فصل: تفسير الآيات (11- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 20):

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}
سبب نزول هذه الآيات مشهور مذكور في الصحيح، والإفك: الكذب والأفتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك. والعصبة: الجماعة وقد تقدم الكلام عليها في سورة يوسف عليه السلام. {منكم} أي من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام، ومنهم منافق ومنهم مسلم، والظاهر أن خبر {إن} هو {عصبة منكم} و{منكم} في موضع الصفة وقاله. الحوفي وأبو البقاء. و{لا تحسبوه}: مستأنف. وقال ابن عطية {عصبة} رفع على البدل من الضمير في {جاؤوا} وخبر {إن} في قوله و{لا تحسبوه} التقدير أن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون {عصبة} خبر {إن} انتهى. والعصبة: عبد الله بن أبيّ رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم ممن لم يرد ذكر اسمه، و{لا تحسبوه} الظاهر أنه عائد على الإفك وعلى إعراب ابن عطية {لا تحسبوه} الظاهر أنه عائد على الإفك، وعلى إعراب ابن عطية. يعول على ذلك المحذوف الذي قدره اسم {إن}. قيل: ويجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من {جاؤوا} وعلى ما نال المسلمين من الغم، والمعنى {لا تحسبوه} ينزل بكم منه عار {بل هو خير لكم} لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين.
وقيل: الخطاب بلا تحسبوه للقاذفين وكينونة ذلك خيراً لهم حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة، وحيث تاب بعضهم. وهذا القول ضعيف لقوله بعد: {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} أي جزاء ما اكتسب، وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك وبعضهم سكت وبعضهم تكلم، و{اكتسب} مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في الترتيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه، وقد يستعمل كسب في الوجهين.
{والذي تولى} كبره المشهور أنه عبد الله بن أبيّ، والعذاب العظيم عذاب يوم القيامة. وقيل: هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده، وكان ذلك من عبد الله بن أُبي لإمعانه في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهازه الفرص، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن ذكره وقلمي عن كتابته قبحه الله. وقيل: {الذي تولى كبره} حسان، والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على رأسه وقال له:
توقّ ذباب السيف عني فإنني ** غلام إذا هوجيت لست بشاعر

ولكنني أحمي حماي وأتقي ** من الباهت الرامي البريء الظواهر

وأنشد حسان أبياتاً يثني فيها على أم المؤمنين ويظهر براءته مما نسب إليه وهي:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس ديناً ومنصباً ** نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب ** كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها ** وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت عني قلته ** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي ** بآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها ** تقاصر عنها سورة المتطاول

والمشهور أنه حد حسان ومسطح وحمنة. قيل: وعبد الله بن أبيّ وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر. وقيل: لم يحد مسطح. وقيل: لم يحد عبد الله. وقيل: لم يحد أحد في هذه القصة وهذا مخالف للنص. {فاجلدوهم ثمانين جلدة} وقابل ذلك بقول: إنما يقال الحد بإقرار أو بينة، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين، وقد أخبر تعالى بكفرهم.
وقرأ الجمهور {كبره} بكسر الكاف. وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهثيم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن. هذا كبر القوم أي كبيرهم سناً أو مكانة. وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة: «الكبر الكبر». وقيل {كبره} بالضم معظمه، وبالكسر البداءة بالإفك. وقيل: بالكسر الإثم.
{لولا إذ سمعتموه} هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره. قيل: ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب، أي كان الإنكار واجباً عليهم، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم {خيراً} وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير، وأن يقول بناء على ظنه {هذا إفك مبين} هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن ومعنى {بأنفسهم} أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد. وقيل: معنى {بأنفسهم} بأمهاتهم. وقيل: بإخوانهم. وقيل: بأهل دينهم، وقال {ولا تلمزوا أنفسكم} فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضاً، وليسلم بعضكم على بعض.
{لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} جعل الله فصلاً بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها. {فإذا لم يأتوا} فهم في حكم الله وشريعته كاذبون، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك ولم يجدّوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل.
{ولولا فضل الله} أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة {ورحمة} عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة. {لمسكم} العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال: أفاض في الحديث واندفع وهضب وخاض. {إذ تلقونه} لعامل في {إذا} {لمسكم}. وقرأ الجمهور {تلقونه} بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال {إِذ} في التاء النحويان وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض، يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أُبيّ. وقرأ ابن السميفع {تُلْقُونَه} بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه {تَلْقَونه} بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي. وقرأت عائشة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول العرب: ولق الرجل كذب، حكاه أهل اللغة. وقال ابن سيده، جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير. وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد، وكلام في أثر كلام، يقال: ولق في سيره إذا أسرع قال:
جاءت به عيسى من الشام يلق

وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا: تيجل مضارع وجلت. وقال سفيان: سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه يعني مضارع ثقف قال: وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود. ومعنى {بأفواهكم} وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه اللسان، وهذا الإفك ليس محله إلاّ الأفواه كما قال {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} {وتحسبونه هيناً} أي ذنباً صغيراً {وهو عند الله عظيم} من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقى الإفك والتكلم به واستصغاره ثم أخذ يوبخهم على التكلم به، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يفوهوا به.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصل بين {لولا} و{قلتم}؟ قلت: للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها انتهى. وما ذكره من أدوات التحضيض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول: لولا زيداً ضربت وهلا عمراً قتلت.
قال الزمخشري: فإن قلت: فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً؟ قلت: الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
فإن قلت: ما معنى {يكون} والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا قلت: معناه ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي {لنا أن نتكلم بهذا} ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق {وسبحانك} تعجب من عظم الأمر.
فإن قلت: ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلم كما قيل فيها انتهى.
{يعظكم الله أن تعودوا} أي في أن تعودوا، تقول: وعظت فلاناً في كذا فتركه. {إن كنتم مؤمنين} حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتزاز مما يشينه من القبائح. وقيل: {أن تعودوا} مفعول من أجله أي كراهة {أن تعودوا}. {ويبين الله لكم الآيات} أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ويعلمكم من الآداب، ويعظكم من المواعظ الشافية. {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة}. قال مجاهد وابن زيد الإشارة إلى عبد الله بن أبي ومن أشبهه. {في الذين آمنوا} لعداوتهم لهم، والعذاب الأليم في الدنيا الحد، وفي الآخرة النار. والظاهر في {الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} العموم في كل قاذف منافقاً كان أو مؤمناً، وتعليق الوعيد على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق والله يعلم أي البريء من المذنب وسرائر الأمور، ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد.
وقال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين، وأنهم قصدوا وأحبوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفر وملعون فاعله. وقال أبو مسلم: هم المنافقون أوعدهم الله بالعذاب في الدنيا على يد الرسول بالمجاهدة كقوله {جاهدِ الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وقال الكرماني: والله يعلم كذبهم {وأنتم لا تعلمون} لأنه غيب. وجواب {لولا} محذوف أي لعاقبكم. {أن الله روؤف} بالتبرئة {رحيم} بقبول توبة من تاب ممن قذف. قال ابن عباس: الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والظاهر العموم.

.تفسير الآيات (21- 26):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}
تقدم الكلام على {خطوات الشيطان} تفسيراً وقراءة في البقرة. والضمير في {فإنه} عائد على {من} الشرطية، أي فإن متبع خطوات الشيطان {يأمر بالفحشاء} وهو ما أفرط قبحه {والمنكر} وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصير رأساً في الضلال بحيث يكون آمراً يطيعه أصحابه.
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم. وقرأ الجمهور {ما زكى} بتخفيف الكاف، وأمال حمزة والكسائي وأبو حيوة والحسن والأعمش وأبو جعفر في رواية وروح بتشديدها، وأماله الأعمش وكبت {زكي} المخفف بالياء وهو من ذوات الواو على سبيل الشذوذ لأنه قد يمال، أو على قراءة من شد الكاف. {ولكن الله يزكي من يشاء} ممن سبقت له السعادة، وكان عمله الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول التوبة النصوح {والله سميع} لأقوالهم {عليم} بضمائرهم.
{ولا يأتل} هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف. وقيل: معناه يقصر من افتعل ألوت قصرت ومنه {لا يألونكم} وقول الشاعر:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ** بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

وهذا قول أبي عبيدة، واختاره أبو مسلم. وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة. وقال ابن عياش والضحاك: قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك، وقالوا: لا نصل من تكلم فيه فنزلت في جميعهم. والآية تتناول من هو بهذا الوصف. وقرأ الجمهور {يأتل}. وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن يتأل مضارع تألى بمعنى حلف. قال الشاعر:
تألّى ابن أوس حلفة ليردّني ** إلى نسوة كأنهن معائد

والفضل والسعة يعني المال، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان من المهاجرين وممن شهد بدراً، وكان ما نسب إليه داعياً أبا بكر أن لا يحسن إليه، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح، وحين سمع أبو بكر {ألا تحبون أن يغفر الله لكم}؟ قال: بلى، أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته وقال: والله لا أنزعها أبداً. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهثيم أن تؤتوا بالتاء على الالتفات، ويناسبه {ألا تحبون} و{أن يؤتوا} نصب الفعل المنهي فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة {أن يؤتوا} وأن لا يؤتوا فحذف لا، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا. وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء أمر خطاب للحاضرين.
{إن الذين يرمون} عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليباً للمذكر على المؤنث. و{المحصنات} ظاهره أنه عام في النساء العفائف.
وقال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى، وأن التقدير يرمون الأنفس {المحصنات} فيدخل فيه المذكر والمؤنث. وقيل: هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك. وقيل: خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال:
قدني من نصر الخبيبين قدي

يعني عبد الله بن الزبير وأشياعه. و{الغافلات} السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطنّ لما يفطن له المجريات، كما قال الشاعر:
ولقد لهوت بطفلة ميالة ** بلهاء تطلعني على أسرارها

وكذلك البله من الرجال في قوله «أكثر أهل الجنة البله». {لعنوا في الدنيا والآخرة} في قذف المحصنات. قيل: هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم يجيء استثناء. وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له. ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني، ويؤيده قوله {يوم تشهد عليهم} وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه. والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم. وقال الحوفي: العامل فيه عذاب، ولا يجوز لأنه موصوف إلاّ على رأي الكوفيين. وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت لأنه تأنيث مجازي، ووقع الفصل، وباقي السبعة بالتاء، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك، وليست الحياة شرطاً لوجود الكلام. وقالت المعتزلة: يخلق في هذه الجوارح الكلام، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله في الحقيقة إلاّ أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعاً. وقالوا أيضاً: إنه تعالى ينشئ هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله. قال القاضي: وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة.
وانتصب {يومئذ} بيوفيهم، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة، والتقدير يوم إذ تشهد. وقرأ زيد بن عليّ {يوفيهم} مخففاً والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم. وقال:
ولم يبق سوى العد ** وإن دناهم كما دانوا

ومنه: كما تدين تدان. وقرأ الجمهور {الحق} بالنصب صفة لدينهم. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة لله، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و{يعلمون} إلى آخره يقوي قول من قال: إن الآية في عبد الله بن أُبيّ لأن كل مؤمن يعلم {أن الله هو الحق المبين}.
قال الزمخشري: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعذاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن {ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به، وأنه {يوفيهم} جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله {أن الله هو الحق المبين} فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة انتهى. وهو كلام حسن. ثم قال بعد كلام فإن قلت: ما معنى قوله {هو الحق المبين}؟ قلت: معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه، والمحقّ الذي لا يوصف بباطل، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى. وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء دسيسة الاعتزال.
والظاهر أن {الخبيثات} وصف للنساء، وكذلك {الطيبات} أي النساء الخبيثات للرجال {الخبيثين} ويرجحه مقابلته بالذكور فالمعنى أن {الخبيثات} من النساء ينزعن للخباث من الرجال، فيكون قريباً من قوله {الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة} وكذلك {الطيبات} من النساء {للطيبين} من الرجال ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع التي ما أعطيتهن امرأة غيرها. وفي آخرها: ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً. وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد فهو تفريق بين عبد الله وأشباهه والرسول وأصحابه، فلم يجعل الله له إلاّ كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء الخبائث. وقال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة: هي الأقوال والأفعال، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلاّ الخبيثون من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه. وقال بعضهم الكلمات: والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلاّ بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه.
{أولئك} إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء. {مبرؤون مما يقولون} أي يقول الخبيثون من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة.
غض البصر: أطبق الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية.
قال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير ** فلا كعباً بلغت ولا كلابا

الخُمر: جمع خمار وهو القنعة التي تلقي المرأة على رأسها، وهو جمع كثرة مقيس فيه، ويجمع في القلة على أخمرة وهو مقيس فيها أيضاً. قال الشاعر:
وترى الشجراء في ريقه ** كرؤوس قطعت فيها الخمر

الجيب: فتح يكون في طريق القميص يبدو منه بعض الجسد. والعورة: ما احترز من الإطلاع عليه ويغلب في سوأة الرجل. والمرأة الأيم: قال النضر بن شميل: كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها ووزنه فعيل كلين ويقال: آمت تئيم. وقال الشاعر:
كل امرئ ستئيم من ** ه العرس أو منها يئم

أي: سينفرد فيصير أيماً، وقياس جمعه أيائم كسيائد في جمع سيد وجمعه على فعالى محفوظ لا مقيس. البغاء: الزنا، يقال: بغت المرأة تبغي بغاء فهي بغي وهو مختص بزنا النساء. المشكاة: الكوة غير النافذة. قال الكلبي حبشي معرب. الزجاجة: جوهر مصنوع معروف، وضم الزاي لغة الحجاز، وكسرها وفتحها لغة قيس. الزيت: الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون. قال الكرماني: السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد، فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيداً. وقال الفراء: السراب: ما لصق بالأرض. وقيل: هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري. وقال الشاعر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ** كلمع سراب في الفلا متألق

وقال:
أمر الطول لماع السراب

وقيل: السراب ما يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة. اللجي: الكثير الماء، ولجة البحر معظمة، وكان لجياً مسنوب إلى اللجة. الودق: المطر شديده وضعيفه. قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

وقال أبو الأشهب العقيلي: هو البرق. ومنه قول الشاعر:
أثرن عجاجة وخرجن منها ** خروج الودق من خلل السحاب

والودق: مصدر ودق السحاب يدق ودقاً، ومنه استودقت الفرس. البرد: معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء بالحرارة. السنا: مقصور من ذوات الواو وهو الضوء. قال الشاعر:
يضيء سناه أو مصابيح راهب

يقال: سنا يسنو سناً، والسنا أيضاً نبت يُتداوي به، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال:
وسن كسنق سناء وسنما

أذعن للشيء: انقاد له. وقال الزجاج: الإذعان: الإسراع مع الطاعة. الحيف: الميل في الحكم، يقال: حاف في قضيته أي جار. اللواذ: الروغان من شيء إلى شيء في خفية.