فصل: تفسير الآيات (27- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 33):

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
{فأتت به} قيل إتيانها كان من ذاتها. قيل: طهرت من النفاس بعد أربعين يوماً وكان الله تعالى قد أراها آيات واضحات، وكلمها عيسى ابنها وحنت إلى الوطن وعلمت أن عيسى سيكفيها من يكلمها فعادت إلى قومها. وقيل: أرسلوا إليها لتحضري إليها بولدك، وكان الشيطان قد أخبر قومها بولادتها وفي الكلام حذف أي فلما رأوها وابنها {قالوا} قال مجاهد والسدّي: الفري العظيم الشنيع. وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية {فرياً} بسكون الراء، وفيما نقل ابن خالويه فرئاً بالهمز، و{هارون} شقيقها أو أخوها من أمّها، وكان من أمثل بني إسرائيل، أو {هارون} أخو موسى إذ كانت من نسله، أو رجل صالح من بني إسرائيل شبهت به، أو رجل من النساء وشبهوها به أقوال. والأولى أنه أخوها الأقرب. وفي حديث المغيرة حين خصمه نصارى نجران في قوله تعالى {يا أخت هارون} والمدة بينهما طويلة جداً فقال له الرسول: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» وأنكروا عليها ما جاءت به وأن أبويها كانا صالحين، فكيف صدرت منك هذه الفعلة القبيحة وفي هذا دليل على أن الفروع غالباً تكون زاكية إذا زكت الأصول، وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك.
وقرأ عمر بن لجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريراً {ما كان أبوك امرأ سوء} لجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلاً كونها فيها مسوع جواز الابتداء وهو الإضافة، ولما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء لمناسبة الولادة، ولم ينصوا على إثبات الصلاح وإن كان نفي السوء يوجب الصلاح ونفي البغاء يوجب العفة لأنهما بالنسبة إليهما نقيضان. روي أنها لما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك. وقيل: هموا برجمها حتى تكلم عيسى فتركوها.
{فأشارت} أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل: كان المستنطق لعيسى زكريا. ويروى أنهم لما أشاروا إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة الإنكار والتهكم بها أي إن من كان في المهد يُربيّ لا يكلم، وإنما أشارت إليه لما تقدم لها من وعده أنه يجيبهم عنها ويغنيها عن الكلام. وقيل: بوحي من الله إليها. و{كان} قال أبو عبيدة: زائدة. وقيل: تامّة وينتصب {صبياً} على الحال في هذين القولين، والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله {وكان الله غفوراً رحيماً} وفي قوله {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة} والمعنى {كان} وهو الآن على ما كان، ولذلك عبر بعض أصحابنا عن {كان} هذه بأنها ترادف لم يزل وما ردّ به ابن الأنباري كونها زائدة من أن الزائدة لا خبر لها، وهذه نصبت {صبيا} خبراً لها ليس بشيء لأنه إذ ذاك ينتصب على الحال، والعامل فيها الاستقرار.
وقال الزمخشري: كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو هاهنا لقريبه خاصة والدال عليه معنى الكلام وأنه مسوق للتعجب، ووجه آخر أن يكون {نكلم} حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس {صبياً}.
{في المهد صبيا} فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا انتهى. والظاهر أن {من} مفعول بنكلم. ونقل عن الفراء والزجّاج أن {من} شرطية و{كان} في معنى يكن وجواب الشرط محذوف تقديره فكيف {نكلم} وهو قول بعيد جداً. وعن قتادة أن {المهد} حجر أمه. وقيل: سريره. وقيل: المكان الذي يستقر عليه. وروي أنه قام متكئاً على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى، وأنطقه الله تعالى أولاً بقوله {إني عبد الله آتاني الكتاب} ردّاً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى.
وفي قوله {عبد الله} والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمّه مما اتهمت به لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلاّ مبرأة مصطفاة و{الكتاب} الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما أقوال. وظاهر قوله {وجعلني نبياً} أنه تعالى نبأه حال طفوليته أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً. وقيل: إن ذلك سبق في قضائه وسابق حكمه، ويحتمل أن يجعل الآتي لتحققه كأنه قد وجد {وجعلني مباركاً} قال مجاهد: نفاعاً. وقال سفيان: معلم خير. وقيل: آمراً بمعروف، ناهياً عن منكر. وعن الضحاك: قضاء للحوائج و{أينما كنت} شرط وجزاؤه محذوف تقديره {جعلني مباركاً} وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولاً لجعلني السابق لأن {أين} لا يكون إلاّ استفهاماً أو شرطاً لا جائز أن يكون هنا استفهاماً، فتعينت الشرطية واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله إنما هو معمول للفعل الذي يليه، والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في البدن والمال. وقيل: {الزكاة} زكاة الرؤوس في الفطر. وقيل الصلاة الدعاء، و{الزكاة} التطهر.
و{ما} في {ما دمت} مصدرية ظرفية. وقال ابن عطية. وقرأ {دمت} بضم الدال عاصم وجماعة. وقرأ {دمت} بكسر الدال أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو انتهى. والذي في كتب القراءات أن القراء السبعة قرؤوا {دمت حياً} بضم الدال، وقد طالعنا جملة من الشواذ فلم نجدها لا في شواذ السبعة ولا في شواذ غيرهم على أنها لغة تقول {دمت} تدام كما قالوا مت تمات، وسبق أنه قرئ {وبراً} بكسر الباء فإما على حذف مضاف أي وذا بر، وإما على المبالغة جعل ذاته من فرط بره، ويجوز أن يضمر فعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفنيها واحد، ومن قرأ {وبراً} بفتح الباء، فقال الحوفي وأبو البقاء: إنه معطوف على {مباركاً} وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي {أوصاني} ومتعلقها، والأولى إضمار فعل أي وجعلني {براً}.
وحكى الزهراوي وأبو البقاء أنه قرئ وبر بكسر الباء والراء عطفاً على {بالصلاة والزكاة}.
وقوله: {بوالدتي} بيان محل البر وأنه لا والد له، وبهذا القول برأها قومها. والجبار كما تقدم المتعاظم وكان في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب حيث جنه الليل لا مسكن له، وكان يقول: سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي، والألف واللام في {والسلام} للجنس. قال الزمخشري: هذا التعريف تعريض بلعنة متهمي مريم وأعدائهما من اليهود، وحقيقته أن اللام للجنس فإذا قال: وجنس السلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره {والسلام على من اتبع الهدى} يعني إن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. وقيل: أل لتعريف المنكر في قصة يحيى في قوله {وسلام} نحو {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً} فعصى فرعون الرسول أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إليّ. وسبق القول في تخصيص هذه المواطن.
وقرأ زيد بن علي {يوم ولدت} أي يوم ولدتني جعله ماضياً لحقته تاء التأنيث ورجح وسلام عليّ والسلام لكونه من الله وهذا من قول عيسى عليه السلام. وقيل: سلام عيسى أرجح لأنه تعالى أقامه في ذلك مقام نفسه فسلم نائباً عن الله.

.تفسير الآيات (34- 40):

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
الإشارة بذلك إلى المولود الذي ولدته مريم المتصف بتلك الأوصاف الجميلة، و{ذلك} مبتدأ و{عيسى} خبره و{ابن مريم} صفة لعيسى أو خبر بعد خبر أو بدل، والمقصود ثبوت بنوّته من مريم خاصة من غير أب فليس بابن له كما يزعم النصارى ولا لغير رشدة كما يزعم اليهود. وقرأ زيد بن عليّ وابن عامر وعاصم وحمزة وابن أبي إسحاق والحسن ويعقوب {قول الحق} بنصب اللام، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن {عيسى} أنه {ابن مريم} ثابت صدق ليس منسوباً لغيرها، أي إنها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل، أي أقول {الحق} وأقول قول {الحق} فيكون {الحق} هنا الصدق وهو من إضافة الموصوف إلى صفته أي القول {الحق} كما قال {وعد الصدق} أي الوعد الصدق وإن عنى به الله تعالى كان القول مراداً به الكلمة كما قالوا كلمة الله كان انتصابه على المدح وعلى هذا تكون الذي صفة للقول، وعلى الوجه الأول تكون {الذي} صفة للحق.
وقرأ الجمهور {قول} برفع اللام. وقرأ ابن مسعود والأعمش قال بألف ورفع اللام. وقرأ الحسن {قول} بضم القاف ورفع اللام وهي مصادر كالرهب والرهب والرهب وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو أي نسبته إلى أمه فقط {قول الحق} فتتفق إذ ذاك قراءة النصب وقراءة الرفع في المعنى.
وقال الزمخشري: وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو بدل انتهى. وهذا الذي ذكر لا يكون إلاّ على المجاز في قول وهو أن يراد به كلمة الله لأن اللفظ لا يكون الذات. وقرأ طلحة والأعمش في رواية زائدة قال: بألف جعله فعلاً ماضياً {الحق} برفع القاف على الفاعلية، والمعنى قال الحق وهو الله {ذلك} الناطق الموصوف بتلك الأوصاف هو {عيسى ابن مريم} و{الذي} على هذا خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي. وقرأ عليّ كرم الله وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي في رواية {تمترون} بتاء الخطاب والجمهور بياء الغيبة، وامترى افتعل إما من المرية وهي الشك، وإما من المراء وهو المجادلة والملاحاة، وكلاهما مقول هنا قالت اليهود ساحر كذاب، وقالت النصارى ابن الله وثالثها ثلاثة وهو الله {ما كان لله أن يتخذ من ولد} هذا تكذيب للنصارى في دعواهم أنه ابن الله، وإذا استحالت البنوة فاستحالة الإلهية مستقلة أو بالتثليث أبلغ في الاستحالة، وهذا التركيب معناه الانتفاء فتارة يدل من جهة المعنى على الزجر {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} وتارة على التعجيز {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} وتارة على التنزيه كهذه الآية، ولذلك أعقب هذا النفي بقوله {سبحانه} أي تنزه عن الولد إذ هو مما لا يتأتى ولا يتصور في المعقول ولا تتعلق به القدرة لاستحالته، إذ هو تعالى متى تعلقت إرادته بإيجاد شيء أوجده فهو منزه عن التوالد.
وتقدم الكلام على الجملة من قوله {إذا قضى أمراً}.
وقرأ الجمهور {وإن الله} بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ أُبي بالكسر دون واو، وقرأ الحرميان وأبو عمرو {وإن} بالواو وفتح الهمزة، وخرجه ابن عطية على أن يكون معطوفاً على قوله هذا {قول الحق} {وإن الله ربي} كذلك. وخرجه الزمخشري على أن معناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه كقوله {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} انتهى. وهذا قول الخليل وسيبويه وفي حرف أبي أيضاً، وبأن {الله} بالواو وباء الجر أي بسبب ذلك فاعبدوه. وأجاز الفراء في {وإن} يكون في موضع خفض معطوفاً على والزكاة، أي {وأوصاني بالصلاة والزكاة} وبأن الله ربي وربكم انتهى. وهذا في غاية البعد للفصل الكثير، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى الأمر {إن الله ربي وربكم}.
وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أن يكون المعنى، وقضى {إن الله ربي وربكم} فهي معطوفة على قوله {أمراً} من قوله {إذا قضى أمراً} والمعنى {إذا قضى أمراً} وقضى {إن الله} انتهى. وهذا تخبيط في الإعراب لأنه إذا كان معطوفاً على {أمراً} كان في حيز الشرط، وكونه تعالى ربنا لا يتقيد بالشرط وهذا يبعد أن يكون قاله أبو عمرو بن العلاء فإنه من الجلالة في علم النحو بالمكان الذي قل أن يوازنه أحد مع كونه عربياً، ولعل ذلك من فهم أبي عبيدة فإنه يضعف في النحو والخطاب في قول {وربكم} قيل لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى أمر الله تعالى أن يقول لهم {ذلك عيسى ابن مريم} أي قل لهم يا محمد هذا الكلام. وقيل: الخطاب للذين خاطبهم عيسى بقوله {إني عبد الله} الآية وإن الله معطوف على الكتاب، وقد قال وهب عهد عيسى إليهم {إن الله ربي وربكم} ومن كسر الهمزة عطف على قوله {إني عبد الله} فيكون محكياً. يقال: وعلى هذا القول يكون قوله {ذلك عيسى ابن مريم}- إلى- {وإن الله} حمل اعتراض أخبر الله تعالى بها رسوله عليه السلام.
والإشارة بقوله {هذا} أي القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة، هو الطريق المستقيم الذي يفضي بقائله ومعتقده إلى النجاة {فاختلف الأحزاب من بينهم} هذا إخبار من الله للرسول بتفرق بني إسرائيل فرقاً، ومعنى {من بينهم} أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين لم يقع الاختلاف سببه غيرهم. و{الأحزاب} قال الكلبي: اليهود والنصارى. وقال الحسن: الذين تحزبوا على الانبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس انتهى.
فالضمير في {بينهم} على هذا ليس عائداً على {الأحزاب}. وقيل: {الأحزاب} هنا المسلمون واليهود والنصارى. وقيل: هم النصارى فقط.
وعن قتادة إن بني إسرائيل جمعوا أربعة من أحبارهم. فقال أحدهم: عيسى هو الله نزل إلى الأرض وأحيا من أحيا وأمات من أمات، فكذبه الثلاثة واتبعته اليعقوبية. ثم قال أحد الثلاثة: عيسى ابن الله فكذبه الاثنان واتبعته النسطورية، وقال أحد الاثنين: عيسى أحد ثلاثة الله إله، ومريم إله، وعيسى إله فكذبه الرابع وأتبعته الإسرائيلية. وقال الرابع: عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فاتبعته فرقة من بني إسرائيل ثم اقتتل الأربعة، فغلب المؤمنون وظهرت اليعقوبية على الجميع فروي أن في ذلك نزلت {إن الذين يكفرون بآيات الله} آية آل عمران، والأربعة يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل.
وبين هنا أصله ظرف استعمل اسماً بدخول {من} عليه. وقيل: {من} زائدة. وقيل البين هنا البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق. و{مشهد} مفعل من الشهود وهو الحضور أو من الشهادة ويكون مصدراً ومكاناً وزماناً، فمن الشهود يجوز أن يكون المعنى من شهود هول الحساب والجزاء في يوم القيامة، وإن يكون من مكان الشهود فيه وهو الموقف، وأن يكون من وقت الشهود ومن الشهادة، يجوز أن يكون المعنى من شهادة ذلك اليوم وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر، وأن يكون من مكان الشهادة، وأن يكون من وقت الشهادة واليوم العظيم على هذه الاحتمالات يوم القيامة. وعن قتادة: هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وقيل ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم اختلافهم، وتقدم الكلام على التعجب الوارد من الله في قوله تعالى {فما أصبرهم على النار} وأنه لا يوصف بالتعجب.
قال الحسن وقتادة: لئن كانوا صماً وبكماً عن الحق فما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة، ولكنهم يسمعون ويبصرون حيث لا ينفعهم السمع ولا البصر. وعن ابن عباس أنهم أسمع شيء وأبصره. وقال علي بن عيسى: هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم، ويبصرون ما يسود وجوههم. وعن أبي العالية: إنه أمر حقيقة للرسول أي {أسمع} الناس اليوم وأبصرهم {بهم} وبحديثهم ماذا يصنع بهم من العذاب إذا أتوا محشورين مغلولين {لكن الظالمون} عموم يندرج فيه هؤلاء الأحزاب الكفارة وغيرهم من الظالمين، و{اليوم} أي في دار الدنيا. وقال الزمخشري: أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ويسعدهم، والمراد بالضلال المبين إغفال النظر والاستماع انتهى.
{وأنذرهم} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والضمير لجميع الناس. وقيل: يعود على الظالمين. و{يوم الحسرة} يوم ذبح الموت وفيه حديث. وعن ابن زيد: يوم القيامة.
وقيل: حين يصدر الفريقان إلى الجنة والنار وعن ابن مسعود: حين يرى الكفارة مقاعدهم التي فاتتهم من الجنة لو كانوا مؤمنين. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون {يوم الحسرة} اسم جنس لأن هذه حسرات كثيرة في مواطن عدة، ومنها يوم الموت، ومنها وقت أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك انتهى.
و{إذ} بد من {يوم الحسرة}. قال السدّي وابن جريج: {قُضِي الأمر} ذبح الموت. وقال مقاتل: قضى العذاب. وقال ابن الأنباري المعنى {إذ قضي الأمر} الذي فيه هلاككم. وقال الضحاك: يكون ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر. وعن ابن جريج أيضاً: إذا فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وقيل إذا {قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون} وقيل: إذا يقال {امتازوا اليوم أيها المجرمون} وقيل: إذا قضى سد باب التوبة وذلك حين تطلع الشمس من مغربها.
{وهم في غفلة}. قال الزمخشري: متعلق بقوله {في ضلال مبين} عن الحسن {وأنذرهم} إعراض وهو متعلق بأنذرهم أي {وأنذرهم} على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. وقال ابن عطية: {وهم في غفلة} يريد في الدنيا الآن {وهم لا يؤمنون} كذلك انتهى. وعلى هذا يكون حالاً والعامل فيه {وأنذرهم} والمعنى أنهم مشتغلون بأمور دنياهم معرضون عما يراد منهم، والظاهر أن يكون المراد بقوله {وقضي الأمر} أمر يوم القيامة.
{إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} تجوز وعبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق فكأنها وراثة. وقرأ الجمهور {يرجعون} بالياء من تحت مبنياً للمفعول، والأعرج بالتاء من فوق. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء من تحت مبنياً للفاعل على وحكى عنهم الداني بالتاء.