فصل: تفسير الآيات (21- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (21- 27):

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}
الظاهر أن الخطاب في قوله: {لقد كان لكم}، للمؤمنين، لقوله قبل: {ولو كانوا فيكم}، وقوله بعد: {لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر}. والمعنى: أنه، صلى الله عليه وسلم، لكم فيه الاقتداء. فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم، فكسرت رباعيته الكريمة، وشج وجهه الكريم، وقتل عمر، وأوذي ضروباً من الإيذاء؛ يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه، ولا عن مكان هو فيه، وتبذلوا أنفسكم دونه؛ فما حصل لكم من الهداية للإسلام أعظم من كل ما تفعلونه معه، صلى الله عليه وسلم، من النصرة والجهاد في سبيل الله، ويبعد قول من قال: إن خطاب للمنافقين. {واليوم الآخر}: يوم القيامة. وقيل: يوم السياق. و{أسوة}: اسم كان، و{لكم}: الخبر، ويتعلق {في رسول الله} بما يتعلق به {لكم}، أو يكون في موضع الحال، لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتاً بعد لأسوة، أو يتعلق بكان على مذهب من أجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف والمجرور، ويجوز أن يكون {في رسول الله} الخبر، ولكم تبيين، أي لكم، أعني: {لمن كان يرجوا الله}. قال الزمخشري: بدل من لكم، كقوله: {للذين استضعفوا لمن آمن منهم} انتهى. ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب، اسم ظاهر في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش، ويدل عليه قول الشاعر:
بكم قريش كفينا كل معضلة ** وأمّ نهج الهدى من كان ضليلاً

وقرأ الجمهور: إسوة بكسر الهمزة؛ وعاصم بضمها. والرجاء: بمعنى الأمل أو الخوف. وقرن الرجاء بذكر الله، والمؤتسي برسول الله، هو الذي يكون راجياً ذاكراً. ولما بين تعالى المنافقين وقولهم: {ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}، بين حال المؤمنين، وقولهم صدَّ ما قال المنافقون. وكان الله وعدهم أن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} الآية. فلما جاء الأحزاب، ونهض بهم للقتال، واضطربوا، {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله}، وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم، لأصحابه: «إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً»، أي في آخر تسع ليال أو عشر. فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وقيل: الوعد هو ما جاء في الآية مما وعده عليه السلام حين أمر بحفر الخندق، فإنه أعلمهم بأنهم يحضرون، وأمرهم بالاستعداد لذلك، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك. فلما رأوا الأحزاب قالوا ذلك، فسلموا الأول الأمر، وانتظروا آخره. وهذا إشارة إلى الخطب، إيماناً بالله وبما أخبر به الرسول مما لم يقع، كقولك: فتح مكة وفارس والروم، فالزيادة فيما يؤمن، لا في نفس الإيمان.
وقرأ ابن أبي عبلة: وما زادوهم، بالواو، وضمير الجمع يعود على الأحزاب، وتقول: صدقت زيداً الحديث، وصدقت زيداً في الحديث. وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر، وأصله ذلك، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه، ومنه قولهم في المثل: صدقني سن بكره، أي في سن بكره. فما عاهدوا، إما أن يكون على إسقاط الحرف، أي فيما عاهدوا، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: صدقوا الله، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد، كما تقول: صدقني أخوك إذا قال لك الصدق، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب. وكان المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفي لك، وهم وافون به، فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه، وكان مكذوباً. وهؤلاء الرجال، قال مقاتل والكلبي: هم أهل العقبة السبعون، أهل البيعة. وقال أنس: نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوفوا. وقال زيد بن رومان: بنو حارثة.
{فمنهم من قضى نحبه}، وهذا تجوز، لأن الموت أمر لابد منه أن يقع بالإنسان، فسمي نحباً لذلك. وقال مجاهد: قضى نحبه: أي عهده. قال أبو عبيدة: نذره. وقال الزمخشري: {فمنهم من قضى نحبه}، يحتمل موته شهيداً، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام. فالشهداء منهم، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه، ويصحح هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر؟ فدخل طلحة بن عبيد الله فقال: هذا ممن قضى نحبه. {ومنهم من ينتظر}: إذا فسر قضاء النحب بالشهادة، كان التقدير: ومنهم من ينتظر الشهادة؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام، كان التقدير: ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح. وقال مجاهد: ينتظر يوماً فيه جهاد، فيقضي نحبه. {وما بدلوا}: لا المستشهدون، ولا من ينتظر. وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحة»، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولوا الأدبار، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار.
{ليجزي الله الصادقين}: أي الذين {صدقوا ما عاهدوا الله عليه}، {بصدقهم}: أي بسبب صدقهم. {ويعذب المنافقين إن شاء}، وعذابهم متحتم. فكيف يصح تعليقه على المشيئة، وهو قد شاء تعذيبهم إذا وفوا على النفاق؟ فقال ابن عطية: تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والتوبة موازية لتلك الإقامة، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب. فهما درجتان: إقامة على نفاق، أو توبة منه.
وعنهما ثمرتان: تعذيب، أو رحمة. فذكر تعالى، على جهة الإيجاز، واحدة من هاتين، وواحدة من هاتين. ودل ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدلك على أن معنى قوله: {ليعذب}، أي: ليديم على النفاق، قوله: {إن شاء}، ومعادلته بالتوبة، وحذف أو. أنتهى. وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير: ليقيموا على النفاق، فيموتوا عليه، إن شاء فيعذبهم، أو يتوب عليهم فيرحمهم. فحذف سبب التعذيب، وأثبت المسبب، وهو التعذيب. وأثبت سبب الرحمة والغفران، وحذف المسبب، وهو الرحمة والغفران، وهذا من الإيجاز الحسن. وقال الزمخشري: ويعذيهم إن شاء إذا لم يتوبوا، ويتوب عليهم إذا تابوا. انتهى. ولا يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى، لأنه تعالى قد شاء ذلك وأخبر أنه يعذب المنافقين حتماً لا محالة. واللام في {ليجزي}، قيل: لام الصيرورة؛ وقيل: لام التعليل، ويتعلق بقوله: {وما بدلوا تبديلاً}. قال الزمخشري: جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما. وقال السدي: المعنى: إن شاء يميتهم على نفاقهم، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق بتقبلهم الإيمان. وقيل: يعذبهم في الدنيا إن شاء، ويتوب عليهم إن شاء. {إن الله كان غفوراً رحيماً}: غفوراً للحوية، رحيماً بقبول التوبة.
{ورد الله الذين كفروا} الأحزاب عن المدينة، والمؤمنين إلى بلادهم. {بغيظهم}: فهو حال، والباء للمصاحبة؛ و{لم ينالوا}: حال ثانية، أو من الضمير في بغيظهم، فيكون حالاً متداخلة. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى، أو استئنافاً. انتهى. ولا يظهر كونها بياناً للأولى، ولا للاستئناف، لأنها تبقى كالمفلتة مما قبلها. {وكفى الله المؤمنين القتال}، بإرسال الريح والجنود، وهم الملائكة، فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار. وقيل: المراد علي بن أبي طالب ومن معه، برزوا للقتال ودعوا إليه. وقتل علي من الكفار عمرو بن عبيد مبارزة، حين طلب عمرو المبارزة، فخرج إليه علي، فقال: إني لا أوثر قتلك لصحبتي لأبيك، فقال له علي: فأنا أوثر قتلك، فقتله علي مبارزة. واقتحم نوفل بن الحارث، من قريش، الخندق بفرسه، فقتل فيه. وقتل من الكفار أيضاً: منبه بن عثمان، وعبيد بن السباق. واستشهد من المسلمين، في غزوة الخندق: معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، وأبو عمرو، وهم من بني عبد الأشهل؛ والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمه، وهما من بني سلمة؛ وكعب بن زيد، من بني ذبيان بن النجار، أصابه سهم غرب فقتله. ولم تغز قريش المسلمين بعد الخندق، وكفى الله مداومة القتال وعودته بأن هزمهم بعد ذلك، وذلك بقوته وعزته. وعن أبي سعيد الخدري: حبسنا يوم الخندق، فلم نصل الظهر، ولا العصر، ولا المغرب، ولا العشاء، حتى كان بعد هوي من الليل، كفينا وأنزل الله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال}، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلالاً، فأقام وصلى الظهر فأحسنها، ثم كذلك كل صلاة بإقامة.
{وأنزل الذين ظاهروهم}: أي أعانوا قريشاً ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب، هم يهود بني قريظة، كما هو قول الجمهور. وعن الحسن: بنو النضير. وقذف الرعب سبب لإنزالهم، ولكنه قدم المسبب، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم قدم. وقال رجل: يا رسول الله، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليهم قطيفة ديباج، فقال: «ذلك جبريل، عليه السلام، بعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم» ولما رجعت الأحزاب، جاء جبريل وقت الظهر فقال: إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة. فنادى في الناس: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فخرجوا إليها، فمصل في الطريق، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال؛ ومصل بعد العشاء، وكل مصيب. فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: خمسة عشر. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي، لحلف كان بينهم، رجوا حنوه عليهم، فحكم أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرية والعيال والأموال، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار. فقالت له الأنصار في ذلك، فقال: أردت أن يكون لهم أموال كما لكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة»، ثم استنزلهم، وخندق لهم في سوق المدينة، وقدمهم فضرب أعناقهم، وهم من بين ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل: كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وجيء يحيي بن أخطب النضيري، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عندهم وفاء لهم، فترك فيمن ترك على حكم سعد. فلما قرب، وعليه حلتان تفاحيتان، مجموعة يداه إلى عنقه، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل. ثم قال: أيها الناس، إنه لا بأس أمر الله وقدره، ومحنة كتبت على بني إسرائيل، ثم تقدم فضربت عنقه. وقال فيه بعض بني ثعلبة:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ** ولكنه من يخذل الله يخذل

لا جهد حتى أبلغ النفس عذرها ** وقلقل يبغي الغد كل مقلقل

وقتل من نسائهم امرأة، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي، كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتل؛ ولم يستشهد في حصار بني قريظة غيره. ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن، أخو عكاشة بن محصن، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.
وقرأ الجمهور: وتأسرون، بتاء الخطاب وكسر السين؛ وأبو حيوة: بضمها؛ واليماني: بياء الغيبة؛ وابن أنس، عن ابن ذكوان: بياء الغيبة في: {تقتلون وتأسرون}. {وأورثكم}: فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين ومن نقلهم من أرضهم، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزرع، ولأنهم باستيلائهم عليها ثانياً وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد، ولأنها كانت في بيوتهم، فوقع الاستيلاء عليها ثالثاً. {وأرضاً لم تطؤها}: وعد صادق في فتح البلاد، كالعراق والشام واليمن ومكة، وسائر فتوح المسلمين. وقال عكرمة: أخبر تعالى أن قد قضى بذلك. وقال الحسن: أراد الروم وفارس. وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة. وقال مقاتل، ويزيد بن رومان، وابن زيد: هي خيبر؛ وقيل: اليمن؛ ولا وجه لهذه التخصيصات، ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وقرأ الجمهور: تطؤوها، بهمزة مضمومة بعدها واو. وقرأ زيد بن علي: لم تطوها، بحذف الهمزة، أبدل همزة تطأ ألفاً على حد قوله:
إن السباع لتهدا في مرابضها ** والناس لا يهتدى من شرهم أبدا

فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت، كقولك: لم تروها. وختم تعالى: هذه الآية بقدرته على كل شيء، فلا يعجزه شيء، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، وأنه لا يستبعد ذلك، فكما ملكهم هذه، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد.

.تفسير الآيات (28- 35):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)}
سبب نزولها أن أزواجه، صلى الله عليه وسلم، تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة، فنزلت. ولما نصر الله نبيه وفرق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلى والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق. وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن؛ وأزواجه إذ ذاك تسع: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سملة بنت أبي أمية، وهؤلاء من قريش. ومن غير قريش: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية.
وقال أبو القاسم الصيرفي: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة، وأمر بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن، وكان تحته عشر نساء، زاد الحميرية، فاخترن الله ورسوله إلا الحميرية. وروي أنه قال لعائشة، وبدأ بها، وكانت أحبهن إليه: «إن ذاكر لك أمراً، ولا عليك أن لا تعجلي فيه تستأمري أبويك» ثم قرأ عليها القرآن، فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، لا تخبر أزواجك أني اخترتك، فقال: «إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً» والظاهر أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها، متعهن رسول الله وطلقهن، وأنه ليس باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أن يوقعه هو. وقال الأكثرون: هي آية تخيير، فإذا قال لها: اختاري، فاختارت زوجها، لم يكن ذلك طلاقاً. وعن علي: تكون واحدة رجعية، وإن اختارت نفسها، وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول علي؛ وواحدة رجعية عند الشافعي، وهو قول عمر وابن مسعود؛ وثلاث عند مالك. وأكثر الناس ذهبوا إلى أن الآية في التخيير والطلاق، وهو قول علي والحسن وقتادة، قال هذا القائل. وأما أمر الطلاق فمرجأ، فإن اخترن أنفسهن، نظر هو كيف يسرحهن، وليس فيها تخيير في الطلاق، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات، وهو قد قال: {وأسرحكن سراحاً جميلاً}، وليس مع بت الطلاق سراح جميل. انتهى.
والذي يدل عليه ظاهر الآية هو ما ذكرناه أولاً من أنه علق على إرادتهن زينة الحياة الدنيا وقوع التمتيع والتسريح منه، والمعنى في الآية: أنه كان عظيم همكن ومطلبكن التعمق في الدنيا ونيل نعيمها وزينتها.
وتقدم الكلام في: {فتعالين} في قوله تعالى: {قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} في آل عمران. {أمتعكن}، قيل: المتعة واجبة في الطلاق؛ وقيل: مندوب إليها.
والأمر في قوله: {ومتعوهن} يقتضي الوجوب في مذهب الفقهاء، وتقدم الكلام في ذلك، وفي تفصيل المذاهب في البقرة. والتسريح الجميل إما في دون البيت، أو جميل الثناء، والمعتقد وحسن العشرة إن كان تاماً. وقرأ الجمهور: {أمتعكن}، بالتشديد من متع؛ وزيد بن علي: بالتخفيف من أمتع، ومعنى {أعد}: هيأ ويسر، وأوقع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم، وهو الإحسان، كأنه قال: أعدلكن، لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسناً. وقراءة حميد الخراز: {أمتعكن وأسرحكن}، بالرفع على الاستئناف؛ والجمهور: بالجزم على جواب الأمر، أو على جواب الشرط، ويكون {فتعالين} جملة اعتراض بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض، ومثل ذلك قول الشاعر:
واعلم فعلم المرء ينفعه ** إن سوف يأتي كل ما قدرا

ثم نادى نساء النبي، ليجعلن بالهن مما يخاطبن به، إذا كان أمراً يجعل له البال. وقرأ زيد بن علي، والجحدري، وعمرو بن فائد الأسواري، ويعقوب: تأت، بتاء التأنيث، حملاً على معنى من؛ والجمهور: بالياء، حملاً على لفظ من. {بفاحشة مبينة}: كبيرة من المعاصي، ولا يتوهم أنها الزنا، لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك، ولأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي، لزمهن بسبب ذلك. وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: {يضاعف}، بألف وفتح العين؛ والحسن، وعيسى، وأبو عمرو: بالتشديد وفتح العين؛ والجحدري، وابن كثير، وأبو عامر: بالنون وشد العين مكسورة؛ وزيد بن علي، وابن محيصن، وخارجة، عن أبي عمرو: بالألف والنون والكسر؛ وفرقة: بياء الغيبة والألف والكسر. ومن فتح العين رفع {العذاب}، ومن كسرها نصبه. {ضعفين}: أي عذابين، فيضاف إلى عذاب سائر الناس عذاب آخر. وقال أبو عبيدة، وأبو عمرو فيما حكى الطبري عنهما: إنه يضاف إلى العذاب عذابان، فتكون ثلاثة. وكون الأجر مرتين بعد هذا القول، لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة. {وكان ذلك}: أي تضعيف العذاب عليهن، {على الله يسيراً}: أي سهلاً، وفيه إعلام بأن كونهن نساء، مع مقارفة الذنب، لا يغني عنهن شيئاً، وهو يغني عنهن، وهو سبب مضاعفة العذاب.
{ومن يقنت}: أي يطع ويخضع بالعبودية لله، وبالموافقة لرسوله. وقرأ الجمهور: ومن يقنت بالمذكر، حملاً على لفظ من، وتعمل بالتاء حملاً على المعنى. {نؤتها}: بنون العظمة. وقرأ الجحدري، والأسواري، ويعقوب، في رواية: ومن تقنت بتاء التأنيث، حملاً على المعنى، وبها قرأ ابن عامر في رواية، ورواها أبو حاتم عن أبي جعفر وشيبة ونافع. وقال ابن خالويه: ما سمعت أن أحداً قرأ: ومن يقنت، إلا بالتاء.
وقرأ السلمي، وابن وثاب، وحمزة، والكسائي: بياء من تحت في ثلاثتها. وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ: ومن يقنت بالياء، حملاً على المعنى، ويعمل بالياء حملاً على لفظ من قال؛ فقال بعض النحويين: هذا ضعيف، لأن التذكير أصل لا يجعل تبعاً للتأنيث، وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن، وهو قوله تعالى: {خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} انتهى. وتقدم الكلام على {خالصة} في الأنعام. والرزق الكريم: الجنة. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون في ذلك وعد دنياوي، أي أن أرزاقها في الدنيا على الله، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد، وبرضا من الله في نيله. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا، ثم عذاب الآخرة؛ وكذلك الأجر، وهو ضعيف. انتهى. وإنما ضوعف أجرهن لطلبهن رضا رسول الله، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة والتوقر على عبادة الله
. {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء}: أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء، أي من نساء عصرك. وليس النفي منصباً على التشبيه في كونهن نسوة. تقول: ليس زيد كآحاد الناس، لا تريد نفي التشبيه عن كونه إنساناً، بل في وصف أخص موجود فيه، وهو كونه عالماً، أو عاملاً، أو مصلياً. فالمعنى: أنه يوجد فيكن من التمييز ما لا يوجد في غيركن، وهو كونكن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين. ونزل القرآن فيكن، فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال، كما قال عليه السلام: «لست كأحدكم»، كذلك زوجاته اللاتي تشرفن به. وقال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى وحد، وهو الواحد؛ ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة، لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، ومنه قوله عز وجل: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} يريد بين جماعة واحدة منهم، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين. انتهى. أما قوله: أحد في الأصل بمعنى: وحد، وهو الواحد فصحيح. وأما قوله: ثم وضع، إلى قوله: وما وراءه، فليس بصحيح، لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحداً، لأن واحد ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة، وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل. وذكر النحويون أن مادته همزة وحاء ودال، ومادة أحد بمعنى وحد أصله واو وحاء ودال، فقد اختلفا مادة ومدلولاً. وأما قوله: {لستن} كجماعة واحدة، فقد قلنا: إن قوله {لستن} معناه: ليست كل واحدة منكن، فهو حكم على كل واحدة واحدة، ليس حكماً على المجموع من حيث هو مجموع. وقلنا: إن معنى كأحد: كشخص واحد، فأبقينا أحداً على موضوعه من التذكير، ولم نتأوله بجماعة واحدة.
وأما {ولم يفرقوا بين أحد منهم} فاحتمل أن يكون الذي للنفي العام، ولذلك جاء في سياق النفي، فعم وصلحت البينية للعموم. واحتمل أن يكون أحد بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف، أي بين واحد وواحد من رسله، كما قال الشاعر:
فما كان بين الخير لوجا سالماً ** أبو حجر إلا ليال قلائل

أي: لستن مثلهن إن اتقيتن الله، وذلك لما انضاف مع تقوى الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في بيتهن وفي حقهن. وقال الزمخشري: {إن اتقيتن}: إن أردتن التقوى، وإن كن متقيات. {فلا تخضعن بالقول}: فلا تجبن بقولكنّ خاضعاً، أي ليناً خنثاً، مثل كلام المريبات والمومسات. {فيطمع الذي في قلبه مرض}: أي ريبة وفجوراً. انتهى. فعلى القول الأول يكون {إن اتقيتن} قيداً في كونهن لسن كأحد من النساء، ويكون جواب الشرط محذوفاً. وعلى ما قاله الزمخشري، يكون {إن اتقيتن} ابتداء شرط، وجوابه {فلا تخضعن}، وكلا القولين فيهما حمل. {إن اتقيتن} على تقوى الله تعالى، وهو ظاهر الاستعمال، وعندي أنه محمول على أن معناه: إن استقبلتن أحداً، {فلا تخضعن}. واتقى بمعنى: استقبل معروف في اللغة، قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ** فتناولته واتقتنا باليد

أي: استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن، إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى، ولا علق نهيهن عن الخضوع بها، إذ هن متقيات لله في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى. قال ابن عباس: لا ترخصن بالقول. وقال الحسن: لا تكلمن بالرفث. وقال الكلبي: لا تكلمن بما يهوى المريب. وقال ابن زيد: الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل. وقيل: لا تلن للرجال القول. أمر تعالى أن يكون الكلام خيراً، لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللين، كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه، مثل كلام المومسات، فنهاهن عن ذلك، وقال الشاعر:
يتكلم لو تستطيع كلامه ** لانت له أروى الهضاب الصخر

وقال آخر:
لو أنها عرضت لأشمط راهب ** عبد الإله ضرورة المتعبد

لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ** ولحالها رشداً وإن لم يرشد

وقرأ الجمهور: {فيطمع}، بفتح الميم ونصب العين، جواباً للنهي؛ وأبان بن عثمان، وابن هرمز: بالجزم، فكسرت العين لالتقاء الساكنين، نهين عن الخضوع بالقول، ونهى مريض القلب عن الطمع، كأنه قيل: لا تخضع فلا تطمع. وقراءة النصب أبلغ، لأنها تقتضي الخضوع بسبب الطمع. وقال أبو عمرو الداني: قرأ الأعرج وعيسى: فيَطمِع، بفتح الياء وكسر الميم. ونقلها ابن خالويه عن أبي السماء، قال: وقد روي عن ابن محيصن، وذكر أن الأعرج، وهو ابن هرمز، قرأ: فيُطمِعَ، بضم الياء وفتح العين وكسر الميم، أي فيطمع هو، أي الخضوع بالقول؛ والذي مفعول، أو الذي فاعل والمفعول محذوف، أي فيطمع نفسه.
والمرض، قال قتادة: النفاق؛ وقال عكرمة: الفسق والغزل. {وقلن قولاً معروفاً}: والمحرم، وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول. قال ابن عباس: المرأة تندب إذا خالطت الأجانب، عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول من غير رفع الصوت، فإنها مأمورة بخفض الكلام. وقال الكلبي: معروفاً صحيحاً، بلا هجر ولا تمريض. وقال الضحاك: عنيفاً؛ وقيل: خشناً حسناً؛ وقيل: معروفاً، أي قولاً أُذن لكم فيه؛ وقيل: ذكر الله وما يحتاج إليه من الكلام.
وقرأ الجمهور: وقِرن، بكسر القاف، من وقر يقر إذا سكن وأصله، أوقرن، مثل عدن من وعد. وذكر أبو الفتح الهمداني، في كتاب التبيان، وجهاً آخر قال: قار يقار، إذا اجتمع، ومنه القارة لاجتماعها. ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة؟ فالمعنى: اجمعن أنفسكن في بيوتكن. {وقرن}: أمر من قار، كما تقول: خفن من خاف؛ أو من القرار، تقول: قررت بالمكان، وأصله: واقررت، حذفت الراء الثانية تخفيفاً، كما حذفوا لام ظللت، ثم نقلت حركتها إلى القاف فذهبت ألف الوصل. وقال أبو علي: أبدلت الراء ونقلت حركتها إلى القاف، ثم حذفت الياء لسكوتها وسكون الراء بعدها. انتهى، وهذا غاية في التحميل كعادته. وقرأ عاصم ونافع: بفتح القاف، وهي لغة العرب؛ يقولون: قررت بالمكان، بكسر الراء وبفتح القاف، حكاه أبو عبيد والزجاج وغيرهما، وأنكرها قوم، منهم المازني، وقالوا: بكسر الراء، من قرت العين، وبفتحها من القرار. وقرأ ابن أبي عبلة: واقررن، بألف الوصل وكسر الراء الأولى. وتقدم لنا الكلام على قررت، وأنه بالفتح والكسر من القرار ومن القرة. أمرهن تعالى بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية بكت حتى تبل خمارها، تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب بدم عثمان. وقيل لسودة: لم لا تحجين وتعتمرين كما يفعل إخوانك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي، فما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها.
{ولا تبرجن}، قال مجاهد وقتادة: التبرج: التبختر والتغنج والتكسر. وقال مقاتل: تلقي الخمار على وجهها ولا تشده. وقال المبرد: تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره. و{الجاهلية الأولى}: يدل على أن ثم جاهلية متقدمة وأخرى متأخرة. فقيل: هما ابنان لآدم، سكن أحدهما الجبل، فذكور أولاده صباح وإناثهم قباح؛ والآخر السهل، وأولاده على عكس ذلك. فسوى لهم إبليس عيداً يجتمع جميعهم فيه، فمال ذكور الجبل إلى إناث السهل وبالعكس، فكثرت الفاحشة، فهو تبرج الجاهلية الأولى. وقال عكرمة والحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، كان الرجال صباحاً والنساء قباحاً، فكانت المرأة تدعو الرجل إلى نفسها.
وقال ابن عباس أيضاً: الجاهلية الأولى ما بين إدريس ونوح، كانت ألف سنة، تجمع المرآة بين زوج وعشيق. وقال الكلبي وغيره: ما بين نوح وإبراهيم. قال مقاتل: زمن نمروذ، بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق. وقال الزمخشري: والجاهلية الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم. كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال أبو العالية: من داود وسليمان، كان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين، يظهر منه الأكعاب والسوأتان. وقال المبرد: كانت المرأة تجمع بين زوجها وحلمها، للزوج نصفها الأسفل، وللحلم نصفها، يتمتع به في التقبيل والترشف. وقيل: ما بين موسى وعيس. وقال الشعبي: ما بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. وقال مقاتل: الأولى زمن إبراهيم، والثانية زمن محمد، عليه الصلاة والسلام، قبل أن يبعث. وقال الزجاج: الأشبه قول الشعبي، لأنهم هم الجاهلية المعروفون، كانوا يتخذون البغايا. وإنما قيل الأولى، لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أولى، وهم أول من أمة محمد، عليه الصلاة والسلام. وقال عمر لابن عباس: وهل كانت الجاهلية إلا واحدة؟ فقال ابن عباس: وهل كانت الأولى إلا ولها آخرة؟ فقال عمر: لله درك يا ابن عباس.
وقال الزمخشري: والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن يكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكان المعنى: ولا يجدكن بالتبرج جاهلية في الإسلام يتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. ويعضده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي الدرداء: «إن فيك جاهلية»، قال: جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال: «بل جاهلية كفر» انتهى. والمعروف في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام إنما قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، لأبي ذر، رضي الله عنه. وقال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي خصها، فأمرن بالنقلة من سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر، ولأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وكان أمر النساء دون حجبة، وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى. وقد مر إطلاق اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء. وقال ابن عباس في البخاري: سمعت، أي في الجاهلية إلى غير هذا. انتهى.
{وأقمن الصلاة}: أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة، إذ هما عمودا الطاعة البدنية والمالية، ثم جاء بهما في عموم الأمر بالطاعة، ثم بين أن نهيهن وأمرهن ووعظهن إنما هو لإذهاب المأثم عنهن وتصونهن بالتقوى.
واستعار الرجس للذنوب، والطهر للتقوى، لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها ويتلوث، كما يتلوث بدنه بالأرجاس. وأما الطاعات، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة تنفير عما نهى الله عنه، وترغيب فيما أمر به. والرجس يقع على الإثم، وعلى العذاب، وعلى النجاسة، وعلى النقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت. وقال الحسن: الرجس هنا: الشرك. وقال السدي: الإثم. وقال ابن زيد: الشيطان. وقال الزجاج: الفسق؛ وقيل: المعاصي كلها، ذكره الماوردي. وقيل: الشك؛ وقيل: البخل والطبع؛ وقيل: الأهواء والبدع. وانتصب أهل على النداء، أو على المدح، أو على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه:
بل الله نرجو الفضل ** وأكثر ما يكون في المتكلم وقوله:

نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق

ولما كان أهل البيت يشملهن وآباءهن، غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في: {عنكم}، {ويطهركم}. وقول عكرمة، ومقاتل، وابن السائب: أن أهل البيت في هذه الآية مختص بزوجاته عليه السلام ليس بجيد، إذ لو كان كما قالوا، لكان التركيب: عنكن ويطهركن، وإن كان هذا القول مروياً عن ابن عباس، فلعله لا يصح عنه. وقال أبو سعيد الخدري: هو خاص برسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين. وروي نحوه عن أنس وعائشة وأم سلمة. وقال الضحاك: هم أهله وأزواجه. وقال زيد بن أرقم، والثعلبي: بنو هاشم الذين يحرمون الصدقة آل عباس، وآل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، ويظهر أنهم زوجاته وأهله، فلا تخرج الزوجات عن أهل البيت، بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم لملازمتهن بيته، عليه الصلاة والسلام. وقال ابن عطية: والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك ألبتة، فأهل البيت: زوجاته وبنته وبنوها وزوجها. وقال الزمخشري: وفي هذا دليل على أن نساء النبي من أهل بيته. ثم ذكر لهن أن بيوتهن مهابط الوحي، وأمرهن أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: وهو آيات بينات تدل على صدق النبوة، لأنه معجز بنظمه، وهو حكمة وعلوم وشرائع. {إن الله كان لطيفاً خبيراً}، حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم، أو علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن تكونوا أهل بيته، أو حيث جعل الكلام جامعاً بين الغرضين. انتهى. واتصال {واذكرن} بما قبله يدل على أنهن من البيت، ومن لم يدخلهن قال: هي ابتداء مخاطبة. {واذكرن}، إما بمعنى احفظن وتذكرنه، وإما اذكرنه لغيركن واروينه حتى ينقل. و{من آيات الله}: هو القرآن، {والحكمة}: هي ما كان من حديثه وسنته، عليه الصلاة والسلام، غير القرآن، ويحتمل أن يكون وصفاً للآيات. وفي قوله: {لطيفاً}، تليين، وفي {خبيراً}، تحذير مّا. وقرأ زيد بن علي: ما تتلى بتاء التأنيث، والجمهور: بالياء.
وروي أن نساءه عليه الصلاة والسلام، قلن: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكرنا؛ وقيل: السائلة أم سلمة.
وقيل: لما نزل في نسائه ما نزل، قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء، فنزلت: {إن المسلمين} الآية، وهذه الأوصاف العشرة تقدّم شرحها، فبدأ أولاً بالانقياد الظاهر، ثم بالتصديق، ثم بالأوصاف التي بعدهما تندرج في الإسلام وهو الانقياد، وفي الإيمان وهو التصديق، ثم ختمها بخلة المراقبة وهي ذكر الله كثيراً. ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً إلا في قوله: {والحافظين فروجهم والذاكرين الله كثيراً}، نص على متعلق الحفظ لكونه منزلة العقلاء ومركب الشهوة الغالبة، وعلى متعلق الذكر بالاسم الأعظم، وهو لفظ الله، إذ هو العلم المحتوي على جميع أوصافه، ليتذكر المسلم من تذكره، وهو الله تعالى، وحذف من الحافظات والذاكرات المفعول لدلالة ما تقدّم، والتقدير: والحافظاتها والذاكراته. {أعدّ الله لهم}: غلب الذكور، فجمع الإناث معهم وأدرجهم في الضمير، ولم يأت التركيب لهم ولهن.