فصل: تفسير الآيات (50- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (50- 53):

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
الفرق: الفصل، فرق بين كذا وكذا: فصل، وفرق كذا: فصل بعضه من بعض، ومنه: الفرق في شعر الرأس، والفريق، والفرقان، والتفرق، والفرق، المفروق، كالطحن. والفرق ضده: الجمع، ونظائره: الفصل، وضده: الوصل، والشق والصدع: وضدهما اللأم، والتمييز: وضده الاختلاط. وقيل: يقال فرق في المعانى، وفرق في الأجسام، وليس بصحيح. البحر: مكان مطمئن من الأرض يجمع المياه، ويجمع في القلة على أبحر، وفي الكثرة على بحور وبحار، وأصله قيل: الشق، وقيل: السعة. فمن الأول: البحيرة، وهي التي شقت أذنها، ومن الثاني: البحيرة، المدينة المتسعة، وفرس بحر: واسع العدو، وتبحر في العلم: أي اتسع، وقال:
انعق بضأنك في بقل تبحره ** من الأباطح وأحبسها بخلدان

وجاء استعماله في الماء الحلو والماء الملح، قال تعالى: {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج} وجاء استعماله للملح، ويقال: هو الأصل، فيه أنشد أحمد بن يحيى:
وقد عاد عذب الماء بحراً فزادني ** على مرض أن أبحر المشرب العذب

أي صار ملحاً. الغرق: معروف، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح، قال:
وتارات يجمّ فيغرق

والتغريق، والتعويص، والترسيب، والتغييب، بمعنى واحد. النظر: تصويب المقلة إلى المرئيّ، ويطلق على الرؤية، وتعديته بإلى، ويعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، فلينظر أيها أزكى طعاماً، ونظره وانتظره وانظره: أخره، والنظرة: التأخير. وعد في الخير والشر، والوعد في الخير، وأوعد في الشر، والإيعاد والوعيد في الشر. موسى: اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية. يقال: هو مركب من مو: وهو الماء، وشاو: هو الشجر. فلما عرّب أبدلوا شينه سيناً، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي. وقد اختلفوا في اشتقاقه، فقال مكيّ: موسى مفعل من أوسيت، وقال غيره: هو مشتق من ماس يميس، ووزنه: فعلى، فأبدلت الياء واواً الضمة ما قبلها، كما قالوا: طوبى، وهي من ذوات الياء، لأنها من طاب يطيب. وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين. وقد نص سيبويه على أن وزن موسى مفعل، وذلك فيما لا ينصرف. واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً، واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى، بالإجماع على صرفه نكرة، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة. الأربعون: ليس بجمع سلامة، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع، ومدلوله معروف، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم.
الليلة: مدلولها معروف، وتكسر شاذاً على فعالى، فيقال: الليالي، ونظيره: الكيكة والكياكي، كأنه جمع ليلاه وكيكاه، وأهل والأهالي. وقد شذوا في التصغير كما شذوا في التكسير، قالوا: لييله.
الاتخاذ: افتعال من الأخذ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء، فتقول: إيتخذ كهمزة إيمان إذ أصله: إإمان، وكقولهم: ائتزر: افتعل من الإزار، فمتى كانت فاء الكلمة واواً أو ياء، وبنيت افتعل منها، فاللغة الفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال، فتقول: اتصل واتسر من الوصل واليسر، فإن كانت فاء الكلمة همزة، وبنيت افتعل، أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها. هذا هو القياس، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم، قالوا: إتمن، وأصله: إئتمن. وعلى هذا جاء: اتخذ. ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر الحلبي، عرف بابن النحاس، رحمه الله، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر: أن اتخذ مما أبدل فيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه لغة أنه يقال: وخذ بالواو، فجاء هذا على الأصل في البدل، وإن كان مبنياً على اللغة القليلة، وهذا أحسن، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة، وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة. وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية، إذ قلت: قالت العرب تخذ بكسر الخاء، بمعنى: أخذ، قال: تعالى: {لاتخذت عليه أجراً} في قراءة من قرأ كذلك، وأنشد الفارسي، رحمه الله:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها ** نسيفاً كأفحوص القطاة المطوّق

فعلى قوله: التاء أصل، وبنيت منه افتعل، فقلت: اتخذ، كما تقول: اتبع، مبنياً من تبع، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ، فزعم أن أصله: اتخذ، وحذف كما حذف اتقى، فقالوا: تقى، واستدل على ذلك بقولهم: تخذ بفتح التاء مخففة، كما قالوا: يتقي ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاء الكلمة. ورد السيرافي هذا القول وقال: لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء، بل كانت تكون مفتوحة، كقاف تفي، وأما يتخذ فمحذوف مثل: يتسع، حذف من المضارع دون الماضي، وتخذ بناء أصلي، انتهى. وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو: تخذ يتخذ تخذاً، قال الشاعر:
ولا تكثرن تخذ العشار فإنها ** تريد مباءات فسيحاً بناؤها

وذكر المهدوي في شرح الهداية: أن الأصل واو مبدلة من همزة، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، فصار في اتخذ أقوال: أحدها: التاء الأولى أصل. الثاني: أنها بدل من واو أصلية. الثالث: أنها بدل من تاء أبدلت من همزة. الرابع: أنها بدل من واو أبدلت من همزة، واتخذ تارة يتعدى لواحد، وذلك نحو قوله تعالى: {اتخذت بيتاً} وتارة لاثنين نحو قوله تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} بمعنى صير. العجل: معروف، وهو ولد البقرة الصغير الذكر. بعد: ظرف زمان، وأصله الوصف، كقبل، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة، ويعرب بحركتين، فإذا قلت: جئت بعد زيد، فالتقدير: جئت زماناً بعد زمان مجيء زيد، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها.
عفا: بمعنى كثر، فلا يتعدى حتى عفوا، وقالوا: وبمعنى درس، فيكون لازماً متعدياً نحو: عفت الديار، ونحو: عفاها الريح، وعفا عن زيد: لم يؤاخذه بجريمته، واعفوا عن اللحى، أي اتركوها ولا تأخذوا منها شيئاً، ورجل عفوّ، والجمع عفو على فعل بإسكان العين، وهو جميع شاذ، والعفاء: الشعر الكثير، قال الشاعر:
عليه من عقيقته عفاء

ويقال في الدعاء على الشخص: عليه العفاء، قال:
على آثار من ذهب العفاء

يريد الدروس، وتأتي عفا: بمعنى سهل من قولهم: خذ ما عفا وصفا، وأخذت عفوه: أي ما سهل عليه، {ماذا ينفقون قل العفو} أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه، ومنه: خذ العفو، أي السهل على أحد الأقوال، والعافية: الحالة السهلة السمحة. الشكر: الثناء على إسداء النعم، وفعلة: شكر يشكرشكراً وشكوراً، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها، وهو قسم برأسه، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك. وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر، ثم أسقط اتساعاً. وقيل: الشكر: إظهار النعمة من قولهم: شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته، والشكير: صغار الورق يظهر من أثر الماء، قال الشاعر:
وبينا الفتى يهتز للعيش ناضراً ** كعسلوجة يهتز منها شكيرها

وأوّل الشيب، قال الراجز:
ألان ادلاج بك العتير ** والرأس إذ صار له شكير

وناقة شكور تذر أكثر مما رعت

الفرقان: مصدر فرق، وتقدّم الكلام في فرق.
{وإذا فرّقنا بكم البحر}: معطوف على: وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ تلك بواسطة الحرف. وقرأ الزهري: فرّقنا بالتشديد، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكاً على عدد أسباط بني إسرائيل. ومن قرأ: فرقنا مجرداً، اكتفى بالمطلق، وفهم التكثير من تعداد الأسباط. بكم: متعلق بفرّقنا، والباء معناها: السبب، أي بسبب دخولكم، أو المصاحبة: أي ملتبساً، كما قال:
تدوس بنا الجماجم والتريبا

أي ملتبسة بنا أو: أي جعلناه فرقاً بكم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما، وهو قريب من معنى الاستعانة، أو معناها اللام، أي فرّقنا لكم البحر، أي لأجلكم، ومعناها راجع للسبب. ويحتمل الفرق أن يكون عرضاً من ضفة إلى ضفة، ويحتمل أن يكون طولاً، ونقل كل: وعلى هذا الثاني قالوا: كان ذلك بقرب من موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة. وذكر العامري: أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين، وهي كانت طريقهم.
البحر: قيل هو بحر القلزم من بحار فارس، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ، وقيل: بحر من بحار مصر يقال له أساف، ويعرف الآن ببحر القلزم، قيل: وهو الصحيح، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط، اثنى عشر مسلكاً. واختلفوا في عدد المفروق بهم، وعدد آل فرعون، على أقوال يضاد بعضها بعضاً، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، حكايات مطوّلة جداً لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها، فالله أعلم بالصحيح منها.
{فأنجيناكم}: يعني من الغرق، ومن إدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء؟ واستطردوا إلى الكلام في يوم عاشوراء، وفي صومه، وهي مسألة تذكر في الفقه. وبين قوله: {فرّقنا بكم البحر}، وبين قوله: {فأنجيناكم} محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره: وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم. {وأغرقنا آل فرعون} والهمزة في أغرقنا للتعدية، ويعدى أيضاً بالتضعيف. ولم يذكر فرعون فيمن غرق، لأن وجوده معهم مستقرّ، فاكتفى بذكر الآل هنا، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم، فناسب هذا إفرادهم بالغرق. وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر، منها: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ} {حتى إذا أدركه الغرق} {فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم} وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح، بإلقائه وهو طفل في البحر، وخروجه منه سالماً. ولكل أمّة نصيب من نبيها. وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح، لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت، ولا دم خارج، وكان ما به الحياة {وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ} سبباً لإعدامهم من الوجود. ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة، جعله الله تعالى نكالاً لمن ادّعى الربوبية، فقال: {أنا ربكم الأعلى} إذ على قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدّعى وتغييبه في قعر الماء.
{وأنتم تنظرون}: جملة حالية، وهو من النظر: بمعنى الإبصار. والمعنى، والله أعلم: أن هذه الخوارق العظيمية من فرق البحر بكم، وإنجائكم من الغرق، ومن أعدائكم، وإهلاك أعدائكم بالغرق، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه، لم يصل ذلك إليكم بنقل، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم. وقيل: وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض، وقيل: إلى طفوهم على وجه الماء غرقى. وقيل: إليهم وقد لفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد ينحصر، لم يترك البحر في جوفه منهم واحداً.
وقيل: تنظرون أي بعضكم إلى بعض وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له: أين أصحابنا؟ فقال: سيروا، فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان، فصار بها كوى، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضاً. وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية، وقيل: النظر تجوز به عن القرب، أي وأنتم بالقرب منهم، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم: أنت مني بمرأى ومسمع، أي قريب بحيث أراك وأسمعك، قاله ابن الأنباري. وقيل: هو من نظر البصيرة والعقل، ومعناه: وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم. وقيل: النظر هنا بمعنى العلم، لأن العلم يحصل عن النظر، فكنى به عنه، قاله الفراء، وهو معنى قول ابن عباس.
{وإذا واعدنا موسى أربعين ليلة} قرأ الجمهور: واعدنا، وقرأ أبو عمرو: وعدنا بغير ألف هنا، وفي الأعراف وطه، ويحتمل واعدنا: أن يكون بمعنى وعدنا، ويكون صدر من واحد، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة، فيكون الله قد وعد موسى الوحي، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات، أو يكون الوعد من الله وقبوله كان من موسى، وقبول الوعد يشبه الوعد. قال القفال: ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله بمعنى يعاهده. وقيل: وعد إذا كان عن غير طلب، وواعد إذا كان عن طلب. وقد رجح أبو عبيد قراءة من قرأ: وعدنا بغير ألف، وأنكر قراءة من قرأ: واعدنا بالألف، وافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي. وقال أبو عبيد: المواعدة لا تكون إلا من البشر، وقال أبو حاتم: أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، لأن كلاً منهما متواتر، فهما في الصحة على حدّ سواء. وأكثر القراء على القراءة بألف، وهي قراءة مجاهد، والأعرج، وابن كثير، ونافع، والأعمش، وحمزة، والكسائي. موسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بن علي الحوّاني النسابة: أن موسى على نبينا وعليه السلام هو: موسى بن عمران بن قاهث، وتقدّم الكلام في لفظ موسى العلم. وأما موسى الحديدة، التي يحلق بها الشعر، فهي مؤنثة عربية مشتقة من: أسوت الشيء، إذا أصلحته، ووزنها مفعل، وأصلها الهمز، وقيل: اشتقاقها من: أوسيت إذا حلقت، وهذا الاشتقاق أشبه بها، ولا أصل للواو في الهمز على هذا. {أربعين ليلة}: ذو الحجة وعشر من المحرّم، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين، وقرأ علي وعيسى بن عمر: بكسر باء أربعين شاذاً اتباعاً، ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا، على أنها هي الموعودة، أو على حذف مضاف التقديم تمام، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه، قاله الأخفش، فيكون مثل قوله:
فواعديه سر حتى مالك ** أو النقا بينهما أسهلا

أي إتيان سر حتى مالك، ولا يجوز نصب أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه، والمواعدة لم تقع كذلك. وليلة: منصوب على التمييز الجائي بعد تمام الاسم، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين، ولا يجوز تقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة، نحو:
على أنني بعدما قد مضى ** ثلاثون للهجر حولاً كميلا

وعشرين منها أصبعاً من ورائنا

ولا تعريف للتمييز، خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة. وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب: ما فعلت العشرون الدرهم، وما جاء نحو: هذا مما يدل على التعريف، وذلك مذكور في علم النحو. وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم، لأن أوّل الشهر ليلة الهلال، ولهذا أرّخ بالليالي، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعاً لليالي، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} أو دلالة على مواصلته الصوم ليلاً ونهاراً، لأنه لو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها. وهذه المواعدة للتكلم، أو لإنزال التوراة. قال المهدوي: وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيما ذكره المفسرون عشرين يوماً وعشرة ليال، فقالوا: قد أخلفنا موعده، انتهى كلامه. وقال الزمخشري: لما دخل بنو إسرائيل مصر، بعد هلاك فرعون، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة، وضرب له ميقاتاً، انتهى.
{ثم اتخذتم العجل}: الجمهور على إدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة: بالإظهار، ويحتمل اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلاً، كما قال: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار} على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير: يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلهاً، ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفاً لدلالة المعنى، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلهاً، والأرجح القول الأوّل، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع، وفي: {واتخذ قوم موسى}، وفي: {اتخذوه وكانوا ظالمين}، وفي: {إن الذين اتخذوا العجل} وفي قوله في هذه السورة أيضاً: {إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة. فعلى القول الأوّل فيه ذمّ الجماعة بفعل الواحد، لأن الذي عمل العجل هو السامري، وسيأتي، إن شاء الله، الكلام فيه وفي اسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى: {وأضَلهم السامري} وذلك عادة العرب في كلامها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عن بعضها. وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية، إذ لم يتقدّم عهد فيه، وعلى القول الثاني للعهد السابق، إذ كانوا قد صنعوا عجلاً ثم اتخذوا ذلك العجل إلهاً، وكونه عجلاً ظاهر في أنه صار لحماً ودماً، فيكون عجلاً حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة، قاله الحسن. وقيل: هو مجاز، أي عجلاً في الصورة والشكل، لأن السامري صاغه على شكل العجل، وكان فيما ذكروا صائغاً، ويكون نسبة الخوار إليه مجازاً، قاله الجمهور، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف، إن شاء الله. ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سمي عجلاً لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى، فاتخذوه إلهاً، قاله أبو العالية، أو سمى هذا عجلاً، لقصر مدّته.
{من بعده}، من: تفيد ابتداء الغاية، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة، إذا الظاهر عود الضمير على موسى، ولا تتصوّر التعدية في الذات، فلابد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدته، فلابد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور، فيزول التعارض، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ. ويبين المهلة قصة الأعراف، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد، فزال التعارض. وقيل: الضمير في بعده يعود على الذهاب، أي من بعد الذهاب، ودل على ذلك أن المواعدة تقتضي الذهاب، فيكون عائداً على غير مذكور، بل على ما يفهم من سياق الكلام، نحو قوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} {فأثرن به نقعاً} أي توارت الشمس، إذ يدل عليها قوله: بالعشي، وأي فأثرن بالمكان، إذ يدل عليه {والعاديات} {فالموريات} {فالمغيرات} إذ هذه الأفعال لا تكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه.
وقيل: الضمير يعود على الانجاء، أي من بعد الانجاء، وقيل: على الهدى، أي من بعد الهدى، وكلا هذين القولين ضعيف.
{وأنتم ظالمون}: جملة حالية، ومتعلق الظلم. قيل: ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها، وقيل: بتعاطي أسباب هلاكها، وقيل: برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل، ولم تنكروا عليه. ويحتمل أن تكون الجملة غير حال، بل إخبار من الله إنهم ظالمون: أي سجيتهم الظلم، وهو وضع الأشياء في غير محلها. وكان المعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين، كقوله تعالى: {اتخذوه وكانوا ظالمين}. وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر، لأنها أبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل. وظاهر قوله: ثم اتخذتم العموم، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون، وقيل: الذين عكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل، وقيل: كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفاً، قيل: وهذا هو الصحيح، وقيل: إلا هارون والسبعين رجلاً الذين كانوا مع موسى. واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مرّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر، فقالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فهجس في نفس السامري أن يفتنهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم العجل، وقيل: إنه كان من قوم يعبدون البقر، وكان منافقاً يظهر الإيمان بموسى، فاتخذ عجلاً من جنس ما كان يعبده، وفي اتخاذهم العجل إلهاً دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية، إذ من اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة، تبين له بأوّل وهلة فساد دعوى أن العجل إله. وقد نقل المفسرون عن ابن عباس والسدّي وغيرهما قصصاً كثيراً مختلفاً في سبب اتخاذ العجل، وكيفية اتخاذه، وانجر مع ذلك أخبار كثيرة، الله أعلم بصحتها، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب.
{ثم عفونا عنكم}: تقدّمت معاني عفا، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب، أو من باب الترك، أو من باب السهولة، والعفو والصفح متقاربان في المعنى. وقال قوم: لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى، لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم، وإن كان بمعنى المحو، كان عاماً لفظاً ومعنى، فإنه تعالى تاب على من قتل، وعلى من بقي، قال تعالى: {فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم} وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له. وقالت المعتزلة: عفونا عنكم، أي بسبب إتيانكم بالتوبة، وهي قتل بعضهم بعضاً: {من بعد ذلك} إشارة إلى اتخاذ العجل، وقيل: إلى قتلهم أنفسهم، والأوّل أظهر.
{لعلكم}: تقدّم الكلام في لعل في قوله: {لعلكم تتقون}، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى، فأغنى عن إعادته. {تشكرون}: أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم، وتظهرن النعمة بالثناء، وقالوا: الشكر باللسان، وهو الحديث بنعمة المنعم، والثناء عليه بذلك وبالقلب، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعَم عليه، وبالعمل {اعملوا آل داود شكراً} وبالله أي شكراً لله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو، وقال بعضهم:
وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة ** وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى

وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي ** ولا بلساني بل به شكره عنا

ومعنى لعلكم تشكرون: أي عفو الله عنكم، لأن العفو يقتضي الشكر، قاله الجمهور، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو، أو تعترفون بنعمتي، أو تديمون طاعتي، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال: وقال ابن عباس: الشكر طاعة الجوارح. وقال الجنيد: الشكر هو العجز عن الشكر. وقال الشبلي: التواضع تحت رؤية المنة. وقال الفضيل: أن لا تعصي الله. وقال أبو بكر الورّاق أن تعرف النعمة من الله. وقال ذو النون: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان. قال القشيري: سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه، يشهد لذلك {من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين}، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك}، وقال لهذه الأمة: {ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره} انتهى كلامه. وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو، لأن العفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلهاً هو من أعظم، أو أعظم إسداء النعم، فلذلك قال: {لعلكم تشكرون}.
{وإذ آتينا موسى الكتاب}: هو التوراة بإجماع المفسرين. {والفرقان}: هو التوراة، ومعناه أنه آتاه جامعاً بين كونه كتاباً وفرقاناً بين الحق والباطل، ويكون من عطف الصفات، لأن الكتاب في الحقيقة معناه: المكتوب، قاله الزجاج، واختاره الزمخشري، وبدأ بذكره ابن عطية قال: كرر المعنى لاختلاف اللفظ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل، ولفظة كتاب لا تعطي ذلك، أو الواو مقحمة، أي زائدة، وهو نعت للكتاب، قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

قاله الكسائي، وهو ضعيف، وإنما قوله، وابن الهمام، وليث: من باب عطف الصفات بعضها على بعض. ولذلك شرط، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني، أو النصر، لأنه فرق بين العدوّ والولي في الغرق والنجاة، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس، أو سائر الآيات التي أوتي موسى على نبينا وعليه السلام من العصا واليد وغير ذلك، لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو الفرق بين الحق والباطل، قاله أبو العالية ومجاهد، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان، قاله ابن بحر وابن زيد، أو الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، ومنه قوله تعالى: {يجعل لكم فرقاً} أي فرجاً ومخرجاً. وهذا القول راجع لمعنى النصر أو القرآن. والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري، أو القرآن على حذف مفعول، التقدير: ومحمداً الفرقان، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب، وقالوا: هو كقول الشاعر:
وزججن الحواجب والعيونا

التقدير: وكحلن العيون. ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة، لأنه لا دليل على هذا المحذوف، ويصير نظير: أطعمت زيداً خبزاً ولحماً، ويكون: اللحم أطعمته غير زيد، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك، وليس مثل ما مثلوا به من: وزججن الحواجب والعيون، لما هو مذكور في النحو. وقد جاء: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسى لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو انفراق البحر، قاله يمان وقطرب، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله: {إذ فرقنا}، وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان، ولا يليق إلا بالكتاب. وأجيب بأنه، وإن سبق ذكر الانفلاق، فأعيد هنا ونص عليه بأنه آية لموسى مختصة به، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها على وجود الصانع وصدق موسى على نبينا وعليه السلام، وذلك هو الهداية، أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز، وبفرق البحر حصل لهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم، ونعمة النجاة من أعدائهم. فهذه اثنتا عشرة مقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا..
{لعلكم تهتدون}: ترجية لهدايتهم، وقد تقدم الكلام في لعل. وفي لفظ ابن عطية في لعل هنا، وفي قوله قيل: {لعلكم تشكرون}، أنه توقع، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلق لعل محبوباً، كانت للترجي، فإن كان محذوراً، كانت للتوقع، كقولك: لعل العدو يقدم. والشكر والهداية من المحبوبات، فينبغي أن لا يعبر عن معنى لعل هنا إلا بالترجي. قال القشيري: فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم، يفرقون به بين الحق والباطل: استفت قلبك، اتقوا فراسة المؤمن. المؤمن ينظر بنور الله {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاً}، وذلك الفرقان ما قدموه من الإحسان، انتهى كلامه. وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان، لأن الكتاب به تحصل الهداية {إنا أنزلنا التوارة فيها هدى ونور} {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى} {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولاً منها: فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكر من كونه صار اثني عشر مسلكاً على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم في ذلك استيحاش، لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل، وهو من أعظم الآيات الدالة على صدق موسى على نبينا وعليه السلام، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة، لأن الأولى هي التفضيل، والثانية هي الإنجاء من آل فرعون، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم ينظرون بحيث لا يشكون في هلاكهم.
ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادة العجل، فذكر سبب ذلك، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعله السامري هذا، ولم يطل عليهم الأمد، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهم وتاب عليهم، فأي نعمة أعظم من هذه؟ ثم ذكر النعمة الخامسة، وهي ثمرة الوعد، وهو إتيان موسى التوراة التي بها هدايتهم، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم. وجاء ترتيب هذه النعم متناسقاً يأخذ بعضه بعنق بعض، وهو ترتيب زماني، وهو أحد الترتيبات الخمس التي مر ذكرها في هذا الكتاب، لأن التفضيل أمر حكمي، فهو أول ثم وقعت النعم بعده، وهي أفعال يتلو بعضها بعضاً. فأولها الإنجاء من سوء العذاب، ذبح الأبناء واستحياء النساء بإخراج موسى إياهم من مصر، بحيث لم يكن لفرعون ولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج، والإنجاء، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عياناً هذا الخارق العظيم، ثم وعد الله لموسى بمناجاته وذهابه إلى ذلك، ثم اتخاذهم العجل، ثم العفو عنهم، ثم إيتاء موسى التوراة. فانظر إلى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدرّ في أسلاكها، والزهر في أفلاكها، كل فصل منها قد ختم بمناسبة، وارتقى في ذروة الفصاحة إلى أعلى مناصبه، وارداً من الله على لسان محمد أمينه لسان من لم يتل من قبل كتاباً ولا خطه بيمينه.