فصل: تفسير الآيات (30- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (30- 35):

{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)}
من، في: من شاطئ، لابتداء الغاية، ومن الشجرة كذلك، إذ هي بدل من الأولى، أي من قبل الشجرة. والأيمن: يحتمل أن يكون صفة للشاطئ وللوادي، على معنى اليمن والبركة، أو الأيمن: يريد المعادل للعضو الأيسر، فيكون ذلك بالنسبة إلى موسى، لا للشاطئ، ولا للوادي، أي أيمن موسى في استقباله حتى يهبط الوادي، أو بعكس ذلك؛ وكل هذه الأقوال في الأيمن مقول. وقرأ الأشهب العقيلي، ومسلمة: في البقعة، بفتح الباء. قال أبو زيد: سمعت من العرب: هذه بقعة طيبة، بفتح الباء، ووصفت البقعة بالبركة، لما خصت به من آيات الله وأنواره وتكليمه لموسى عليه السلام، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة. ويتعلق في البقعة بنودي، أو تكون في موضع الحال من شاطئ. والشجرة عناب، أو عليق، أو سمرة، أو عوسج، أقوال. وأن: يحتمل أن تكون حرف تفسير، وأن تكون مخففة من الثقيلة. وقرأت فرقة: {إني أنا}، بفتح الهمزة، وفي إعرابه إشكال، لأن إن، إن كانت تفسيرية، فينبغي كسر إني، وإن كانت مصدرية، تتقدر بالمفرد، والمفرد لا يكون خبراً لضمير الشأن، فتخريج هذه القراءة على أن تكون إن تفسيرية، وإني معمول لمضمر تقديره: إني يا موسى أعلم إني أنا الله.
وجاء في طه: {نودي يا موسى إني أنا ربك} وفي النمل: {نودي أن بورك من في النار} وهنا: {نودي من شاطئ}، ولا منافاة، إذ حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء. والجمهور: على أنه تعالى كلمه في هذا المقام من غير واسطة. وقال الحسن: ناداه نداء الوحي، لا نداء الكلام. وتقدم الكلام على نظير قوله: {وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب}، ثم أمره فقال: {اسلك يدك في جيبك}، وهو فتح الجبة من حيث تخرج الرأس، وكان كم الجبة في غاية الضيق. وتقدّم الكلام على: {تخرج بيضاء من غير سوء} وفسر الجناح هنا باليد وبالعضد وبالعطاف، وبما أسفل من العضد إلى الرسغ، وبجيب مدرعته. والرهب: الخوف، وتأتي القراءات فيه. وقيل: بفتح الراء والهاء: الكم، بلغة بني حنيفة وحمير، وسمع الأصمعي قائلاً يقول: اعطني ما في رهبك، أي في كمك، والظاهر حمل: {واضمم إليك جناحك من الرهب} على الحقيقة.
قال الثوري: خاف موسى أن يكون حدث به سوء، فأمره تعالى أن يعيد يده إلى جيبه لتعود على حالتها الأولى، فيعلم موسى أنه لم يكن سوءاً بل آية من الله. وقال مجاهد، وابن زيد: أمره بضم عضده وذراعه، وهو الجناح، إلى جنبه، ليخف بذلك فزعه. ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوي قلبه. وقيل: لما انقلبت العصا حية، فزع موسى واضطرب، فاتقاها بيده، كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: أدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء لتظهر معجزة أخرى، وهذا القول بسطه الزمخشري، لأنه كالتكرار لقوله: {اسلك يدك في جيبك}.
وقد قال هو والجناح هنا اليد، قال: لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى، فقد ضم جناحه إليه. وقيل: المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها، فاضممها إليك تسكن. وقالت فرقة: هو مجاز أمره بالعزم على ما أمره به، كما تقول العرب: أشدد حيازيمك واربط جأشك، أي شمر في أمرك ودع الرهب، وذلك لما كثر تخوفه وفزعه في غير موطن، قاله أبو علي، وكأنه طيره الفزع، وآلة الطيران الجناح. فقيل له: اسكن ولا تخف، وضم منشور جناحك من الخوف إليك، وذكر هذا القول الزمخشري، فقال والثاني أن يراد بضم جناحه إليه: تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى {من الرهب}: من أجل الرهب، أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية، فاضمم إليك جناحك. جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه. ومعنى: {واضمم إليك جناحك}، وقوله: {اسلك يدك في جيبك} على أحد التفسيرين واحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح، وهو اليد، في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله: {واضمم إليك جناحك}، {واضمم يدك إلى جناحك} فما التوفيق بينهما؟ قلت: المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، وبالمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح. ومن بدع التفاسير أن الرهب: الكم، بلغة حمير، وأنهم يقولون: اعطني ما في رهبك؛ وليت شعري؛ كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري: كيف موقعه في الآية؟ وكيف يعطيه الفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى، صلوات الله عليه، ما كان عليه ليلة المناجاة إلاَّ زرماتقة من صوف، لا كمين لها. انتهى. أما قوله: وهل سمع من الأثبات؟ وهذا مروي عن الأصمعي، وهو ثقة ثبت. وأما قوله: كيف موقعه من الآية؟ فقالوا: معناه أخرج يدك من كمك، وكان قد أخذ العصا بالكم. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: من الرهب، بفتح الراء والهاء؛ وحفص: بفتح الراء وسكون الهاء؛ وباقي السبعة: بضم الراء وإسكان الهاء. وقرأ قتادة، والحسن، وعيسى، والجحدري: بضمهما.
{فذانك}: إشارة إلى العصا واليد، وهما مؤنثتان، ولكن ذكرا لتذكير الخبر، كما أنه قد يؤنث المذكر لتأنيث الخبر، كقراءة من قرأ: ثم لم يكن فتنتهم إلا أن قالوا، بالياء في تكن.
{برهانان}: حجتان نيرتان. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: فذانك، بتشديد النون؛ وباقي السبعة: بتخفيفها. وقرأ ابن مسعود، وعيسى، وأبو نوفل، وابن هرمز، وشبل: فذانيك، بياء بعد النون المكسورة، وهي لغة هذيل. وقيل: بل لغة تميم، ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضاً: فذانيك، بفتح النون قبل الياء، على لغة من فتح نون التثنية، نحو قوله:
على أحوذيين استقلت عشية

وقرأ ابن مسعود: بتشديد النون مكسورة بعدها ياء. قيل: وهي لغة هذيل. وقال المهدوي: بل لغتهم تخفيفها. و{إلى فرعون}: يتعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره: اذهب إلى فرعون. {قال رب إني قتلت منهم نفساً}: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة، وذكر أخاه والعلة التي تكون له زيادة التبليغ. و{أفصح}: يدل على أنه فيه فصاحة، ولكن أخوه أفصح. {فأرسله معي ردأ}: أي معيناً يصدقني، ليس المعنى أنه يقول لي: صدقت، إذ يستوي في قول هذا اللفظ العيي والفصيح، وإنما المعنى: أنه لزيادة فصاحته يبالغ في التبيان، وفي الإجابة عن الشبهات، وفي جداله الكفار. وقرأ الجمهور: ردأ، بالهمزة؛ وأبو جعفر، ونافع، والمدنيان: بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال؛ والمشهور عن أبي جعفر بالنقل، ولا همز ولا تنوين، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم، وحمزة: يصدقني، بضم القاف، فاحتمل الصفة لردأ، والحال احتمل الاستئناف. وقرأ باقي السبعة: بالإسكان. وقرأ أبي، وزيد بن علي: يصدقوني، والضمير لفرعون وقومه. قال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم، لأنه لو كان رفعاً لقال: يصدقونني. انتهى، والجزم على جواب الأمر. والمعنى في يصدقوني: أرجو تصديقهم إياي، فأجابه تعالى إلى طلبته وقال: {سنشد عضدك بأخيك}. وقرأ زيد بن علي، والحسن: عضدك، بضمتين. وعن الحسن: بضم العين وإسكان الضاد. وعن بعضهم: بفتح العين وكسر الضاد؛ وفتحهما، قرأ به عيسى، ويقال فيه: عضد، بفتح العين وسكون الضاد، ولا أعلم أحداً قرأ به. والعضد: العضو المعروف، وهي قوام اليد، ويشدتها يشتد. قال الشاعر:
أبني لبيني لستما بيد ** إلا يداً ليست لها عضد

والمعنى فيه: سنقويك بأخيك. ويقال في الخير: شد الله عضدك، وفي الشر: فتّ الله في عضدك. والسلطان: الحجة والغلبة والتسليط. {فلا يصلون إليكما}: أي بسوء، أو إلى إذايتكما. ويحتمل {بآياتنا} أن يتعلق بقوله: ويجعل، أو بيصلون، أو بالغالبون، وإن كان موصولاً على مذهب من يجوز عنده أن يتقدم الظرف والجار والمجرور على صلة أل، وإن كان عنده موصولاً على سبيل الاتساع، أو بفعل محذوف، أي اذهبا بآياتنا. كما علق في تسع آيات باذهب، أو على البيان، فالعامل محذوف، وهذه أعاريب منقولة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون قسماً جوابه {فلا يصلون} مقدماً عليه، أو من لغو القسم. انتهى. أما أنه قسم جوابه {فلا يصلون}، فإنه لا يستقيم على قول الجمهور، لأن جواب القسم لا تدخله الفاء. وأما قوله: أو من لغو القسم، فكأنه يريد والله أعلم. إنه لم يذكر له جواب، بل حذف لدلالة عليه، أي بآياتنا لتغلبن.

.تفسير الآيات (36- 43):

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}
{بآياتنا}: هي العصا واليد. {بينات}: أي واضحات الدلالة على صدقه، وأنه أمر خارق معجز، كفوا عن مقاومته ومعارضته، فرجعوا إلى البهت والكذب، ونسبوه إلى أنه سحر، لأنهم يرون الشيء على حالة، ثم يرونه على حالة أخرى، ثم يعود إلى الحالة الأولى، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله، فليس بمعجز. ثم مع دعواهم أنه سحر مفترى، وكذبهم في ذلك، أرادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم، أي في زمان آبائهم وأيامهم. وفي آبائنا: حال، أي بهذا، أي بمثل هذا كائناً في أيام آبائنا. وإذا نفوا السماع لمثل هذا في الزمان السابق، ثبت أن ما ادّعاه موسى هو بدع لم يسبق إلى مثله، فدل على أنه مفترى على الله، وقد كذبوا في ذلك، وطرق سمعهم أخبار الرسل السابقين موسى في الزمان. ألا ترى إلى قول مؤمن من آل فرعون: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} ولما رأى موسى ما قابلوه به من كون ما أتى به سحراً، وانتفاء سماع مثله في الزمان السابق، {قال موسى ربي بمن جاء بالهدى من عنده}، حيث أهله للرسالة، وبعثه بالهدى، ووعده حسن العقبى، ويعني بذلك نفسه، ولو كان كما يزعمون لم يرسله. ثم نبه على العلة الموجبة لعدم الفلاح، وهي الظلم. وضع الشيء غير موضعه، حيث دعوا إلى الإيمان بالله، وأتوا بالمعجزات، فادعوا الإلهية، ونسبوا ذلك المعجز إلى السحر. وعاقبة الدار، وإن كانت تصلح للمحمودة والمذمومة، فقد كثر استعمالها في المحمودة، فإن لم تقيد، حملت عليها. ألا ترى إلى قوله: {أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن} وقال: {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} وقرأ ابن كثير: قال موسى، بغير واو؛ وباقي السبعة: بالواو. ومناسبة قراءة الجمهور أنه لما جاءهم بالبينات قالوا: كيت وكيت، وقال موسى: كيت وكيت؛ فيتميز الناظر فصل ما بين القولين وفساد أحدهما، إذ قد تقابلا، فيعلم يقيناً أن قول موسى هو الحق والهدى. ومناسبة قراءة ابن كثير، أنه موضع قراءة لما قالوا: كيت وكيت، قال موسى: كيت وكيت. ونفى فرعون علمه بإله غيره للملأ، ويريد بذلك نفي وجوده، أي ما لكم من إله غيري. ويجوز أن يكون غير معلوم عنده إله لهم، ولكنه مظنون، فيكون النفي على ظاهره، ويدل على ذلك قوله: {وإني لأظنه من الكاذبين}، وهو الكاذب في انتفاء علمه بإله غيره. ألا ترى إلى قوله حالة غرقه: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} واستمر فرعون في مخرقته، ونادى وزيره هامان، وأمره أن يوقد النار على الطين. قيل: وهو أول من عمل الآجر، ولم يقل: أطبخ الآخر، لأنه لم يتقدم لهامان علم بذلك، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع.
{فاجعل لي صرحاً}: أي ابن لي، لعل أطلع إلى إله موسى. أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له؛ وقومه لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم، يمكن ذلك عندهم، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات، ولا يشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه، ولكن يوافقه مخافه سطوه واعتدائه. كما رأيناه يعرض لكثير من العقلاء، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل، يوافقه على ذلك الحديث. ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني، وقد اختلف في ذلك، فقيل: بناه، وذكر من وصفه بما الله أعلم به. وقيل: لم يبن. واطلع في معنى: اطلع، يقال: طلع إلى الجبل واطلع بمعنى واحد، أي صعد، فافتعل فيه بمعنى الفعل المجرد وبغير الحق، إذ ليس لهم ذلك، فهم مبطلون في استكبارهم، حيث ادعى الإلهية ووافقوه على ذلك؛ والكبرياء في الحقيقة إنما هو لله. وقرأ حمزة، والكسائي، ونافع: لا يرجون، مبنياً للفاعل؛ والجمهور: مبنياً للمفعول. والأرض هنا أرض مصر. {فنبذناهم في اليم}: كناية عن إدخالهم في البحر حتى غرقوا، شبهوا بحصيات. قذفها الرامي من يده، ومنه نبذ النواة، وقول الشاعر:
نظرت إلى عنوانه فنبذته ** كنبذك نعلاً من نعالك باليا

وقوم فرعون وفرعون، وإن ساروا إلى البحر باختيارهم في طلب بني إسرائيل، فإن ما ضمهم من القدر السابق، وإغراقهم في البحر، هو نبذ الله إياهم. وجعل هنا بمعنى: صير، أي صيرناهم أئمة قدوة للكفار يقتدون بهم في ضلالتهم، كما أن للخير أئمة يقتدى بهم، اشتهروا بذلك وبقي حديثهم. وقال الزمخشري: وجعلناهم: دعوناهم، أئمة: دعاة إلى النار، وقلنا: إنهم أئمة دعاة إلى النار، وهو من قولك: جعله بخيلاً وفاسقاً إذا دعاه فقال: إنه بخيل وفاسق. ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله: جعله بخيلاً وفاسقاً، ومنه قوله عز وجل: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} ومعنى دعوتهم إلى النار: دعوتهم إلى موجباتها من الكفر. انتهى. وإنما فسر جعلناهم بمعنى دعوناهم، لا بمعنى صيرناهم، جرياً على مذهبه من الاعتزال، لأن في تصييرهم أئمة، خلق ذلك لهم. وعلى مذهب المعتزلة، لا يجوّزون ذلك من الله، ولا ينسبونه إليه، قال: ويجوز خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر، ومعنى الخذلان: منع الإلطاف، وإنما يمنعها من علم أنه لا ينفع فيه، وهو المصمم على الكفر، الذي لا تغني عنه الآيات والنذر. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال أيضاً. {لعنة}: أي طرداً وإبعاداً، وعطف يوم القيامة على: {في هذه الدنيا}. {من المقبوحين}، قال أبو عبيدة: من الهالكين. وقال ابن عباس: من المشوهين الخلقة، لسواد الوجوه وزرقة العيون. وقيل: من المبعدين.
ولما ذكر تعالى ما آل إليه فرعون وقومه من غضب الله عليهم وإغراقه، ذكر ما امتن به على رسوله موسى عليه السلام فقال: {ولقد آتينا موسى الكتاب}، وهو التوراة، وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائص والأحكام. {من بعد ما أهلكنا القرون الأولى}: قوم نوح وهود وصالح ولوط، ويقال: لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة. وانتصب بصائر على الحال، أي طرائق هدي يستبصر بها.