فصل: تفسير الآيات (26- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (26- 40):

{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40)}
الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك برجله، وهي علامة الفراهة، وأنشد الزجاج:
ألف الصفون فما يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عبيدة: الصافن: الذي يجمع يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم. وقال القتبي: الصافن: الواقف في الخيل وغيرها. وفي الحديث: «من سره أن يقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار»، أي يديمون له القيام، حكاه قطرب. وأنشد النابغة:
لناقبة مضروبة بفنائها ** عتاق المهارى والجياد الصوافن

وقال الفراء: على هذا رأيت العرب وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة. جاد الفرس: صار رابضاً، يجود جودة بالضم، فهو جواد للذكر والأنثى من خيل جياد وأجواد وأجاويد. وقيل: الطوال الأعناق من الجيد، وهو العنق، إذ هي من صفات فراهتها. وقيل: الجياد جمع جود، كثوب وثياب. الرخاء: اللينة، مشتقة من الرخاوة {يا داود إن جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها عليّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب قال رب إغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}.
جعله تعالى داود خليفة في الأرض يدل على مكانته، عليه السلام، عنده واصطفائه، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوّة. واحتمل لفظ خليفة أن يكون معناه: تخلف من تقدمك من الأنبياء، أن يعلي قدرك بجعلك ملكاً نافذ الحكم، ومنه قيل: خلفاء الله في أرضه. واستدل من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله، ولا يلزم ذلك من الآية، بل لزومه من جهة الشرع والإجماع. قال ابن عطية: ولا يقال خليفة الله إلا لرسول. وأما الخلفاء، فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز، كما قال قيس الرقيات:
خليفة الله في بريته ** حقت بذاك الأقلام والكتب

وقالت الصحابة لأبي بكر: خليفة رسول الله، وبذلك كان يدعى مدته. فلما ولي عمر قالوا: خليفة خليفة رسول الله، وطال الأمر وزاد أنه في المستقبل، فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء. انتهى. {فاحكم بين الناس بالحق}: أمر بالديمومة، وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس. فمن حيث هو معصوم لا يحكم إلا بالحق، أمر أولاً بالحكم؛ ولما كان الهوى قد يعرض لغير المعصوم، أمر باجتنابه، وذكر نتيجة اتباعه، وهو إضلاله عن سبيل الله. و{فيضلك}: جواب للنهي، والفاعل في فيضلك ضمير {الهوى}، أو ضمير المصدر المفهوم من {ولا تتبع}، أي فيضلك اتباع الهوى. ولما ذكر ما ترتب على اتباع الهوى، وهو الإضلال عن سبيل الله، ذكر عقاب الضال. وقرأ الجمهور: {يضلون}، بفتح الياء، لأنهم لما أضلهم اتباع الهوى صاروا ضالين. وقرأ ابن عباس، والحسن: بخلاف عنهما؛ وأبو حيوة: بضم الياء، وهذه القراءة أعم، لأنه لا يضل الإضال في نفسه؛ وقراءة الجمهور أوضح. و{بما نسوا}: متعلق بما تعلق به لهم، ونسوا: تركوا، و{يوم}: يجوز أن يكون منصوب بنسوا، أو بما تعلق به لهم، ويكون النسيان عبارة عن ضلالهم عن سبيل الله. وانتصب {باطلاً} على أنه نعت لمصدر محذوف، أي خلق باطلاً، أو على الحال، أي مبطلين، أو ذوي باطل، أو على أنه مفعول من أجله. معنى باطلاً: عبثاً.
{ذلك}: أي كون خلقها باطلاً، {ظن الذين كفروا}: أي مظنونهم، وهؤلاء، وإن كانوا مقرين بأن خالق السموات والأرض هو الله تعالى، فهم من حيث أنكروا المعاد والثواب والعقاب ظانون أن خلق ذلك ليس بحكمة، وأن خلق ذلك إنما هو عبث؛ ولذلك قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} فنبه على المعاد والرجوع إلى جزائه، ثم ذكر ما بين المؤمن، عامل الصالحات، والمفسد من التباين، وأنهما ليسا سيين، وقابل الصلاح بالفساد، والتقوى بالفجور. قال ابن عباس: هي عامة في جميع المسلمين والكافرين. وقيل في قوم من مشركي قريش قالوا: نحن لنا في الآخرة أعظم مما لنا في الدنيا، فأنزل الله هذه الآية. وقيل في جماعة من المؤمنين والكافرين معينين بارزوا يوم بدر علياً وحمزة وعبيدة بن الحرث، رضي الله عنهم، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة؛ ووصف كلاً ناسبه. والاستفهام بأم في الموضعين استفهام إنكار، والمعنى: أنه لا يستوي عند الله من أصلح ومن أفسد، ولا من اتقى ومن فجر، وكيف تكون التسوية بين من أطاع ومن عصى؟ إذن كان يبطل الجزاء، والجزاء لا محالة واقع، والتسوية منتفية.
ولما انتفت التسوية، بين ما تصلح به لمتبعه السعادة الأبدية، وهو كتاب الله تعالى، فقال: {كتاب أنزلناه}، وارتفاعه على إضمار متبدأ، أي هذا كتاب.
وقرأ الجمهور: {مبارك}، على الصفة. وقرئ: مباركاً، على الحال اللازمة، أي هذا كتاب. وقرأ الجمهور: {ليدبروا آياته}، بياء الغيبة وشد الدال، وأصله ليتدبروا. وقرأ عليّ بهذا الأصل. وقرأ أبو جعفر: بتاء الخطاب وتخفيف الدال؛ وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما، والأصل: لتتدبروا بتاءين، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها، أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها؟ واللام في ليدبروا لام كي، وأسند التدبر في الجميع، وهو التفكر في الآيات، والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء. وأسند التذكر إلى أولي العقول، لأن ذا العقل فيه ما يهديه إلى الحق وهو عقله، فلا يحتاج إلا إلى ما يذكره فيتذكر، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: {نعم العبد} هو، أي سليمان. وقرئ: نعم على الأصل، كما قال:
نعم الساعون في القوم الشطر

أثنى تعالى عليه لكثرة رجوعه إليه، أو لكثرة تسبيحه. {إذ عرض}، الناصب لإذ، قيل: {أواب}، وقيل: اذكر على الاختلاف في تأويل هذه الآية. قال الجمهور: عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له، وقيل: ألف واحد، فأجريت بين يديه عشياً، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له، فقال: ردوها عليّ. فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف لما كانت سبب الذهول عن ذلك الذكر، فأبد له الله أسرع منها الريح. وقال قوم، منهم الثعلبي: كانت بالناس مجاعة، ولحوم الخيل لهم حلال، فعقرها لتؤكل على سبيل القربة، ونحر الهدى عندنا. انتهى. وفي هذه القصة ألفاظ فيها غض من منصب النبوّة كفينا عنه. والخير في قوله {حب الخير}: أي هذا القول يراد به الخيل. والعرب تسمي الخيل الخير، قاله قتادة والسدي: وقال الضحاك، وابن جبير: الخير هنا المال، وانتصب حب الخير، قيل: على المفعول به لتضمن أحببت معنى آثرت، قاله الفرّاء. وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي، أي أحببت الخيل كحب الخير، أي حباً مثل حب الخير. وقيل: عدى بعن فضمن معنى فعل يتعدى بها، أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي، أو جعلت حب الخير مغنياً عن ذكر ربي. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان أن أحببت بمعنى: لزمت، من قوله:
مثل بعير السوء إذ أحبا

وقالت فرقة: {أحببت}: سقطت إلى الأرض، مأخوذ من أحب البعير إذا أعيى وسقط. قال بعضهم: حب البعير: برك، وفلان: طأطأ رأسه. وقال أبو زيد: بعير محب، وقد أحب إحباباً، إذا أصابه مرض أو كسر، فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. قال ثعلب: يقال للبعير الحسير محب، فالمعنى: قعدت عن ذكر ربي. وحب الخير على هذا مفعول من أجله، والظاهر أن الضمير في {توارت} عائد على {الصافنات}، أي دخلت اصطبلاتها، فهي الحجاب. وقيل: حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر. وقيل: الضمير للشمس، وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العشي عليها.
وقالت طائفة: عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة، فأشار إليهم أني في صلاتي، فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات؛ فقال هو لما فرغ من صلاته: {إني أحببت حب الخير}، أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، كأنه يقول: فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها، ردوها عليّ فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها. وقال ابن عباس والزهري: مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف بل بيدية تكريماً لها ومحبة، ورجحه الطبري. وقيل: بل غسلاً بالماء. وقال الثعلبي: إن هذا المسح كان في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله. انتهى. وهذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء، لا القول المنسوب للجمهور، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء.
و{حتى توارت}: غاية، فالفعل يكون قبلها متطاولاً حتى تصح الغاية، فأحببت: معناه أردت المحبة. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: {ردوها عليّ}؟ قلت: بمحذوف تقديره: قال ردوها عليّ، فأضمروا ضمير ما هو جواب له، كأن قائلاً قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهراً. ثم ذكر الزمخشري لفظاً فيه غض من النبوة فتركته. وما ذهب إليه من هذا الإضمار لا يحتاج إليه، إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو: {فقال إني أحببت}. فهذه الجملة وجملة {ردوها علي} محكيتان بقال، وطفق من أفعال المقاربة للشروع في الفعل، وحذف غيرها لدلالة المصدر عليه، أي فطفق يمسح مسحاً. وقرأ الجمهور: {مسحاً}: وزيد بن علي: مساحاً، على وزن قتال، والباء {بالسوق} زائدة، كهي في قوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} وحكى سيبويه: مسحت برأسه ورأسه بمعنى واحد، وتقدم الكلام على ذلك في المائدة. وقرأ الجمهور: بالسوق، بغير همز على وزن فعل، وهو جمع ساق، على وزن فعل بفتح العين، كأسد وأسد؛ وابن كثير بالهمز، قال أبو علي: وهي ضعيفة، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو وقدر أنها عليها فهمزت، كما يفعلون بالواو المضمومة. ووجه همز السوق من السماع أن أبا حبة النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة، وكان ينشد:
حب المؤقدين إلى مؤسى

انتهى. وليست ضعيفة، لأن الساق فيه الهمزة، ووزن فعل بسكون العين، فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة. وقرأ ابن محيصن: بهمزة بعدها الواو، رواهما بكار عن قنبل. وقرأ زيد بن علي: بالساق مفرداً، اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس. ومن غريب القول أن الضمير في ردوها عائد على الشمس، وقد اختلفوا في عدد هذه الخيل على أقوال متكاذبة، سودوا الورق بذكرها.
{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً}: نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالاً يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهي مما لا يحل نقلها، وأما هي من أوضاع اليهود والزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ما هي، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان.
وأقرب ما قيل فيه: أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة واحدة، وجاءته بشق رجل». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون» فالمراد بقوله: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً} هو هذا، والجسد الملقى هو المولود شق رجل. وقال قوم: مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه جسداً كأنه بلا روح. ولما أمر تعالى نبيه عليه السلام بالصبر على ما يقول كفار قريش وغيرهم، أمره بأن يذكر من ابتلي فصبر، فذكر قصة داود وقصة سليمان وقصة أيوب ليتأسى بهم، وذكر ما لهم عنده من الزلفى والمكانة، فلم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوه به ويستحيل عقلاً وجود بعض ما ذكروه، كتمثل الشيطان بصورة نبي، حتى يلتبس أمره عند الناس، ويعتقدون أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا، لم يوثق بإرسال نبي، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية، نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها. {ثم أناب}: أي بعد امتحاننا إياه، أدام الإنابة والرجوع.
{قال رب اغفر لي}: هذا أدب الأنبياء والصالحين من طلب المغفرة من الله هضماً للنفس وإظهاراً للذلة والخشوع وطلباً للترقي في المقامات، وفي الحديث: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة»، والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه، فيترتب عليه أمر دنياه، كقول نوح في ما حكى الله عنه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} الآية. والظاهر أن طلب الملك كان بعد هذه المحنة. وذكر المفسرون أنه أقام في ملكه عشرين سنة قبل هذا الابتلاء، وأقام بعدها عشرين سنة، فيمكن أنه كان في ملك قبل المحنة، ثم سأل بعدها ملكاً مقيداً بالوصف الذي بعده، وهو كونه لا ينبغي لأحد من بعده، واختلفوا في هذا القيد، فقال عطاء بن أبي رباح وقتادة: إلى مدة حياتي، لا أسلبه ويصير إلى غيري. وقال ابن عطية: إنما قصد بذلك قصداً جائزاً، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد، لاسيما بحسب المكانة والنبوة. وانظر إلى قوله: {لا ينبغي}، إنما هي لفظة محتملة ليست تقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد. انتهى.
وقال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما؛ فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب إلفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلاً على نبوته، قاهراً للمبعوث إليهم، ولن يكون معجزة حتى تخرق العادات، فذلك معنى قوله: {لا ينبغي لأحد من بعدي}.
وقيل: كان ملكاً عظيماً، فخاف أن يعطي مثله أحد، فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك} وقيل: ملكاً لا أسلبه، ولا يقوم فيه غيري مقامي. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يطلع بأحبابه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أن لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول: ملكاً عظيماً، فقال: {لا ينبغي لأحد من بعدي}، ولم يقصد بذلك إلا عظمة الملك وسعته، كما تقول لفلان: ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. انتهى.
ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه، أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال: {إنك إنت الوهاب}: أي الكثير الهبات، لا يتعاظم عنده هبة. ولما طلب الهبة التي اختص بطلبها، وهبه وأعطاه ما ذكر تعالى من قوله: {فسخرنا له الريح}. وقرأ الجمهور: بالإفراد؛ والحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وأبو جعفر: الرياح بالجمع، وهو أعم لعظم ملك سليمان، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس. {تجري}: يحتمل أن تكون جملة حالية، أي جارية، وأن تكون تفسيرية لقوله: {فسخرنا له الريح}. {بأمره}؛ أي لا يمتنع عليه إذا أراد جريها. {رخاء}، قال ابن عباس والحسن والضحاك: مطيعة. وقال مجاهد: طيبة. {حيث أصاب}: أي حيث قصد وأراد، حكى الزجاج عن العرب. أصاب الصواب فأخطأ الجواب: أي قصد. وعن رؤية أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقال: هذه طلبتنا. ويقال: أصاب الله بك خيراً، وأنشد الثعلبي:
أصاب الكلام فلم يستطع ** فأخطأ الجواب لدى المفصل

وقال وهب: حيث أصاب، أي أراد. قيل: ويجوز أن يكون أصاب دخلت فيه همزة التعدية من صاب، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر. وقيل: أصاب: أراد، بلغة حمير. وقال قتادة: بلغة هجر. {والشياطين}: معطوف على الريح و{كل بناء وغواص}: بدل، وأتى ببنية المبالغة، كما قال: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} الآية، وقال النابغة:
إلا سليمان إذ قال الإله له ** قم في البرية فاحددها عن الفند

وجيش الجنّ إني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

والمعطوف على العام عام، فالتقدير: وكل غواص، أي في البحر يستخرجون له الحلية، وهو أول من استخرج الدر. {وآخرين}: عطف على كل، فهو داخل في البدل، إذ هو بدل كل من كل بدل التفصيل، أي من الجنّ، وهم المردة، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم. وقال النابغة في ذلك:
فمن أطاعك فانفعه بطاعته ** كما أطاعك وادلله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة ** تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

تقدم تفسير {مقرّنين في الأصفاد} في آخر سورة إبراهيم عليه السلام، وأوصاف من ملك سليمان في سورة النمل. {هذا عطاؤنا}: إشارة لما أعطاه الله تعالى من الملك الضخم وتسخير الريح والإنس والجنّ والطير، وأمره بأن يمنّ على من يشاء ويمسك عن من يشاء. وقفه على قدر النعمة، ثم أباح له التصرف فيها بمشيئته، وهو تعالى قد علم أنه لا يتصرف إلا بطاعمة الله. قال الحسن وغيره، قاله قتادة: إشارة إلى ما فعله الجن، أي فامنن على من شئت منهم، وأطلقه من وثاقه، وسرحه من خدمته، وأمسك أمره كما تريد. وقال ابن عباس: إشارة إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليهنّ من جماعهنّ، ولعله لا يصح عن ابن عباس، لأنه لم يجر هنا ذكر النساء، ولا ما أوتي من القدرة على ذلك، و{بغير حساب}: في موضع الحال من {عطاؤنا}، أي هذا عطاؤنا جماً كثيراً لا تكاد تقدر على حصره. ويجوز أن يكون {بغير حساب} من تمام {فامنن}. {أو أمسك}: أي لا حساب عليك في إعطاء من شئت أو حرمانه، وفي إطلاق من شئت من الشياطين أو إيثاقه.
وختم الله تعالى قصته بما ذكر في قصة والده، وهو قوله: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}. وقرأ الجمهور: {وحسن مآب}، بالنصب عطفاً على {زلفى}. وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة: بالرفع، ويقفان على {زلفى}، ويبتدآن {وحسن مآب}، وهو مبتدأ، خبره محذوف تقديره: وحسب مآب له.