فصل: تفسير الآيات (34- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (34- 51):

{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)}
قال ابن عطية: وانتصب حوله على الظرف، وهو في موضع الحال، أي كائنين حوله، فالعامل فيه محذوف، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له، قال: لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر، نحو: مررت بهند ضاحكة. والكوفيون يجعلون الملأ موصولاً، فكأنه قيل: قال للذي حوله، فلا موضع للعامل في الظرف، لأنه وقع صلة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في حوله؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، وذلك استقروا حوله، وهذا يقدر في جميع الظروف، والعامل في النصب المحلي، وهو النصب على الحال. انتهى. وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية.
ولما رأى فرعون أمر العصا واليد، وما ظهر فيهما من الآيات، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر. وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثَمّ من يقاومه، أو كان علم صحة المعجزة. وعمى تلك الحجة على قومه، برميه بالسحر، وبأنه {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره}، ليقوي تنفيرهم عنه، وابتغاؤهم الغوائل له، وأن لا يقبلوا قوله؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه، ثم استأمرهم فيما يفعل معه، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه، فصار مأموراً بعد أن كان آمراً. وتقدم الكلام في {ماذا تأمرون} وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف، فأغنى عن إعادته. ولما قال: {إن هذا لساحر عليم}، عارضوا بقوله: {بكل سحار}، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة، لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب. وقرأ الأعمش، وعاصم في رواية: بكل ساحر. واليوم المعلوم: يوم الزينة، وتقدم الكلام عليه في سورة طه. وقوله: {هل أنتم مجتمعون}، استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شراً:
هل أنت باعث ديناراً لحاجتنا ** أو عند رب أخا عون بن مخراق

يريد: ابعثه إلينا سريعاً ولا تبطئ به. وترجوا اتباع السحرة، أي في دينهم، إن غلبوا موسى عليه السلام، ولا يتبعون موسى في دينه. وساقوا الكلام سياق الكناية، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتعبوا موسى عليه السلام. ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها، وهي جواب وجزاء. {وبعزة فرعون}: الظاهر أن الباء للقسم، والذي تتعلق به الباء محذوف، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيماً، كما يقال للملوك: أمروا رضي الله عنهم بكذا، فيخبر عنه إخبار الغائب، وهذا من نوع إيمان الجاهلية.
وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية، لا يرضون بالقسم بالله، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف، فحينذ يستوثق منه. وقال ابن عطية: بعد أن ذكر أنه قسم قال: والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه، إذ كانوا يعبدونه؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء: بسم الله، وعلى بركة الله، ونحو هذا. وبين قوله: {قال لهم موسى}، وقوله: {لمن المقربين}، كلام محذوف، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى. قال الزمخشري: فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عز وجل، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة، ولك أن لا تقدر فاعلاً، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى. وهذا القول الآخر ليس بشيء. لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه، أما أنه لا يقدر فاعل، فقول ذاهب عن الصواب. وقال ابن عطية: قرأ البزي، وابن فليح، عن ابن كثير: بشد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يحذف همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. انتهى. كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، وليس ذلك بلازم كثيراً ما يكون الوصل مخالفاً للوقف، والوقف مخالفاً للوصل، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك.
{قالوا لا ضير}: أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه. يقال: ضاره يضيره ضيراً، وضاره يضوره ضوراً. {إنا إلى ربنا}: أي إلى عظيم ثوابه، أو: لا ضير علينا، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه. وقال أبو عبد الله الرازي: لما آمنوا بأجمعهم، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون، فبالغ في التنفير من جهة قوله: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل. وبقوله: {إنه لكبيركم}، صرح بما رمزه أولاً من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم، وبقوله: {فلسوف تعلمون}، حيث أوعدهم وعيداً مطلقاً، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب، فأجابوا بأن ذلك إن وقع، لن يضير، وفي قولهم: {إنا إلى ربك منقلبون}، نكتة شريفة، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته.
انتهى ملخصاً. ويدفع هذا الأخير قولهم: {إنا نطمع} إلى آخره، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا. والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله: {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} وقيل: يحتمل اليقين. قيل: كقول إبراهيم عليه السلام: {والذي أطمع}.
وقرأ الجمهور: {أن كنا}، بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم. وقرأ أبان بن تغلب، وأبو معاذ: إن كنا، بكسر الهمزة. قال صاحب اللوامح على الشرط: وجاز حذف الفاء من الجواب، لأنه متقدم، وتقديره: {إن كنا أول المؤمنين} فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى. وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال الزمخشري: هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر. جعله إن كنت عملت فوفني حقي، ومنه قوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. وقال ابن عطية بمعنى: أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى. ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون، فلا يحتمل النفي، والتقدير: إن كنا لأول المؤمنين. وجاء في الحديث: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل»، أي ليحب. وقال الشاعر:
ونحن أباة الضيم من آل مالك ** وإن مالك كانت كرام المعادن

أي: وإن مالك لكانت كرام المعادن، وأول يعني أول المؤمنين من القبط، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك المجمع. وقال الزمخشري: وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة.

.تفسير الآيات (52- 68):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}
تقدم الخلاف في {أسر}، وأنه قرئ بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود. وقرأ اليماني: أن سر، أمر من سار يسير. أمر الله موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر إلى تجاه البحر، وأخبره أنهم سيتبعون. فخرج سحراً، جاعلاً طريق الشام على يساره، وتوجه نحو البحر، فيقال له في ترك الطريق، فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل، فخرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر. وذكروا أعداداً في أتباع فرعون وفي بني إسرائيل، الله أعلم بصحة ذلك. {إن هؤلاء لشرذمة}: أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلاً، جمع السلامة الذي هو للقلة، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل، والظاهر تقليل العدد. قال الزمخشري: ويجوز أن يريد بالقلة: الذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد، والمعنى: أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم، ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه. انتهى. قال أبو حاتم: وقرأ من لا يؤخذ عنه: {لشرذمة قليلون}، وليست هذه موقوفة. انتهى. يعني أن هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: {لغائظون}: أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها، وخرجوا هاربين. وقرأ الكوفيون، وابن ذكوان، وزيد بن علي: {حاذرون}، بالألف، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره، وحذر متعد. قال تعالى: {يحذر الآخرة} وقال العباس بن مرداس:
وإني حاذر أنمي سلاحي ** إلى أوصال ذيال صنيع

وقرأ باقي السبعة: بغير ألف وهو المتيقظ. وقال الزجاج: مؤدون، أي ذوو أدوات وسلاح، أي متسلحين. وقيل: حذرون في الحال، وحاذرون في المآل. وقال الفراء: الحاذر: الخائف ما يرى، والحذر: المخلوق حذراً. وقال أبو عبيدة: رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد. وذهب سيبويه إلى أن حذراً يكون للمبالغة، وأنه يعمل كما يعمل حاذر، فينصب المفعول به، وأنشد:
حذر أموراً لا تضير وآمن ** ما ليس منجيه من الأقدار

وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو. وعن الفراء أيضاً، والكسائي: رجل حذر، إذا كان الحذر في خلقته، فهو متيقظ منتبه. وقرأ سميط بن عجلان، وابن أبي عمار، وابن السميفع: حاذرون، بالدال المهملة من قولهم: عين حدرة، أي عظيمة، والحادر: المتورم. قال ابن عطية: فالمعنى ممتلئون غيظاً وأنفة. وقال ابن خالوية: الحادر: السمين القوي الشديد، يقال غلام حدر بدر.
وقال صاحب اللوامح: حدر الرجل: قوي بأسه، يقال: منه رجل حدر بدر، إذا كان شديد البأس في الحرب، ويقال: رجل حدر، بضم الدال للمبالغة، مثل يقظ. وقال الشاعر:
أحب الصبي السوء من أجل أمّة ** وأبغضه من بغضها وهو حادر

أي سمين قوي. وقيل: مدجّجون في السلام. {فأخرجناهم}: الضمير عائد على القبط. {من جنات وعيون}: بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد، قاله ابن عمر وغيره، والجمهور: على أنها عيون الماء. وقال ابن جبير: المراد عيون الذهب. {وكنوز}: هي الأموال التي خربوها. قال مجاهد: سماها كنوزاً لأنه لم ينفق في طاعة الله قط. وقال الضحاك: الكنوز: الأنهار. قال صاحب التحبير: وهذا فيه نظر، لأن العيون تشملهما. وقيل: هي كنوز المقطم ومطالبه. قال ابن عطية: هي باقية إلى اليوم. انتهى.
وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه، وأي مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب. فكثير منهم يضع في ذلك أوراقاً ليأكلوا أموال المصريين بالباطل، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر، وهو لا يزداد إلا طلباً لذلك حتى يموت. وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر، نحواً من خمسة وأربعين عاماً، فلم أعلم أن أحداً منهم حصل على شيء غير الفقر؛ وكذلك رأيهم في تغوير الماء. يزعمون أن ثم آباراً، وأنه يكتب أسماء في شقفة، فتلقى في البئر، فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهباً وفضة وجوهراً وياقوتاً. فهم دائماً يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشقفة، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالاً جزيلاً، ويستأكلونهم، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات، يركنون إليها ويقولون بها، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل.
وقوله تعالى: {ومقام كريم}. قال ابن لهيعة: هو الفيوم. وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: هو المنابر للخطباء. وقيل: الأسرة في الكلل. وقيل: مجالس الأمراء والأشراف والحكام. وقال النقاش: المساكن الحسان. وقيل: مرابط الخيل، حكاه الماوردي. وقرأ قتادة، والأعرج: ومقام، بضم الميم من أقام كذلك. قال الزمخشري: يحتمل ثلاثة أوجه: النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، والجر على أنه وصف لمقام، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك. انتهى. فالوجه الأول لا يسوغ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه، وكذلك الوجه الثاني، لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم، ولا يشبه الشيء بنفسه.
والظاهر أن قوله: {وأورثناها بني إسرائيل}، أنهم ملكوا ديار مصر بعد غرق فرعون وقومه، لأنه اعتقب قوله: {وأورثناها}: قوله: {وأخرجناهم}، وقاله الحسن؛ قال: كما عبروا النهر، رجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم. وقيل: ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان. وقرأ الجمهور: {فاتبعوهم}: أي فلحقوهم. وقرأ الحسن، والذماري: فاتبعوهم، بوصل الألف وشد التاء. {مشرقين}: داخلين في وقت الشروق، من شرقت الشمس شروقاً، إذا طلعت، كأصبح: دخل في وقت الصباح، وأمسى: دخل في وقت المساء. وقال أبو عبيدة: فاتبعوهم نحو الشرق، كأنجد: إذا قصد نحو نجد. والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل. وقيل: مشرقين: أي في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر، فعلى هذا يكون مشرقين حالاً من المفعول.
{فلما تراءى الجمعان}: أي رأى أحدهما الآخر، {قال أصحاب موسى إنا لمدركون}: أي ملحقون، قالوا ذلك حين رأوا العدوّ القوي وراءهم والبحر أمامهم، وساءت ظنونهم. وقرأ الأعمش: وابن وثاب: تراي الجمعان، بغير همز، على مذهب التخفيف بين بين، ولا يصح القلب لوقوع الهمزة بين ألفين، إحداهما ألف تفاعل الزائدة بعد الفاء، والثانية اللام المعتلة من الفعل. فلو خففت بالقلب لاجتمع ثلاث ألفات متسقة، وذلك مما لا يكون أبداً، قاله أبو الفضل الرازي. وقال ابن عطية: وقرأ حمزة: تريء، بكسر الراء ويمد ثم يهمز؛ وروى مثله عن عاصم، وروي عنه أيضاً مفتوحاً ممدود، أو الجمهور يقرؤونه مثل تراعى، وهذا هو الصواب، لأنه تفاعل. وقال أبو حاتم: وقراءة حمزة هذا الحرف محال، وحمل عليه، قال: وما روي عن ابن وثاب والأعمش خطأ. انتهى. وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، هو ابن الباذش، في كتاب الإقناع من تأليفه: تراءى الجمعان في الشعراء. إذا وقف عليها حمزة والكسائي، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلاً ووقفاً لإمالة الألف المنقلبة؛ ففي قراءته إمالة الإمالة. وفي هذا الفعل، وفي راءى، إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة، حذف السبب وإبقاء المسبب، كما قالوا: صعقى في النسب إلى الصعق. وقرأ الجمهور: لمدركون، بإسكان الدال؛ والأعرج، وعبيد بن عمير: بفتح الدال مشددة وكسر الراء، على وزن مفتعلون، وهو لازم، بمعنى الفناء والاضمحلال. يقال: منه ادّرك الشيء بنفسه، إذا فني تتابعاً، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة، نص على كسرها أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح)، والزمخشري في (كشافه) وغيرهما. وقال أبو الفضل الرازي: وقد يكون ادّرك على افتعل بمعنى أفعل متعدياً، فلو كانت القراءة من ذلك، لوجب فتح الراء، ولم يبلغني ذلك عنهما، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير. قال الزمخشري: المعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد، ومنه بيت الحماسة:
أبعد بني أمي الذين تتابعوا ** أرجى الحياة أم من الموت أجزع

{قال كلا إن معي ربي سيهدين}: زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو كلا، والمعنى: لن يدركوكم لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم، إن معي ربي سيهدين عن قريب إلى طريق النجاة ويعرفنيه. وقيل: سيكفيني أمرهم. ولما انتهى موسى إلى البحر، قال له مؤمن آل فرعون، وكان بين يدي موسى: أين أمرت، وهذا البحر أمامك وقد غشيتك آل فرعون؟ قال: أمرت بالبحر، ولا يدري موسى ما يصنع. ورويت هذه المقالة عن يوشع، قالها لموسى عليه السلام، فأوحى الله إليه {أن اضرب بعصاك البحر}، فخاض يوشع الماء. وضرب موسى بعصاه، فصار فيه اثنا عشر طريقاً، لكل سبط طريق. أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله، ولكنه بقدرة الله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته، ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا، وتقدّم الخلاف في مكان هذا البحر.
{فانفلق}: ثم محذوف تقديره: فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب، وفاء انفلق. والفاء في انفلق هي فاء ضرب، فأبقى من كل ما يدل على المحذوف، أبقيت الفاء من فضرب واتصلت بانفلق، ليدل على ضرب المحذوفة، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه. وهذا قول شبيه بقول صاحب البرسام، ويحتاج إلى وحي بسفر عن هذا القول. وإذا نظرت القرآن وجدت جملاً كثيرة محذوفة، وفيها الفاء نحو قوله: {فأرسلون يوسف أيها} أي فأرسلوه، فقال يوسف أيها الصديق، والفرق الجزء المفصل. والطود: الجبل العظيم المنطاد في السماء. وحكى يعقوب عن بعض القراء، أنه قرأ كل فلق باللام عوض الراء.
{وأزلفنا}: أي قربنا، {ثم}: أي هناك، وثم ظرف مكان للبعد. {الآخرين}: أي قوم فرعون، أي قربناهم، ولم يذكر من قربوا منه، فاحتمل أن يكون المعنى: قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل، أو قربنا بعضهم من بعض حتى لا ينجو أحد، أو قربناهم من البحر. وقرأ الحسن، وأبو حيوة: وزلفنا بغير ألف. وقرأ أبي، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث: وأزلقنا بالقاف عوض الفاء، أي أزللنا، قاله صاحب اللوامح. قيل: من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه، ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة، فالآخرون هم موسى وأصحابه، أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة. انتهى، وفي الكلام حذف تقديره: ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر وأنجينا. قيل: دخلوا البحر بالطول، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك.
{إن في ذلك لآية}: أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها. قال الزمخشري: {وما كان أكثرهم مؤمنين}: أي ما تنبه أكثرهم عليها ولا آمنوا. وبنو إسرائيل، الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء، قد سألوه بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وطلبوا رؤية الله جهرة. انتهى. والذي يظهر أن قوله: {وما كان أكثرهم مؤمنين}: أي أكثر قوم فرعون، وهم القبط، إذ قد آمن السحرة، وآمنت آسية امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وعجوز اسمها مريم، دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام، واستخرجوه وحملوه معهم حين خرجوا من مصر.