فصل: تفسير الآيات (17- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 22):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}
لما ذكر تعالى ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه و{سبع طرائق} السموات قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض، طارق النعل جعله على نعل، وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر قاله الخليل والفراء والزجّاج كقوله {طباقاً} وقيل: لأنها طرائق الملائكة في العروج. وقيل: لأنها طرائق في الكواكب في مسيرها. وقيل: لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى. قال ابن عطية: ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الشيء.
{وما كنا عن الخلق غافلين} نفى تعالى عنه الغفلة عن خلقه وهو ما خلقه تعالى فهو حافظ السموات من السقوط وحافظ عباده بما يصلحهم، أي هم بمرأى منا ندبرهم كما نشاء {بقدر} بتقدير منا معلوم لا يزيد ولا ينقص بحسب حاجات الخلق ومصالحهم {فأسكناه في الأرض} أي جعلنا مقره في الأرض. وعن ابن عباس: أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل. وفي قوله {فأسكناه في الأرض} دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض، فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على إذهابه. قال الزمخشري: {على ذهاب به} من أوقع النكرات وأحزها للمفصل والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه انتهى. و{ذهاب} مصدر ذهب، والباء في {به} للتعدية مرادفة للهمزة كقوله {لذهب بسمعهم} أي لأذهب سمعهم. وفي ذلك وعيد وتهديد أي في قدرتنا إذهابه فتهلكون بالعطش أنتم ومواشيكم، وهذا أبلغ في الإيعاد من قوله {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين} وقال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلاّ وهو من السماء. قال ابن عطية: ويمكن أن يقيد هذا بالعذاب وإلاّ فالأجاج نابت في الأرض مع القحط والعذب يقل مع القحط، وأيضاً فالأحاديث تقتضي الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض، ولا محالة أن الله قد جعل في الأرض ماء وأنزل من السماء انتهى. وقيل: ما نزل من السماء أصله من البحر، رفعه تعالى بلطفه وحسن تقديره من البحر إلى السماء حتى طاب بذلك الرفع والتصعيد، ثم أنزله إلى الأرض لينتفع به ولو كان باقياً على حاله ما انتفع به من ملوحته.
ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال {فأنشأنا لكم به جنات} وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون لأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع، ووصف النخل والعنب بقوله {لكم فيها} إلى آخره لأن ثمرهما جامع بين أمرين أنه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطباً ويابساً رطباً وعنباً وتمراً وزبيباً، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعاً، ويحتمل أن يكون قوله {ومنها تأكلون} من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، ومن صنعة يغتلها، ومن تجارة يتربح بها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه.
كأنه قال: وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترتزقون وتتعيشون قاله الزمخشري. وقال الطبري: وذكر النخيل والأعناب لأنها ثمرة الحجاز بالطائف والمدينة وغيرهما، والضمير في {ولكم فيها} عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات، ويجوز أن يعود على النخيل والأعناب.
وعطف {وشجرة} على جنات وهي شجرة الزيتون وهي كثيرة بالشام. وقال الجمهور {سيناء} اسم الجبل كما تقول: جبل أحد من إضافة العام إلى الخاص. وقال مجاهد: معنى {سيناء} مبارك. وقال قتادة: معناه الحسن والقولان عن ابن عباس. وقيل الحسن بالحبشة. وقيل: بالنبطية. وقال معمر عن فرقة: معناه ذو شجر. وقيل: {سيناء} اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده قاله مجاهد أيضاً. وقرأ الحرميان وأبو عمرو والحسن بكسر السين وهي لغة لبني كنانة. وقرأ عمر بن الخطاب وباقي السبعة بالفتح وهي لغة سائر العرب. وقرأ سيني مقصوراً وبفتح السين والأصح أن {سيناء} اسم بقعة وأنه ليس مشتقاً من السناء لاختلاف المادتين على تقدير أن يكون سيناء عربي الوضع لأن نون السناء عين الكلمة وعين سيناء ياء.
وقرأ الجمهور {تنبت} بفتح التاء وضم الباء والباء في {بالدهن} على هذا باء الحال أي {تنبت} مصحوبة {بالدهن} أي ومعها الدهن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري بضم التاء وكسر الباء، فقيل {بالدهن} مفعول والباء زائدة التقدير تنبت الدهن. وقيل: المفعول محذوف أي {تنبت} جناها و{بالدهن} في موضع الحال من المفعول المحذوف أي تنبت جناها ومعه الدهن. وقيل: أنبت لازم كنبت فتكون الباء للحال، وكان الأصمعي ينكر ذلك ويتهم من روى في بيت زهير:
قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

بلفظ أنبت. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز بضم التاء وفتح الباء مبنياً للمفعول و{بالدهن} حال. وقرأ زر بن حبيش بضم التاء وكسر الباء الدهن بالنصب. وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب بالدهان بالألف، وما رووا من قراءة عبد الله يخرج الدهن وقراءة أُبي تثمر بالدهن محمول على التفسير لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه، ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور والصبغ الغمس والائتدام.
وقال مقاتل: الصبغ الزيتون والدهن الزيت جعل تعالى في هذه الشجرة تأدماً ودهناً. وقال الكرماني: القياس أن يكون الصبغ غير الدهن لأن المعطوف غير المعطوف عليه. وقرأ الأعمش وصبغاً بالنصب. وقرأ عامر بن عبد الله وصباغ بالألف، فالنصب عطف على موضع {بالدهن} كان في موضع الحال أو في موضع المفعول، والصباغ كالدبغ والدباغ وفي كتاب ابن عطية. وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعاً {للآكلين} كأنه يريد تفسير الصبغ.
ذكر تعالى شرف مقر هذه الشجرة وهو الجبل الذي كلم الله فيه نجيه موسى عليه السلام، ثم ذكر ما فيها من الدهن والصبغ ووصفها بالبركة في قوله {من شجرة مباركة زيتونة} قيل: وهي أول شجرة نبتت بعد الطوفان {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها} تقدم تفسير نظير هذه الجملة في النحل {ولكم فيها منافع} من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها، ونبه على غزارة فوائدها وألزامها وهو الشرب والأكل، وأدرج باقي المنافع في قوله {ولكم فيها منافع كثيرة} ثم ذكر ما تكاد تختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائن البر كما أن {الفلك} سفائن البحر. قال ذو الرمة:
سفينة بر تحت خدي زمامها ** يريد صيدح ناقته

.تفسير الآيات (23- 30):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}
لما ذكر أولاً بدء الإنسان وتطوّره في تلك الأطوار، وما امتن به عليه مما جعله تعالى سبباً لحياتهم، وإدراك مقاصدهم، ذكر أمثالاً لكفار قريش من الأمم السابقة المنكرة لإرسال الله رسلاً المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله، فابتدأ قصة نوح لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولاً آدم في قوله {من سلالة من طين} ولقصته أيضاً مناسبة بما قبلها إذ قبلها {وعلى الفلك تحملون} فذكر قصة من صنع الفلك أولاً وأنه كان سبب نجاة من آمن وهلك من لم يكن فيه الفلك من نعمة الله، كل هذه القصص يحذر بها قريشاً نقم الله ويذكرهم نعمه.
{ما لكم من إله غيري} جملة مستأنفة منبهة على أن يفرد بالعبادة من كان منفرداً بالإلهية فكأنها تعليل لقوله {اعبدوا الله} {أفلا تتقون} أي أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره {فقال الملأ} أي كبراء الناس وعظماؤهم، وهم الذين هم أعصى الناس وأبعدهم لقبول الخير. {ما هذا إلاّ بشر مثلكم} أي مساويكم في البشرية. {فأنى تؤفكون} اختصاص بالرسالة.
{يريد أن يتفضل عليكم} أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله: {وتكون لكما الكبرياء في الأرض} {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} هذا يدل على أنهم كانوا مقرين بالملائكة وهذه شنشنة قريش ودأبها في استبعاد إرسال الله البشر، والإشارة في هذا تحتمل أن تكون لنوح عليه السلام، وأن تكون إلى ما كلمهم به من الأمر بعبادة الله ورفض أصنامهم، وأن يكون إلى ما أتى به من أنه رسول الله وهو بشر، وأعجب بضلال هؤلاء استبعدوا رسالة البشر واعتقدوا إلهية الحجر. وقولهم {ما سمعنا بهذا} الظاهر أنهم كانوا مباهتين وإلاّ فنبوّة إدريس وآدم لم تكن المدة بينها وبينهم متطاولة بحيث تنسى فدافعوا الحق بما أمكنهم دفاعه، ولهذا قالوا {إن هو إلاّ رجل به جنة} ومعلوم عندهم أنه ليس بمجنون {فتربصوا به} أي انتظروا حاله حتى يجلى أمره وعاقبة خبره.
فدعا ربه تعالى بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه. وقال الزمخشري: يدل ما كذبون كما تقول: هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} انتهى.
وقرأ أبو جعفر وابن محيصن {قال رب} بضم الباء، وتقدم توجيهه في قوله {قال رب احكم} بضم الباء وتقدم الكلام على أكثر تفسير ألفاظ هذه الآية في سورة هود، ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين علة النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإغراق، وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم وكان الأمر له وحده وإن كان الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك إذ هو قدوتهم.
قال مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلاّ ملك أو نبي انتهى.
ثم أمره أن يدعوه بأنه ينزله {منزلاً مباركاً} قيل وقال ذلك عند الركوب في السفينة. وقيل: عند الخروج منها. وقرأ الجمهور {مُنزلاً} بضم الميم وفتح الزاي فجاز أن يكون مصدراً ومكاناً أي إنزالاً أو موضع إنزال. وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان: بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول {إن في ذلك} خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أي إن في ما جرى على هذه أمّة نوح لدلائل وعبراً {وإن كنا لمبتلين} أي لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله {ولقد تركناها آية فهل من مدكر}

.تفسير الآيات (31- 41):

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}
ذكر هذه القصة عقيب قصة نوح، يظهر أن هؤلاء هم قوم هود والرسول هو هود عليه السلام وهو قول الأكثرين. وقال أبو سليمان الدمشقي والطبري: هم ثمود، والرسول صالح عليه السلام هلكوا بالصيحة. وفي آخر القصة {فأخذتهم الصيحة} ولم يأت أن قوم هود هلكوا بالصيحة وقصة قوم هود جاءت في الأعراف، وفي هود، وفي الشعراء بأثر قصة قوم نوح. وقال تعالى {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} والأصل في أرسل أن يتعدى بإلى كإخوانه وجه، وأنفذ وبعث وهنا عُدِّي بفي، جعلت الأمة موضعاً للإرسال كما قال رؤبة:
أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام

وجاء بعث كذلك في قوله {ويوم نبعث في كل أمة} {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} و{إن} في {أن اعبدوا الله} يجوز أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وجاء هنا {وقال الملأ} بالواو. وفي الأعراف وسورة هود في قصه بغير واو قصد في الواو العطف على ما قاله، أي اجتمع قوله الذي هو حق، وقولهم الذي هو باطل كأنه إخبار بتباين الحالين والتي بغير واو قصد به الاستئناف وكأنه جواب لسؤال مقدر، أي فما كان قولهم له قال قالوا كيت وكيت {بلقاء الآخرة} أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها {وأترفناهم} أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم، واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين، وكان العطف مشعراً بغلبة التكذيب والكفر، أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم، وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا نعمتنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم، وأن تكون جملة حالية أي وقد {أترفناهم} أي {كذبوا} في هذه الحال، ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي {كذبوا} في حال الإحسان إليهم، وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان والتصديق لرسلي.
وقوله {يأكل مما تأكلون منه} تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم، وأن لا مزية له عليهم، والظاهر أن ما موصولة في قوله {مما تشربون} وأن العائد محذوف تقديره {مما تشربون} منه لوجود شرائط الحذف، وهو اتحاد المتعلق والمتعلق كقوله: مررت بالذي مررت، وحسن هذا الحذف ورجحه كون {تشربون} فاصلة ولدلالة منه عليه في قوله {مما تأكلون منه} وفي التحرير وزعم الفراء أن معنى قوله {ويشرب مما تشربون} على حذف أي {مما تشربون} منه، وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف ألبتة لأن ما إذا كانت مصدراً لم تحتج إلى عائد، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم تحتج إلى إضمار من انتهى. يعني أنه يصير التقدير مما تشربونه، فيكون المحذوف ضميراً متصلاً وشروط جواز الحذف فيه موجودة، وهذا تخريج على قاعدة البصريين إلاّ أنه يفوت فصاحة معادلة التركيب ألا ترى أنه قال {مما تأكلون منه} فعداه بمن التبعيضية، فالمعادلة تقتضي أن يكون التقدير {مما تشربون} منه، فلو كان التركيب مما تأكلونه لكان تقدير تشربونه هو الراجح.
وقال الزمخشري: حذف الضمير والمعنى من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه انتهى. فقوله حذف الضمير معناه مما تشربونه وفسره بقوله مشروبكم لأن الذي تشربونه هو مشروبكم.
وقال الزمخشري {إذاً} واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم، أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آبائكم انتهى. وليس {إذاً} واقعاً في جزاء الشرط بل واقعاً بين {إنكم} والخبر و{إنكم} والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل إن الموطئة، ولو كانت {إنكم} والخبر جواباً للشرط للزمت الفاء في {إنكم} بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلاّ عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ. واختلف المعربون في تخريج {أنكم} الثانية، والمنقول عن سيبويه أن {أنكم} بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد، وخبر {إنكم} الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره {إنكم} تبعثون {إذا متم} وهذا الخبر المحذوف هو العامل في {أذلة} وذهب الفراء والجرمي والمبرد إلى أن {أنكم} الثانية كررت للتأكيد لما طال الكلام حسن التكرار، وعلى هذا يكون {مخرجون} خبر {أنكم} الأولى، والعامل في {إذا} هو هذا الخبر، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقبل إذ لم يذكر خبر أن الأولى. وذهب الأخفش إلى أن {أنكم مخرجون} مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره: يحدث إخراجكم فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبراً لأنكم، ويكون جواب {إذا} ذلك الفعل المحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل المحذوف هو خبر {إنكم} ويكون عاملاً في {إذا}.
وذكر الزمخشري قول المبرد بادئاً به فقال: ثنى {إنكم} للتوكيد، وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف و{مخرجون} خبر عن الأول وهذا قول المبرد. قال الزمخشري: أو جعل {إنكم مخرجون} مبتدأ و{إذا متم} خبراً على معنى إخراجكم إذا متم، ثم أخبر بالجملة عن {أنكم} انتهى. وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه. قال: أو رفع {إنكم مخرجون} بفعل هو جزاء الشرط كأنه قيل {إذا متم} وقع إخراجكم انتهى. وهذا قول الأخفش إلا أنه حتم أن تكون الجملة الشرطية خبراً عن {أنكم} ونحن جوزنا في قول الأخفش هذا الوجه، وأن يكون خبر {إنكم} ذلك الفعل المحذوف وهو العامل في {إذا} وفي قراءة عبد الله {أيعدكم} {إذا متم} بإسقاط {إنكم} الأولى.
وقرأ الجمهور {هيهات هيهات} بفتح التاءين وهي لغة الحجاز. وقرأ هارون عن أبي عمرو بفتحهما منونتين ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. وقرأ أبو حيوة بضمهما من غير تنوين، وعنه عن الأحمر بالضم والتنوين وافقه أبو السماك في الأول وخالفه في الثاني.
وقرأ أبو جعفر وشيبة بكسرهما من غير تنوين، وروي هذا عن عيسى وهي في تميم وأسد وعنه أيضاً، وعن خالد بن إلياس بكسرهما والتنوين. وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضاً بإسكانهما، وهذه الكلمة تلاعبت بها العرب تلاعباً كبيراً بالحذف والإبدال والتنوين وغيره، وقد ذكرنا في التكميل لشرح التسهيل ما ينيف على أربعين لغة، فالذي اختاره أنها إذا نونت وكسرت أو كسرت ولم تنون لا تكون جمعاً لهيهات، ومذهب سيبويه أنها جمع لهيهات وكان حقها عنده أن تكون {هيهات} إلاّ أن ضعفها لم يقتض إظهار الباء قال سيبويه، هي مثل بيضات يعني في أنها جمع، فظن بعض النحاة أنه أراد في اتفاق المفرد، فقال واحد: هيهات هيهة، وتحرير هذا كله مذكور في علم النحو ولا تستعمل هذه الكلمة غالباً إلاّ مكررة، وجاءت غير مكررة في قول جرير:
وهيهات خل بالعقيق نواصله ** وقول رؤبة:

هيهات من متحرق هيهاؤه

و{هيهات} اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهراً أو مضمراً، وهنا جاء التركيب {هيهات هيهات لما توعدون} لم يظهر الفاعل فوجب ن يعتقد إضمار تقديره هو أي إخراجكم، وجاءت اللام للبيان أي أعني لما توعدون كهي بعد بعد سقياً لك فتتعلق بمحذوف وبنيت المستبعد ما هو بعد اسم الفعل الدال على البعد كما جاءت في {هيت لك} لبيان المهيت به. وقال الزجاج: البعد {لما توعدون} أو بعد {لما توعدون} وينبغي أن يجعل كلامه تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية {هيهات} وقول الزمخشري: فمن نونه نزله منزلة المصدر ليس بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال، ولا نقول إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر. وقال ابن عطية: طوراً تلي الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد، وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود {لما توعدون} انتهى. وهذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل، وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معموله ولا يجيز البصريون شيئاً من هذا. وقال ابن عطية أيضاً في قراءة من ضم ونون أنه اسم معرب مستقل، وخبره {لما توعدون} أي البعد لوعدكم كما تقول: النجح لسعيك. وقال صاحب اللوامح: فأما من قال {هيهات} فرفع ونون احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرتفعين بالابتداء وما بعدهما خبرهما من حروف الجر بمعنى البعد {لما توعدون} والتكرار للتأكيد، ويجوز أن يكونا اسمين للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة {هيهات هيهات} ما {توعدون} بغير لام وتكون ما فاعلة بهيهات. وهي قراءة واضحة.
وقالوا {إن هي} هذا الضمير يفسره سياق الكلام لأنهم قبل أنكروا المعاد فقالوا {أيعدكم أنكم} الآية فاستفهموا استفهام استبعاد وتوقيف واستهزاء، فتضمن أن لا حياة إلاّ حياتهم.
وقال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله أن الحياة {إلاّ حياتنا} الدنيا ثم وضع {هي} موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبنيها، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول: ما شاءت، والمعنى: لا حياة إلاّ هذه الحياة الدنيا لأن {إن} الثانية دخلت على {هي} التي هي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس.
{نموت ونحيا} أي يموت بعض ويولد بعض ينقرض قرن ويأتي قرن انتهى، ثم أكدوا ما حصروه من أن لا حياة إلاّ حياتهم وحرموا بانتفاء بعثهم من قبورهم للجزاء وهذا هو كفر الدهرية، ثم نسبوه إلى افتراء الكذب على الله في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث {وما نحن له بمؤمنين} أي بمصدّقين، ولما أيس من إيمانهم ورأى إصرارهم على الكفر دعا عليهم وطلب عقوبتهم على تكذيبهم {قال عما قليل} أي عن زمن قليل، وما توكيد للقلة وقليل صفة لزمن محذوف وفي معناه قريب. قيل: أي بعد الموت تصيرون نادمين. وقيل {عما قليل} أي وقت نزول العذاب في الدنيا ظهور علاماته والندامة على ترك قبول ما جاءهم به رسولهم حيث لا ينفع الرجوع، واللام في {ليصبحن} لام القسم و{عما قليل} متعلق بما بعد اللام إما بيصبحن وإما بنادمين، وجاز ذلك لأنه جار ومجرور ويتسامح في المجرورات والظروف ما لا يتسامح في غيرها، ألا ترى أنه لو كان مفعولاً به لم يجز تقديمه لو قلت: لأضربن زيداً لم يجز زيداً لأضربن، وهذا الذي قررناه من أن {عما قليل} يتعلق بما بعد لام القسم هو قول بعض أصحابنا وجمهورهم على أن لام القسم لا يتقدم شيء من معمولات ما بعدها عليها سواء كان ظرفاً أو مجروراً أو غيرهما، فعلى قول هو لا يكون {عما قليل} يتعلق بمحذوف يدل عليه ما قبله تقديره {عما قليل} تنصر لأن قبله قال {رب انصرني}. وذهب الفراء وأبو عبيدة إلى جواز تقديم معمول ما بعد هذه اللام عليها مطلقاً. وفي اللوامح عن بعضهم لتصبحن بتاء على المخاطبة، فلو ذهب ذاهب إلى أن يصير القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزاً والله أعلم انتهى.
{فأخذتهم الصيحة} قال الزمخشري: صيحة جبريل عليه السلام صاح عليهم فدمرهم {بالحق} بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك أو بالعدل من الله من قولك: فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه شبههم بالغثاء في دمارهم وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان انتهى. وعن ابن عباس {الصيحة} الرجفة. وقيل: هي نفس العذاب والموت. وقيل: العذاب المصطلم. قال الشاعر:
صاح الزمان بآل زيد صيحة ** خروا لشنتها على الأذقان

وقال المفضل: {بالحق} بما لا مدفع له كقولك: وجاءت سكرة الموت بالحق. وانتصب بعداً بفعل متروك إظهاره أي بعدوا بعداً. أي هلكوا، يقال بعد بعداً وبعداً نحو رشد رشداً ورشداً. وقال الحوفي {للقوم} متعلق ببعداً. وقال الزمخشري: و{للقوم الظالمين} بيان لمن دعى عليه بالبعد نحو {هيت لك} و{لما توعدون} انتهى فلا تتعلق ببعداً بل بمحذوف.