فصل: تفسير الآيات (14- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (14- 23):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)}
ذكر هذه القصة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان يلقى من أذى الكفار. فذكر ما لقي أول الرسل، وهو نوح، من أذى قومه، المدد المتطاولة، تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه. والواو في {ولقد} واو عطف، عطفت جملة على جملة. قال ابن عطية: والقسم فيها بعيد، يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه، وفيه حذف المجرور وإبقاء حرف الجار، وحرف الجر لا يعلق عن عمله، بل لابد له من ذكره. والظاهر أنه أقام في قومه هذه المدة المذكورة يدعوهم إلى الله. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه، من لدن مولده إلى غرق قومه. انتهى. وليس عندي محتملاً، لأن اللبث متعقب بالفاء الدالة على التعقيب، واختلف في مقدار عمره، حين كان بعث وحين مات، اختلافاً مضطرباً متكاذباً، تركنا حكايته في كتابنا، وهو في كتب التفسير. والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد، وفي كونه ثابتاً من لسان العرب خلاف مذكور في النحو، وقد عمل الفقهاء المسائل على جواز ذلك، وغاير بين تمييز المستثنى منه وتمييز المستثنى، لأن التكرار في الكلام الواحد مجتنب في البلاغة، إلا إذا كان لغرض من تفخيم، أو تهويل، أو تنويه. ولأن التعبير عن المدة المذكورة بما عبر به، لأن ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره، ولإزالة التوهم الذي يجيء مع قوله: تسعمائة وخمسون عاماً، بأن ذلك على سبيل المبالغة لا التمام، والاستثناء يرفع ذلك التوهم المجازي.
وتقدمت وقعة نوح بأكمل مما هنا، والخلاف في عدد من آمن ودخل السفينة. والضمير في {وجعلناها} يحتمل أن يعود على {السفينة}، وأن يعود على الحادثة والقصة، وأفرد {آية} وجاء بالفاصلة {للعالمين}، لأن إنجاء السفن أمر معهود. فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة، ولأنها بقيت أعواماً حتى مر عليها الناس ورأوها، فحصل العلم بها لهم، فناسب ذلك قوله: {للعالمين}، وانتصب {إبراهيم} عطفاً على {نوحاً}. قال ابن عطية: أو على الضمير في {فأنجيناه}. وقال هو والزمخشري: بتقدير اذكروا بدل منه، إذ بدل اشتمال منه، لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، وقد تقدّم لنا أن إذ ظرف لا يتطرف، فلا يكون مفعولاً به، وقد كثر تمثيل المعربين، إذ في القرآن بأن العامل فيها اذكر، وإذا كانت ظرفاً لما مضى، فهو لو كان منصرفاً، لم يجز أن يكون معمولاً لأذكر، لأن المستقبل لا يقع في الماضي، لا يجوز ثم أمس، فإن كان خلع من الظرفية الماضية وتصرف فيه، جاز أن يكون مفعولاً به ومعمولاً لأذكر.
وقرأ النخعي، وأبو جعفر، وأبو حنيفة، وإبراهيم: بالرفع، أي: ومن المرسلين إبراهيم. وهذه القصة تمثيل لقريش، وتذكير لحال أبيهم إبراهيم من رفض الأصنام، والدعوى إلى عبادة الله، وكان نمروذ وأهل مدينة عباد أصنام. وقرأ الجمهور: {وتخلقون}، مضارع خلق، {إفكاً}، بكسر الهمزة وسكون الفاء. وقرأ علي، والسلمي، وعون العقيلي، وعبادة، وابن أبي ليلى، وزيد بن علي: بفتح التاء والخاء واللام مشددة. قال ابن مجاهد: رويت عن ابن الزبير، أصله: تتخلقون، بتاءين، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي في المحذوفة. وقرأ زيد بن علي أيضاً، فيما ذكر الأهوازي: تخلقون، من خلق المشدد. وقرأ ابن الزبير، وفضيل بن زرقان: أفكاً، بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو مصدر مثل الكذب. قال ابن عباس: {وتخلقون إفكاً}، هو نحت الأصنام وخلقها، سماها إفكاً توسعاً من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة. وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك. وقال الزمخشري: إفكاً فيه وجهان: أحدهما: أن تكون مصدراً نحو: كذب ولعب، والإفك مخفف منه، كالكذب واللعب من أصلهما، وأن تكون صفة على فعل، أي خلقا إفكاً، ذا إفك وباطل، واختلافهم الإفك تسمية الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه، أو سمي الأصنام إفكاً، وعملهم لها ونحتهم خلقاً للإفك. انتهى.
وهذا الترديد منه في نحو: {وتخلقون إفكاً}، قولان لابن عباس ومجاهد، وقد تقدم لنا نقلهما عنهما ونفيهم بقوله: {لا يملكون لكم رزقاً} على جهة الاحتجاج بأمر يفهمه عامّتهم وخاصتهم، فقرر أن الأصنام لا ترزق، والرزق يحتمل أن يريد به المصدر: لا يملكون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق، واحتمل أن يكون اسم المرزوق، أي لا يملكون لكم إيتاء رزق ولا تحصيله، وخص الرزق لمكانته من الخلق. ثم أمرهم بابتغاء الرزق ممن هو يملكه ويؤتيه، وذكر الرزق لأن المقصود أنهم لا يقدرون على شيء منه، وعرفه بعد لدلالته على العموم، لأنه تعالى عنده الأرزاق كلها. {واشكروا له} على نعمة السابغة من الرزق وغيره. {وإليه ترجعون}: أي إلى جزائه، أخبر بالمعاد والحشر. ثم قال: {وإن تكذبوا}: أي ليس هذا مبتكراً منكم، وقد سبق ذلك من أمم الرسل، قيل: قوم شيث وإدريس وغيرهم. وروي أن إدريس عليه السلام عاش في قومه ألف سنة، فآمن به ألف إنسان على عدد سنيه، وباقيهم على التكذيب. {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، بخلاف عنه: تروا، بتاء الخطاب؛ وباقي السبعة: بالياء. والجمهور: يبدئ، مضارع أبدأ؛ والزبير. وعيسى، وأبو عمرو: بخلاف عنه: يبدأ، مضارع بدأ. وقرأ الزهري: {كيف بدأ الخلق}، بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفاً، فذهبت في الوصل، وهو تخفيف غير قياسي، كما قال الشاعر:
فارعى فزارة لا هناك المرتع...
وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين، وتقريرهم على رؤية بدء الخلق في قوله: {أو لم يروا}، وفي: {فانظروا كيف بدأ الخلق}، إنما هو لمشاهدتهم إحياء الأرض بالنبات، وإخراج أشياء من العدم إلى الوجود، وقوله: {ثم يعيده}، وقوله: {ثم الله ينشئ}، ليس داخلاً تحت الرؤية ولا تحت النظر، فليس {ثم يعيده} معطوفاً على يبدئ، ولا {ثم ينشئ} داخلاً تحت كيفية النظر في البدء، بل هما جملتان مستأنفتان، إخباراً من الله تعالى بالإعادة بعد الموت. وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه، صار واجباً مقطوعاً بعلمة، ولا شك فيه. وقال قتادة: {أو لم يروا}، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت؟ وقال الربيع بن أنس المعنى: كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر، حتى إلى التراب؟ وقال مقاتل: الخلق هنا الليل والنهار. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: النشاءة هنا، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة؛ وباقي السبعة: النشأة، على وزن فعلة، وهما كالرآفة والرأفة، وهما لغتان، والقصر أشهر، وانتصابه على المصدر، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء، وإما على إضمار فعله، أي فتنشئون النشأة.
وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله: {كيف يبدئ الله الخلق}، ثم أضمر في قوله {ثم يعيده}، وهنا عكس أضمر في بدا، ثم أبرزه في قوله: {ثم الله ينشئ}، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه. ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها، إذ كان نزاع الكفار فيها، فكأنه قيل: ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي {ينشئ النشأة الآخرة}، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه. والآخرة صفة للنشأة، فهما نشأتان: نشأة اختراع من العدم، ونشأة إعادة. ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها. ثم أخبر بأنه {يعذب من يشاء}، أي تعذيبه، {ويرحم من يشاء} رحمته، وبدأ بالعذاب، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل. {وإليه تقلبون}: أي تردون. وقال الزمخشري: ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. {وما أنتم بمعجزين}: أي فائتين ما أراد الله لكم. {في الأرض ولا في السماء}، إن حمل السماء على العلو فجائز، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو، ويكون تخصيصاً بعد تعميم، أو على المظلة، فيحتاج إلى تقرير، أي لو صرتم فيها، ونظيره قول الأعشى:
ولو كنت في جب ثمانين قامة ** ورقيت أسباب السماء بسلم

ليعتورنك القول حتى تهزه ** وتعلم أني فيك لست بمجرم

وقوله تعالى: {إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض} على تقدير الحكم لو كنتم فيها،
{والأرض فانفذوا} وقال ابن زيد، والفراء: التقدير: ولا من في السماء، أي يعجز إن عصى. وقال الفراء: وهذا من غوامض العربية، وأنشد قول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء

أي: ومن ينصره، وهذا عند البصريين لا يكون إلا في الشعر، لأن فيه حذف الموصول وإبقاء صلته. وأبعد من هذا القول قول من زعم أن التقدير: وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الإنس والجنّ، ولا من في السماء من الملائكة، فكيف تعجزون الله؟ وقرأ الجمهور: {يئسوا}، بالهمز؛ والذماري، وأبو جعفر: بغير همز، بل بياء بدل الهمزة، وهو وعيد، أي ييأسون يوم القيامة. وقيل: {من رحمتي}. وقيل: من ديني، فلا أهديهم. وقيل: هو وصف بحالهم، لأن المؤمن يكون دائماً راجياً خائفاً، والكافر لا يخطر بباله ذلك. شبه حالهم في انتفاء رحمته عنهم بحال من يئس من الرحمة. والظاهر أن قول: {وإن تكذبوا}، من كلام الله، حكاية عن إبراهيم، إلى قوله: {عذاب أليم}. وقيل: هذه الآيات اعتراض من كلام الله بين كلام إبراهيم والإخبار عن جواب قومه، أي وإن تكذبوا محمداً، فتقدير هذه الجملة اعتراضاً يردّ على أبي علي الفارسي، حيث زعم أن الأعتراض لا يكون جملتين فأكثر، وفائدة هذا الاعتراض أنه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان قد ابتلي بمثل ما كان أبوه إبراهيم قد ابتلي، من شرك قومه وعبادتهم الأوثان وتكذيبهم إياه ومحاولتهم قتله. وجاءت الآيات بعد الجملة الشرطية مقررة لما جاء به الرسول من توحيد الله ودلائله وذكر آثار قدرته والمعاد.

.تفسير الآيات (24- 35):

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}
لما أمرهم بعبادة الله، وبين سفههم في عبادة الأوثان، وظهرت حجته عليهم، رجعوا إلى الغلبة، فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم: {اقتلوه أو حرّقوه}. والآمرون بذلك، إما بعضهم لبعض، أو كبراؤهم قالوا لأتباعهم: اقتلوه، فتستريحوا منه عاجلاً، أو حرّقوه بالنار؛ فإما أن يرجع إلى دينكم، إذا أمضته النار؛ وإما أن يموت بها، إن أصر على قوله ودينه. وفي الكلام حذف، أي حرّقوه في النار، {فأنجاه الله من النار}. وتقدمت قصته في تحريقه في سورة {اقترب للناس حسابهم} وجمع هنا فقال: الآيات، لأن الإنجاء من النار، وجعلها برداً وسلاماً، وأنها في الحبل الذي كانوا أوثقوه به دون الجسم، وإن صح ما نقل من أن مكانها، حالة الرمي، صار بستاناً يانعاً، هو مجموع آيات، فناسب الجمع، بخلاف الإنجاء من السفينة، فإنه آية واحدة، وتقدم الكلام على ذلك، وفي ذلك إشارة من النار بعد إلقائه؛ فيما قال كعب: لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به. وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه، فقد يكون ذلك من قائلين: ناس أشاروا بالقتل، وناس أشاروا بالإحراق. وفي اقترب قالوا: {حرقوه} اقتصروا على أحد الشيئين، وهو الذي فعلوه، رموه في النار ولم يقتلوه.
وقرأ الجمهور: {جواب}، بالنصب؛ والحسن، وسالم الأفطس: بالرفع، اسماً لكان. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو عمرو في رواية الأصمعي، والأعمش عن أبي بكر: مودة بالرفع، وبينكم بالنصب. فالرفع على خبر إن، وما موصولة بمعنى الذي، أي إن الأوثان التي اتخذتموها مودوداً، أو سبب مودة، أو مصدرية، أي إن اتخاذكم أوثاناً مودة، أو على خبر مبتدأ محذوف، أي هي مودة بينكم، وما إذ ذاك مهيئة. وروي عن عاصم: مودة، بالرفع من غير تنوين؛ وبينكم بالفتح، أي بفتح النون، جعله مبنياً لإضافته إلى مبني، وهو موضع خفض بالإضافة، ولذلك سقط التنوين من مودة. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وابن كثير: كذلك، إلا أنه خفض نون بينكم. وقرأ ابن عامر، وعاصم: بنصب مودة منوناً ونصب بينكم؛ وحمزة كذلك، إلا أنه أضاف مودة إلى بينكم وخفض، كما في قراءة من نصب مودّة مهيئة. واتخذ، يحتمل أن يكون مما تعدت إلى اثنين، والثاني هو مودة، أي اتخذتم الأوثان بسبب المودة بينكم، على حذف المضاف، أو اتخذتموها مودّة بينكم، كقوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله} أو مما تعدت إلى واحد، وانتصب مودة على أنه مفعول له، أي ليتوادوا ويتواصلوا ويجتمعوا على عبادتها، كما يجتمع ناس على مذهب، فيقع التحاب بينهم. وذكروا عن ابن مسعود قراءة شاذة تخالف سواد المصحف، مع أنه قد روي عنه ما في سواد المصحف بالنقل الصحيح المستفيض، فلذلك لم أذكر تلك القراءة.
{ثم يوم القيامة} يقع بينكم التلاعن، أي فيلاعن العبدة والمعبودات الأصنام، كقوله: و{يكونون عليهم ضداً} و{بينكم}، و{في الحياة}: يجوز تعليقهما بلفظ مودة وعمل في ظرفين لاختلافهما، إذ هما ظرفا مكان وزمان، ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين، فيكونان في موضع الصفة، أي كائنة بينكم في الحياة في موضع الحال من الضمير المستكن في بينكم. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق {في الحياة}. باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة، لا على جعل ما موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية ورفع موده، لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر. وأجاز قوم منهم ابن عطية أن يتعلق {في الحياة} بمودة، وأن يكون {بينكم} صفة لمودة، وهو لا يجوز، لأن المصدر إذا وصف قبل أخذ متعلقاته لا يعمل، وشبهتهم في هذا أنه يتسع في الظرف، بخلاف المفعول به. وأجاز أبو البقاء أن يتعلق بنفس بينكم، قال: لأن معناه: اجتماعكم أو وصلكم. وأجاز أيضاً أن يجعله حالاً من بينكم، قال: لتعرفه بالإضافة. انتهى، وهما إعرابان لا يتعقلان.
{فآمن له لوط}: لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليه السلام، حين رأى النار لم تحرقه، وكان ابن أخي سارة، أو كانت بنت عمه. والضمير في {وقال} عائد على إبراهيم، وهو الظاهر، ليتناسق مع قوله: {ووهبنا له إسحاق}، وهو قول قتادة والنخعي. وقالت فرقة: يعود على لوط، وهاجر، وإبراهيم، عليهم السلام، من قريتهما كوثى، وهي في سواد العراق، من أرض بابل، إلى فلسطين من أرض الشأم. وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة، وهو أول من هاجر في الله. وقال ابن جريج: هاجر إلى حران، ثم إلى الشام، وفي هجرته هذه كانت معه سارة. والمهاجر: الفارغ عن الشيء، وهو في عرف الشريعة: من ترك وطنه رغبة في رضا الله. وعرف بهذا الاسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، المهاجرون، قبل فتح مكة. {إلى ربي}، أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها. وقيل: إلى حيث لا أمنع عبادة ربي. وقيل: مهاجراً من خالفني من قومي، متقرباً إلى ربي. ونزل إبراهيم قرية من أرض فلسطين، وترك لوطاً في سدوم، وهي المؤتفكة، على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام. {أنه هو العزيز} الذي لا يذل من عبده، {الحكيم} الذي يضع الأشياء مواضعها. والضمير في {ذريته} عائد على إبراهيم. {النبوة}: إسحاق، ويعقوب، وأنبياء بني إسرائيل، وإسماعيل، ومحمد خاتمهم، صلى الله وسلم عليهم أجمعين. {والكتاب}: اسم جنس يدخل فيه التوراة، والزبور، والإنجيل، والفرقان.
{وآتيناه أجره في الدنيا}: أي في حياته قال مجاهد: نجاته من النار، ومن الملك الجبار، والعمل الصالح: والثناء الحسن، بحيث يتولاه كل أمة وقال ابن جريج: والولد الذي قرت به عينه، قاله الحسن.
وقال السدي: إنه رأى مكانه من الجنة. وقال ابن أبي بردة: ما وفق له من عمل الآخرة. وقال الماوردي: بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لنبي غيره. وقيل: النبوة والحكمة. وقيل: الصلاة عليه إلى آخر الدهر. وانتصب لوطاً بإضمار اذكر، أو بالعطف على إبراهيم، أو بالعطف على ما عطف عليه إبراهيم. والجمهور: على الاستفهام في أئنكم معاً. وقرئ: أنكم على الخبر، والثاني على الاستفهام. وقال أبو عبيد: وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء، ورأيت الثاني بحرفين، الياء والنون. ولم يأت في قصة لوط أنه دعا قومه إلى عبادة الله، كما جاء في قصة إبراهيم وقصة شعيب، لأن لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه، وسبقه إبراهيم إلى الدعاء لعبادة الله وتوحيده، واشتهر أمره بذلك عند الخلق، فذكر لوط ما اختص به من المنع من الفحشاء وغيرها. وأما أبراهيم وشعيب فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله، فلذلك دعوا إلى عبادة الله.
قال الزمخشري: {ما سبقكم بها} جملة مستأنفة مقررة لفاحشة تلك الفعلة، كأن قائلاً قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل: لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها، حتى قدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم، قالوا: لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط. انتهى. ويظهر أن {ما سبقكم بها} جملة حالية، كأنه قال: أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها؟ واستفهم أولاً وثانياً استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، وبين ما تلك الفاحشة المبهمة في قوله: {إنكم لتأتون الفاحشة}، وإن كانت معينة أنها إتيان الذكور في الأدبار بقوله: {ما سبقكم بها}، فقال: {أئنكم لتأتون الرجال}: يعني في الأدبار، {وتقطعون السبيل}: الولد، بتعطيل الفرج ووطء أدبار الرجال، أو بإمساك الغرباء لذلك الفعل حتى انقطعت الطرق، أو بالقتل وأخذ المال، أو بقبح الأحدوثة حتى تنقطع سبل الناس في التجارات. {وتأتون في ناديكم}: أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه، وهو اسم جنس، إذ أنديتهم في مدائنهم كثيرة، ولا يسمى نادياً إلاّ ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه، لم يطلق عليه ناد إلاّ مجازاً.
و{المنكر}: ما تنكره العقول والشرائع والمروءات، حذف الناس بالحصباء، والاستخفاف بالغريب الخاطر، وروت أم هانئ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. أو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضاً، قاله منصور ومجاهد والقاسم بن محمد وقتادة بن زيد؛ أو تضارطهم؛ أو تصافعهم فيها، قاله ابن عباس؛ أو لعب الحمام؛ أو تطريف الأصابع بالحناء، والصفير، والحذف، ونبذ الحياء في جميع أمورهم، قاله مجاهد أيضاً، أو الحذف بالحصى، والرمي بالبنادق، والفرقعة، ومضغ العلك، والسواك بين الناس، وحل الأزرار، والسباب، والفحش في المزاح، قاله ابن عباس أيضاً مع شركهم بالله. كانت فيهم ذنوب غير الفاحشة، تظالم فيما بينهم، وبشاعة، ومضاريط في مجالسهم، وحذف، ولعب بالنرد والشطرنج، ولبس المصبغات، ولباس النساء للرجال، والمكوس على كل عابر؛ وهم أول من لاط ومن ساحق.
ولما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح، أصروا على اللجاج في التكذيب، فكان جوابهم له: {أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين}، فيما تعدنا به من نزول العذاب، قالوا ذلك وهم مصممون على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به. وفي آية أخرى: {إلاّ أن قالوا أخرجوا آل لوط}، الجمع بينهما أنهم أولاً قالوا: {ائتنا بعذاب الله}، ثم أنه كثر منه الإنكار، وتكرر ذلك منه نهياً ووعظاً ووعيداً، {قالوا أخرجوا آل لوط}. ولما كان إنما يأمرهم بترك الفواحش وما كانوا يصنعونه من قبيح المعاصي، ويعد على ذلك بالعذاب، وكانوا يقولون إن الله لم يحرم هذا ولا يعذب عليه وهو يقول إن الله حرمه ويعذب عليه، {قالوا ائتنا بعذاب الله}، فكانوا ألطف في الجواب من قوم إبراهيم بقولهم: {اقتلوه أو حرّقوه}، لأنه كان لا يذم آلهتهم، وعهد إلى أصنامهم فكسرها، فكان فعله هذا معهم أعظم من قول لوط لقومه، فكان جوابهم له: {أن قالوا اقتلوه أو حرقوه}.
ثم استنصر لوط عليه السلام، فبعث ملائكة لعذابهم، ورجمهم بالحاصب، وإفسادهم بحمل الناس على ما كانوا عليه من المعاصي طوعاً وكرهاً، وخصوصاً تلك المعصية المبتدعة. {بالبشرى}: هي بشارته بولده إسحاق، وبنافلته يعقوب، وبنصر لوط على قومه وإهلاكهم، و{القرية}: سدوم، وفيها قيل: أَجْوَر من قاضي سدوم. {كانوا ظالمين}: أي قد سبق منهم الظلم. واستمر على الأيام السالفة وهم مصرون، وظلمهم: كفرهم وأنواع معاصيهم. ولما ذكروا لإبراهيم: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية}، أشفق على لوط فقال: {إن فيها لوطاً}. ولما عللوا الإهلاك بالظلم، قال لهم: فيها من هو بريء من الظلم، {قالوا نحن أعلم بمن فيها}: أي منك، وأخبر بحاله. ثم أخبروه بإنجائهم إياه {وأهله إلاّ امرأته}. وقرأ حمزة، والكسائي: {لننجينه}، مضارع أنجى؛ وباقي السبعة: مضارع نجى؛ والجمهور: بشد النون؛ وفرقة: بتخفيفها.
{ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً}: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة، إلاّ أن هنا زيدت، أن بعد لما، وهو قياس مطرد. وقال الزمخشري أن صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما، كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان، كأنه قيل: لما أحس بمجيئهم، فاجأت المساءة من غير وقت خيفة عليهم من قومه. انتهى. وهذا الذي ذكره في الترتيب هو مذهب سيبويه، إذ مذهبه. أن لما: حرف لا ظرف، خلافاً للفارسي، وهذا مذكور في علم النحو. وقرأ العربيان، ونافع، وحفص: {منجوك}، مشدداً؛ وباقي السبعة: مخففاً، والكاف في مذهب سيبويه في موضع جر.
{وأهلك}: منصوب على إضمار فعل، أي وننجي أهلك. ومن راعى هذا الموضع، عطفه على موضع الكاف، والكاف على مذهب الأخفش وهشام في موضع نصب، وأهلك معطوف عليه، لأن هذه النون كالتنوين، وهما على مذهبهما يحذفان للطافة الضمير وشدة طلبه الاتصال بما قبله. وقرأ الجمهور: سيء، بكسر السين؛ وضمها نافع وابن عامر والكسائي. وقرأ عيسى، وطلحة: سوء، بضمها، وهي لغة بني هذيل. وبني وبير يقولون في قيل وبيع ونحوهما: قول وبوع. وقرئ: منزلون، مخففاً ومشدداً؛ وابن محيصن: رجزاً، بضم الراء؛ وأبو حيوة والأعمش: بكسر سين يفسقون. والظاهر أن الضمير في منها عائد على القرية، فقال ابن عباس: منازلهم الخربة. وحكى أبو سليمان الدمشقي أن الآية في قريتهم، إلا أن أساسها أعلاها، وسقوفها أسفلها إلى الآن. وقال الفراء: المعنى تركناها آية، يقول: إن في السماء لآية، يريد أنها آية. انتهى، وهذا لا يتجه إلا على زيادة من في الواجب، نحو قوله: أمهرت منها جبة وتيساً، يريد: أمهرتها؛ وكذلك: ولقد تركناها آية، وقيل: الهاء في منها عائدة على الفعلة التي فعلت بهم، فقيل: الآية: الحجارة التي أدركتها أوائل هذه الأمة، قاله قتادة؛ وقيل: الماء الاسود على وجه الأرض، قاله مجاهد؛ وقيل: أنجز ما صنع بهم. و{لقوم}: متعلق بتركنا، أو بينة.