما يقتضي الإعادة، وهو أن الذي أنشأكم واخترعكم أول مرة هو الذي يعيدكم و{الذي} مبتدأ وخبره محذوف التقدير {الذي فطركم أول مرة} يعيدكم فيطابق الجواب السؤال، ويجوز أن يكون فاعلاً أي يعيدكم الذي فطركم، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ، أي معيدكم الذي فطركم و{أول مرة} ظرف العامل فيه {فطركم} قاله الحوفي.
{فسينغضون} أي يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد، ويقولون: متى هو؟ أي متى العود؟ ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود. ولكن حيدة وانتقالاً لما لا يسأل عنه لأن ما يثبت إمكانه بالدليل العقلي لا يسأل عن تعيين وقوعه، ولكن أجابهم عن سؤالهم بقرب وقوعه لا بتعيين زمانه لأن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، واحتمل أن يكون في {عسى} إضمار أي {عسى} هو أي العود، واحتمل أن يكون مرفوعها {أن يكون} فتكون تامة. و{قريباً} يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفاً بالقرب، ويحتمل أن يكون ظرفاً أي زماناً قريباً وعلى هذا التقدير يوم ندعوكم بدلاً من قريباً.
وقال أبو البقاء: {يوم يدعوكم} ظرف ليكون، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لاسم كان وإن كان ضمير المصدر لأن الضمير لا يعمل انتهى. أما كونه ظرفاً ليكون فهذا مبنيّ على جواز عمل كان الناقصة في الظرف وفيه خلاف. وأما قوله لأن الضمير لا يعمل فهو مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيجيزون أن يعمل نحو مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح، يعلقون بعمرو بلفظ هو أي ومروري بعمرو قبيح. والظاهر أن الدعاء حقيقة أي {يدعوكم} بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال {يوم ينادي المناد من مكان قريب} الآية ويقال: إن إسرافيل عليه السلام ينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخِرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت. وروي في الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم» ومعنى {فتستجيبون} توافقون الداعي فيما دعاكم إليه. وقال الزمخشري: الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز، والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون انتهى. والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قبل ذلك معهم فالضمير لهم و{بحمده} حال منهم.
قال الزمخشري: وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر، يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى أنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه. وعن سعيد بن جبير ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك انتهى. وذلك لما ظهر لهم من قدرته.
وقيل: معنى {بحمده} أن الرسول قائل ذلك لا أنهم يكون بحمده حالاً منهم فكأنه قال: عسى أن تكون الساعة قريبة يوم يدعوكم فتقومون بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله على صدق خبري كما تقول لرجل خصمته أو حاورته في علم: قد أخطأت بحمد الله فبحمد الله ليس حالاً من فاعل أخطأت، بل المعنى أخطأت والحمد لله. وهذا معنى متكلف نحا إليه الطبري وكان {بحمده} يكون اعتراضاً إذ معناه والحمد لله. ونظيره قول الشاعر:
فإني بحمد الله لا ثوبَ فاجرٍ ** لبست ولا من غدرةٍ أتقنع

أي فإني والحمد لله فهذا اعتراض بين اسم إن وخبرها، كما أن {بحمده} اعتراض بين المتعاطفين ووقع في لفظ ابن عطية حين قرر هذا المعنى قوله: عسى أن الساعة قريبة وهو تركيب لا يجوز، لا تقول عسى أن زيداً قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد، وعلى أن يكون {بحمده} حالاً من ضمير {فتستجيبون}. قال المفسرون: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال قتادة: معناه بمعرفته وطاعته {وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلاً}. قال ابن عباس: بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت، ويدل عليه من بعثنا من مرقدنا هذا فهذا عائد إلى {لبثهم} فيما بين النفختين. وقال الحسن: تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا. وقال الزمخشري: {وتظنون} وترون الهول فعنده تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوماً أو بعض يوم، وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة انتهى. وقيل: استقلوا لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول إلى النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة. وقيل: تم الكلام عند قوله {قل عسى أن يكون قريباً}.
و{يوم يدعوكم} خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأنهم يستجيبون لله {بحمده} يحمدونه على إحسانه إليهم فلا يليق هذا إلاّ بهم. وقيل: يحمده المؤمن اختياراً والكافر اضطراراً، وهذا يدل على أن الخطاب للكافر والمؤمن وهو الذي يدل عليه ما روي عن ابن جبير، وإذا كان الخطاب للكفار وهو الظاهر فيحمل أن يكون الظن على بابه فيكون لما رجعوا إلى حالة الحياة وقع لهم الظن أنهم لم ينفصلوا عن الدنيا إلاّ في زمن قليل إذ كانوا في ظنهم نائمين، ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين من حيث علموا أن ذلك منقض متصرم. والظاهر أن {وتظنون} معطوف على تستجيبون وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء: أي وأنتم {تظنون} والجملة حال انتهى. وأن هنا نافية، {وتظنون} معلق عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب، وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية، ويظهر أن انتصاب قليلاً على أنه نعت لزمان محذوف أي إلاّ زمن قليلاً. كقوله {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية.