فصل: تفسير الآيات (44- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 50):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)}
لما قص الله تعالى من أنباء موسى وغرائب ما جرى له من الحمل به في وقت ذبح الأبناء، ورميه في البحر في تابوت، ورده إلى أمّه، وتبني فرعون له، وإيتائه الحكم والعلم، وقتله القبطي، وخروجه من منشئه فاراً، وتصاهره مع شعيب، ورعيه لغنمه السنين الطويلة، وعوده إلى مصر، وإضلاله الطريق، ومناجاة الله له، وإظهار تينك المعجزتين العظيمتين على يديه، وهي العصا واليد، وأمره بالذهاب إلى فرعون، ومحاورته معه، وتكذيب فرعون وإهلاكه وإهلاك قومه، والامتنان على موسى بإيتائه التوراة؛ وأوحى تعالى بجميع ذلك إلى محمد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره بإنعامه عليه بذلك، وبما خصه من الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه فقال: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر}.
والأمر، قيل: النبوّة والحكم الذي آتاه الله موسى. وقيل: الأمر: أمر محمد عليه السلام أن يكون من أمته، وهذا التأويل يلتئم معه ما بعده من قوله: {ولكنا أنشأنا قروناً}. وقيل: الأمر: هلاك فرعون بالماء، ويحمل بجانب الغربى على اليم، وبدأ أولاً بنفي شيء خاص، وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر، ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين. والمعنى، والله أعلم؛ من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به، فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى، فكان عموماً بعد خصوص. وبجانب الغربي: من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم، ومن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه عند قوم. فعلى القول الأول أصله بالجانب الغربي، وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي، والترجيح بين القولين مذكور في النحو. والغربي، قال قتادة: غربي الجبل، وقال الحسن: بعث الله موسى بالغرب، وقال أبو عبيدة: حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم. وقيل: هنا جبل غربي. وقيل: الغربي من الوادي، وقيل: من البحر. قال ابن عطية: المعنى: لم تحضر يا محمد هذه الغيوب التي تخبر بها، ولكنها صارت إليك بوحينا، أي فكان الواجب أن يسارع إلى الإيمان بك، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها زمناً زمناً، فعزبت حلومهم، واستحكمت جهالتهم وضلالتهم. وقال الزمخشري: الغرب: المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى من الطور، وكتب الله له في الألواح. والأمر المقضي إلى موسى: الوحي الذي أوحى إليه. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى، ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه، أو على الوحي إليه، وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات، حتى نقف من جملة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته، وكتب التوراة له في الألواح، وغير ذلك.
فإن قلت: كيف يتصل قوله: {ولكنا أنشأنا قروناً} بهذا الكلام، ومن أي جهة يكون استدراكاً؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكاً من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قروناً كثيرة، فتطاول على آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم.
{العمر}: أي أمد انقطاع الوحي، واندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة، ودل به على المسبب على عادة الله في اختصاره. فإذن، هذا الاستدراك شبيه للاستدراكين بعده. {وما كنت ثاوياً}: أي مقيماً في أهل مدين، هم شعيب والمؤمنون. {تتلوا عليهم آياتنا}: تقرأ عليهم تعلماً منهم، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه. ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها. {إذ نادينا}، يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه، ولكن علمناك. وقيل: {فتطاول عليهم العمر}، وفترت النبوة، ودرست الشرائع، وحرف كثير منها؛ وتمام الكلام مضمر تقديره: وأرسلناك مجدداً لتلك الأخبار، مميزاً للحق بما اختلف فيه منها، رحمة منا. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: وما كنت من الشاهدين في ذلك الزمان، وكانت بينك وبين موسى قرون تطاولت أعمارهم، وأنت تخبر الآن عن تلك الأحوال أخبار مشاهدة وعيان بإيحائنا، معجزة لك. وقيل: تتلو حال، وقيل: مستأنف، أي أنت الآن تتلو قصة شعيب، ولكنا أرسلناك رسولاً، وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار المنسية تتلوها عليهم، ولولاك ما أخبرتهم بما لم يشاهدوه.
وقال الفراء: {وما كنت عليهم} في أهل مدين مع موسى، فتراه وتسمع كلامه، وها أنت {تتلوا عليهم آياتنا}: أي على أمتك، فهو منقطع. انتهى. قيل: وإذا لم يكن حاضراً في ذلك المكان، فما معنى: {وما كنت من الشاهدين}؟ فقال ابن عباس: التقدير: لم تحضر ذلك الموضع، ولو حضرت، فما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك: ولا يشهد ولا يرى. وقال مقاتل: لم يشهد أهل مدين فيقرأ على أهل مكة خبرهم، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزلنا إليك هذه الأخبار، ولولا ذلك ما علمت. وقال الضحاك: يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين، تتلو عليهم آيات الكتاب، وإنما كان غيرك، ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً، فأرسلنا إلى مدين شعيباً، وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء. انتهى.
وقال الطبري: {إذ نادينا} بأن: {سأكتبها للذين يتقون} الآية. وعن أبي هريرة: أنه نودي من السماء حينئذ يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تسألوني، فحينئذ قال موسى عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة محمد. فالمعنى: إذ نادينا بأمرك، وأخبرناك بنبوتك. وقرأ الجمهور: {رحمة}، بالنصب، فقدر: ولكن جعلناك رحمة، وقدر أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى، وأبو حيوة: بالرفع، وقدر: ولكن هو رحمة، أو هو رحمة، أو أنت رحمة.
{لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير}: أي في زمن الفترة بينك وبين عيسى، وهو خمسمائة وخمسون عاماً ونحوه. وجواب {لولا} محذوف. والمعنى: لولا أنهم قائلون، إذ عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي، هلا أرسلت إلينا رسولاً؟ محتجين بذلك علينا ما أرسلنا إليهم: أي إنما أرسلنا الرسل إزالة لهذا العذر، كما قال: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} أن {تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} وتقدير الجواب: ما أرسلنا إليهم الرسل، هو قول الزجاج. وقال ابن عطية: تقديره: لعاجلناهم بما يستحقونه. والمصيبة: العذاب. ولما كان أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، عبر عن كل عمل باجتراح الأيدي، حتى أعمال القلوب، اتساعاً في الكلام، وتصيير الأقل تابعاً للأكثر، وتغليب الأكثر على الأقل. والفاء في {فيقولوا} للعطف على نصيبهم، ولولا الثانية للتحضيض. وفنتبع: الفاء فيه جواب للتحضيض.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف استقام هذا المعنى، وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل، ولكن العقوبة، لما كانت هي السبب للقول، فكان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناها إلى قولك: ولولا قولهم هذا، {إذا أصابتهم مصيبة} لما أرسلنا، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة، وهو أنهم لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم، وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين. لم يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولاً، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير، لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم. وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخهم فيه ما لا يخفى، كقولهم: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} انتهى.
{والحق}: هو الرسول، محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم. وقيل: القرآن، {مثل ما أوتي موسى}. {من قبل}: أي من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة، وانقلاب العصا حية، وفلق البحر، وغيرها من الآيات. اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليه كنز، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم. وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش، قالوا لهم. ألا يأتي بآية باهرة كآيات موسى، فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من هؤلاء في آيات الرسول. فالضمير في: {أو لم يكفروا} لليهود، قاله ابن عطية: وقيل: قائل ذلك العرب بالتعليم، كما قلنا. وقيل: قائل ذلك اليهود، ويظهر عندي أنه عائد على قريش الذين قالوا: {لولا أوتي}: أي محمد، {ما أوتي موسى}، وذلك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيب لموسى عليه السلام، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء هم من وادٍ واحد.
فمن نسب إلى أحد من الأنبياء ما لا يليق، كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء. وتتناسق الضمائر كلها في هذا، في قوله: {قل فأتوا بكتاب من عند الله} وإن كان الظاهر من القول إنه النطق اللساني، فقد ينطلق على الاعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من الآيات إنما هو من باب السحر.
وقال الزمخشري: {أو لم يكفروا}، يعني آباء جنسهم، ومن مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى {بما أوتي موسى}. وعن الحسن: قد كان للعرب أصل في أيام موسى، فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم؟ قالوا في موسى وهارون: {ساحران تظاهرا}، أي تعاوناً. انتهى. ومن قبل: يحتمل أن يتعلق بيكفروا، وبما أوتي. وقرأ الجمهور: ساحران. قال مجاهد: موسى وهارون. وقال الحسن: موسى وعيسى. وقال ابن عباس: موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن أيضاً: عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والكوفيون: سحران. قال ابن عباس: التوراة والقرآن. وقيل: التوراة والإنجيل، أو موسى وهارون جعلا سحرين على سبيل المبالغة. {تظاهرا}: تعاونا. قرأ الجمهور: تظاهرا: فعلاً ماضياً على وزن تفاعل. وقرأ طلحة، والأعمش: اظاهرا، بهمزة الوصل وشد الظاء، وكذا هي في حرف عبد الله، وأصله تظاهرا، فأدغم التاء في الظاء، فاجتلبت همزة الوصل لأجل سكون التاء المدغمة. وقرأ محبوب عن الحسن، ويحيى بن الحارث الذماري، وأبو حيوة، وأبو خلاد عن اليزيدي: تظاهرا بالتاء، وتشديد الظاء. قال ابن خالويه: وتشديده لحن لأنه فعل ماض، وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح: ولا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات: ولا معنى له. انتهى. وله تخريج في اللسان، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر، وساحران خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنتما ساحران تتظاهران؛ ثم أدغمت التاء في الظاهر وحذفت النون، وروعي ضمير الخطاب. ولو قرئ: يظاهرا، بالياء، حملاً على مراعاة ساحران، لكان له وجه، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا.
{وقالوا إنا بكل كافرون}: أي بكل من الساحرين أو السحرين، ثم أمره تعالى أن يصدع بهذه الآية، وهي قوله: {قل فأتوا}: أي أنتم أيها المكذبون، بهذه الكتب التي تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق، ونهت عن الكفر والنقائص، ووعد الله عليها الثواب الجزيل. إن كان تكذيبكم لمعنى {فأتوا بكتاب من عند الله} يهدي أكثر من هدي هذه، أتبعه معكم. والضمير في منها عائد على ما أنزل على موسى، وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم، وتعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق متيقن، أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم، كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين.
ويجوز أن يراد بالشرط التهكم بهم. وقرأ زيد بن علي: أتبعه، برفع العين الاستئناف، أي أنا أتبعه. {فإن لم يستجيبوا لك}، قال ابن عباس: يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج، ولم يمكنهم أن يأتوا بكتاب هو أفضل، والاستجابة تقتضي دعاء، وهو صلى الله عليه وسلم يدعو دائماً إلى الإيمان، أي فإن لم يستجيبوا لك بعدما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي أنزل، أو يكون قوله: {فأتوا بكتاب}، هو الدعاء إذ هو طلب منهم ودعاء لهم بأن يأتوا به. ومعلوم أنهم لا يستجيبون لأن يأتوا بكتاب من عند الله، فاعلم أنه ليس لهم إلا اتباع هوى مجرد، لا اتباع دليل. واستجاب: بمعنى أجاب، ويعدى للداعي باللام ودونها، كما قال: {فاستجاب له ربه} {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى} {فإن لم يستجيبوا لكم} وقال الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فعداه بغير لام. وقال الزمخشري: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، واستجاب له، فلا يكاد يقال استجاب له دعاءه. وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاء، على حذف المضاف. انتهى. {ومن أضل}: أي لا أحد أضل، و{بغير هدى}: في موضع الحال، وهذا الحال قيد في اتباع الهوى، لأنه قد يتبع الإنسان ما يهواه، ويكون ذلك الذي يهواه فيه هدى من الله، لأن الأهواء كلها تنقسم إلى ما يكون فيه هدى وما لا يكون فيه هدى، فلذلك قيد بهذه الحال. وقال الزمخشري: يعني مخذولاً مخلى بينه وبين هواه. انتهى، وهو على طريق الاعتزال.

.تفسير الآيات (51- 56):

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}
قرأ الجمهور: {وصّلنا}، مشدد الصاد؛ والحسن: بتخفيفها، والضمير في لهم لقريش. وقال رفاعة القرظي: نزلت في عشرة من اليهود، أنا أحدهم. قال الجمهور: وصلنا: تابعنا القرآن موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام. وقال الحسن: وفي ذكر الأمم المهلكة. وقال مجاهد: جعلناه أوصالاً من حيث كان أنواعاً من القول في معان مختلفة. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا، حتى كأنهم عاينوا الآخرة. وقال الأخفش: أتممنا لوصلك الشيء بالشيء، وأصل التوصل في الحبل، يوصل بعضه ببعض. وقال الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمتي ** بحبل ضعيف لا يزال يوصل

وهذه الأقوال معناها: توصيل المعاني فيه بها إليهم. وقالت فرقة: التوصيل بالنسبة إلى الألفاظ، أي وصلنا لهم قولاً معجزاً دالاً على نبوتك. وأهل الكتاب هنا جماعة من اليهود أسلمت، وكان الكفار يؤذونهم. أو بحيرا الراهب، أو النجاشي، أو سلمان الفارسي. وابن سلام، وأبو رفاعة، وابنه في عشرة من اليهود أسلموا. أو أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول قبل مبعثه، اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب، وثمانية قدموا من الشام: بحيرا، وأبرهة، وأشرف، وأربد، وتمام، وإدريس، ونافع، ورادأ ابن سلام، وتميم الداري، والجارود العبدي، وسلمان، سبعة أقوال آخرها لقتادة. والظاهر أنها أمثلة لمن آمن منهم، والضمير في به عائد على القول، وهو القرآن. وقال الفراء: عائد على الرسول، وقال أيضاً: إن عاد على القرآن، كان صواباً، لأنهم قد قالوا: إنه الحق من ربنا. انتهى.
{إنه الحق من ربنا}: تعليل للإيمان به، لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن نؤمن به. {إنا كنا من قبله مسلمين}: بيان لقوله: {آمنا به}، أي إيماننا به متقادم، إذ كان الآباء الأقدمون إلى آبائنا قرأوا ما في الكتاب الأول، وأعلموا بذلك الأبناء، فنحن مسلمون من قبل نزوله وتلاوته علينا، والإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي. وإيتاء الأجر مرتين، لكونه آمن بكتابه وبالقرآن؛ وعلل ذلك بصبرهم: أي على تكاليف الشريعة السابقة لهم، وهذه الشريعة وما يلقون من الأذى. وفي الحديث: «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي»، الحديث. {ويدرأون}: يدفعون، {بالحسنة}: بالطاعة، {السيئة}: المعصية المتقدمة، أو بالحلم الأذى، وذلك من مكارم الأخلاق. وقال ابن مسعود: يدفعون بشهادة أن لا إله إلاّ الله الشرك. وقال ابن جبير: بالمعروف المنكر. وقال ابن زيد: بالخير الشر. وقال ابن سلام: بالعلم الجهل، وبالكظم الغيظ. وفي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لمعاذ: «أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
و{اللغو}: سقط القول. وقال مجاهد: الأذى والسب. وقال الضحاك: الشرك. وقال ابن زيد: ما غيرته اليهود من وصف الرسول، سمعه قوم منهم، فكرهوا ذلك وأعرضوا. {ولكم أعمالكم}: خطاب لقائل اللغو المفهوم ذلك من قوله: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه}.
{سلام عليكم}، قال الزجاج: سلام متاركة لإسلام تحية. {لا نبتغي الجاهلين}: أي لا نطلب مخالطتهم. {إنك لا تهدي} من أحببت: أي لا تقدر على خلق الهداية فيه، ولا تنافي بين هذا وبين قوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} لأن معنى هذا: وإنك لترشد. وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب، وحديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حالة أن مات، مشهور. وقال الزمخشري: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت، لأنك لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره، ولكن الله يدخل في الإسلام من يشاء، وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه، وأن الألطاف تنفع فيه، فتقرب به ألطافه حتى يدعوه إلى القبول. {وهو أعلم بالمهتدين}: بالقابلين من الذين لا يقبلون. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال في أمر الألطاف. وقالوا: الضمير في وقالوا لقريش. وقيل، القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف: إنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، فذلك وإنما نحن أكلة رأس، أي قليلون أن يتخطفونا من أرضنا.
وقولهم: {الهدى معك}: أي على زعمك، فقطع الله حجتهمم، إذ كانوا، وهم كفار بالله، عباد أصنام قد أمنوا في حرمهم، والناس في غيره يتقاتلون، وهم مقيمون في بلد غير ذي زرع، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات، فكيف إذا آمنوا واهتدوا؟ فهو تعالى يمهد لهم الأرض، ويملكهم الأرض، كما وعدهم تعالى، ووقع ما وعد به؛ ووصف الحرم بالأمن مجاز، إذ الآمنون فيه هم ساكنوه. و{ثمرات كل شيء}: عام مخصوص، يراد به الكثرة. وقرأ المنقري: يتخطف، برفع الفاء، مثل قوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم} برفع الكاف، أي فيدرككم، أي فهو يدرككم. وقوله: من يفعل الحسنات الله يشكرها: أي فيتخطف، وفالله يشكرها، وهو تخريج شذوذ. وقرأ نافع وجماعة، عن يعقوب؛ وأبو حاتم، عن عاصم: تجبى، بتاء التأنيث، والباقون بالياء. وقرأ الجمهور: ثمرات، بفتحتين؛ وأبان بن تغلب: بضمتين؛ وبعضهم: بفتح الثاء وإسكان الميم. وانتصب رزقاً على أنه مصدر من المعنى، لأن قوله: {يجبى إليه ثمرات}: أي برزق ثمرات، أو على أنه مفعول له، وفاعل الفعل المعلل محذوف، أي نسوق إليه ثمرات كل شيء، وإن كان الرزق ليس مصدراً، بل بمعنى المرزوق، جاز انتصابه على الحال من ثمرات، ويحسن لك تخصيصاً بالإضافة. و{أكثرهم لا يعلمون}: أي جهلة، بأن ذلك الرزق هو من عندنا.