فصل: تفسير الآيات (34- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (34- 43):

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)}
{وما أرسلنا} الآية: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما مني به من قومه قريش، من الكفر والافتخار بالأموال والأولاد. وإن ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم، فلا يهمنك أمرهم. و{من نذير}: عام، أي تنذرهم بعذاب الله إن لم يوحدوه. و{قال مترفوها}: جملة حالية، ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل، لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على عقولهم منها، فقلوبهم أبداً مشغولة منهمكة بخلاف الفقراء. فإنهم خالون من مستلذات الدنيا، فقلوبهم أقبل للخير، ولذلك هم أتباع الأنبياء، كما جاء في حديث هرقل. وبما متعلق بكافرون، وبه متعلق بأرسلتم، وما عامة في ما جاءت به النذر من طلب الإيمان بالله وإفراده بالعبادة والأخبار بأنهم رسله إليهم، والبعث والجزاء على الأعمال. والظاهر أن الضمير في {وقالوا} عائد على المترفين؛ وقيل: عائد على قريش، ويدل عليه ما بعده من الخطاب في قوله: {قل}، لأن من تقدم من المترفين الهالكين لا يخاطبون، فلا يقول إلا الموجودون، وقوله: {وما أموالكم ولا أولادكم}؛ واحتجوا على رضا الله عنهم بإحسانه تعالى إليهم، فلو لم يتكرم عليهم ما بوسع علينا، وأما أنتم فلهوانكم عليه حرمكم أيها التابعون للرسل. ثم نقول: إن يعذبوا نفياً عاماً، لأن الأنبياء قد ينذرون بعذاب عاجل في الدنيا، أو آجل في الآخرة، فنفوا هم جميع ذلك. فإما أن يكونوا منكرين للآخرة، فقد نفوا تعذيبهم فيها، لأنها إذ لم تكن، فلا يكون فيها عذاب. وإما أن يكونوا مقرين بها حقيقة، أو على سبيل الفرض، فيقولون: كما أنعم علينا في الدنيا، ينعم علينا في الآخرة على حالة الدنيا قياساً فاسداً، فأبطل الله ذلك بأن الرزق فضل منه يقسم علينا في الآخرة على حالة الدنيا، كما شاء. {لمن يشاء}، فقد يوسع على العاصي ويضيق على الطائع، وقد يوسع عليهما، والوجود شاهد بذلك، فلا تقاس التوسعة في الدنيا، لأن ذلك في الآخرة إنما هو على الأعمال الصالحة. وقرأ الأعمش: ويقدر في الموضعين مشدداً؛ والجمهور: مخففاً، ومعناه: ويضيق مقابل يبسط.
{ولكن أكثر الناس}: مثل هؤلاء الكفرة، {لا يعلمون} أن الرزق مصروف بالمشيئة، وليس دليلاً على الرضا ثم أخبر تعالى أن أموالهم وأولادهم التي افتخروا بها ليست بمقربة من الله، وإنما يقرب الإيمان والعمل الصالح. وقرأ الجمهور: {بالتي}، وجمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون التي هي التقوى، وهي المقربة عند الله زلفى وحدها، أي ليست أموالكم تلك الموضوعة للتقريب. انتهى. فجعل التي نعتاً لموصوف محذوف وهي التقوى. انتهى، ولا حاجة إلى تقدير هذا الموصوف.
والظاهر أن التي راجع إلى الأموال والأولاد، وقاله الفراء. وقال أيضاً، هو والزجاج: حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، والتقدير: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى}. انتهى. ولا حاجة لتقدير هذا المحذوف، إذ يصح أن يكون التي لمجموع الأموال والأولاد. وقرأ الحسن: باللاتي جمعاً، وهو أيضاً راجع للأموال والأولاد. وقرى بالذي، وزلفى مصدر، كالقربى، وانتصابه على المصدرية من المعنى، أي يقربكم. وقرأ الضحاك: زلفاً بفتح اللام وتنوين الفاء، جمع زلفة، وهي القربة.
{إلا من آمن}: الظاهر أنه استثناء منقطع، وهو منصوب على الاستثناء، أي لكن من آمن؛ {وعمل صالحاً}، فإيمانه وعمله يقربانه. وقال الزجاج: هو بدل من الكاف والميم في تقربكم، وقال النحاس: وهذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب، فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيداً؛ وقول أبي إسحاق هذا قول الفراء. انتهى. ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضمير المخاطب والمتكلم، لكن البدل في الآية لا يصح. ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا؟ لو قلت: مازيد بالذي يضرب إلا خالداً، لم يصح. وتخيل الزجاج أن الصلة، وإن كانت من حيث المعنى منفية، أنه يصح البدل، وليس بجائز إلا فيما يصح التفريغ له. وقد اتبعه الزمخشري فقال: إلا من آمن استثناء من كم في تقربكم، والمعنى: أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله؛ والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقهم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة. انتهى، وهو لا يجوز. كما ذكرنا، لا يجوز: ما زيد بالذي يخرج إلا أخوه، ولا مازيد بالذي يضرب إلا عمراً، ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر. والتركيب الذي ركبه الزمخشري من قوله: لا يقرب أحداً إلا المؤمن، غير موافق للقرآن؛ ففي الذي ركبه يجوز ما قال، وفي لفظ القرآن لا يجوز. وأجاز الفراء أن تكون من في موضع رفع، وتقدير الكلام عنده ما هو المقرب {إلا من آمن}. انتهى. وقوله كلام لا يتحصل منه معنى، كأنه كان نائماً حين قال ذلك.
وقرأ الجمهور: {جزاء الضعف} على الإضافة، أضيف فيه المصدر إلى المفعول، وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله، فقال: أن يجازو الضعف، والمصدر في كونه يبنى للمفعول الذي لم يسم فاعله فيه خلاف، والصحيح المنع، ويقدر هنا أن يجاوز الله بهم الضعف، أي يضاعف لهم حسناتهم، الحسنة بعشر أمثالها، وبأكثر إلى سبعمائة لمن يشاء. وقرأ قتادة: جزاء الضعف برفعهما؛ فالضعف بدل، ويعقوب في رواية بنصب جزاء ورفع الضعف، وحكى هذه القراءة الداني عن قتادة، وانتصب جزاء على الحال، كقولك: في الدار قائماً زيد. وقرأ الجمهور: {في الغرفات} جمعاً مضموم الراء؛ والحسن، وعاصم: بخلاف عنه؛ والأعمش، ومحمد بن كعب: بإسكانها؛ وبعض القراء: بفتحها؛ وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وحمزة: وأطلق في اختياره في الغرفة على التوحيد ساكنة الراء؛ وابن وثاب أيضاً: بفتحها على التوحيد.
ولما ذكر جزاء من آمن، ذكر عقاب من كفر، ليظهر تباين الجزأين، وتقدم تفسير نظير هذه الكلمة. ولما كان افتخارهم بكثرة الأموال والأولاد، أخبروا أن ذلك على ما شاء الله كبر، وذلك المعنى تأكيد أن ذلك جار على ما شاء الله، إلا أن ذلك على حسب الاستحقاق، لا التكرمة، ولا الهوان. ومعنى {فهو يخلفه}: أي يأتي بالخلف والعوض منه، وكان لفظ من عباده مشعرة بالمؤمنين، وكذلك الخطاب في {وما أنفقتم}: يقصد هنا رزق المؤمنين، فليس مساق.
{قل إن ربي يبسط}: مساق ما قيل للكفار، بل مساق الوعظ والتزهيد في الدنيا، والحض على النفقة في طاعة الله، وإخلاف ما أنفق، إما منجزاً في الدنيا، وإما مؤجلاً في الآخرة، وهو مشروط بقصد وجه الله. وقال مجاهد: من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد، وأن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده، ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأتى. {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}: في الآخرة، ومعنى الآية: ما كان من خلف فهو منه. وجاء {الرازقين} جمعاً، وإن كان الرازق حقيقة هو الله وحده، لأنه يقال: الرجل يرزق عياله، والأمير جنده، والسيد عبده، والرازقون جمع بهذا الاعتبار، لكن أولئك يرزقون مما رزقهم الله، وملكهم فيه التصرف، ولله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى، ومن إخراج من عدم إلى وجود.
{ويوم يحشرهم جميعاً}: أي المكذبين، من تقدم ومن تأخر. وقرأ الجمهور: نحشرهم، نقول بالنون فيهما، وحفص بالياء، وتقدمت في الأنعام وخطاب الملائكة تقريع للكفار، وقد علم تعالى أن الملائكة منزهون برآء مما وجه عليهم من السؤال، وإنما ذلك على طريق توقيف الكفار، وقد علم سوء ما ارتبكوه من عبادة غير الله، وأن من عبدوه متبرئ منهم. و{هؤلاء} مبتدأ و، خبره {كانوا يعبدون}، و{إياكم} مفعول {يعبدون}. ولما تقدم انفصل، وإنما قدم لأنه أبلغ في الخطاب، ولكون {يعبدون} فاصلة. فلو أتى بالضمير منفصلاً، كان التركيب يعبدونكم، ولم تكن فاصلة. واستدل بتقديم هذا المعمول على جواز تقديم خبر كان عليها إذا كان جملة، وهي مسألة خلاف، أجاز ذلك ابن السراج، ومنع ذلك قوم من النحويين، وكذلك منعوا توسطه إذا كان جملة. وقال ابن السراج: القياس جواز ذلك، ولم يسمع. ووجه الدلالة من الآية أن تقديم المعمول مؤذن بتقديم العامل، فكما جاز تقديم {إياكم}، جاز تقديم {يعبدون}، وهذه القاعدة ليست مطردة، والأولى منع ذلك إلى أن يدل على جوازه سماع من العرب. ولما أجابوا الله بدأوا بتنزيهه وبراءته من كل سوء، كما قال عيس عليه السلام: {سبحانك}، ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة، أي {أنت ولينا}، إذ لا موالاة بيننا وبينهم.
وفي قولهم: {بل كانوا يعبدون الجن}، إشعار لهم بما عبدوه، وإن لم يصرح به. لكن الإضراب ببل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذ لم يكن راضياً بعبادة عابده مريداً لها، لم يكن ذلك العابد عابداً له حقيقة، فلذلك قالوا: {بل كانوا يعبدون الجن}، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم ومراداتهم عابدون لهم حقيقة، فلذلك قالوا: {بل كانوا يعبدون الجن}، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال. وقيل: صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها. وقال ابن عطية: لم تنف الملائكة عبادة البشر اياها، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة. وعبادة البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم، وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم، فهذا نوع من العبادة. وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت، في سورة الأنعام وغيرها. انتهى. وإذا هم قد عبدوا الجن، فما وجه قولهم: أكثرهم مؤمنون، ولم يقولوا جميعهم، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن؟ والجواب أنهم لم يدعوا الإحاطة، إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع الملائكة عليهم، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل القلب، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم، لأن ذلك لله تعالى. ومعنى {مؤمنون}: مصدقون أنهم معبودوهم، وقيل: مصدقون أنهم بنات الله، وأنهم ملائكة، {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع، فلا يرد عليه شيء، لكنه ليس موضوع اللغة.
{فاليوم}: هو يوم القيامة، والخطاب في {بعضكم}، قيل: للملائكة، لأنهم المخاطبون في قوله: {أهؤلاء إياكم}، ويكون ذلك تبكيتاً للكفار حين بين لهم أن من عبدوه لا ينفع ولا يضر، ويؤيده: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} ولأن بعده: {ونقول للذين ظلموا}، ولو كان الخطاب للكفار، لكان التركيب فذوقوا. وقيل: الخطاب للكفار، لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم، ويكون قوله: ويقول، تأكيداً لبيان حالهم في الظلم. وقيل: هو خطاب من الله لمن عبد ومن عبد. وقوله: {نفعاً}، قيل: بالشفاعة، {ولا ضراً} بالتعذيب. وقيل هنا: {التي كنتم بها تكذبون}، وفي السجدة: {الذي كنتم به تكذبون} كل منهما، أي من العذاب ومن النار، لأنهم هنا لم يكونوا ملتبسين بالعذاب، بل ذلك أول مارأوا النار، إذ جاء عقيب الحشر، فوصفت لهم النار بأنها هي التي كنتم تكذبون بها. وأما الذي في السجدة، فهم ملابسو العذاب، متردّدون فيه لقوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} فوصف لهم العذاب الذي هم مباشروه، وهو العذاب المؤبد الذي أنكروه.
والإشارة بقوله: ما {ما هذا إلا رجل}، إلى تالي الآيات، المفهوم من قوله: {وإذا تتلى عليه}، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكي تعالى مطاعنهم عند تلاوة القرآن عليهم، فبدأوا أولاً: بالطعن في التالي، فإنه يقدح في معبودات آلهتكم. ثانياً فيما جاء به الرسول من القرآن، بأنه كذب مختلق من عنده، وليس من عند الله. وثالثاً: بأن ما جاء به سحر واضح لما اشتمل على ما يوجب الاستمالة وتأثير النفوس له وإجابته. وطعنوا في الرسول، وفيما جاء به، وفي وصفه، واحتمل أن يكون ذلك صدر من مجموعهم، واحتمل أن تكون كل جملة منها قالها قوم غير من قال الجملة الأخرى. وفي قوله: {لما جاءهم} دليل على أنه حين جاءهم لم يفكروا فيه، بل بادروه بالإنكار ونسبته إلى السحر، ولم يكتفوا بقولهم، إنه سحر حتى وصفوه بأنه واضح لمن يتأمله. وقيل: إنكار القرآن والمعجزة كان متفقاً عليه من المشركين وأهل الكتاب، فقال تعالى: {وقال الذين كفروا للحق}، على وجه العموم.

.تفسير الآيات (44- 54):

{وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}
{وما آتيناهم}: أهل مكة، {من كتب}، قال السدي: من عندنا، فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به. وقال ابن زيد: فنقضوا أن الشرك جائز، وهو كقوله: {أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} وقال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: من أين كذبوا، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بذلك؟ وقيل: وصفهم بأنهم قومٍ آمنون، أهل جاهلية، ولا ملة لهم، وليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعثة رسول. كما قال: {أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون} فليس لتكذيبهم وجه مثبت، ولا شبهة تعلق. كما يقول أهل الكتاب، وإن كانوا مبطلين: نحن أهل الكتاب والشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله. وقيل: المعنى أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله، يقول بعضهم سحر، وبعضهم افتراء، ولا يستندون فيه إلى أثارة من علم، ولا إلى خبر من يقبل خبره. فإنا آتيناهم كتباً يدرسونها، ولا أرسلنا إليهم رسولاً ولا نذيراً فيمكنهم أن يدعوا، إن أقوالهم تستند إلى أمره.
وقرأ الجمهور: {يدرسونها}، مضارع درس مخففاً؛ أبو حيوة: بفتح الدال وشدها وكسر الراء، مضارع ادّرس، افتعل من الدرس، ومعناه: تتدارسونها. وعن أبي حيوة أيضاً: يدرسونها، من التدريس، وهو تكرير الدرس، أو من درس الكتاب مخففاً، ودرّس الكتاب مشدداً التضعيف باعتبار الجمع. ومعنى {قبلك}، قال ابن عطية: أي وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء، ولا يباشر أهل عصرهم، ولا من قرب من آبائهم. وقد كانت النذارة في العالم، وفي العرب مع شعيب وصالح وهود. ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه، وإنما المعنى: من نذير يختص بهؤلاء الذين بقيت إليهم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل، والله تعالى يقول: {إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً} ولكن لم يتجرد للنذارة، وقاتل عليها، إلا محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
{وكذب الذين من قبلهم}: توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم، وما آل إليه أمرهم، وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة، وسيحل بهم ما حل بأولئك. وأن الضميرين في: {بلغوا} وفي: {ما آتيناهم} عائدان على {الذين من قبلهم}، ليتناسقا مع قوله تعالى: {فكذبوا}، أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم. وقال ابن عباس، وقتادة، وابن زيد: الضمير في {بلغوا} لقريش، وفي {ما آتيناهم} للأمم {الذين من قبلهم}. والمعنى: وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال، وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب والهلاك؟ وقيل: الضمير في {بلغوا} عائد على {الذين من قبلهم}، وفي {آتيناهم} على قريش، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشاً من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به.
وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات، والزمخشري ذكر الثاني، وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث، قال: أي {الذين من قبلهم} ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان، وذلك لأن كتاب محمد، عليه السلام، أكمل من سائر الكتب وأوضح، ومحمد، عليه السلام، أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفي، وبيانه أشفى، ويؤيد ما ذكرنا، {وما آتيناهم من كتب يدرسونها} تغني عن القرآن. فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب، وكان أولى. انتهى.
وعن ابن عباس: فليس أنه أعلم من أمّته، ولا كتاب أبين من كتابه. والمعشار مفعال من العشر، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع، ومعناهما: العشر والربع. وقال قوم: المعشار عشر العشر. قال ابن عطية: وهذا ليس بشيء. انتهى. وقيل: والعشر في هذا القول عشر المعشرات، فيكون جزأ من ألف جزء. قال الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى {فكذبوا رسلي}، وهو مستغنى عنه بقوله {وكذب الذين من قبلهم}؟ قلت: لما كان معنى قوله: {وكذب الذين من قبلهم}، وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه، جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه، ونظيره أن يقول القائل: أقدم فلان على الكفر، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله: {ما بلغوا}، كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو، فيفضل عليه. {فكيف كان نكير}: للمكذبين الأوّلين، فليحذروا من مثله. انتهى. وفكيف: تعظيم للأمر، وليست استفهاماً مجرداً، وفيه تهديد لقريش، أي أنهم معرضون لنكير مثله، والنكير مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل، والفعل على وزن أفعل، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر، وحذفت إلى من نكير تخفيفاً لأنها أجزأته.
{قل إنما أعظكم بواحدة}، قال: هي طاعة الله وتوحيده. وقال السدي: هي لا إله إلاّ الله. قال قتادة: هي أن تقوموا. قال أبو علي: {أن تقوموا} في موضع خفض على البدل من واحدة. وقال الزمخشري: {بواحدة}: بخصلة واحدة، وهو فسرها بقوله: {أن تقوموا} على أن عطف بيان لها. انتهى. وهذا لا يجوز، لأن بواحدة نكرة، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله. وعطف البيان فيه مذهبان: أحدهما: أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة، وهو مذهب الكوفيين، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب، وإنما هو وهم من قائله. وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله: {إن مقام إبراهيم}
عطف بيان من قوله: {آيات بينات} وذلك لأجل التحالف، فكذلك هذا. والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر، والنهوض فيه بالهمة، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده. والمعنى: إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به. وإنما قال: {مثنى وفرادى}، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر، وتخليط الكلام، والتعصب للمذاهب، وقلة الإنصاف، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة، فلا يوقف فيها على تحقيق. وأما الاثنان، إذا نظرا نظر إنصاف، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له، فلا يكاد الحق أن يعدوهما. وأما الواحد، إذا كان جيد الفكر، صحيح النظر، عارياً عن التعصب، طالباً للحق، فبعيد أن يعدوه. وانتصب {مثنى وفرادى} على الحال، وقدم مثنى، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، إذا انقدح الحق بين الاثنين، فكر كل واحد منهما بعد ذلك، فيزيد بصيرة. قال الشاعر:
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة ** فيزداد بعض القوم من بعضهم علما

{ثم تتفكروا}: عطف على {أن تقوموا}، فالفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما نسبوه إليه. فإن الفكرة تهدي غالباً إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر، والوقف عند أبي حاتم عند قوله: {ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة}، نفي مستأنف. قال ابن عطية: وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به. انتهى. واحتمل أن يكون تتفكروا معلقاً، والجملة المنفية في موضع نصب، وهو محط التفكر، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلى الله عليه وسلم. فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلاً، وأثبتهم ذهناً، وأصدقهم قولاً، وأنزههم نفساً، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن، ولا يذهب إلى ذلك عاقل، وأن من نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب. والظاهر أن ما للنفي، كما شرحنا. وقيل: ما استفهام، وهو استفهام لا يراد به حقيقته، بل يؤول معناه إلى النفي، التقدير: أي شيء بصاحبكم من الجنون، أي ليس به شيء من ذلك. ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه {نذير}، {بين يدي عذاب شديد}: أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به، وبين يدي يشعر بقرب العذاب.
{قل ما سألتكم من أجر} الآية: في التبري من طلب الدنيا، وطلب الأجر على النور الذي أتى به، والتوكل على الله فيه.
واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ، والعائد من الصلة محذوف تقديره: سألتكموه، و{فهو لكم} الخبر. ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط. وقوله: {ما سألتكم من أجر فهو لكم} على معنيين: أحدهما: نفي مسألة للأجر، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئاً فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً، ولكنه أراد البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن، ويؤيده {إن أجري إلا على الله}. والثاني: أن يريد بالأجر ما في قوله: {قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً} وفي قوله: {لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى} لأن اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم ما فيه نفعهم، وكذلك المودة في القرابة، لأن القرابة قد انتظمت وإياهم، قاله الزمخشري، وفيه بعض زيادة. قال ابن عباس: الأجر: المودة في القربى. وقال قتادة: {فهو لكم}، أي ثمرته وثوابه، لأني سألتكم صلة الرحم. وقال مقاتل: تركته لكم. {وهو على كل شيء شهيد}: مطلع حافظ، يعلم أني لا أطلب أجراً على نصحكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء.
والقذف: الرمي بدفع واعتماد، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله: {فاقذفيه في اليم} {وقذف في قلوبهم الرعب} قال قتادة: {يقذف بالحق}: يبين الحجة ويظهرها. وقال ابن القشيري: يبين الحجة بحيث لا اعتراض عليها، لأنه {علام الغيوب}، وأنا مستمسك بما يقذف إليّ من الحق. وأصل القذف: الرمي بالسهم، أو الحصى والكلام. وقال ابن عباس: يقذف الباطل بالحق، والظاهر أن بالحق هو المفعول، فالحق هو المقذوف محذوفاً، أي يقذف، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع بالحق لا بالباطل، فتكون الباء إمّا للمصاحبة، وإمّا للسبب، ويؤيد هذا الاحتمال كون قذف متعدّياً بنفسه، فإذا جعلت بالحق هو المفعول، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها. وقرأ الجمهور: علام بالرفع، فالظاهر أنه خبر ثان، وهو ظاهر قول الزجاج، قال: هو رفع، لأن تأويل قل رب علام الغيوب. وقال الزمخشري: رفع محمول على محل إن واسمها، أو على المستكن في يقذف، أو هو خبر مبتدأ محذوف. انتهى. أمّا الحمل على محل إن واسمها فهو غير مذهب سيبويه، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو. وأمّا قوله على المستكن في يقذف، فلم يبين وجه حمله، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير يقذف. وقال الكسائي: هو نعت لذلك الضمير، لأنه مذهبه جواز نعت المضمر الغائب. وقرأ عيسى، وابن أبي إسحاق، وزيد بن علي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، وحرب عن طلحة: علام بالنصب؛ فقال الزمخشري: صفة لربي.
وقال أبو الفضل الرازي، وابن عطية: بدل. وقال الحوفي: بدل أو صفة؛ وقيل: نصب على المدح. وقرئ: الغيوب بالجر، أمّا الضم فجمع غيب، وأمّا الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر، والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو؛ وأمّا الفتح فمفعول للمبالغة، كالصبور، وهو الشيء الذي غاب وخفي جداً.
ولما ذكر تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة المضارع، أخبر أن الحق قد جاء، وهو القرآن والوحي، وبطل ما سواه من الأديان، فلم يبق لغير الإسلام ثبات، لا في بدء ولا في عاقبة، فلا يخاف على الإسلام ما يبطله، كما قال: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} وقال قتادة: الباطل: الشيطان، لا يخلق شيئاً ولا يبعثه. وقال الضحاك: الأصنام لا تفعل ذلك. وقال أبو سليمان: لا يبتدئ الصنم من عنده كلاماً فيجاب، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة. وقيل: الباطل: الذي يضاد الحق، فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحق، فلم يبقى منه بقية، وذلك أن الجائي إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فصار قولهم: لا يبدي ولا يعيد، مثلاً في الهلاك، ومنه قول الشاعر:
أفقر من أهيله عبيد ** فاليوم لا يبدي ولا يعيد

والظاهر أن ما نفي، وقيل: استفهام ومآله إلى النفي، كأنه قال: أي شيء يبدئ الباطل، أي إبليس، ويعيده، قاله الزجاج وفرقة معه. وعن الحسن: لا يبدئ، أي إبليس، لأهله خيراً، ولا يعيده: أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقيل: الشيطان: الباطل، لأنه صاحب الباطل، لأنه هالك، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك. وقيل: الحق: السيف. عن ابن مسعود: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بعود نبقة ويقول: «{جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}، {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}». وقرأ الجمهور: {قل إن ضللت}، بفتح اللام، {فإنما أضل}، بكسر الضاد. وقرأ الحسن، وابن وثاب، وعبد الرحمن المقري: بكسر اللام وفتح الضاد، وهي لغة تميم، وكسر عبد الرحمن همزة أضل. وقال الزمخشري: لغتان نحو: ضللت أضل، وظللت أظل. {وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي}، وأن تكون مصدرية، أي فبوحي ربي. والتقابل اللفظي: وإن اهتديت فإنما أهتدي لها، كما قال: {ومن أساء فعليها} مقابل: {من عمل صالحاً فلنفسه} {ومن ضل فإنما يضل عليها} مقابل: {فمن اهتدى فلنفسه} أو يقال: فإنما أضل بنفسي. وأما في الآية فالتقابل معنوي، لأن النفس كل ما عليها فهو لها، أي كل وبال عليها فهو بسببها. {إن النفس لأمّارة بالسوء} وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عام لكل مكلف. وأمر رسوله أن يسنده إلى نفسه، لأنه إذا دخل تحته مع جلالة محله وسر طريقته كما غيره أولى به.
انتهى، وهو من كلام الزمخشري. {إنه سميع قريب}، يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله.
والظاهر أن قوله: {ولو ترى إذ فزعوا} أنه وقت البعث وقيام الساعة، وكثيراً جاء: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم} وكل ذلك في يوم القيامة؛ وعبر بفزعوا، وأخذوا، وقالوا؛ وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق. وقال ابن عباس، والضحاك: هذا في عذاب الدنيا. وقال الحسن: في الكفار عند خروجهم من القبور. وقال مجاهد: يوم القيامة. وقال ابن زيد، والسدّي: في أهل بدر حين ضربت أعناقهم، فلم يستطيعوا فراراً من العذاب، ولا رجوعاً إلى التوبة. وقال ابن جبير، وابن أبي أبزي: في جيش لغزو الكعبة، فيخسف بهم في بيداء من الأرض، ولا ينجو إلا رجل من جهينة، فيخبر الناس بما ناله، قالوا، وله قيل:
وعند جهينة الخبر اليقين

وروى في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة. وذكر الطبري أنه ضعيف السند، مكذوب فيه على رواية ابن الجراح. وقال الزمخشري، وعن ابن عباس: نزلت في خسف البيداء، وذلك أن ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم. وذكر في حديث حذيفة أنه تكون فتنة بين أهل المشرق والمغرب، فبينما هم كذلك، إذ خرج السفياني من الوادي اليابس في فوره، ذلك حين ينزل دمشق، فيبعث جيشاً إلى المدينة فينتهبونها ثلاثة أيام، ثم يخرجون إلى مكة فيأتيهم جبريل، عليه السلام، فيضربها، أي الأرض، برجله ضربة، فيخسف الله بهم في بيداء من الأرض، ولا ينجو إلا رجل من جهينة، فيخبر الناس بما ناله، فذلك قوله: {فلا فوت}، ولا يتفلت منهم إلا رجلان من جهينة، ولذلك جرى المثل: «وعند جهينة الخبر اليقين»، اسم أحدهما بشير، يبشر أهل مكة، والآخر نذير، ينقلب بخبر السفياني. وقيل: لا ينقلب إلا رجل واحد يسمى ناجية من جهينة، ينقلب وجهه إلى قفاه. ومفعول ترى محذوف، أي ولو ترى الكفار إذ فزعوا فلا فوت، أي لا يفوتون الله، ولا يهرب لهم عنما يريد بهم. وقال الحسن: فلا فوت من صيحة النشور، وأخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. انتهى. أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم، وهذه أقوال مبنية على تلك الأقوال السابقة في عود الضمير في فزعوا. ووصف المكان بالقرب من حيث قدرة الله عليهم، فحيث ما كانوا هو قريب.
وقرأ الجمهور: {فلا فوت}، مبني على الفتح، {وأخذوا}: فعلاً ماضياً، والظاهر عطفه على {فزعوا}، وقيل: على {فلا فوت}، لأن معناه فلا يفوتوا وأخذوا. وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه، وطلحة؛ فلا فوت، وأخذ مصدرين منونين.
وقرأ أبي: فلا فوت مبنياً، وأخذ مصدراً منوناً، ومن رفع وأخذ فخبر مبتدأ، أي وحالهما أخذ أو مبتدأ، أي وهناك أخذ. وقال الزمخشري: وقرئ: وأخذ، وهو معطوف على محل فلا فوت، ومعناه: فلا فوت هناك، وهناك أخذ. انتهى. كأنه يقول: لا فوت مجموع لا، والمبني معها في موضع مبتدأ، وخبره هناك، فكذلك وأخذ مبتدأ، وخبره هناك، فهو من عطف الجمل، وإن كانت إحداهما تضمنت النفي والأخرى تضمنت الإيجاب. والضمير في به عائد على الله، قاله مجاهد، أي يقولون ذلك عندما يرون العذاب. وقال الحسن: على البعث. وقال مقاتل: على القرآن. وقيل: على العذاب. وقال الزمخشري وغيره: على الرسول، لمرور ذكره في قوله: {ما بصاحبكم من جنة}. {وأنى لهم التناوش}، قال ابن عباس: التناوش: الرجوع إلى الدنيا، وأنشد ابن الأنباري:
تمنى أن تؤوب إليّ ميّ ** وليس إلى تناوشها سبيل

أي: تتمنى، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعد، كما يتناوله الآخر من قرب. وقرأ الجمهور: التناوش بالواو. وقرأ حمزة، والكسائي. وأبو عمرو، وأبو بكر: بالهمز، ويجوز أن يكونا مادتين، إحداهما النون والواو والشين، والأخرى النون والهمزة والشين، وتقدّم شرحهما في المفردات. ويجوز أن يكون أصل الهمزة الواو، على ما قاله الزجاج، وتبعه الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء، وقال الزجاج: كل واو مضمومة ضمة لازمة، فأنت فيها بالخيار، إن شئت تثبت همزتها، وإن شئت تركت همزتها. تقول: ثلاث أدور بلا همز، وأدؤر بالهمز. قال: والمعنى: من أنى لهم تناول ما طلبوه من التوبة بعد فوات وقتها، لأنها إنما تقبل في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا فصارت على بعد من الآخرة، وذلك قوله تعالى: {من مكان بعيد}. وقال الزمخشري: همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه وأدور. وقال ابن عطية: وأمّا التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناوش، وهمزت الواو لما كانت مضمومة ضمة لازمة، كما قالوا: أفتيت. وقال الحوفي: ومن همز احتمل وجهان: أحدهما: أن يكون من الناش، وهو الحركة في إبطاء، ويجوز أن يكون من ناش ينوش، همزت الواو لانضمامها، كما همزت افتيت وأدور. وقال أبو البقاء: ويقرأ بالهمز من أجل الواو، وقيل: هي أصل من ناشه. انتهى. وما ذكروه من أن الواو إذا كانت مضمومة ضمة لازمة يجوز أن تبدل همزة، ليس على إطلاقه، بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كان مدغمة فيها، ونحو يعود ويقوم مصدرين؛ ولا إذا صحت في الفعل نحو: ترهوك ترهوكاً، وتعاون تعاوناً، ولم يسمع همزتين من ذلك، فلا يجوز. والتناوش مثل التعاون، فلا يجوز همزه، لأن واوه قد صحت في الفعل، إذ يقول: تناوش.
{وقد كفروا به}: الضمير في به عائد على ما عاد عليه {آمنا به} على الأقوال، والجملة حالية، و{من قبل} نزول العذاب. وقرأ الجمهور: {ويقذفون} مبنياً للفاعل، حكاية حال متقدّمة. قال الحسن: قولهم لا جنة ولا نار، وزاد قتادة: ولا بعث ولا نار. وقال ابن زيد: طاعنين في القرآن بقولهم: {أساطير الأوّلين} وقال مجاهد في الرسول صلى الله عليه وسلم، بقولهم: شاعر وساحر وكاهن. {من مكان بعيد}: أي في جهة بعيدة، لأن نسبته إلى شيء من ذلك من أبعد الأشياء. قال الزمخشري: وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي، لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله، لأن أبعد شيء مما جاء به الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب والزور. انتهى. وقيل: هو مستأنف، أي يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسها إيمانها، فمثلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم: آمنا في الآخرة، وذلك مطلب مستبعد ممن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للنظر في لحوقه، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه بعيداً. والغيب: الشيء الغائب. وقرأ مجاهد، وأبو حيوة، ومحبوب عن أبي عمرو: ويقذفون، مبنياً للمفعول. قال مجاهد: ويرجمهم بما يكرهون من السماء. وقال أبو الفضل الرازي: يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه: يجازون بسوء أعمالهم، ولا علم لهم بما أتاه، إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت، وإما في الآخرة. وقال الزمخشري: أي يأتيهم به، يعني بالغيب، شياطينهم ويلقنونهم إياهم. وقيل: يرمون في النار؛ وقيل: هو مثل، لأن من ينادي من مكان بعيد لا يسمع، أي هم لا يعقلون ولا يسمعون.
{وحيل بينهم}، قال الحوفي: الظرف قائم مقام اسم ما لم يسم فاعله. انتهى. ولو كان على ما ذكر، لكان مرفوعاً بينهم، كفراءة من قرأ: {لقد تقطع بينكم} في أحد المعنين، لا يقال لما أضيف إلى مبني وهو الضمير بنى، فهو في موضع رفع، وإن كان مبنياً. كما قال بعضهم في قوله: وإذ ما مثلهم، يشير إلى أنه في موضع رفع لإضافته إلى الضمير، وإن كان مفتوحاً، لأنه قول فاسد. يجوز أن تقول: مررت بغلامك، وقام غلامك بالفتح، وهذا لا يقوله أحد. والبناء لأجل الإضافة إلى المبني ليس مطلقاً، بل له مواضع أحكمت في النحو، وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر:
وقد حيل بين العير والنزوان

فإنه نصب بين، وهي مضافة إلى معرب، وإنما يخرج ما ورد من نحو هذا على أن القائم مقام الفاعل هو ضمير المصدر الدال عليه، وحيل هو، أي الحول، ولكونه أضمر لم يكن مصدراً مؤكداً، فجاز أن يقام مقام الفاعل، وعلى ذلك يخرج قول الشاعر:
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ** بسوء وإن يكشف غرامك تدرب

أي: ويعتلل هو، أي الاعتلال. والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا، قاله ابن عباس؛ أو الأهل والمال والولد، قاله السدي؛ أو بين الجيش وتخريب الكعبة، أو بين المؤمنين، أو بين النجاة من العذاب، أو بين نعيم الدنيا ولذتها، قاله مجاهد أيضاً. {كم فعل بأشياعهم}، من كفرة الأمم، أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم. و{من قبل}: يصح أن يكون متعلقاً {بأشياعهم}، أي من اتصف بصفتهم من قبل، أي في الزمان الأول. ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد، ويصح أن يكون متعلقاً بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا. وقال الضحاك: أشياعهم أصحاب الفيل، يعني أشياع قريش، وكأنه أخرجه مخرج التمثيل. وأما التخصيص، فلا دليل عليه. {إنهم كانوا في شك مريب}: يعني في الدنيا، ومريب اسم فاعل من أراب الرجل: أتى بريبة ودخل فيها، وأربت الرجل: أوقعته في ريبة، ونسبة الارابة إلى الشك مجاز. قال الزمخشري: إلا أن بينهما فرقاً، وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعنى، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك، كما تقول: شعر شاعر. انتهى، وفيه بعض تبيين. قيل: ويجوز أن يكون أردفه على الشك، وهما بمعنى لتناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب، كما تقول: عجب عجيب، وشتاشات، وليلة ليلاء. وقال ابن عطية: الشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاماً.