فصل: تفسير الآيات (105- 109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (105- 109):

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}
{وبالحق أنزلناه} هو مردود على قوله {لئن اجتمعت الإنس والجن} الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولاً، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في {أنزلناه} عائد على موسى عليه السلام وجعل منزلاً كما قال {وأنزلنا الحديد} أو عائد على الآيات التسع، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله. وقال أبو سليمان الدمشقي {وبالحق أنزلناه} أي بالتوحيد، {وبالحق نزل} أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي. وقال الزهراوي: بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس، {وبالحق نزل} أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره. وقال الزمخشري: وما أنزلنا القرآن إلاّ بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلاّ ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير، وما أنزلناه من السماء إلاّ بالحق محفوظاً بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين انتهى. وقد يكون {وبالحق نزل} توكيداً من حيث المعنى لما كان يقال أنزلته فنزل، وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من نزوله جاء، {وبالحق نزل} مزيلاً لهذا الاحتمال ومؤكداً حقيقة، {وبالحق نزل} وإلى معنى التأكيد نحا الطبري. وانتصب {مبشراً ونذيراً} على الحال أي {مبشراً} لهم بالجنة ومنذراً من النار ليس لك شيء من إكراههم على الدين.
وقرأ الجمهور: {فرقناه} بتخفيف الراء أي بيَّنا حلاله وحرامه قاله ابن عباس، وعن الحسن فرقنا فيه بين الحق والباطل. وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كقوله {فيها يفرق كل أمر حكيم} وقرأ أبيّ وعبد الله وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وزيد بن عليّ وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه بشد الراء أي {أنزلناه} نجماً بعد نجم. وفصلناه في النجوم. وقال بعض من اختار ذلك: لم ينزل في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين. قال ابن عباس: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، هكذا قال الزمخشري عن ابن عباس. وحكي عن ابن عباس في ثلاث وعشرين سنة. وقيل: في خمس وعشرين، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في سنه عليه السلام، وعن الحسن نزل في ثمانية عشر سنة. قال ابن عطية: وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن.
وقيل معنى: {فرّقناه} بالتشديد فرقنا آياته بين أمر ونهي، وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي. وانتصب {قرآناً} على إضمار فعل يفسره {فرقناه} أي وفرقنا {قرآناً فرقناه} فهو من باب الاشتغال وحسن النصب، ورجحه على الرفع كونه عطفاً على جملة فعلية وهي قوله {وما أرسلناك}. ولابد من تقدير صفة لقوله {وقرآناً} حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للابتداء بها، والتقدير {وقرآناً} أي قرآن أي عظيماً جليلاً، وعلى أنه منصوب بإضمار فعل يفسره الظاهر بعده خرّجه الحوفي والزمخشري.
وقال ابن عطية وهو مذهب سيبويه. وقال الفراء: هو منصوب بأرسلناك أي {ما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً وقرآناً} كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة وهذا إعراب متكلف وأكثر تكلفاً منه قول ابن عطية، ويصح أن يكون معطوفاً على الكاف في {أرسلناك} من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد.
وقرأ أُبيّ وعبد الله {فرّقناه} عليك بزيادة عليك و{لتقرأه} متعلق بفرقناه، والظاهر تعلق على مكث بقوله {لتقرأه} ولا يبالي بكون الفعل يتعلق به حرفاً جر من جنس واحد لأنه اختلف معنى الحرفين الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال أي متمهلاً مترسلاً.
قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج: {على مكث} على ترسل في التلاوة. وقيل: {على مكث} أي تطاول في المدة شيئاً بعد شيء. وقال الحوفي: {على مكث} بدل من {على الناس} وهذا لا يصح لأن قوله {على مكث} هو من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القارئ، أو صفات المقروء في المعنى وليس من صفات الناس فيكون بدلاً منهم. وقيل يتعلق {على مكث} بقوله {فرقناه} ويقال مكث بضم الميم وفتحها وكسرها. وقال ابن عطية: وأجمع القراء على ضم الميم من {مكث}. وقال الحوفي: والمكث بالضم والفتح لغتان، وقد قرئ بهما وفيه لغة أخرى كسر الميم.
{ونزلناه تنزيلاً} على حسب الحوادث من الأقوال والأفعال. {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم والازدراء بهم وعدم الاكثرات بهم وبإيمانهم وبامتناعهم منه، وأنهم لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيراً منهم وأفضل هم العلماء الذي قرؤوا الكتاب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربي الموعود في كتبهم، فإذا تُلي عليهم خروا {سُجَّدًا} وسبحواً الله تعظيماً لوعده ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله {إن كان وعد ربنا لمفعولاً}.
و{إن الذين أوتوا العلم من قبله} يجوز أن يكون تعليلاً لقوله {آمنوا به أو لا تؤمنوا} أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم، وأن يكون تعليلاً لقل على سبيل التسلية كأنه قيل {قل} عن إيمان الجاهلية بإيمان العلماء انتهى من كلام الزمخشري، وفيه بعض تلخيص. وقال غيره: {قل آمنوا} الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد والمعنى أنكم لستم بحجة فسواء علينا أأمنتم أم كفرتم وإنما ضرر ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم انتهى.
والظاهر أن الضمير في {قل آمنوا به} عائد على القرآن، و{الذين أوتوا العلم} هم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل ومَن جري مجراهما، فإنهما كانا ممن أوتي العلم واطّلعاً على التوراة والإنجيل ووجدا فيهما صفته عليه الصلاة والسلام. وقيل: هم جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم، فتذكروا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسجدوا لله وقالوا: هذا وقت نبوّة المذكور في التوراة وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح فنزلت هذه الآية فيهم.
وقيل: المراد بالذين {أوتوا العلم من قبله} هو محمد صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن الضمير في {من قبله} عائد على القرآن كما عاد عليه في قوله: {به} ويدل عليه ما قبله وما بعده. وقيل الضمير إن في {به} وفي {من قبله} عائدان على الرسول عليه الصلاة والسلام.
واستأنف ذكر القرآن في قوله {إذا يتلى عليهم} والظاهر في قوله {إذا يتلى عليهم} أن الضمير في {يتلى} عائد على القرآن. وقيل: هو عائد على التوراة وما فيها من تصديق القرآن ومعرفة النبيّ عليه الصلاة والسلام، والخرور هو السقوط بسرعة، ومنه {فخر عليهم السقف} وانتصب {سجداً} على الحال، والسجود وهو وضع الجبهة على الأرض هو غاية الخرور ونهاية الخضوع، وأول ما يلقي الأرض حالة السجود الذقن، أو عبر عن الوجوه بالأذقان كما يعبر عن كل شيء ببعض ما يلاقيه. وقال الشاعر:
فخروا الأذقان الوجوه تنوشهم ** سباع من الطير العوادي وتنتف

وقيل: أريد حقيقة الأذقان لأن ذلك غاية التواضع وكان سجودهم كذلك. وقال ابن عباس: المعنى للوجوه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خر على وجهه وعلى ذقنه فما معنى اللام في خر لذقنه؟ قال:
فخر صريعاً لليدين وللفم

قلت: معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور، واختصه به لأن اللام للاختصاص انتهى. وقيل: اللام بمعنى على و{سبحان ربنا} نزهوا الله عما نسبته إليه كفار قريش وغيرهم من أنه لا يرسل البشر رسلاً وأنه لا يعيدهم للجزاء، وأن هنا المخففة من الثقيلة المعنى أن ما وعد به من إرسال محمد عليه الصلاة والسلام وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه، ونكر الخرور لاختلاف حالي السجود والبكاء، وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الحالة الثانية بالفعل لأن الفعل مشعر بالتجدد، وذلك أن البكاء ناشئ عن التفكر فهم دائماً في فكرة وتذكر، فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد، ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم.
{ويزيدهم} أي ما تُلي عليهم {خشوعاً} أي تواضعاً. وقال عبد الأعلى التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه لأن تعالى نعت العلماء فقال: {إن الذين أوتوا العلم} الآية. وقال ابن عطية: ويتوجه في هذه الآية معنى آخر، وهو أن يكون قوله {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} مخلصاً للوعيد دون التحقير، المعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة إذا يتُلى عليهم ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا انتهى. وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا.

.تفسير الآيات (110- 111):

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}
قال ابن عباس: تهجد الرسول صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده: «يا رحمن يا رحيم». فقال المشركون: كان محمد يدعو إلهاً واحداً فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن، ما الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير. ونقل ابن عطية نحواً منه عن مكحول. وقال عن ابن عباس: سمعه المشركون يدعو يا الله يا رحمن، فقالوا: كان يدعو إلهاً واحداً وهو يدعو إلهين فنزلت. وقال ميمون بن مهران: كان عليه السلام يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركوا العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فنزلت: وقال الضحاك: قال أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فنزلت لما لجوّا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه السلام وعجزوا عن معارضته، وكان عليه الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله {قل ادعوا الله} الآية. والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا الله يا رحمن من الدعاء بمعنى النداء، والمعنى: إن دعوتم الله فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته. قال الزمخشري: والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناءً عنه، فتقول: دعوت زيداً انتهى. ودعوت هذه من الأفعال التي تتعدّى إلى اثنين ثانيهما بحرف جر، تقول: دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء. وقال الشاعر في دعا هذه:
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ** أخاها ولم أرضع لها بلبان

وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قال الزمخشري يكون الثاني لقوله {ادعوا} لفظ الجلالة، ولفظ {الرحمن} وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير {ادعوا} معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري: المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير، فمعنى {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا انتهى. وكذا قال ابن عطية هما اسمان لمسمى واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية. والتنوين قيل عوض من المضاف و{ما} زائدة مؤكدة. وقيل: {ما} شرط ودخل شرط على شرط. وقرأ طلحة بن مصروف. {أياً} من {تدعوا} فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعى زيادتها في قوله:
يا شاة من قنص لمن حلت له

واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به

وذلك لاختلاف اللفظ. والضمير في {فله} عائد على مسمى الاسمين وهو واحد، أي فلمسماهما {الأسماء الحسنى}، وتقدم الكلام على قوله {الأسماء الحسنى} في الأعراف.
وقوله: {فله} هو جواب الشرط. قيل: ومن وقف على {أياً} جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز، ثم استأنف فقال ما تدعوه {فله الأسماء الحسنى} وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم، ولأن الشرط يقتضي عموماً ولا يصح هنا، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة. وعن ابن عباس أيضاً: هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي بقراءة الصلاة، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين.
{وابتغ بين ذلك} أي بين الجهر والمخافتة {سبيلاً} وسطاً وتقدم الكلام على {بين ذلك} في قوله {عوان بين ذلك} وقال ابن عباس أيضاً والحسن: لا تحسن علانيتها وتسيء سرّيتها. وعن عائشة: الصلاة يراد بها هنا التشهد. وقال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك، وكان أبو بكر يسرّ قراءته وعمر يجهر بها. فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً. وقيل لعمر: اخفض أنت قليلاً. وعن ابن عباس أيضاً: المعنى {ولا تجهر} بصلاة النهار {ولا تخافت} بصلاة الليل. وقال ابن زيد: معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه، ويخفض أحياناً فيسكت الناس خلفه انتهى. كما يفعل أهل زماننا من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النغم المتخذة للغناء.
ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمر تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء، ووصف نفسه بأنه {لم يتخذ ولداً} فيعتقد فيه تكثر بالنوع، وكان ذلك ردّاً على اليهود والنصاري والعرب الذين عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله. ونفى أولاً الولد خصوصاً ثم نفى الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه أو غيره، ولما نفى الولد ونفى الشريك نفى الولي وهو الناصر، وهو أعم من أن يكون ولداً أو شريكاً أو غير شريك. ولما كان اتخاذ الولي قد يكون للانتصار والاعتزاز به والاحتماء من الذلَّ وقد يكون للتفضل والرحمة لمن والى من صالحيّ عباده كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة، إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفى الجهة التي لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفياً على الإطلاق.
وجاء الوصف الأول بقوله {الذي لم يتخذ ولداً} والمعنى أنه تعالى لم يسم ولم يعدّ أحداً ولداً ولم ينفه بجهة التوالد لاستحالة ذلك في بدائه العقول، فلا يتعرض لنفيه بالمنقول ولذلك جاء ما اتخذ الله من ولد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
وقال مجاهد: في قوله {ولم يكن له وليّ من الذلّ} المعنى لم يخالف أحداً ولا ابتغى نصر أحد. وقال الزمخشري: {وليّ من الذلّ} ناصر من الذلّ ومانع له منه لاعتزازه به، أو لم يوال أحداً من أجل المذلة به ليدفعها بموالاته انتهى. وقيل: ولم يكن له {ولي} من اليهود والنصاري لأنهم أذل الناس فيكون {من الذل} صفة لولي انتهى. أي {ولي من} أهل {الذل}، فعلى هذا وما تقدّم يكون {من} في معنى المفعول به أو للسبب أو للتبعيض.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد؟ قلت: لأن من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة فهو الذي يستحق جنس الحمد، والذي تقرر أن النفي تسلط من حيث المعنى على القيد أي لا ذل يوجد في حقه فيكون له ولي ينتصر به منه، فالذل والولي الذي يكون اتخاذه بسببه منتفيان.
{وكبره تكبيراً} التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وأكد بالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه، وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله تعالى واختتمت به، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية {وقل الحمد لله} إلى آخرها والله أعلم.