فصل: تفسير الآيات (158- 182):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (158- 182):

{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}
الظاهر أن الجنة هم الشياطين، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة. منها أنه تعالى صاهر سروات الجن، فولد منهم الملائكة، وهم فرقة من بني مدلج، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق. {ولقد علمت الجنة}: أي الشياطين، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: إذا فسرت الجنة بالشياطين، فيجوز أن يكون الضمير في {إنهم لمحضرون} لهم. والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له، أو شركاء في وجوب الطاعة، لما عذبهم. وقيل: الضمير في {وجعلوا} لفرقة من كفار قريش والعرب، والجنة: الملائكة، سموا بذلك لاجتنابهم وخفائهم. وقال الزمخشري: وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعاً منهم وتصغيراً لهم، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار، وهو من صفات الأجرام، لا يصح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك. انتهى.
{ولقد علمت الجنة}: أي الملائكة، {إنهم}: أي الكفرة المدعين نسبة بين الملائكة وبين الله تعالى، محضرون النار، يعذبون بما يقولون. وأضيف ذلك إلى علم من نسبوا لذلك، مبالغة في تكذيب الناسبين. ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به، {إلا عباد الله}، فإنهم يصفونه بصفاته. وأما من المحضرون، أي إلا عباد الله، فإنهم ناجون مدة العذاب، وتكون جملة التنزيه اعتراضاً على كلا القولين، فالاستثناء منقطع. والظاهر أن الواو في {وما تعبدون} للعطف، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم، وأن الضمير في عليه عائد على ما، والمعنى: قل لهم يا محمد: وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم، وغلب الخطاب. كما تقول: أنت وزيد تخرجان عليه، أي على عبادة معبودكم. {بفاتنين}: أي بحاملين بالفتنة عبادة، إلا من قدر الله في سابق علمه أنه من أهل النار. والضمير في {عليه} عائد على ما على حذف مضاف، كما قلنا، أي على عبادته. وضمن فاتنين معنى: حاملين بالفتنة، ومن مفعولة بفاتنين، فرغ له العامل إذ لم يكن بفاتنين مفعولاً. وقيل: عليه بمعنى: أي ما أنتم بالذي تعبدون بفاتنين، وبه متعلق بفاتنين، المعنى: ما أنتم فاتنين بذلك الذي عبدتموه إلا من سبق عليه القدر أنه يدخل النار. وجعل الزمخشري الضمير في عليه عائداً على الله، قال فإن قلت: كيف يفتنونهم على الله؟ قلت: يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم من قولك: فتن فلان على فلان امرأته، كما تقول: أفسدها عليه وخيبها عليه. ويجوز أن تكون الواو في {وما تعبدون} بمعنى مع مثلها في قولهم: كل رجل وضيعته. فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، جاز أن يسكت على قوله: {فإنكم وما تعبدون}، لأن قوله: {وما تعبدون} ساد مسد الخبر، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون، والمعنى: فإنكم مع آلهتكم، أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونهم.
ثم قال {ما أنتم عليه}: أي على ما تعبدون، {بفاتنين}: بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال، إلا من هو ضال منكم. انتهى. وكون الواو في {وما تعبدون} واو مع غير متبادر إلى الذهن، وقطع {ما أنتم عليه بفاتنين} عن إنكم وما تعبدون ليس بجيد، لأن اتصافه به هو السابق إلى الفهم مع صحة المعنى، فلا ينبغي العدول عنه.
وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة: صالوا الجحيم بالواو، وهكذا في كتاب الكامل للهذلي. وفي كتاب ابن خالويه عنهما: صال مكتوباً بغير واو، وفي كتاب ابن عطية. وقرأ الحسن: صالوا مكتوباً بالواو؛ وفي كتاب اللوامح وكتاب الزمخشري عن الحسن: صال مكتوباً بغير واو. فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة. حمل أولاً على لفظ من فأفرد، ثم ثانياً على معناها فجمع، كقوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} حمل في يقول على لفظ من، وفي وما هم على المعنى، واجتمع الحمل على اللفظ، والمعنى في جملة واحدة، وهي صلة للموصول، كقوله: {إلا من كان هوداً أو نصارى} وقول الشاعر:
وأيقظ من كان منكم نياماً

ومن لم يثبت الواو احتمل أن يكون جمعاً، وحذفت الواو خطأ، كما حذفت في حالة الوصل لفظاً لأجل التقاء الساكنين. واحتمل أن يكون صال مفرداً حذفت لامه تخفيفاً، وجرى الإعراب في عينه، كما حذف من قوله: {وجنى الجنتين دان} {وله الجوار المنشآت} برفع النون والجوار، وقالوا: ما باليت به بالة، أي بالية من بالى، كعافية من عافى، فحذفت لام باليت وبالية. وقالوا بالة وبال، بحذف اللام فيهما. وقال الزمخشري: وقد وجه نحواً من الوجهين السابقين وجعلهما أولاً وثالثاً فقال: والثاني أن يكون أصله صائل على القلب، ثم يقال: صال في صائل، كقولهم: شاك في شائك. انتهى. {وما منا}: أي أحد، {إلا له مقام معلوم}: أي مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر الله، مقصور عليه لا يتجاوزه. كما روي: فمنهم راكع لا يقيم ظهره، وساجد لا يرفع رأسه، وهذا قول الملائكة، وهو يقوي قول من جعل الجنة هم الملائكة تبرؤا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله، وأخبروا عن حال عبوديتهم، وعلى أي حالة هم فيها. وفي الحديث: «أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي»، وعن ابن مسعود: «موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه»، وحذف المبتدإ مع من جيد فصيح، كما مر في قوله: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنون} أي وأن من أهل الكتاب أحد.
وقال العرب: منا ظعن ومنا أقام، يريد: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام. وقال الزمخشري: وما منا أحد إلا له مقام معلوم، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ** بكفي كان من أرمي البشر

انتهى. وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لأن أحداً المحذوف مبتدأ. وإلا له مقام معلوم خبره، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله: وما منا أحد، فقوله: {إلا له مقام معلوم} هو محط الفائدة. وإن تخيل أن {إلا له مقام معلوم} في موضع الصفة، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها، وأنها فارقت غير إذا؛ كانت صفة في ذلك، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وجعل ذلك كقوله: أنا ابن جلا، أي ابن رجل جلا؛ وبكفي كان، أي رجل كان، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات. {وإنا لنحن الصافون}: أي أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء، أو حول العرش داعين للمؤمنين. وقال الزهراوي: قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين. {وإنا لنحن المسبحون}: أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة، أو المنزهون بلفظ التسبيح، أو المصلون. وينبغي أن يجعل قوله: {سبحان الله عما يصفون} من كلام الملائكة، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد، فكأنه قيل: ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب؛ وقالوا: سبحان الله، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله؛ وقالوا للكفرة: فإنكم وآلهتكم إلى آخره. وكيف نكون مناسبيه، ونحن عبيد بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة؟ إلى ما وصفوا به أنفسهم من رتبة العبودية. وقيل: {وما منا إلا له مقام معلوم}، هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله، من قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}.
ثم ذكر أعمالهم، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال. والضمير في {ليقولون} لكفار قريش، {لو أن عندنا ذكراً}: أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكذب كما كذبوا. {فكفروا به}: أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه، وهو أشرف الأذكار، لأعجازه من بين الكتب. {فسوف يعلمون} عاقبة كفرهم، وما يحل بهم من الانتقام. وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ، كقوله: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} {ولقد سبقت كلمتنا}: قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد. وقرأ الضحاك: بالجمع، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة.
وقال الحسن: ما غلب نبي في الحرب، ولا قتل فيها. {فتول عنهم حتى حين}: أي إلى مدّة يسيرة، وهي مدّة الكف عن القتال. وعن السدّي: إلى يوم بدر، ورجحه الطبري. وقال قتادة: إلى موتهم. وقال ابن زيد: إلى يوم القيامة. {وأبصرهم}: أي انظر إلى عاقبة أمرهم، فسوف يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم. وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه السلام. {أفبعذابنا يستعجلون}: استفهام توبيخ.
{فإذا نزل} هو، أي العذاب، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم، فلم يلتفتوا إلى إنذراه، ولا أخذوا أهبته، ولا دبروا أمرهم تدبير ينجيهم حتى أناخ بفنائهم، فشن عليهم الغارة، وقطع دابرهم. وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحاً، فسميت الغارة صباحاً، وإن وقعت في وقت آخر. وما فصحت هذه الآية، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل، قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور: مبنياً للفاعل؛ وابن مسعود: مبنياً للمفعول؛ وساحتهم: هو القائم مقام الفاعل. ونزل ساحة فلان، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر؛ وسوء الصباح: يستعمل في حلول الغارات والرزايات؛ ومثل قول الصارخ: يا صباحاه؛ وحكم ساء هنا حكم بئس. وقرأ عبد الله: فبئس، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: فساء صباح المنذرين صباحهم. {وتول عنهم حتى حين}: كرر الأمر بالتولي، تأنيساً له عليه الصلاة والسلام، وتسلية وتأكيد لوقوع الميعاد؛ ولم يقيد أمره بالإبصار، كما قيده في الأول، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصاراً، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المساءات، والإبصار منهم من صنوف المساءات. وقيل: أريد بالأول عذاب الدنيا، وبالآخرة عذاب الآخرة.
وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عن ما يصفه المشركون، وأضاف الرب إلى نبيه تشريفاً له بإضافته وخطابه، ثم إلى العزة، وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين، وكذلك قال الفقهاء من جهة أنها مربوبة. وقال محمد بن سحنون وغيره: من حلف بعزة الله تعالى إلى يريد عزته التي خلقت بين عباده، وهي التي في قوله: {رب العزة}، فليست بيمين. وقال الزمخشري: أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزة، كما تقول: صاحب صدق لاختصاصه بالصدق. انتهى. فعلى هذا تنعقد اليمين بعزة الله لأنها صفة من صفاته. قال: ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، لقوله: {وتعزّ من تشاء} وعن علي، كرم الله وجهه: «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: {سبحان ربك رب العزة}»، إلى آخر السورة.

.سورة ص:

.تفسير الآيات (1- 14):

{ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)}
لات: هي لا، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب، فقالوا: ثمت وربت، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه، وعمل إن في مذهب الأخفش. فإن ارتفع ما بعدها، فعلى الابتداء عنده؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو، ويأتي شيء منها هنا عند ذكر القراءات التي فيها. والمناص: المنجا والغوث، يقال ناصه ينوصه: إذا فاته. قال الفراء: النوص: التأخير، يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً: أي فر وزاغ، وأنشد لامرئ القيس:
أم ذكر سلمى ان نأتك كنوص ** واستناص طلب المناص

قال حارثة بن بدر:
غمر الجراء إذا قصرت عنانه ** بيدي استناص ورام جري المسحل

وقال الجوهري: استناص: تأخر. وقال النحاس: ناص ينوص: تقدم. الوتد: معروف، وكسر التاء أشهر من فتحها. ويقال: وتد واتد، كما يقال: شغل شاغل. قال الأصمعي وأنشد:
لاقت على الماء جذيلاً واتداً ** ولم يكن يخلفها المواعدا

وقالوا: ودّ فأدغموه، قال الشاعر:
تخرج الودّ إذا ما أشحذت ** وتواريه إذا ما تشتكر

وقالوا فيه: دت، فأدغموا بإدال الدال تاء، وفيه قلب الثاني للأول، وهو قليل.
{ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزّة وشقاق كم أهلكنا من قبلكم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا ان جاءهم منذر منهم وقال الكفارون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن أمشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقبوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذَّب الرسل فحق عقاب}.
هذه السورة مكية، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون: {لو أن عندنا ذكراً من الأولين} لأخلصوا العبادة لله. وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به. بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن، لأنه الذكر الذي جاءهم، وأخبر عنهم أنهم كافرون، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا. «وروي أنه لما مرض أبو طالب، جاءت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم. قال: وما الكلمة؟ قال: كلمة واحدة، قال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، قال فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟».
قال: فنزل فيهم القرآن: {ص والقرآن ذي الذكر}، حتى بلغ، {إن هذا إلا اختلاق}.
قرأ الجمهور: ص، بسكون الدال. وقرأ أبي، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو السمال، وابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم: ص، بكسر الدال، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين. وهو حرف من حروف المعجم نحو: ق ونون. وقال الحسن: هو أمر من صادى، أي عارض، ومنه الصدى، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن. وعنه أيضاً: صاديت: حادثت، أي حادث، وهو قريب من القول الأول. وقرأ عيسى، ومحبوب عن أبي عمرو، وفرقة: صاد، بفتح الدال، وكذا قرأ: قاف ونون، بفتح الفاء والنون، فقيل: الفتح لالتقاء الساكنين طلباً للتخفيف؛ وقيل: انتصب على أنه مقسم به، حذف منه حرف القسم نحو قوله: ألله لأفعلن، وهو اسم للسورة، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل، وهو ابن أبي إسحاق في رواية. وقرأ الحسن أيضاً: صاد، بضم الدال، فإن كان اسماً للسورة، فخبر مبتدأ محذوف، أي هذه ص، وهي قراءة ابن السميفع وهارون الأعور؛ وقرأ قاف ونون، بضم الفاء والنون. وقيل: هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم، فقال الضحاك: معناه صدق الله. وقال محمد بن كعب: مفتاح أسماء الله محمد صادق الوعد صانع المصنوعات. وقيل: معناه صدق محمد.
قال ابن عباس، وابن جبير، والسدّي: ذي الذكر: ذي الشرف الباقي المخلد. وقال قتادة: ذي التذكرة، للناس والهداية لهم. وقيل: ذي الذكر، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم، قيل: مذكور، فقال الكوفيون والزجاج: هو قوله: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} وقال الفراء: لا نجده مستقيماً في العربية لتأخره جداً عن قوله: {والقرآن}. وقال الأخفش: هو {إن كل إلا كذّب الرسل}، وقال قوم: {كم أهلكنا}، وحذف اللام أي لكم، لما طال الكلام؛ كما حذفت في {والشمس} ثم قال: {قد أفلح} حكاه الفراء وثعلب، وهذه الأقوال يجب اطراحها. وقيل: هو صاد، إذ معناه: صدق محمد وصدق الله. وكون صاد جواب القسم، قاله الفراء وثعلب، وهذا مبني على تقدم جواب القسم، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه. وقيل: الجواب محذوف، فقدره الحوفي: لقد جاءكم الحق ونحوه، والزمخشري: إنه لمعجز، وابن عطية: ما الأمر كما تزعمون، ونحو هذا من التقدير. ونقل أن قتادة والطبري قالا: هو محذوف قبل {بل}، قال: وهو الصحيح، وقدره ما ذكرنا عنه، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جواباً للقرآن حين أقسم به، وذلك في قوله تعالى: {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم}، وقال هناك: {لتنذر قوماً} فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به، واعتراف بالحق.
وقرأ حماد بن الزبرقان، وسورة عن الكسائي، وميمون عن أبي جعفر، والجحدري من طريق العقيلي: في غرة، بالغين المعجمة والراء، أي في غفلة ومشاقة. {قبلهم}: أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق، وهذا وعيد لهم. {فنادوا}: أي استغاثوا ونادوا بالتوبة، قاله الحسن؛ أو رفعوا أصواتهم، يقال: فلان أندى صوتاً: أي أرفع، وذلك بعد معاينة العذاب، فلم يك وقت نفع. وقرأ الجمهور: {ولات حين}، بفتح التاء ونصب النون، فعلى قول سيبويه، عملت عمل ليس، واسمها محذوف تقديره: ولات الحين حين فوات ولا فرار. وعلى قول الأخفش: يكون حين اسم لات، عملت عمل إن نصبت الإسم ورفعت الخبر، والخبر مخذوف تقديره: ولات أرى حين مناص. وقرأ أبو السمال: ولات حين، بضم التاء ورفع النون؛ فعلى قول سيبويه: حين مناص اسم لات، والخبر محذوف؛ وعلى قول الأخفش: مبتدأ، والخبر محذوف. وقرأ عيسى بن عمر: ولات حين، بكسر التاء وجر النون، خبر بعد لات، وتخريجه مشكل، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله:
طلبوا صلحنا ولات حين أوان ** فأجبنا أن لات حين بقاء

قال: شبه أوان بإذ في قوله: وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض، لأن الأصل: ولات أوان صلح. فإن قلت: فما تقول في حين مناص، والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن. انتهى. هذا التمحل، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة، والبيت النادر في جر ما بعد لات: أن الجر هو على إضمار من، كأنه قال: لات من حين مناص، ولات من أوان صلح، كما جروا بها في قولهم: على كم جذع بيتك؟ أي من جذع في أصح القولين، وكما قالوا: لا رجل جزاه الله خيراً، يريدون: لا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول: ليس من رجل قائماً، والخبر محذوف، وهذا على قول سيبويه، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف، على قول الأخفش. وقال بعضهم: ومن العرب من يخفض بلات، وأنشد الفراء:
ولتندمن ولات ساعة مندم

وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين، أي ولات حين أوان، حذف حين وأبقى أوان على جره. وقال أبو إسحاق: ولات أواننا، فحذف المضاف إليه، فوجب أن لا يعرب، وكسره لالتقاء الساكنين؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري، أخذه من أبي إسحاق الزجاج، وأنشده المبرد: ولات أوان بالرفع.
وعن عيسى: ولات حين، بالرفع، مناص: بالفتح. وقال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك، فلعله بنى حين على الضم، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية، وبنى مناص على الفتح مع لات، على تقدير: لات مناص حين، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه. انتهى. وقرأ عيسى أيضاً: ولات بكسر التاء، وحين بنصب النون، وتقدم تخريج نصب حين. ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء، وقوم على لا، وزعموا أن التاء زيدت في حين؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أن رآه في الإمام مخلوطاً تاؤه بحين، وكيف يصنع بقوله: ولات ساعة مندم، ولات أوان. وقال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا، قال بعضهم لبعض: مناص، أي عليكم بالفرار، فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص، فقال الله: {ولات حين مناص}. قال القشيري: فعلى هذا يكون التقدير: فنادوا مناص، فحذف لدلالة ما بعده عليه، أي ليس الوقت وقت ندائكم به، وفيه نوع تحكم، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند الاضطرار. انتهى. وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص، أي ساعة لا منجا ولا فوت. فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبراً مثل: جاء زيد راكباً، ثم تقول: جاء زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله: {فنادوا}. انتهى. وكون أصل هذه الجملة: فنادوا حين لا مناص، وأن حين ظرف لقوله: {فنادوا} دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح، والجملة في موضع الحال، فنادوا وهم لات حين مناص، أي لهم.
ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة، من نسبتهم إليه السحر والكذب. ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وقال الكافرون}، أي: وقالوا تنبيهاً على الصفة التي أوجبت لهم العجب، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب. {أجعل الآلهة إلهاً واحداً}، قالوا: كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم؟ وجعل: بمعنى صير في القول والدعوى والزعم، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه. والضمير في {وعجبوا} لهم، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم. وقرأ الجمهور: {عجاب}، وهو بناء مبالغة، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع. وقرأ علي، والسلمي، وعيسى، وابن مقسم: بشم الجيم، وقالوا: رجل كرّام وطعام طياب، وهو أبلغ من فعال المخفف. وقال مقاتل: عجاب لغة أزد شنوءة. والذين قالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً}، قال ابن عباس: صناديد قريش، وهم ستة وعشرون.
{وانطلق الملأ منهم}: الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدّم في سبب النزول؛ ويكون ثم محذوف تقديره: يتحاورون. {أن امشوا}، وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف، وامشوا أمر بالمشي، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس. وقال الزمخشري: وأن بمعنى أي، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لابد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول والأمر بالمشي، أي بعضهم أمر بعضاً. وقيل: أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم. ويجوز أن تكون أن مصدرية، أي وانطلقوا بقولهم امشوا، وقيل: الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام، وأن مفسرة على هذا، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا، إنما معناه: سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم. وقيل: {امشوا} دعاء بكسب الماشية، قيل: وهو ضعيف، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة، لأنه إنما يقال: أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية؛ وأيضاً فهذا المعنى غير متمكن في الآية. وقال الزمخشري: ويجوز أنهم قالوا: امشوا، أي أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها؛ ومنه الماشية للتفاؤل. انتهى. وأمروا بالصبر على الآلهة، أي على عبادتها والتمسك بها.
والإشارة بقوله: {إن هذا} أي ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، وعلوه بالنبوة، {لشيء يراد}: أي يراد منا الانقياد إليه، أو يريده الله ويحكم بإمضائه، فليس فيه إلا الصبر، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا، فلا انفكاك عنه، وأن دينكم لشيء يراد، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه، احتمالات أربعة. وقال القفال: هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، المعنى: أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين، وإنما غرضه أن يستولي علينا، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد. {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة}، قال ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، ومقاتل: ملة النصارى، لأن فيها التثليث، ولا توحد. وقال مجاهد، وقتادة: ملة العرب: قريش ونجدتها. وقال الفراء، والزجاج: ملة اليهود والنصرانية، أشركت اليهود بعزير، وثلث النصارى. وقيل: في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان، وذلك أنه قبل المبعث، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين. ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم. وقيل: في الملة الآخرة، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله. {إن هذا إلا اختلاق}: أي افتعال وكذب.
{أأنزل عليه الذكر من بيننا}: أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، وهذا الإنكار هو ناشئ عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم.
{بل هم في شك من ذكري}: أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم: {إن هذا إلا اختلاق}. {بل لما يذوقوا عذاب}: أي بعد، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك. {أم عندهم خزائن رحمة ربك}: أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة، فيعطون ما شاؤوا، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا، ويصطفون للرسالة من أرادوا، وإنما يملكها ويتصرف فيها {العزيز}: الذي لا يغالب، {الوهاب}: ما شاء لمن شاء.
لما استفهم استفهام إنكار في قوله: {أم عندهم خزائن رحمة ربك}، وكان ذلك دليلاً على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال: {أم لهم ملك السموات والأرض}: أي ليس لهم شيء من ذلك. {فليرتقوا}: أي ألهم شيء من ذلك، فليصعدوا، {في الأسباب}، الموصولة إلى السماء، والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم، فيضعون الرسالة فيمن اختاروا. ثم صغرهم وحقرهم، فأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة. قيل: وما زائدة، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم، أو التحقير، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين. و{هنالك}: ظرف مكان يشار به للبعيد. والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتلك الكلمات السابقة، وهو مكة، فيكون ذلك إخباراً بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح، فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح. وقيل: {هنالك}، إشارة إلى الإرتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم. وقيل: أشير بهنالك إلى جملة الأصنام وعضدها، أي هم جند مهزوم في هذه السبيل. وقال مجاهد، وقتادة: الإشارة إلى يوم بدر، وكان غيباً، أعلم الله به على لسان رسوله. وقيل: الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة. وقال الزمخشري: وهنالك، إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم: لمن يندبه لأمر ليس من أهله، لست هنالك. انتهى. و{هنالك}، يحتمل أن يكون في موضع الصفة لجند، أي كائن هنالك؛ ويحتمل أن يكون متعلقاً بمهزوم، وجند خبر مبتدأ محذوف، أي هم جند، ومهزوم خبره. وقال أبو البقاء: جند مبتدأ، وما زائدة، وهنالك نعت، ومهزوم الخبر. انتهى. وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله. ومعنى {من الأحزاب}: من جملة الأحزاب الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل. ولما ذكر تعالى أنه أهلك قبل قريش قروناً كثيرة لما كذبوا رسلهم، سرد منهم هنا من له تعلق بعرفانه. و{ذو الأوتاد}: أي صاحب الأوتاد، وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده. قال الأفوه العوذي:
والبيت لا يبتنى إلا على عمد ** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما قال الأسود:
في ظل ملك ثابت الأوتاد

قاله الزمخشري، وأخذه من كلام غيره. وقال ابن عباس، وقتادة، وعطاء: كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها. وقال السدي: كان يقتل الناس بالأوتاد، ويسمرهم في الأرض بها. وقال الضحاك: أراد المباني العظيمة الثابتة. وقيل: عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره. وقيل: كان يشج المعذب بين أربع سواري، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروبة فيها وتد من حديد، ويتركه حتى يموت. روي معناه عن الحسن ومجاهد، وقيل: كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: يشدهم بأربعة أوتاد، ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه. وقال ابن مسعود، وابن عباس، في رواية عطية: الأوتاد: الجنود، يشدون ملكه، كما يقوي الوتد الشيء. وقيل: بنى مناراً يذبح عليها الناس، قاله ابن جبير. {أولئك الأحزاب}: أي الذين تحزبوا على أنبيائهم، كما تحزب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن الإشارة بأولئك إلى أقرب مذكور، وهم قوم نوح ومن عطف عليهم؛ وفيه تفخيم لشأنهم وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله، أي هؤلاء العظماء لما كذبوا عوقبوا، وكذلك أنتم.
{إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب}: فوجب عقابهم. كذبت قوم نوح، آذوا نوحاً فأغرقوا؛ وقوم هود فأهلكوا بالريح؛ وفرعون فأغرق؛ وثمود بالصيحة؛ وقوم لوط بالخسف؛ والأيكة بعذاب الظلة. ومعنى {إن كل}: ما كان من قوم نوح فمن بعدهم، {فحق عقاب}: أي وجب عقابهم، فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بالرسول. قال الزمخشري: {أولئك الأحزاب}، قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم هم هم، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب، ولقد ذكرت تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية، فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم، فقد كذبوا جميعاً، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً، وبالاستثناء ثانياً، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العذاب وأبلغه. ثم قال: {فحق عقاب}: أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم. انتهى.