فصل: تفسير الآيات (83- 87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (83- 87):

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)}
لما ذكر تعالى تنويع ما أنزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمن وبزيادة خسار للظالم، عرّض بما أنعم به وما حواه من لطائف الشرائع على الإنسان، ومع ذلك {أعرض} عنه وبعد بجانبه اشمئزازاً له وتكبراً عن قرب سماعه وتبديلاً مكان شكر الإنعام كفره. وقرأ الجمهور: {ونأى} من النأي وهو البعد، وقرأ ابن عامر وناء. وقيل هو مقلوب نأى فمعناه بعد. وقيل: معناه نهض بجانبه. وقال الشاعر:
حتى إذا ما التأمت مفاصله ** وناء في شق الشمال كاهله

أي نهض متوكئاً على شماله. ومعنى {يؤوساً} قنوطاً من أن ينعم الله عليه. والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحداً بعينه بل المراد به الجنس كقوله {إن الإنسان لربه لكنود} {إن الإنسان خلق هلوعاً} الآية وهو راجع لمعنى الكافر، والإعراض يكون بالوجه والنأي بالجانب يكون بتولية العطف أو يراد بنأي الجانب الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين. والشاكلة قال ابن عباس: ناحيته. وقال مجاهد: طبيعته. وقال الضحاك: حدّته. وقال قتادة والحسن: نيته. وقال ابن زيد: دينه. وقال مقاتل: خلقه وهذه أقوال متقاربة. وقال الزمخشري: على مذهب الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه، والدليل عليه قوله {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً} أي أشد مذهباً وطريقة.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: لم أر في القرآن آية أرجى من التي فيها {غافر الذنب وقابل التوب} قدم الغفران قبل قبول التوبة. وعن عثمان رضي الله عنه لم أر آية أرجى من {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} وعن عليّ كرّم الله وجهه ورضي عنه لم أر آية أرجى من {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الآية. قالوا ذلك حين تذاكروا القرآن. وعن القرطبي: لم أر آية أرجى من {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} الآية.
وقال أبو عبد الله الرازي: الأرواح والنفوس مختلفة بماهيتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، وبعضها كدِرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال ونكال انتهى. وثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال: إني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بنا ناس من اليهود فقال: سلوه عن الروح فقال بعضهم: لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل عليه {ويسألونك عن الروح} الآية. وروي أن يهود قالوا لقريش: سلوه عن الروح وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها فإن أجاب في ذلك كله أو لم يجب في شيء فهو كذاب، وإن أجاب في بعض ذلك وسكت عن بعض فهو نبي.
وفي بعض طرق هذا: إن فسر الثلاثة فهو كذاب وإن سكت عن الروح فهو نبي فنزل في شأن الفتية {أم حسبت أن أصحاب الكهف} ونزل في شأن الذي بلغ الشرق والغرب {ويسألونك عن ذي القرنين} ونزل في الروح {ويسألونك عن الروح} والظاهر من حديث ابن مسعود أن الآية مدنية ومن سؤال قريش أنها مكية، والروح على قول الجمهور هنا الروح التي في الحيوان وهو اسم جنس وهو الظاهر. وقال قتادة: هو جبريل عليه السلام قال وكان ابن عباس يكتمه. وقيل: عيسى ابن مريم عليه السلام وعن عليّ أنه ملك، وذكر من وصفه ما الله أعلم به ولا يصح عن عليّ.
وقيل: الروح القرآن ويدل عليه الآية قبله والآية بعده. وقيل: خلق عظيم روحاني أعظم من الملك. وقيل: الروح جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام ذكره العزيزي. وقال أبو صالح خلق كخلق آدم وليسوا بني آدم لهم أيد وأرجل، ولا ينزل ملك من السماء إلاّ ومعه واحد منهم، والصحيح من هذه الأقوال القول الأول، والظاهر أنهم سألوا عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وانبعاثها فيه وصورة ملابستها له، وكلاهما مشكل لا يعلمه قبل إلاّ الله. وقد رأيت كتاباً يترجم بكتاب النفخة والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيها أن الجواب في قوله {قل الروح من أمر ربي} إنما هو للعوام، وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح، وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة، وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولاً، وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شيء غيرها، ومعنى {من أمر ربي} أي فعل ربي كونها بأمره، وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى {وما أمر فرعون برشيد} أي فعله، ويحتمل أن يكون أمراً واحداً الأمور وهو اسم جنس لها أي من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها. وقيل: من وحي ربي، وكلامه ليس من كلام البشر ويتخرج على قول من قال إن الروح هنا القرآن. وقيل: من علم ربي والظاهر أن الخطاب في {وما أوتيتم} هم الذين سألوا عن الروح وهم طائفة من اليهود. وقيل اليهود بجملتهم. وقيل الناس كلهم.
قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح لأن قوله {قل الروح} إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ جميع علومهم محصورة وعلمه تعالى لا يتناهى. وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش: وما أوتوا بضمير الغيبة عائداً على السائلين، ولما ذكر تعالى ما أنعم به من تنزيل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم شفاء ورحمة وقدرته على ذلك، ذكر قدرته على أنه لو شاء لذهب بما أوحى ولكنه تعالى لم يشأ ذلك والمعنى أنّا كما نحن قادرون على إنزاله نحن قادرون على إذهابه.
وقال أبو سهل: هذا تهديد لغير الرسول صلى الله عليه وسلم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة. وروي لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن والحديث وفي حديث ابن مسعود يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وبما في القلوب، ثم قرأ عبد الله {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك}. وقال صاحب التحرير: ويحتمل عندي في تأويل الآية وجه غير ما ذكر وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما أبطأ عليه الوحي لما سُئل عن الروح شق ذلك عليه وبلغ منه الغاية، فأنزل الله تعالى تهذيباً له هذه الآية. ويكون التقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنّا لو شئنا ذهبنا بما {أوحينا إليك} جميعه فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وطاب قلبه ولزم الأدب انتهى. والباء في {لنذهبن بالذي} للتعدية كالهمزة وتقدم الكلام على ذلك في قوله {لذهب بسمعهم} في أوائل سورة البقرة. والكفيل هنا قيل من يحفظ ما أوحينا إليك. وقيل كفيلاً بإعادته إلى الصدور. وقيل كفيلاً يضمن لك أن يؤتيك ما أخذ منك. وقال الزمخشري: والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف ولم نترك له أثراً وبقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب ثم لا تجد لك بهذا الذهاب من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطوراً {إلاّ رحمة من ربك} إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كان رحمته يتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك نتركه غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة في تنزيله وتحفيظه انتهى. وعلى الاستثناء المنقطع خرجه ابن الأنباري وابن عطية.
قال ابن الأنباري: لكن رحمة من ربك تمنع من أن تسلب القرآن، وقال في زاد المسير المعنى لكن الله يرحمك فأثبت ذلك في قلبك. وقال ابن عطية: لكن {رحمة من ربك} تمسك ذلك عليك وتخريج الزمخشري الأول جعله استثناء متصلاً جعل رحمته تعالى مندرجة تحت قوله تعالى {وكيلاً}.

.تفسير الآيات (88- 93):

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)}
لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكراً إلى آخر الدهر ورفع له قدراً به في الدنيا والآخرة، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن {أن يأتوا بمثل} جميعه، ولو تعاون الثقلان عليه {لا يأتون بمثله ولو كان} الجنّ تفعل أفعالاً مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معاً لذلك.
وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت {ولا يأتون} جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في {لئن} وهي الداخلة على الشرط كقوله {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط، ولذلك جاء مرفوعاً. فأما قول الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة ** لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل

فاللام في {لئن} زائدة وليست موطئة لقسم قبلها. فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة. وذكر ابن عطية هنا فصلاً حسناً في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته. قال: وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعماله ومشاهده علم ضرورة، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة في قول الفرزدق:
علام تلفتين وأنت تحتي ** وفي قول جرير:

تلفت إنها تحت ابن قين

وألا ترى قول الأعرابي: عز فحكم فقطع، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله {حتى زرتم المقابر} فقال: إن الزيارة تقتضي الانصراف، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ** ومنه قول الأعرابي للأصمعي:

من أحوج الكريم أن يقسم

فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم. وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى. ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلاّ الله عز وجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا.
وقال الزمخشري: {ولا يأتون} جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جواباً للشرط. كقوله:
يقول لا غائب مالي ولا حرم

لأن الشرط وقع ماضياً انتهى. يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت:
وإن أتاه خليل يوم مسأله

فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول: وإن كان مرفوعاً هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضياً وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقال الزمخشري: والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلاّ أن يكابروا فيقولوا: هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى. وتكرر لفظ مثل في قوله: {لا يأتون بمثله} على سبيل التأكيد والتوضيح، وأن المراد منهم {أن يأتوا} بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه، فبين بتكرار {بمثله} ولم يكن التركيب {لا يأتون} به رفعاً لهذا الاحتمال، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن.
ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلاّ كافرين به وبنعمه.
وقرأ الجمهور: {صرّفنا} بتشديد الراء والحسن بتخفيفها، والظاهر أن مفعول {صرّفنا} محذوف تقديره البينات والعبر و{من} لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد {صرّفنا} {كل مثل} انتهى. يعني فيكون مفعول {صرّفنا} {كل مثل} وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى.
وقال الزمخشري: {من كل مثل} من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقال أبو عبد الله الرازي: {من كل مثل} إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله {فليأتوا بحديث مثله} ومع ظهور عجزهم أبوا {إلاّ كفوراً} انتهى ملخصاً. وقيل: {من كل مثل} من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس. قيل: من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب. وقيل: أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله {وقالوا لن نؤمن لك} وتقدم القول في دخول {إلاّ} بعد {أبى} في سورة براءة. وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى، فقال: «لست أطلب ذلك». فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن {يأتوا بمثل هذا القرآن} فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج، فقالوا ما حكاه الله عنهم.
وقرأ الكوفيون: {تفجره} من فجر مخففاً وباقي السبعة من فجر مشدداً، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعياً وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم، روي عنهم أنهم قالوا له: أزل جبال مكة وفجر لنا {ينبوعاً} حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصياً فإنه كان صدوقاً يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولاً هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه السلام أن {تكون} له {جنة من نخيل وعنب} وهما كانا الغالب على بلادهم، ومن أعظم ما يقتنون، ومعنى {خلالها} أي وسط تلك الجنة وأثناءها. فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب {خلالها} على الظرف.
وقرأ الجمهور: {تسقط} بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصباً، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعاً، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي {كسْفاً} بسكون السين وباقي السبعة بفتحها.
وقولهم {كما زعمت} إشارة إلى قوله تعالى {إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء} وقيل: {كما زعمت} إن ربك إن شاء فعل. وقيل: هو ما في هذه السورة من قوله {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو نرسل عليكم حاصباً} قال أبو عليّ {قبيلاً} معاينة كقوله {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} وقال غيره: {قبيلاً} كفيلاً من تقبله بكذا إذا كفله، والقبيل والزعيم والكفيل بمعنى واحد. وقال الزمخشري: {قبيلاً} كفيلاً بما تقول شاهداً لصحته، والمعنى أو تأتي بالله {قبيلاً} والملائكة {قبيلاً} كقوله:
كنت منه ووالدي بريا ** وإني وقيار بها لغريب

أي مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} أو جماعة حالاً من الملائكة. وقرأ الأعرج قبلاً م المقابلة. وقرأ الجمهور: {من زخرف} وعبد الله من ذهب، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير. وقال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب. وقال الزجّاج: الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف. {وفي السماء} على حذف مضاف، أي في معارج السماء. والظاهر أن {السماء} هنا هي المظلة. وقيل: المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء. وقال الشاعر:
وقد يسمى سماء كل مرتفع ** وإنما الفضل حيث الشمس والقمر

قيل: وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال: لن نؤمن حتى تضع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحداً منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون {أو} فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي {في السماء} حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم {كتاباً} يقرؤونه، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي {بالله والملائكة قبيلاً} أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال {سبحان ربي هل كنت إلاّ بشراً رسولاً} أي ما كنت إلاّ بشراً رسولاً أي من الله إليكم لا مقترحاً عليه ما ذكرتم من الآيات.
وقال الزمخشري: وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلاّ العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس} {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} وحين أنكروا. الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر. وقرأ ابن كثير وابن عامر قال {سبحان ربي} على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل {هل كنت إلاّ بشراً} مثلهم {رسولاً}، والرسل لا تأتي إلاّ بما يظهره الله عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله.