فصل: تفسير الآيات (44- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 50):

{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
{هؤلاء} إشارة إلى المخاطبين قبل وهم كفار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله أخبر تعالى أنه متع {هؤلاء} الكفار {وآباءهم} من قبلهم بما رزقهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، وتدعسوا في الضلالة بإمهاله تعالى إياهم وتأخيرهم إلى الوقت الذي يأخذهم فيه {أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون} تقدم تفسير هذه الجملة في آخر الرعد. واقتصر الزمخشري من تلك الأقوال على معنى أنّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام قال: فإن قلت: أي فائدة في قوله {نأتي الأرض}؟ قلت: الفائدة فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها انتهى. وفي ذلك تبشير للمؤمنين بما يفتح الله عليهم، وأكثر المفسرين على أنها نزلت في كفار مكة وفي قولهم: {أفهم الغالبون} دليل على ذلك إذ المعنى أنهم هم الغالبون، فهو استفهام فيه تقريع وتوبيخ حيث لم يعتبروا بما يجري عليهم.
ثم أمره تعالى أن يقول {إنما أنذركم بالوحي} أي أعلمكم بما تخافون منه بوحي من الله لا من تلقاء نفسي، وما كان من جهة الله فهو الصدق الواقع لا محالة كما رأيتم بالعيان من نقصان الأرض من أطرافها، ثم أخبر أنهم مع إنذارهم معرضون عما أنذروا به فالإنذار لا يجدي فيهم إذ هم صم عن سماعه. ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصمم مناسباً و{الصم} هم المنذرون، فأل فيه للعهد وناب الظاهر مناب المضمر لأن فيه التصريح بتصامهم وسد أسماعهم إذا أنذروا، ولم يكن الضمير ليفيد هذا المعنى ونفي السماع هنا نفي جدواه.
وقرأ الجمهور {يَسمع} بفتح الياء والميم {الصم} رفع به و{الدعاء} نصب. وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء من فوق مضمومة وكسر الميم {الصم الدعاء} بنصبهما والفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأ كذلك إلا أنه بالياء من نحت أي {ولا يسمع} الرسول وعنه أيضاً {ولا يسمع} مبنياً للمفعول {الصم} رفع به ذكره ابن خالويه. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو {يُسمِع} بضم الياء وكسر الميم {الصم} نصباً {الدعاء} رفعاً بيسمع، أسند الفعل إلى الدعاء اتساعاً والمفعول الثاني محذوف، كأنه قيل: ولا يسمع النداء الصم شيئاً.
ثم أخبر تعالى أن هؤلاء الذين صموا عن سماع ما أنذروا به إذا نالهم شيء مما أنذروا به، ولو كان يسيراً نادوا بالهلاك وأقروا بأنهم كانوا ظالمين، نبهوا على العلة التي أوجبت لهم العذاب وهو ظلم الكفر وذلوا وأذعنوا.
قال ابن عباس: {نفحة} طرف وعنه هو الجوع الذي نزل بمكة. وقال ابن جريج: نصيب من قولهم نفح له من العطاء نفحة إذا أعطاه نصيباً وفي قوله {ولئن مستهم نفحة} ثلاث مبالغات لفظ المس، وما في مدلول النفح من القلة إذ هو الربح اليسير أو ما يرضخ من العطية، وبناء المرة منه ولم يأت نفح فالمعنى أنه بأدنى إصابة من أقل العذاب أذعنوا وخضعوا وأقروا بأن سبب ذلك ظلمهم السابق.
ولما ذكر حالهم في الدنيا إذا أصيبوا بشيء استطرد لما يكون في الآخرة التي هي مقر الثواب والعقاب، فأخبر تعالى عن عدله وأسند ذلك إلى نفسه بنون العظمة فقال {ونضع الموازين} وتقدم الكلام في الموازين في أول الأعراف، واختلاف الناس في ذلك هل ثم ميزان حقيقة وهو قول الجمهور أو ذلك على سبيل التمثيل عن المبالغة في العدل التام وهو قول الضحاك وقتادة؟ قالا: ليس ثم ميزان ولكنه العدل والقسط مصدر وصفت به الموازين مبالغة كأنها جعلت في أنفسها القسط، أو على حذف مضاف أي ذوات {القسط} ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله أي لأجل {القسط}. وقرئ القصط بالصاد. واللام في {ليوم القيامة} قال الزمخشري: مثلها في قولك: جئت لخمس ليال خلون من الشهر. ومنه بيت النابغة:
ترسمت آيات لها فعرفتها ** لستة أعوام وذا العام سابع

انتهى. وذهب الكوفيون إلى أن اللام تكون بمعنى في ووافقهم ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين، وجعل من ذلك قوله {القسط ليوم القيامة} أي في يوم، وكذلك لا يجليها لوقتها إلاّ هو أي في وقتها وأنشد شاهداً على ذلك لمسكين الدارمي:
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ** كما قد مضى من قبل عاد وتبع

وقول الآخر:
وكل أب وابن وإن عمرا معاً ** مقيمين مفقود لوقت وفاقد

وقيل اللام هنا للتعليل على حذف مضاف، أي لحساب يوم القيامة و{شيئاً} مفعول ثان أو مصدر.
وقرأ الجمهور: {مثقال} بالنصب خبر {كان} أي وإن كان الشيء أو وإن كان العمل وكذا في لقمان، وقرأ زيد بن عليّ وأبو جعفر وشيبة ونافع {مثقال} بالرفع على الفاعلية و{كان} تامة. وقرأ الجمهور {أتينا} من الإتيان أي جئنا بها، وكذا قرأ أُبي أعني جئنا وكأنه تفسير لأتينا. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني آتينا بمده على وزن فاعلنا من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة، فمعناه جازينا بها ولذلك تعدى بحرف جر، ولو كان على أفعلنا من الإيتاء بالمد على ما توهمه بعضهم لتعدى مطلقاً دون جاز قاله أبو الفضل الرّازي.
وقال الزمخشري: مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء انتهى.
وقال ابن عطية على معنى: و{أتينا} من المواتاة، ولو كان آتينا أعطينا لما تعدت بحرف جرّ، ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف، وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة انتهى. وقرأ حميد: أثبنا بها من الثواب وأنث الضمير في {بها} وهو عائد على مذكر وهو {مثقال} لإضافته إلى مؤنث {كفى بنا حاسبين} فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العدّ والإحصاء، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم. وقيل: هو كناية عن المجازاة، والظاهر أن {حاسبين} تمييز لقبوله من، ويجوز أن يكون حالاً.
ولما ذكر ما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الذكر وحال مشركي العرب معه، وقال: {قل إنما أنذركم بالوحي} أتبعه بأنه عادة الله في أنبيائه فذكر ما آتى {موسى وهارون} إشارة إلى قصتهما مع قومهما مع ما أوتوا من الفرقان والضياء والذكر، ثم نبه على ما آتى رسوله من الذكر المبارك ثم استفهم على سبيل الذكر على إنكارهم ثم نبه على ما آتى رسوله صلى الله عليه وسلم. و{الفرقان} التوراة وهو الضياء، والذكر أي كتاباً هو فرقان وضياء، وذكر ويدل على هذا المعنى قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك ضياء وذكراً بغير واو في ضياء. وقالت فرقة: القرآن ما رزقه الله من نصره وظهور حجته وغير ذلك، مما فرق بين أمره وأمر فرعون والضياء التوراة، والذكر التذكرة والموعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف والعطف بالواو يؤذن بالتغاير. وعن ابن عباس {الفرقان} الفتح لقوله {يوم الفرقان} وعن الضحاك: فلق البحر. وعن محمد بن كعب: المخرج من الشبهات و{الذين} صفة تابعة أو مقطوعة برفع أو نصب أو بدل.
ولما ذكر التقوى ذكر ما أنتجته وهو خشية الله والإشفاق من عذاب يوم القيامة والساعة القيامة وبالغيب. قال الجمهور: يخافونه ولم يروه. وقال مقاتل: يخافون عذابه ولم يروه. وقال الزجاج: يخافونه من حيث لا يراهم أحد ورجحه ابن عطية. وقال أبو سليمان الدمشقي: يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس، والإشفاق شدة الخوف، واحتمل أن يكون قوله {وهم من الساعة مشفقون} استئناف إخبار عنهم، وأن يكون معطوفاً على صلة {الذين}، وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدّد دائماً كأنها حالتهم فيما يتعلق بالدنيا، والصلة الثانية من مبتدأ وخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة.
ولما ذكر ما آتى موسى وهارون عليهما السلام أشار إلى ما آتى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال {وهذا} أي القرآن {ذكر مبارك} أي كثير منافعه غزير خبره، وجاء هنا الوصف بالاسم ثم بالجملة جرياً على الأشهر وتقدم الكلام على قوله في الأنعام {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} وبينا هناك حكمة تقديم الجملة على الاسم {أفأنتم له منكرون} استفهام إنكار وتوبيخ وهو خطاب للمشركين، والضمير في {له} عائد على ذكر وهو القرآن، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم إذا أنكر ذلك المشركون كما أنكر أسلاف اليهود ما أنزل الله على موسى عليه السلام.

.تفسير الآيات (51- 58):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}
التمثال: الصورة المصنوعة مشبهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى، مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به. قال الشاعر:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة ** بآنسة كأنها خط تمثال

الجذ: القطع. قال الشاعر:
بنو المهلب جذ الله دابرهم ** أمسوا رماداً فلا أصل ولا طرف

{ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهنّ وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون}.
لما تقدم الكلام في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بثلاثة عشر نبياً غير مراعي في ذكرهم الترتيب الزماني، وذكر بعض ما نال كثيراً منهم من الابتلاء كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وليتأسى بهم فيما جرى عليه من قومه.
وقرأ الجمهور {رُشْده} بضم الراء وسكون الشين. وقرأ عيسى الثقفى {رَشَدة} بفتح الراء والشين وأضاف الرشد إلى {إبراهيم} بمعنى أنه رشد مثله وهو رشد الأنبياء وله شأن أيّ شأن، والرشد النبوة والاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا، أو هما داخلان تحت الرشد أو الصحف والحكمة أو التوفيق للخير صغيراً أقوال خمسة، والمضاف إليه من قبل محذوف وهو معرفة ولذلك بنى {قبل} أي {من قبل} موسى وهارون قاله الضحاك كقوله في الأنعام {ونوحاً هدينا من قبل} أي من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأبعد من ذهب إلى أن التقدير {من قبل} بلوغه أو {من قبل} نبوته يعني حين كان في صلب آدم. وأخذ ميثاق الأنبياء، أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم لأنها محذوفات لا يدل على حذفها دليل بخلاف {من قبل} موسى وهارون لتقدم ذكرهما. وقربه، والضمير في {به} الظاهر أنه عائد على إبراهيم. وقيل: على الرشد وعلمه تعالى أنه علم منه أحوالاً عجيبة وأسراراً بديعة فأهله لخلته كقوله: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهذا من أعظم المدح وأبلغه إذ أخبر تعالى أنه آتاه الرشد وأنه عالم بما آتاه به عليه السلام.
ثم استطرد من ذلك إلى تفسير الرشد وهو الدعاء إلى توحيد الله ورفض ما عبد من دونه. و{إذ} معمولة لآتينا أو {رشدة} و{عالمين} وبمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت، وبدأ أولاً بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال ثم عطف عليه {قومه} كقوله {وأنذر عشيرتك الأقربين} وفي قوله {ما هذه التماثيل} تحقير لها وتصغير لشأنها وتجاهل بها مع علمه بها وبتعظيمهم لها.
وفي خطابه لهم بقوله {أنتم} استهانة بهم وتوقيف على سوء صنيعهم، وعكف يتعدى بعلى كقوله {يعكفون على أصنام لهم} فقيل {لها} هنا بمعنى عليها كما قيل في قوله {وإن أسأتم فلها} والظاهر أن اللام في {لها} لام التعليل أي لتعظيمها، وصلة {عاكفون} محذوفة أي على عبادتها. وقيل: ضمن {عاكفون} معنى عابدين فعداه باللام.
وقال الزمخشري: لم ينو للعاكفين محذوفاً وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله فاعلون العكوف لها أو واقفون لها انتهى.
ولما سألهم أجابوه بالتقليد البحت، وأنه فعل آبائهم اقتدوا به من غير ذكر برهان، وما أقبح هذا التقليد الذي أدى بهم إلى عبادة خشب وحجر ومعدن ولجاجهم في ذلك ونصرة تقليدهم وكان سؤاله إياهم عن عبادة التماثيل وغايته أن يذكروا شبهة في ذلك فيبطلها، فلما أجابوه بما لا شبهة لهم فيه وبدا ضلالهم {قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} أي في حيرة واضحة لا التباس فيها، وحكم بالضلال على المقلدين والمقلدين وجعل الضلال مستقراً لهم و{أنتم} توكيد للضمير الذي هو اسم {كان} قال الزمخشري: و{أنتم} من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع ونحوه {اسكن أنت وزوجك الجنة} انتهى، وليس هذا حكماً مجمعاً عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به لأن الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل المرفوع، ولا فصل وتنظيره ذلك: باسكن أنت وزوجك الجنة مخالف لمذهبه في {اسكن أنت وزوجك} لأنه يزعم أن وزوجك ليس معطوفاً على الضمير المستكن في {اسكن} بل قوله: {وزوجك} مرتفع على إضمار، وليسكن فهو عنده من عطف الجمل وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه.
ولما جرى هذا السؤال وهذا الجواب تعجبوا من تضليله إياهم إذ كان قد نشأ بينهم وجوزوا أن ما قاله هو على سبيل المزاح لا الجد، فاستفهموه أهذا جد منه أم لعب والضمير في {قالوا} عائد عى أبيه وقومه و{بالحق} متعلق بقولهم {أجئتنا} ولم يريدوا حقيقة المجيء لأنه لم يكن عنهم غائباً فجاءهم وهو نظير {قال أو لو جئتك بشيء مبين} والحق هنا ضد الباطل وهو الجد، ولذلك قابلوه باللعب، وجاءت الجملة اسمية لكونها أثبت كأنهم حكموا عليه بأنه لاعب هازل في مقالته لهم ولكونها فاصلة.
ثم أضرب عن قولهم وأخبر عن الجد وأن المالك لهم والمستحق العبادة هو ربهم ورب هذا العالم العلوي والعالم السفلي المندرج فيه أنتم ومعبوداتكم نبه على الموجب للعبادة وهو منشئ هذا العالم ومخترعه من العدم الصرف. والظاهر أن الضمير في {فطرهن} عائد على السموات والأرض، ولما لم تكن السموات والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة. وقيل في {فطرهن} عائد على التماثيل.
قال الزمخشري: وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم انتهى. وقال ابن عطية: {فطرهن} عبارة عنها كأنها تعقل، هذه من حيث لها طاعة وانقياد وقد وصفت في مواضع بما يوصف به من يعقل. وقال غير {فطرهن} أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنها من قبيل من يعقل، فإن الله أخبر بقوله {قالتا أتينا طائعين} وقوله صلى الله عليه وسلم: «أطلت السماء وحق لها أن تئط» انتهى. وكأن ابن عطية وهذا القائل تخيلاً أن هن من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} والضمير عائد على الأربعة الحرم، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم و{من} للتبعيض أي الذين يشهدون بالربوبية كثيرون، وأنا بعض منهم أي ما قلته أمر مفروغ منه عليه شهود كثيرون فهو مقال مصحح بالشهود. و{على ذلكم} متعلق بمحذوف تقديره {وأنا} شاهد {على ذلكم من الشاهدين} أو على جهة البيان أي أعني {على ذلكم} أو باسم الفاعل وإن كان في صلة أل لاتساعهم في الظرف والمجرور أقوال تقدمت في {إني لكما لمن الناصحين} وبادرهم أولاً بالقول المنبه على دلالة العقل فلم ينتفعوا بالقول، فانتقل إلى القول الدال على الفعل الذي مآله إلى الدلالة التامّة على عدم الفائدة في عبارة ما يتسلط عليه بالكسر والتقطيع وهو لا يدفع ولا يضر ولا ينفع ولا يشعر بما ورد عليه من فك أجزائه فقال: {وتالله لأكيدن أصنامكم} وقرأ الجمهور {وتالله} بالتاء. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالله بالباء بواحدة من أسفل. قال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين التاء والباء؟ قلت: إن الباء هي الأصل والتاء بدل من الواو المبدل منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه لأن ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمرود مع عتوّه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصر دينه ولكن:
إذا الله سنى عقد شيء تيسرا...... انتهى. أما قوله الباء هي الأصل إنما كانت أصلاً لأنها أوسع حروف القسم إذ تدخل على الظاهر، والمضمر ويصرح بفعل القسم معها وتحذف وأما أن التاء بدل من واو القسم الذي أبدل من باء القسم فشيء قاله كثير من النحاة، ولا يقوم على ذلك دليل وقد رد هذا القول السهيلي والذي يقتضيه النظر أنه ليس شيء منها أصلاً لآخر. وأما قوله: إن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب فنصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب، ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم.
والكيد الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد، والظاهر أن هذه الجملة خاطب بها أباه وقومه وأنها مندرجة تحت القول من قوله {قال بل ربكم}. وقيل: قال ذلك سرًّا من قومه وسمعه رجل واحد. وقيل: سمعه قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين. وقيل: اثنين وسبعين. وقرأ الجمهور {تولوا مدبرين} مضارع ولّى. وقرأ عيسى بن عمر {تولوا} فحذف إحدى التاءين وهي الثانية على مذهب البصريين. والأولى على مذهب هشام وهو مضارع تولى وهو موافق لقوله {فتولوا عنه مدبرين} ومتعلق {تولوا} محذوف أي إلى عيدكم. وروي أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم، وقالوا: لن ترجع بركة الآلهة على طعامنا فذهبوا، فلما كان في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال: إني سقيم. وقال الكلبي: كان إبراهيم من أهل بيت ينظرون في النجوم، وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضاً فأتاهم إبراهيم بالذي هم فيه فنظر قبل يوم العيد إلى السماء وقال لأصحابه: إني أشتكي غداً وأصبح معصوب الرأس فخرجوا ولم يتخلف أحد غيره، وقال {وتالله لأكيدن} إلى آخره وسمعه رجل فحفظه ثم أخبر به فانتشر انتهى.
وفي الكلام حذف تقديره فتولوا إلى عيدهم فأتى إبراهيم الأصنام {فجعلهم جذاذاً} قال ابن عباس: حطاماً. وقال الضحاك: أخذ من كل عضوين عضواً. وقيل: وكانت الأصنام مصطفة وصنم منها عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه درتان مضيئتان، فكسرها بفأس إلا ذلك الصنم وعلق الفأس في عنقه. وقيل: علقه في يده. وقرأ الجمهور {جُذاذاً} بضم الجيم والكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية بكسرها، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك بفتحها وهي لغات أجودها الضم كالحطام والرفات قاله أبو حاتم. وقال اليزيدي {جذاذاً} بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة. وقيل: بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام. وقيل: الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود فالمعنى مجذوذين. وقال قطرب في لغاته الثلاث هو مصدر لا يثنى ولا يجمع. وقرأ يحيى بن وثاب: جذاذاً بضمتين جمع جذيذ كجديد وجدد. وقرئ جُذَذاً بضم الجيم وفتح الذال مخففاً من فعل كسر وفي سرر جمع سرير وهي لغة لكلب، أو جمع جذة كقبة وقبب.
وأتى بضمير من يعقل في قوله {فجعلهم} إذ كانت تعبد وقوله {إلا كبيراً لهم} استثناء من الضمير في {فجعلهم} أي فلم يكسره، والضمير في {لهم} يحتمل أن يعود على الأصنام وأن يعود على عباده، والكبر هنا عظم الجثة أو كبيراً في المنزلة عندهم لكونهم صاغوه من ذهب وجعلوا في عينيه جوهرتين تضيئان بالليل، والضمير في {إليه} عائد على إبراهيم أي فعل ذلك ترجياً منه أن يعقب ذلك رجعه إليه وإلى شرعه.
قال الزمخشري: وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكار لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بما أجاب به من قوله {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم} وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود إلى الكبير المتروك ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام انتهى وهو قول الكلبي. قال الزمخشري: ومعنى هذا لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك قال: هذا بناء على ظنه بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالاً، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضاً؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر وظهر أنهم في عبادته على أمرعظيم.