فصل: تفسير الآيات (20- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 28):

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}
{سخر لكم}: تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع من تسخير {ما في السموات}: من الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب؛ {وما في الأرض}: من الحيوان، والنبات، والمعادن، والبحار، وغير ذلك؛ وذلك لا يكون إلا بمسخر من مالك متصرف كما يشاء. وقرأ ابن عباس، ويحيى بن عمارة: وأصبغ بالصاد، وهي لغة لبني كلب، يبدلونها من السين، إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صاداً؛ وباقي القراء: بالسين على الأصل. وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وأبو عمرو، وحفص: {نعمه}، جمعاً مضافاً للضمير؛ وباقي السبعة، وزيد بن علي: نعمة، على الإفراد. والظاهر أنه يراد بالنعمة الظاهرة: الإسلام، والباطنة: الستر. وعن الضحاك، الظاهرة: حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة: المعرفة. وقيل: الظاهرة: البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح، والباطنة: القلب والعقل والفهم. والذي ينبغي أن يقال: إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلاً. فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها، ولا يهتدي إلى العلم بها؟ وانتصب {ظاهرة} على الحال من {نعمه}، الجمع على الصفة، ومن نعمة على الإفراد. وتقدم الكلام على: {ومن الناس} إلى: {منير}، في الحج، وعلى ما بعده إلى: {آباءنا}، في نظيره في البقرة. {أوَلو}: كان تقديره: أيتبعونهم في أحوالهم؟ وفي هذه الحال التي لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء؟ لأنها حال تلف وعذاب. وقد تقدم لنا أن مثل هذا التركيب الذي فيه ولو، إنما يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون، نحو: اعطوا السائل ولو جاء على فرس، ردوا السائل ولو بظلف محرق، {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} وكذلك هذا، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا يتبع. وقرأ الجمهور: {ومن يسلم}، مضارع أسلم؛ وعلي، والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار: بتشديد اللام، مضارع سلم، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة، والمراد: التفويض إلى الله. {فقد استمسك بالعروة الوثقى}: تقدم الكلام عليه في البقرة. وقال الزمخشري، من باب التمثيل: مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه. انتهى. ولما ذكر حال الكافر المجادل، ذكر حال المسلم، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه. وقال ابن عطية: والعروة: موضع التعليق، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله، فشبه ذلك بالعروة. وسلى رسوله بقوله: {ومن كفر}، إلى آخره، وشبه إلزام العذاب وإرهاقهم إليه باضطرار من يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه، ولا الإنفكاك منه. والغلظ يكون في الإجرام، فاستعير للمعنى، والمراد: الشدة. {ليقولنّ الله}: أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن الله هو خالق العالم بأسره، ويدعون مع ذلك إلهاً غيره.
{قل الحمد لله} على ظهور الحجة عليهم. {بل أكثرهم لا يعلمون}: إضراب عن مقدر، تقديره: ليس دعواهم، نحو: لا يعلمون أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير الله لا يصح، ولا يذهب إليه ذو علم. ثم أخبر أنه مالك للعالم كله، وأنه هو الغني، فلا افتقار له لشيء من الموجودات. {الحميد}: المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم.
{ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام}: تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية. ولما ذكر تعالى أن ما في السموات والأرض ملك له، وكان ذلك متناهياً، بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها، فقال: {ولو أن ما في الأرض}، وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية، أي لو وقع أو ثبت على رأي المبرد، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره، وتقرر ذلك في علم النحو. و{من شجرة}: تبيين لما، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه، وتقديره: ولو أن الذي استقر في الأرض كائناً من شجرة وأقلام خبر لأن، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله: إن خبر أن الجائية بعد لو لا يكون اسماً جامداً ولا اسماً مشتقاً، بل يجب أن يكون فعلاً، وهو قول باطل، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه. قال الشاعر:
ولو أنها عصفورة لحسبتها ** مسومة تدعو عبيداً وأيماً

وقال الآخر:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر ** تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

وقال آخر:
ولو أن حياً فائت الموت فاته ** أخو الحرب فوق القارح القدوان

وهو كثير في لسانهم. والظاهر أن الواو في قوله: {والبحر}، في قراءة من رفع، وهم الجمهور، واو الحال؛ والبحر مبتدأ، و{يمده} الخبر، أي حال كون البحر ممدوداً. وقال الزمخشري: عطفاً على محل إن ومعمولها على ولو، ثبت كون الأشجار أقلاماً، وثبت أن البحر ممدوداً بسبعة أبحر. انتهى. وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد، حيث زعم أن {أن} في موضع رفع على الفاعلية. وقال بعض النحويين: هو عطف على أن، لأنها في موضع رفع بالإبتداء، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول: إن أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء، ولولا يليها المبتدأ اسماً صريحاً إلا في ضرورة شعر، نحو قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق ** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

فإذا عطفت والبحر على أن ومعموليها، وهما رفع بالابتداء، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ، إذ يصير التقدير: ولو البحر، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة، إلا أنه قد يقال: إنه يجوز في المعطوف عليه نحو: رب رجل وإخيه يقولان ذلك.
وقرأ عبد الله: وبحر يمده، بالتنكير بالرفع، والواو للحال، أو للعطف على ما تقدم؛ وإن كانت الواو واو الحال، كان بحر، وهو نكرة، مبتدأ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته، نحو قوله:
سرينا ونجم قد أضاء فقد بدا ** محياك أخفى ضوؤه كل شارق

وقرأ الجمهور: {يمده} بالياء، من مد؛ وابن مسعود، وابن عباس: بتاء التأنيث، من مد أيضاً؛ وعبد الله أيضاً، والحسن، وابن مطرف، وابن هرمز: بالياء من تحت، من أمد؛ وجعفر بن محمد: والبحر مداده، أي يكتب به من السواد. وقال ابن عطية: هو مصدر. انتهى. {من بعده}: أي من بعد نفاد ما فيه، {سبعة أبحر}: لا يراد به الاقتصار على هذا العدد، بل جيء للكثرة، كقوله: المؤمن من يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء، لا يراد به العدد، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة. ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعاً في الأصل للتكثير، وإن كان مراداً به التكثير، جاء مميزه بلفظ القلة، وهو أبحر، ولم يقل بحور، وإن كان لا يراد به أيضاً إلا التكثير، ليناسب بين اللفظين. فكما يجوز في سبعة، واستعمل للتكثر، كذلك يجوز في أبحر، واستعمل للتكثير. وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وكتب بها الكتاب كلمات الله.
{ما نفدت}، والمعنى: ولو أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، {ما نفدت}، ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده، كما قال: {لو كان البحر مداداً لكلمات ربي} الآية. وقال الزمخشري: فإن قلت: زعمت أن قوله: {والبحر يمده}، حال في أحد وجهي الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال، قلت: هو كقوله:
وقد اغتدي والطير في وكناتها

وجئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. يجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. انتهى. وهذا الذي جعله سؤالاً وجواباً من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدئون فيه، وهو أن الجملة الإسمية إذا كانت حالاً بالواو، لا يحتاج إلى ضمير يربط، واكتفى بالواو فيها. وأما قوله: وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف، فليس بجيد، لأن الظرف إذا وقع حالاً، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف. والجملة الاسمية إذا كانت حالاً بالواو، فليس فيها ضمير منتقل. وأما قوله: ويجوز، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين، حيث يجعلون أل عوضاً من الضمير. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: {من شجرة}، على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلاماً.
انتهى. وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع، والنكرة موقع المعرفة، ونظيره: {ما ننسخ من آية} {ما يفتح الله للناس من رحمة} {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} وكقول العرب: هو أول فارس، وهذا أفضل عالم، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب، وأول الفرسان. أخبروا بالمفرد والنكرة، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل، وهو مهيع في كلام العرب معروف. وكذلك يتقدر هذا من الشجرات، أو من الأشجار. وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به، ولا يحيط إلا الله تعالى.
وقرأ الجمهور: {ما نفدت كلمات الله}، بالألف والتاء. وقرأ زيد بن علي: كلمة الله، على التوحيد. وقرأ الحسن: ما نفد، بغير تاء، كلام الله. قال أبو علي: المراد بالكلمات، والله أعلم: ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود. وقالت فرقة: المراد بكلمات الله: معلوماته. وقال الزمخشري: فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والمواضع مواضع التكثير لا التقليل، فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أن كلماته لا تفي بكتبها البحار، فكيف بكلمة؟ انتهى. وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة، فجموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية، أو أضيفت، عمت وصارت لا تخص القليل، والعام مستغرق لجميع الأفراد. {إن الله عزيز}: كامل القدرة، فمقدوراته لا نهاية لها. {حكيم}: كامل العلم، فمعلوماته لا نهاية لها. ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر. {إلا كنفس واحدة}: إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتي: كونوا فيكونون، فالقليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت في قدرته. وقال النقاش: هذه الآية في أبيّ بن خلف، وأبي الأسد، ونبيه ومنبه ابني الحجاج، قالوا: يا محمد: إنا نرى الطفل يخلق بتدريج، وأنت تقول: الله يعيدنا دفعة واحدة، فنزلت. {إن الله سميع بصير}: سميع كل صوت، بصير كل مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض، فكذلك الخلق والبعث.

.تفسير الآيات (29- 34):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
{يولج الليل}: الجملتين شرحت في آل عمران وهنا. {إلى أجل}، ويدل على الأنتهاء، أي: يبلغه وينتهي إليه. وفي الزمر: {لأجل} ويدل على الاختصاص بجعل الجري مختصاً بإدراك أجل مسمى، وجري الشمس مختص بآخر السنة، وجري القمر بآخر الشهر؛ فكلا المعنيين متناسب لجريهما، فلذلك عدى بهما. وقرأ عياش، عن أبي عمرو: بما يعملون، بياء الغيبة. {ذلك بأن الله} الآية، تقدم شرحها في الحج وهنا. {وأن ما يدعون من دونه الباطل}، وفي الحج {من دونه هو الباطل} بزيادة هو. ولما ذكر تعالى تسخير النيرين وإمتنانه بذلك علينا، ذكر أيضاً من سخر الفلك من العالم الأرضي بجامع ما اشتركا فيه من الجريان. وقرأ الجمهور: {بنعمة الله} على الإفراد اللفظي. وقرأ الأعرج، والأعمش، وابن يعمر: بنعمات الله، بكسر النون وسكون العين جمعاً بالألف والتاء. وقرأ ابن أبي عبلة: بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء والباء، وتحتمل السببية: أي تجري بسبب الريح وتسخير الله، وتحتمل الحالية، أي مصحوبة بنعمة الله، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات. وقال ابن عطية: الباء للالصاق. انتهى. وقرأ موسى بن الزبير: {الفلك}، بضم اللام. و{صبار شكور}: بنيتا مبالغة، وفعال أبلغ لزيادة حروفه.
ولما تقدم ذكر جري الفلك في البحر، وكأن في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف، وتقدم ذكر النعمة، ناسب الختم بالصبر على ما يحذر، وبالشكر على ما أنعم به تعالى، وشبه الموج في ارتفاعه واسوداده واضطرابه بالظلل، وهو السحاب. وقيل: كالظلل: كالجبال، أطلق على الجبل ظلة. وقرأ محمد بن الحنفية: كالظلال، وهما جمع ظلة، نحو: قلة وقلل وقلال. وقوله: {وإذا غشيهم}، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في {ليريكم} إلى ضمير الغيبة في {غشيهم}. و{موج}: اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث، فهو يدل على الجمع، ولذلك شبهه بالجمع.
{فمنهم مقتصد}، قال الحسن: أي مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم. وقال مجاهد: مقتصد على كفره: أي يسلم لله ويفهم أن نحو هذا من القدرة، وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها. قيل: أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر. قال الزمخشري: يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا ينبغي لأحد قط. انتهى. وكثر استعمال الزمخشري قط ظرفاً، والعامل فيه غير ماضٍ، وهو مخالف لكلام العرب في ذلك. فقبل حذف مقابل فمنهم مؤمن مقتصد تقديره: ومنهم جاحد ودل عليه، قوله: {وما يجحد بآياتنا}. وعلى هذا القول يكون مقتصد معناه: مؤمن مقتصد في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء، موف بما عاهد الله عليه في البحر، وختم هنا ببنيتي مبالغة، وهما: {ختار}، و{كفور}. فالصبار الشكور معترف بآيات الله، والختار الكفور يجحد بها.
وتوازنت هذه الكلمات لفظاً ومعنىً. أما لفظاً فظاهر، وأما معنىً فالختار هو الغدار، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر، لأن الصبارّ يفوّض أمره إلى الله، وأما الغدار فيعهد ويغدر، فلا يصبر على العهد: وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة. ولما ذكر تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أوّل السورة، أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم.
{لا يجزي}: لا يقضي، ومنه قيل للمتقاضي: المتجازي، وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة. ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه، بدأ به أولاً، وأتى في الإسناد إلى الوالد بالفعل المقتضي للتجدد، لأن شفقته متجددة على الولد في كل حال، وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل، لأنه يدل على الثبوت، والثبوت يصدق بالمرة الواحدة. والجملة من لا يجزي صفة ليوم، والضمير محذوف، أي منه، فإما أن يحذف برمته، وإما على التدريج حذف الخبر، فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف. وقرأ الجمهور: لا يجزي مضارع جزى؛ وعكرمة: بضم الياء وفتح الزاي مبنياً للمفعول؛ وأبو السماك، وعامر بن عبد الله، وأبو السوار: لا يجزئ، بضم الياء وكسر الزاي مهموزاً، ومعناه: لا يغني؛ يقال: أجزأت عنك جزاء فلان: أي أغنيت. ويجوز في {ولا مولود} وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفاً على والد، والجملة من قوله: {هو جاز}، صفة لمولود. والثاني: أن يكون مبتدأ، وهو مبتدأ ثان، وجاز خبره، والجملة خبر للأول، وجاز الابتداء به، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك، وهو النفي. وذهل المهدوي فقال: لا يكون {مولود} مبتدأ، لأنه نكرة وما بعده صفة، فيبقى بلا خبر و{شيئاً} منصوب بجاز، وهو من باب الأعمال، لأنه يطلبه {لا يجزي} ويطلبه {جاز}، فجعلناه من أعمال الثاني، لأنه المختار. وقرأ ابن أبي إسحاق، وابن أبي عبلة، ويعقوب: نغرنكم، بالنون الخفيفة. وقرأ سماك بن حرب، وأبو حيوة: الغرور بالضم، وهو مصدر؛ والجمهور: بالفتح، وفسره ابن مجاهد والضحاك بالشيطان، ويمكن حمل قراءة الضم عليه جعل الشيطان نفس الغرور مبالغة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: قوله: {ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} هو وارد على طريق من التوكيد، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه. قلت: الأمر كذلك، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله: {هو}، وقوله: {مولود}، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئاً، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأن الولد يقع على الولد، وولد الولد بخلاف المولود، فإنه لمن ولد منك.
{إن الله عنده علم الساعة}: يروى أن الحارث بن عمارة المحاربي قال: يا رسول الله، أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ وإني لقد ألقيت حباتي في الأرض، وقد أبطأت عني السماء، متى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي، فقد اشتملت على ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟ وعلمت ما علمت أمس، فما أعمل غداً؟ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت؟ فنزلت. وفي الحديث: «خمس لا يعلمهنّ إلا الله»، وتلا هذه الآية. وعلم: مصدر أضيف إلى الساعة، والمعنى: علم يقين، وفيها: {وينزل الغيث} في آياته من غير تقديم ولا تأخير. {ما في الأرحام} من ذكر أم أنثى، تام أو ناقص، {وما تدري نفس}، برة أو فاجرة. {ماذا تكسب غداً} من خير أو شر، وربما عزمت على أحدهما فعلمت ضده. {بأي أرض تموت}: وربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به، ثم تدفن في مكان لم يحظر لها ببال قط. وأسند العلم إلى الله، والدراية للنفس، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة؛ ولذا وصف الله بالعالم، ولا يوصف بالداري. وأما قوله:
لاهم لا أدري وأنت الداري

فقول عربي جلف جاهلي، جاهل بما يطلق على الله من الصفات، وما يجوز منها وما يمتنع. وقرأ الجمهور: {بأي أرض}. وقرأ موسى الأسواري، وابن أبي عبلة: بأية أرض، بتاء التأنيث لإضافتها إلى الموت، وهي لغة قليلة فيهما. كما أن كلاًّ إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث، تقول: كلهنّ فعلن ذلك، وتدري معلقة في الموضعين. فالجملة من قوله: {ماذا تكسب} في موضع مفعول {تدري}، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولاً منصوباً بتدري، كأنه قال: وما تدري نفس الشيء التي تكسب غداً. وبأي متعلق بتموت، والباء ظرفية، أي: في أي أرض؟ فالجملة في موضع نصب بتدري. ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس، لأنها جواب لسائل سأل، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو، وهذه الخمس.