فصل: تفسير الآيات (11- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 21):

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)}
الاستفتاء نوع من السؤال، والهمزة، وإن خرجت إلى معنى التقرير، فهي في الأصل لمعنى الاستفهام، أي فاستخبرهم، والضمير لمشركي مكة. وقيل: نزلت في أبي الأشد بن كلدة، وكني بذلك لشدة بطشه وقوته. وعادل في هذا الاستفهام التقريري في الأشدية بينهم وبين من خلق من غيرهم من الأمم والجن والملائكة والأفلاك والأرضين. وفي مصحف عبد الله: أم من عددنا، وهو تفسير لمن خلقنا، أي من عددنا من الصافات وما بعدها من المخلوقين. وغلب العاقل على غيره في قوله: {من خلقنا}، واقتصر على الفاعل في {خلقنا}، ولم يذكر متعلق الخلق اكتفاء ببيان ما تقدمه، وكأنه قال: أم من خلقنا من غرائب المصنوعات وعجائبها. وقرأ الأعمش: أمن بتخفيف الميم دون أم، جعله استفهاماً ثانياً تقريراً أيضاً، فهما جملتان مستقلتان في التقرير، ومن مبتدأ، والخبر محذوف تقديره أشد. فعلى أم من هو تقرير واحد ونظيره: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء} قال الزمخشري: وأشد خلقاً يحتمل أقوى خلقاً، من قولهم: شديد الخلق، وفي خلقه شدة، وأصعب خلقاً. وأشد خلقاً وأشقه يحتمل أقوى خلقاً من قولهم: شديد الخلق، وفي خلقه شدة، على معنى الرد، لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى. وإن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة، ولم يصعب عليه اختراعها، كان خلق الشر عليه أهون. وخلقهم من طين لازب، إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة، لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة؛ أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب. فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله؟ قالوا: {أئذا كنا تراباً}، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. انتهى. والذي يظهر الاحتمال الأول. وقيل: {أم من خلقنا} من الأمم الماضية، كقوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً} وقوله: {وكانوا أشد منكم قوة} وأضاف: الخلق من الطين إليهم، والمخلوق منه هو أبوهم آدم، إذ كانوا نسله. وقال الطبري: خلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء، وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً يلزم ما جاوره. وعن ابن عباس: اللازب بالجر، أي الكريم الجيد.
وقرأ الجمهور: {بل عجبت}، بتاء الخطاب، أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك، ومما تريهم من آثار قدرة الله، أو عجبت من إنكارهم البعث، وهم يسخرون من أمر البعث. أو عجبت من إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى، وأن يكونوا كافرين مع ما جئتم به من عند الله. وقرأ حمزة، والكسائي، وابن سعدان، وابن مقسم: بياء المتكلم. ورويت عن عليّ، وعبد الله، وابن عباس، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وشقيق، والأعمش. وأنكر شريح القاضي هذه القراءة.
وقال: الله لا يعجب، فقال إبراهيم: كان شريح معجباً بعلمه، وعبد الله أعلم منه، يعني عبد الله ابن مسعود. والظاهر أن ضمير المتكلم هو لله تعالى، والعجب لا يجوز على الله تعالى، لأنه روعة تعتري المتعجب من الشيء. وقد جاء في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى، وتؤول على أنه صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه. فالمعنى: بل عجبت من ضلالتهم وسوء عملهم، وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن فيها من شرعي وهداي متعجباً. وقال الزمخشري: أي بلغ من عظيم آياتي وكثرة خلائقي أني عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء، لجهلهم وعنادهم، يسخرون من آياتي؟ أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون بمن يصف الله بالقدرة عليه، قال: ويجرد العجب لمعنى الاستعظام، أو يخيل العجب ويفرض. وقيل: هو ضمير الرسول، أي قل بل عجبت. قال مكي، وعليّ بن سليمان: وهم يسخرون من نبوتك والحق الذي عندك.
{وإذا ذكروا} ووعظوا، {لا يذكرون}، ولا يتعظون. وذكر جناح بن حبيش: ذكروا، بتخفيف الكاف. روي أن ركانة رجلاً من المشركين من أهل مكة، لقيه الرسول في جبل خال يرعى غنماً له، وكان من أقوى الناس، فقال له: «يا ركانة، أرأيت إن صرعتك أتؤمن من بي»؟ قال: نعم، فصرعه ثلاثاً، ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها، فلم يؤمن، وجاء إلى مكة فقال: يا بني هاشم، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فنزلت فيه وفي نظرائه: {وإذا رأوا آية يستسخرون}. قال مجاهد، وقتادة: يسخرون، يكون استفعل بمعنى المجرد. وقيل: فيه معنى الطلب، أي يطلبون أن يكونوا ممن يسخرون. وقال الزمخشري: يبالغون في السخرية، أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. وقرئ: يستسحرون، بالحاء المهملة، وهو عبارة عن ما قال ركانة لأسحر الرسول. والإشارة بهذا إلى ما ظهر على يديه، عليه السلام، من الخارق المعجز.
وتقدم الخلاف في كسر ميم {متنا} وضمها. ومن قرأ: {أئذا} بالاستفهام، فجواب إذا محذوف، أي نبعث، ويدل عليه إنا لمبعوثون، أو يعرى عن الشرط ويكون ظرفاً محضاً، ويقدر العامل: أنبعث إذا متنا؟ وقرأ الجمهور: {أو آباؤنا} بفتح الواو في أو. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وابن عامر، ونافع في رواية قالون: بالسكون، فهي حرف عطف، ومن فتح قالوا وحرف عطف دخلت عليه همزة الاستفهام. قال الزمخشري: {أو آباؤنا} معطوف على محل إن واسمها، أو على الضمير في مبعوثون. والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام، والمعنى: أيبعث أيضاً آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. انتهى. أما قوله معطوف على محل إن واسمها فمذهب سيبويه خلافه، لأن قولك: إن زيداً قائم وعمرو، فيه مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف.
وأما قوله: أو على الضمير في {مبعوثون} إلى آخره، فلا يجوز عطفه على الضمير، لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل، لا على المفرد، لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بوساطة حرف العطف، وهمزة الاستفهام لا يعمل فيما بعدها ما قبلها. فقوله: {أو آباؤنا} مبتدأ، خبره محذوف تقديره مبعوثون، ويدل عليه ما قبله. فإذا قلت: أقام زيد أو عمرو، فعمرو مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا، واستفهامهم تضمن إنكاراً واستبعاداً، فأمر الله نبيه أن يجيبهم بنعم.
{وأنتم داخرون}: أي صاغرون، وهي جملة حالية، العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون، وزادهم في الجواب أن بعثهم وهم ملتبسون بالصغار والذل. وقرأ ابن وثاب: نعم بكسر العين، وتقدم الخلاف فيها في سورة الأعراف، وهي كناية عن البعثة، فإنما بعثتهم {زجرة}: أي صيحة، وهي النفخة الثانية. لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً. وقال الزمخشري: هي مبهمة يوضحها خبرها. انتهى. وكثيراً ما يقول هو وابن مالك أن الضمير يفسره الخبر، وجعل من ذلك ابن مالك {إن هي إلا حياتنا الدنيا} وتكلمنا معه في ذلك في شرح التسهيل. وقال الزمخشري: فإنما جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا كان ذلك، فما هي إلا زجرة واحدة. انتهى. وكثيراً ما تضمن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ، تقديره: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي، وما ذكر معهما على قول بعضهم، أما ابتداء فلا يجوز حذفه.
و{ينظرون}: من النظر، أي فإذا هم بصراء ينظرون، أو من الانتظار، أي فإذا هم ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به. والظاهر أن قوله: {يا ويلنا} من كلام بعض الكفار لبعض، إلى آخر الجملتين، أقروا بأنه يوم الجزاء، وأنه يوم الفصل، وخاطب بعضهم بعضاً. ووقف أبو حاتم على قوله: {يا ويلنا}، وجعل {هذا يوم الدين} إلى آخره من قول الله لهم أو الملائكة. وقيل: {هذا يوم الدين} من كلام الكفرة، و{هذا يوم الفصل} ليس من كلامهم، وإنما المعنى يقال لهم هذا يوم الفصل. ويوم الدين: يوم الجزاء والمعاوضة، ويوم الفصل: يوم الفرق بين فرق الهدى وفرق الضلال. وفي {الذي كنتم به تكذبون} توبيخ لهم وتقريع.

.تفسير الآيات (22- 39):

{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}
{احشروا}: خطاب من الله للملائكة، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، قاله ابن عباس، ورجحه الرماني. وأنواعهم وضرباؤهم، قاله عمرو ابن عباس أيضاً، أو أشباههم من العصاة، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل السرقة، أو قرناؤهم الشياطين. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي: {وأزواجهم}، مرفوعاً عطفاً على ضمير ظلموا، أي وظلم أزواجهم. {فاهدوهم}: أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يصطلوها، والجحيم طبقة من طبقات جهنم. {وقفوهم}، كما قال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} وهو توبيخ لهم، {إنهم مسؤولون}. وقرأ عيسى: أنهم، بفتح الهمزة. قال عبد الله: يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم، وعنه أيضاً: يسألون عن لا إله إلا الله. وقال الجمهور: وعن أعمالهم، ويوقفون على قبحها. وفي الحديث: «لا تزول قد ما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه، وعن ما عمل فيما علم» وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله: {ما لكم لا تنصرون}، أي إنهم مسئولون عن امتناعهم عن التناصر، وهذا على سبيل التوبيخ في الامتناع. وقال الزمخشري: هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين. وقال الثعلبي: {ما لكم لا تنصرون}، جواب أبي جهل حين قال في بدر: {نحن جميع منتصر} وقرئ: لا تناصرون، بتاء واحدة وبتاءين، وبإدغام إحداهما في الأخرى.
{بل هم اليوم مستسلمون}: أي قد أسلم بعضهم بعضاً، وخذله عن عجز، وكل واحد منهم مستسلم غير منتصر. {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}، قال قتادة: هم جن وإنس، وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط. قالوا: أي قالت الإنس للجن. قال مجاهد، وابن زيد: أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم. و{اليمين}: الجارحة، وليست مرادة هنا. فقيل: استعيرت لجهة الخير، أو للقوة والشدة، أو لجهة الشهوات، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد، أو الحلف. ولكل من هذه الاستعارات وجه.
فأما استعارتها لجهة الخير، فلأن الجارحة أشرف العضوين وأيمنها، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح، ويصافحون ويماسخون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور، ويباشرون بها أفاضل الأشياء، وجعلت لكاتب الحسنات، ولأخذ المؤمن كتابه بها، والشمال بخلاف ذلك. وأما استعارتها للقوة والشدة، فإنها يقع بها البطش، فالمعنى: أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال. وأما استعارتها لجهة الشهوات، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده، وجهة شماله فيها قلبه ومكره، وهي أخف، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر، إذ هو أخف شقيه. وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه.
وأما الحلف، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه.
{قالوا}، أي المخاطبون، إما الجن وإما قادة الكفر: {بل لم تكونوا مؤمنين}: أي لم نقركم على الكفر، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان. وقال الزمخشري: وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم، بل كنتم قوماً على الكفر غير ملجئين، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم، بل كنتم قوماً مختارين الطغيان. انتهى. ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جرياً على مذهبهم. {فحق علينا قول ربنا}: أي لزمنا قول ربنا، أي وعيده لنا بالعذاب. والظاهر أن قوله: {إنا لذائقون}، إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم، الرؤساء، والأتباع. وقال الزمخشري: فلزمنا قول ربنا: {إنا لذائقون}، يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة. ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوازن قل مالي

ولو حكى قولها لقال: قل مالك، ومنه قول المحلف للحالف: لأخرجن، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على الحلف. انتهى. {فأغويناكم}: دعوناكم إلى الغي، فكانت فيكم قابلية له فغويتم. {إنا كنا غاوين}: فأردنا أن تشاركونا في الغي. {فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون}: أي يوم إذ تساؤلوا وتراجعوا في القول، وهذا إخبار منه تعالى، كما اشتركوا في الغي، اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب. {إنا كذلك}: أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم، فيترتب على إجرامه عذابه. ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم، وهو الشرك بالله، واستكبارهم عن توحيده، وإفراده بالآلهية. ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول، وهو نسبته إلى الشعر والجنون، وأنهم ليسوا بتاركي آلهتهم له ولما جاء به، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. وقولهم: {لشاعر مجنون}: تخليط في كلامهم، وارتباك في غيهم. فإن الشاعر هو عنده من الفهم والحذق وجودة الإدراك ما ينظم به المعاني الغريبة ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك.
ثم أضرب تعالى عن كلامهم، وأخبر بأن جاء الحق، وهو إثبات الذي لا يلحقه إضمحلال، فليس ما جاء به شعراً، بل هو الحق الذي لا شك فيه. ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين، إذ هو وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم إلى التوحيد وترك عبادة غيره. وقرأ عبد الله: وصدق بتخفيف الدال، المرسلون بالواو رفعاً، أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم. وقرأ الجمهور: {لذائقو العذاب}، بحذف النون للإضافة؛ وأبو السمال، وأبان، عن ثعلبة، عن عاصم: بحذفها لالتقاء لام التعريف ونصب العذاب. كما خذف بعضهم التنوين لذلك في قراءة من قرأ أحد الله، ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ: لذائق منوناً، العذاب بالنصب، ويخرج على أن التقدير جمع، وإلأ لم يتطابق المفرد وضمير الجمع في {إنكم}، وقول الشاعر:
فألفيته غير مستعتب ** ولا ذاكر الله إلا قليلاً

وقرئ: لذائقون بالنون، العذاب بالنصب، وما ترون إلا جزاء مثل عملكم، إذ هو ثمرة عملكم.