فصل: تفسير الآيات (90- 98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (90- 98):

{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)}
اللحية معروفة وتجمع على لِحَى بكسر اللام وضمها.
{ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً}.
أشفق هارون على نفسه وعليهم وبذل لهم النصيحة، وبيَّن أن ما ذهبوا إليه من أمر العجل إنما هو فتنة إذ كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أخيه موسى عليه السلام {اخلفني في قومي} الآية ولا يمكنه أن يخالف أمر الله وأمر أخيه. وروي أن الله أوحى إلى يوشع إني مهلك من قومك أربعين ألفاً فقال: يا رب فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم تغضبوا لغضبي، والمضاف إليه المقطوع عنه من قبل قدره الزمخشري من قبل أن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه قبل أن ينطق السامري بادر هارون عليه السلام بقوله {إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن}.
وقال ابن عطية: أخبر عز وجل أن هارون قد كان قال لهم في أول حال العجل إنما هي فتنة وبلاء وتمويه من السامري، وإنما ربكم الرحمن الذي له القدرة والعلم والخلق والاختراع {فاتبعوني} إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه {وأطيعوا أمري} فيما ذكرته لكم انتهى. والضمير في {به} عائد على العجل، زجرهم أولاً هارون عن الباطل وإزالة الشبهة بقوله {إنما فتنتم به} ثم نبههم على معرفة ربهم وذكر وصف الرحمة تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبلهم وتذكيراً لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل، ثم أمرهم باتباعه تنبيهاً على أنه نبيّ يجب أن يتبع ويطاع أمره.
وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية وأن ربكم بفتح الهمزة والجمهور بكسرها، والمصدر المنسبك منها في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره والأمر {إن ربكم الرحمن} فهو من عطف جملة على جملة، وقدره أبو حاتم ولأن ربكم الرحمن. وقرأت فرقة أنما وأن ربكم بفتح الهمزتين وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون أن بعد القول مطلقاً.
ولما وعظهم هارون ونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي و{قالوا لن نبرح} على عبادته مقيمين ملازمين له، وغيوا ذلك برجوع موسى وفي قولهم ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري ودلالة على أن {لن} لا تقتضي التأبيد خلافاً للزمخشري إذ لو كان من موضوعها التأبيد لما جازت التغيية بحتى لأن التغيية لا تكون إلا حيث يكون الشيء محتملاً فيزيل ذلك الاحتمال بالتغيية.
وقبل قوله {قال يا هارون} كلام محذوف تقديره فرجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل {قال يا هارون} وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يوماً وعبدوه وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا و{لا} زائدة كهي في قوله {ما منعك أن لا تسجد} وقال عليّ بن عيسى دخلت {لا} هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني، وما حملك على أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين {أفعصيت أمري} يريد قوله {اخلفني} الآية. وقال الزمخشري: ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدّة الزجر على الكفر والمعاصي، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن وما لك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً، أو ما لك لم تلحقني. وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كان قوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الطور ببني إسرائيل فيجيء اعتذار هارون بقوله {إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل} إذ كان لا يتبعه إلاّ المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كما قالوا {لن نبرح عليه عاكفين} ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد، فيجيء اعتذاره أن الأمر تفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقاً بينهم وإنما لاينت جهدي.
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بِلَحْيَتِي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز. وكان موسى عليه السلام شديد الغضب لله ولدينه، ولما رأى قومه عبدوا عجلاً من دون الله بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضاً على شعر رأسه، وكان كثير الشعر وعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا، فانتظرتك لتكون المتدراك لهم، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها. وتقدّم الكلام على {ابن أم} قراءة وإعراباً وغير ذلك. وقرأ أبو جعفر ولم تُرْقِبْ بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب.
ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري وتقدّم الكلام في الخطب في سورة يوسف. وقال ابن عطية {ما خطبك} كما تقول ما شأنك وما أمرك، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهاراً لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال: ما نحسك وما شؤمك، وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك انتهى.
وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال {فما خطبكم أيها المرسلون} وهو قول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهاراً ولا شيئاً مما ذكر. وقال الزمخشري: خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه، فإذا قيل لمن يفعل شيئاً ما خطبك، فمعناه ما طلبك له انتهى. ومنه خطبة النكاح وهو طلبه. وقيل: هو مشتق من الخطاب كأنه قال له: ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت {قال بصرت بما لم يبصروا به}. قال أبو عبيدة: علمت ما لم يعلموا. وقال الزجاج: بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر. وقيل: بصر به وأبصره بمعنى واحد. وقرأ الأعمش وأبو السماك: بَصِرْتُ بكسر الصاد بما لم تَبْصَروا بفتح الصاد. وقرأ عمرو بن عبيد بُصُرْتُ بضم الباء وضم الصاد بما لم تُبْصَروا بضم التاء وفتح الصاد مبنياً للمفعول فيهما. وقرأ الجمهور {بَصُرْتُ} بضم الصاد وحمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب تبصروا بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل وباقي السبعة {يبصروا} بياء الغيبة.
وقرأ الجمهور {فقبضت قبضة} بالضاد المعجمة فيهما أي أخذت بكفي مع الأصابع. وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد فيهما، وهو الأخذ بأطراف الأصابع. وقرأ الحسن بخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم وأبقى الإطباق مع تشديد التاء. وقال المفسرون {الرسول} هنا جبريل عليه السلام، وتقديره من {أثر} فرس {الرسول} وكذا قرأ عبد الله، والأثر التراب الذي تحت حافره {فنبذتها} أي ألقيتها على الحليّ الذي تصور منه العجل فكان منها ما رأيت. وقال الأكثرون رأى السامري جبريل يوم فلق البحر، وعن عليّ رآه حين ذهب موسى إلى الطور وجاءه جبريل فأبصره دون الناس.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لمَ سماه {الرسول} دون جبريل وروح القدس؟ قلت: حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إن لهذا لشأناً فقبض القبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصته قال قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد، ولعله لم يعرف أنه جبريل انتهى. وهو قول عليّ مع زيادة.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، وأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القول في العجل {قال بصرت بما لم يبصروا به} أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من دينك {فنبذتها} أي طرحتها.
فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير، وتسميته رسولاً مع جحده وكفره، فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} فإن لم يؤمنوا بالإنزال قيل: وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلاّ أن فيه مخالفة المفسرين. قيل: ويبعد ما قالوه أن جبريل ليس معهوداً باسم رسول، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر، ولأن ما قالوه لابد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل، ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جداً، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحماً ودماً؟ وكيف عرف جبريل يتردّد إلى نبيّ وقد عرف نبوّته وصحت عنده فحاول الإضلال؟ ويكف اطلع كافر على تراب هذا شأنه؟ فلقائل أن يقول: لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات، فيصير ذلك قادحاً فيما أتوا به من الخوارق انتهى. ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني.
{وكذلك سوَّلت لي نفسي} أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي سولاً وإرباً حتى فعلته، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا، وجعل له أن يقول مدة حياته {لا مساس} أي لا مماسّة ولا إذاية. وقال الزمخشري: عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضاً، وإذا اتفق أن يماس أحداً رجلاً أو امرأة حمّ الماسّ والممسوس فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح {لا مساس} ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى. وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة، ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحداً يقول {لا مساس} أي لا تمسني ولا أمسك.
وقيل: ابتلي بعذاب قيل له {لا مساس} بالوسواس وهو الذي عناه الشاعر بقوله:
فأصبح ذلك كالسامري ** إذ قال موسى له لا مساسا

ومنه قول رؤبة:
حتى تقول الأزد لا مساسا

وقيل: أراد موسى قتله فمنعه الله من قتله لأنه كان شيخاً. قال بعض شيوخنا وقد وقع مثل هذا في شرعنا في قصة الثلاثة الذين خلفوا أمر الرسول عليه السلام أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله عليهم. وقرأ الجمهور {لا مِسَاس} بفتح السين والميم المكسورة و{مساس} مصدر ماس كقتال من قاتل، وهو منفي بلا التي لنفي الجنس، وهو نفي أريد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. فقال صاحب اللوامح: هو على صورة نزال ونظار من أسماء الأفعال بمعنى أنزل وأنظر، فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف ولا تدخل عليها لا النافية التي تنصب النكرات نحو لا مال لك، لكنه فيه نفي الفعل فتقديره لا يكون منك مساس، ولا أقول مساس ومعناه النهي أي لا تمسني انتهى. وظاهر هذا أن مساس اسم فعل. وقال الزمخشري {لا مساس} بوزن فجار ونحوه قولهم في الظباء:
إن وردن الماء فلا عباب ** وإن فقدنه فلا إباب

وهي أعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب وهو الطلب. وقال ابن عطية {لا مساس} هو معدول عن المصدر كفجار ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزال ودراك ونحوه، والشبه صحح من حيث هي معدولات، وفارقه في أن هذه عدلت عن الأمر ومساس وفجار عدلت عن المصدر. ومن هذا قول الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله ** ألا لا يريد السامري مساس

انتهى. فكلام الزمخشري وابن عطية يدل على أن مساس معدول عن المصدر الذي هو المسة، كفجار معدولاً عن الفجرة {وإن لك موعداً} أي في يوم القيامة. وقرأ الجمهور {لن تُخْلَفَهُ} بالتاء المضمومة وفتح اللام على معنى لن يقع فيه خلف بل ينجزه لك الله في الآخرة على الشرك والفساد بعدما عاقبك في الدنيا. وقال الزمخشري: وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً. قال الأعشى:
أثوى وقصر ليله ليزوّدا ** فمضى وأخلف من قتيلة موعدا

وقرأ ابن كثير والأعمش وأبو عمرو بضم التاء وكسر اللام أي لن تستطيع الروغان عنه والحيدة فتزول عن موعد العذاب. وقرأ أبو نهيك: لن تَخْلُفُه بفتح التاء وضم اللام هكذا بالتاء منقوطة من فوق عن أبي نهيك في نقل ابن خالويه. وفي اللوامح أبو نهيك لن يَخْلُفه بفتح الياء وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولك الذي تقوله فيما بعد {لا مساس} بالفعل فهو مسند إلى الموعد أو الموعد لن يختلف ما قدر لك من العذاب في الآخرة.
وقال سهل: يعني أبا حاتم لا يعرف لقراءة أبي نهيك مذهباً انتهى. وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه نخلفه بالنون وكسر اللام أي لا ننقص مما وعدنا لك من الزمان شيئاً. وقال ابن جني لن يصادفه مخلفاً. وقال الزمخشري: لن يخلفه الله. حكى قوله عز وجل كما مر في {لأهب لك} انتهى.
ثم وبخ موسى عليه السلام السامري بما أراد أن يفعل بالعجل الذي اتخذه إلهاً من الاستطالة عليه بتغيير هيئته، فواجهه بقوله {وانظر إلى إلهك} وخاطبه وحده إذ كان هو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم {لن نبرح عليه عاكفين} وأقسم {لنحرقنه} وهو أعظم فساد الصورة {ثم لننسفنه في اليم} حتى تتفرق أجزاؤه فلا يجتمع، ويظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل وهو داخل البحر حالة تقدم فرعون وتبعه فرعون في الدخول ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه السامري من الحليّ الذي كان أصله للقبط. وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيهاً على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم. وأُلقي في محل ما قامت به الحياة وإن أموال القبط قذفها الله في البحر بحيث لا ينتفع بها كما قذف الله أشخاص مالكيها في البحر وغرقهم فيه.
وقرأ الجمهور ونصر بن عاصم لابن يعمر {ظَلْتَ} بظاء مفتوحة ولام ساكنة. وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه كذلك إلا أنهم كسروا الظاء، وعن ابن يعمر ضمها وعن أُبَيّ والأعمش ظللت بلامين على الأصل، فأما حذف اللام فقد ذكره سيبويه في الشذوذ يعني شذوذ القياس لا شذوذ الاستعمال مع مست وأصله مسست وأحست أصله أحسست، وذكر ابن الأنباري همت وأصله هممت ولا يكون ذلك إلاّ إذا سكن آخر الفعل نحو ظلت إذ أصله ظللت. وذكر بعض من عاصرناه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث تسكن آخر الفعل. وقد أمعنّا الكلام على هذه المسألة في شرح التسهيل من تأليفنا، فأما من كسر الظاء فلأنه نقل حركة اللام إلى الظاء بعد نزع حركتها تقديراً ثم حذف اللام، وأما من ضمها فيكون على أنه جاء في بعض اللغات على فعل بضم العين فيهما، ونقلت ضمة اللام إلى الظاء كما نقلت في حالة الكسر على ما تقرر.
وقرأ الجمهور {لنحرّقنه} مشدداً مضارع حرَّق مشدداً. وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وأبو رجاء والكلبي مخففاً من أحرق رباعياً. وقرأ عليّ وابن عباس وحميد وأبو جعفر في رواية وعمرو بن فائد بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء، والظاهر أن حرق وأحرق هو بالنار.
وأما القراءة الثالثة فمعناها لنبردنه بالمبرد يقال حرق يحرق ويحرق بضم راء المضارع وكسرها. وذكر أبو عليّ أن التشديد قد يكون مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد. وفي مصحف أُبَيّ وعبد الله لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وتوافق هذه القراءة من روى أنه صار لحماً ودماً ذا روح، ويترتب الإحراق بالنار على هذا، وأما إذا كان جماداً مصوغاً من الحليّ فيترتب برده لا إحراقه إلا إن عنى به إذابته.
وقال السّدي: أمر موسى بذبح العجل فذبح وسال منه الدم ثم أحرق ونسف رماده. وقيل: بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها. وقرأ الجمهور {لَنَنسِفَنَّهُ} بكسر السين. وقرت فرقة منهم عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم: لِنُنَسِّفنه بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين. والظاهر وقول الجمهور أن موسى تعجل وحده فوقع أمر العجل، ثم جاء موسى وصنع بالعجل ما صنع ثم خرج بعد ذلك بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل وأن يطلعهم أيضاً على أمر المناجاة، فكان لموسى عليه السلام نهضتان. وأسند مكي خلاف هذا أن موسى كان مع السبعين في المناجاة وحينئذ وقع أمر العجل، وأن الله أعلم موسى بذلك فكتمه عنهم وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل، فحينئذ أعلمهم موسى انتهى. ولما فرغ من إبطال ما عمله السامري عاد إلى بيان الدين الحق فقال {إنما إلهكم الله} وقرأ الجمهور {وسع} فانتصب علماً على التمييز المنقول من الفاعل، وتقدم نظيره في الأنعام. وقرأ مجاهد وقتادة وسَّع بفتح السين مشددة. قال الزمخشري: وجهه أن {وسعْ} متعد إلى مفعول واحد وهو كل شيء. وأما {عِلماً} فانتصابه على التمييز وهو في المعنى فاعل، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معاً على المفعولية، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول: خاف زيد عمراً خوّفت زيداً عمراً، فترد بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً. وقال ابن عطية {وسع} بمعنى خلق الأشياء وكثرها بالاختراع فوسعها موجودات انتهى.