فصل: تفسير الآيات (14- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (14- 22):

{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}
الأمر بقوله: {فادعوا الله} للمنيبين المؤمنين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي اعبدوه، {مخلصين له الدّين} من الشرك على كل حال، حتى في حال غيظ أعدائكم المتمالئين عليكم وعلى استئصالكم. ورفيع: خبر مبتدأ محذوف. وقال الزمخشري: ثلاثة أخبار مترتبة على قوله: {الذي يريكم} أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً. انتهى. أما ترتبها على قوله: {هو الذي يريكم}، فبعيد كطول الفصل، وأما كونها أخباراً مبتدأ محذوف، فمبني على جواز تعدد الأخبار، إذا لم تكن في معنى خبر واحد، والمنع اختيار أصحابنا. وقرئ: رفيع بالنصب على المدح، واحتمل أن يكون رفيع للمبالغة على فعيل من رافع، فيكون الدرجات مفعول، أي رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة. وبه فسرا بن سلام، أو عبر بالدرجات عن السموات، أرفعها سماء، والعرش فوقهنّ. وبه فسر ابن جبير، واحتمل أن يكون رفيع فعيلاً من رفع الشيء علا فهو رفيع، فيكون من باب الصفة المشبهة، والدرجات: المصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، أضيفت إليه دلالة على عزه وسلطانه، أي درجات ملائكته، كما وصفه بقوله: {ذي المعارج} أو يكون ذلك عبارة عن رفعه شأنه وعلو سلطانه. كما أن قوله: {ذو العرش} عبارة عن ملكه، وبنحوه فسر ابن زيد قال: عظيم الصفات. و{الروح}: النبوة، قاله قتادة والسدي، كما قال: {روحاً من أمرنا} وعن قتادة أيضاً: الوحي. وقال ابن عباس: القرآن، وقال الضحاك: جبريل يرسله لمن يشاء. وقيل: الرحمة، وقيل: أرواح العباد، وهذان القولان ضعيفان، والأولى الوحي، استعير له الروح لحياة الأديان المرضية به، كما قال: {أو من كان ميتا فأحييناه} وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون القاء الروح عامل لكل ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة. انتهى. وقال الزجاج: الروح: كل ما به حياة الناس، وكل مهتد حي، وكل ضال ميت. انتهى. وقال ابن عباس: {من أمره}: من قضائه. وقال مقاتل: بأمره، وحكى الشعبي من قوله، ويظهر أن من لابتداء الغاية.
وقرأ الجمهور: {لينذر} مبنياً للفاعل، {يوم} بالنصب، والظاهر أن الفاعل يعود على الله، لأنه هو المحدث عنه. واحتمل يوم أن يكون مفعولاً على السعة، وأن يكون ظرفاً، والمنذر به محذوف. وقرأ أبيّ وجماعة: كذلك إلا أنهم رفعوا يوم على الفاعلية مجازاً. وقيل: الفاعل في القراءة الأولى ضمير الروح. وقيل: ضمير من. وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح: لينذر مبنياً للمفعول، يوم التلاق، برفع الميم. وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه: لتنذر بالتاء، فقالوا: الفاعل ضمير الروح، لأنها تؤنث، أو فيه ضمير الخطاب الموصول. وقرئ: التلاق والتناد، بياء وبغير ياء، وسمي يوم التلاق لالتقاء الخلائق فيه، قاله ابن عباس.
وقال قتادة ومقاتل: يلتقي فيه الخالق والمخلوق. وقال ميمون بن مهران: يلتقي فيه الظالم والمظلوم. وحكى الثعلبي: يلتقي المرء بعلمه. وقال السدّي: يلاقي أهل السماء أهل الأرض. وقيل: يلتقى العابدون ومعبودهم. {يوم هم بارزون}: أي ظاهرون من قبورهم، لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأن الأرض إذ ذاك قاع صفصف، ولا من ثياب، لأنهم يحشرون حفاة عراة. ويوماً بدل من يوم التلاق، وكلاهما ظرف مستقبل. والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الإسمية، لا يجوز: أجيئك يوم زيد ذاهب، أجراء له مجرى إذا، فكما لا يجوز أن تقول: أجيئك إذا زيد ذاهب، فكذلك لا يجوز هذا. وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك، فيتخرج قوله: {يوم هم بارزون} على هذا المذهب. وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة، والدلائل مذكورة في علم النحو. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف، والعامل فيه قوله: {لا يخفى}، وهي حركة إعراب لا حركة بناء، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، كيومئذ. وقال الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصبا

وكقوله تعالى: {هذا يوم ينفع} وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن، كما تقول: جئت يوم زيد أمير، فلا يجوز البناء. انتهى. يعني أن ينتصب على الظرف قوله: {يوم هم بارزون}. وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، فالبناء ليس متحتماً، بل يجوز فيه البناء والإعراب. وأما تمثيله بيوم ينفع، فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب، ومذهب الكوفيين جواز البناء والإعراب فيه. وأما إذا أضيف إلى جملة إسمية، كما مثل من قوله: جئت يوم زيد أمير، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب، كما ذكر، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء. وذهب إليه بعض أصحابنا، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك. ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء، وهذا قول لم يذهب إليه أحد، فهو وهم. {لا يخفى على الله منهم شيء}: أي من سرائرهم وبواطنهم. قال ابن عباس: إذا هلك من في السموات ومن في الأرض، فلم يبق إلا الله قال: {لمن الملك اليوم}، فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه: {لله الواحد القهار}. وقال ابن مسعود: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد: {لمن الملك اليوم}؟ فيجيبوا كلهم: {لله الواحد القهار}. روي أنه تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعاً، فيجيب نفسه بقوله: {لله الواحد القهار}، فيجيب الناس، وإنما خص التقرير باليوم، وإن كان الملك له تعالى في ذلك اليوم وفي غيره، لظهور ذلك للكفرة والجهلة ووضوحه يوم القيامة.
وإذا تأمّل من له مسكة عقل تسخير أهل السموات الأرض، ونفوذ القضاء فيهم، وتيقن أن لا ملك إلا لله، ومن نتائج ملكه في ذلك اليوم جزاء كل نفس بما كسبت، وانتفاء الظلم، وسرعة الحساب، إن حسابهم في وقت واحد لا يشغله حساب عن حساب. قال ابن عطية: وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبد. انتهى، وهو على طريقة الأشعرية. وروى أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار. و{يوم الآزفة}: هو يوم القيامة، يأمر تعالى نبيه أن ينذر العالم ويحذرهم منه ومن أهواله، قاله مجاهد وابن زيد. والآزفة صفة لمحذوف تقديره يوم الساعة الآزفة، أو الطامة الآزفة ونحو هذا. ولما اعتقب كل إنذار نوعاً من الشدة والخوف وغيرهما، حسن التكرار في الآزفة القريبة، كما تقدم، وهي مشارفتهم دخول النار، فإنه إذ ذاك تزيغ القلوب عن مقارها من شدة الخوف. وقال أبو مسلم: يوم الآزفة: يوم المنية وحضور الأجل، يدل عليه أنه يعدل وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق، ويوم بروزهم، فوجب أن يكون هذا اليوم غيره، وهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات، يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب، وأيضاً فالصفات المذكورة بعد قوله: {يوم الآزفة}، لائقة بيوم حضور المنية، لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب لعظم خوفه، يكاد قلبه يبلغ حنجرته من شدّة الخوف، ولا يكون له حميم ولا شفيع يرفع عنه ما به من أنواع الخوف.
{إذ القلوب لدى الحناجر}، قيل: يجوز أن يكون ذلك يوم القيامة حقيقة، ويبقون أحياء مع ذلك بخلاف حالة الدنيا، فإن من انتقل قلبه إلى حنجرته مات، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ما يبلغون إليه من شدة الجزع، كما تقول: كادت نفسي أن تخرج، وانتصب كاظمين على الحال. قال الزمخشري: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى، إذا المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها، ويجوز أن تكون حالاً عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها، مع بلوغها الحناجر. وإنما جمع الكاظم جمع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال: {رأيتهم لي ساجدين} وقال: فظلت أعناقهم لها خاضعين، ويعضده قراءة من قرأ: كاظمون، ويجوز أن يكون حالاً عن قوله: أي وانذرهم مقدرين. وقال ابن عطية: كاظمين حال، مما أبدل منه قوله تعالى: {تشخص فيه الأبصار مهطعين} أراد تشخص فيه أبصارهم، وقال الحوفي: القلوب رفع بالإبتداء، ولدى الحناجر الخبر متعلق بمعنى الاستقرار. وقال أبو البقاء: كاظمين حال من القلوب، لأن المراد أصحابها. انتهى. {ما للظالمين من حميم}: أي محب مشفق، ولا شفيع يطاع في موضع الصفة لشفيع، فاحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ، وفي موضع رفع على الموضع واحتمل أن ينسحب النفي على الوصف فقط، فيكون من شفيع، ولكنه لا يطاع، أي لا تقبل شفاعته، واحتمل أن ينسحب النفي على الموصوف وصفته: أي لا شفيع فيطاع، وهذا هو المقصود في الآية أن الشفيع عند الله إنما يكون من أوليائه تعالى، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضاه الله وأيضاً فيكون في زيادة التفضل والثواب ولا يمكن شيء من هذا في حق الكافر.
وعن الحسن: والله لا يكون لهم شفيع البتة، {يعلم خائنة الأعين}، كقوله:
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

أي الناس الكرام، وجوزوا أن تكون خائنة مصدراً، كالعافية والعاقبة، أي يعلم خيانة الأعين. ولما كانت الأفعال التي يقصد بها التكتم بدنية، فأخفاها خائنة الأعين من كسر جفن وغمز ونظر يفهم معنى ويريد صاحب معنى آخر وقلب، وهو ما تحتوي عليه الضمائر، قسم ما ينكتم به إلى هذين القسمين، وذكر أن علمه متعلق بهما التعلق التام. وقال الزمخشري: ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين، لأن قوله: {وما تخفي الصدور} لا يساعد عليه. انتهى، يعني أنه لا يناسب أن يكون مقابل المعنى إلا المعنى، وتقدم أن الظاهر أن يكون التقدير الأعين الخائنة، والظاهر أن قوله: {يعلم خائنة الأعين} الآية متصل بما قبله، لما أمر بإنكاره يوم الآزفة، وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم، وأن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك، ولا من يشفع له.
ذكر اطلاعه تعالى على جميع ما يصدر من العبد، وأنه مجازي بما عمل، ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله مطلع على أعماله. وقال ابن عطية: {يعلم خائنة الأعين} متصل بقوله: {سريع الحساب}، لأن سرعة حسابه للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر، ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون. وقالت فرقة: يعلم متصل بقوله: {لا يخفي على الله منهم شيء}، وهذا قول حسن، يقويه تناسب المعنيين، ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل. انتهى. وقال الزمخشري: فإن قلت: فإن قلت: بم اتصل قوله: {يعلم خائنة الاعين}؟ قلت: هو خبر من أخبار هو في قوله: {هو الذي يريكم البرق} مثل: {يلقي الروح}، ولكن من يلقي الروح قد علل بقوله: {لينذر يوم التلاق}، ثم أسقط وتذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله: {ولا شفيع يطاع}، فبعد لذلك عن إخوانه. انتهى. وفي بعض الكتب المنزلة، انا مرصاد الهمم، انا العالم بحال الفكر وكسر العيون. وقال مجاهد: خائنة الأعين: مسارقة النظر إلى ما لا يجوز؛ ومثل المفسرون خائنة الأعين بالنظر الثاني إلى حرمة غير الناظر، وما تحفي الصدور بالنظر الأول الذي لا يمكن رفعه.
{والله يقضي بالحق}: هذا يوجب عظيم الخوف، لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوال لا يقضي إلا بالحق في ما دق وجل خافه الخلق غاية.
{والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء}: هذا قدح في أصنامهم وتهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة، لا يقال فيه يقضي ولا يقضى. وقرأ الجمهور: {يدعون} بياء الغيبة لتناسب الضمائر الغائبة قبل. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ونافع: بخلاف عنه؛ وهشام: تدعون بتاء الخطاب، أي قل لهم يا محمد. {إن الله هو السميع البصير}: تقرير لقوله: {يعلم خائننة الأعين وما تخفي الصدور}، وعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعلمون وتعريض بأصنامهم أنها لا تسمع ولا تبصر. {أوَلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم}: أحال قريشاً على الاعتبار بالسير، وجاز أن يكون فينظروا مجزوماً عطفاً على يسيروا وأن يكون منصوباً على جواب النفي، كما قال:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم

وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة، وحمل الزمخشري هم على أن يكون فصلاً ولا يتعين، إذ يجوز أن يكون هم توكيداً لضمير كانوا. وقرأ الجمهور: منهم بضمير الغيبة؛ وابن عامر: منكم بضمير الخطاب على سبيل الالتفات. {وآثاراً في الأرض}: معطوف على قوة، أي مبانيهم وحصونهم وعددهم كانت في غاية الشدة. {وتنحتون من الجبال بيوتاً} وقال الزمخشري: أو أرادوا أكثر آثاراً لقوله:
متقلداً سيفاً ورمحاً

أي: ومعتقلاً رمحاً، ولا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة المعنى بدونه. {من واق}: أي وما كان لهم من عذاب الله من ساتر بمنعهم منعه. {ذلك}: أي الأخذ، وتقدم تفسير نظير ذلك.

.تفسير الآيات (23- 29):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}
ابتدأ تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، ووعيد القريش أن يحل بهم ما حل بفرعون وقومه من نقمات الله، ووعد للمؤمنين بالظفر والنصر وحسن العاقبة. وآيات موسى عليه السلام كثيرة، والذي تحدى به من المعجز العصا واليد. وقرأ عيسى: وسلطان بضم اللام، والسلطان المبين: الحجة والبرهان الواضح. والظاهر أن قارون هو الذي ذكره تعالى في قوله: {إن قارون كان من قوم موسى} وهو من بني إسرائيل. وقيل: هو غيره، ونص على هامان وقارون لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون. {فقالوا ساحر كذاب}: أي هذا ساحر، لما ظهر على يديه من قلب العصاحية، وظهور النور الساطع على يده، كذاب لكونه ادعى أنه رسول من رب العالمين. {فلما جاءهم بالحق من عندنا}: أي بالمعجزات والنبوة والدعاء إلى الإيمان بالله، {قالوا}، أي أولئك الثلاثة، {اقتلوا}. قال ابن عباس: أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً. انتهى. يريد أن هذا غير القتل الأول، وإنما أمروا بقتل أبناء المؤمنين لئلا يتقوى بهم موسى عليه السلام، وباستحياء النساء للاستخدام والاسترقاق، ولم يقع ما أمروا به ولا تم لهم، ولا أعانهم الله عليه. {وما كيد الكافرين إلا في ضلال}: أي في حيرة وتخبط، لم يقع منه شيء، ولا أنجح سعيهم، وكانوا باشروا القتل أولاً، فنفذ قضاء الله في إظهار من خافوا هلاكهم على يديه. وقيل: كان فرعون قد كف عن قتل الأبناء، فلما بعث موسى، وأحس أنه قد وقع ما كان يحذره، أعاد القتل عليهم غيظاً وحنقاً وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين معاً.
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه}، قال الزمخشري: بعضه من كلام الحسن، كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، هو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقامه إلا ساحر مثله، ويقولون: إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة. والظاهر أن فرعون، لعنه الله، كان قد استيقن أنه نبي، وأن ما جاء به آيات وما هو سحر، ولكن الرجل كان فيه خبث وجبروت، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه، يهدم ملكه؟ ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك. وقوله: {وليدع ربه}: شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، كان قوله: {ذروني أقتل موسى} تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع. وقال ابن عطية: الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى انهدَّ ركنه واضطربت معتقدات أصحابه، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره، وذلك بين من غير ما موضع في قصتهما، وفي ذلك على هذا دليلان: أحدهما: قوله {ذروني}، فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم.
الدليل الثاني: في مقالة المؤمن وما صدع به، وأن مكاشفته لفرعون خير من مساترته، وحكمه بنبوة موسى أظهر من تقريبه في أمره. وأما فرعون، فإنه نحا إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي، ومن ذلك قوله: {ذروني أقتل موسى وليدع ربه}: أي إني لا أبالي من رب موسى، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والخيانة لهم، فقال: {إني أخاف أن يبدل دينكم}، والدين: السلطان، ومنه قول زهير:
لئن حللت بجوّ في بني أسد ** في دين عمرو وحالت بيننا فدك

انتهى. وتبديل دينهم هو تغييره، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام، كما قال: {ويذرك وآلهتك} أو أن يظهر الأرض الفساد، وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن، وتتعطل المزارع والمكاسب، ويهلك الناس قتلاً وضياعاً، فأخاف فساد دينكم ودنياكم معاً. وبدأ فرعون بخوفه تغيير دينهم على تغيير دنياهم، لأن حبهم لأديانهم فوق حبهم لأموالهم. وقيل: {ذروني} يدل على أنهم كانوا يمنعونه من قتله، إما لكون بعضهم كان مصدقاً له فيتحيل في منع قتله، وإما لما روي عن الحسن مما ذكر الزمخشري، وإما الشغل قلب فرعون بموسى حتى لا يتفرغ لهم، ويأمنوا من شره؛ كما يفعلون مع الملك، إذا خرج عليه خارجي شغلوه به حتى يأمنوا من شره. وقرأ الكوفيون: أو أن، بترديد الخوف بين تبديل الدين أو ظهور الفساد. وقرأ باقي السبعة: وأن بانتصاب الخوف عليهما معاً. وقرأ أنس بن مالك، وابن المسيب، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء، والحسن، والجحدري، ونافع، وأبو عمرو، وحفص: {يظهر} من أظهر مبنياً للفاعل، {الفساد}: نصباً. وقرأ باقي السبعة، والأعرج، والأعمش، وابن وثاب، وعيسى: يظهر من ظهر مبنياً للفاعل، الفساد: رفعاً. وقرأ مجاهد: يظهر بشد الظاء والهاء، الفساد: رفعاً. وقرأ زيد بن عليّ: يظهر: بضم الياء وفتح الهاء مبنياً للمفعول، الفساد: رفعا.
ولما سمع موسى بمقالة فرعون، استعاذ بالله من شر كل متكبر منكر للمعاد. وقال: {وربكم}: بعثاً على الاقتداء به، فيعوذون بالله ويعتصمون به ومن كل متكبر يشمل فرعون وغيره من الجبابرة؛ وكان ذلك على طريق التعريض، وكان أبلغ. والتكبر: تعاظم الإنسان في نفسه مع حقارته، لأنه يفعل ولا يؤمن بيوم الحساب، أي بالجزاء، وكان ذلك آكد في جراءته، إذ حصل له التعاظم في نفسه، وعدم المبالاة بما ارتكب. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: عدت بالإدغام؛ وباقي السبعة: بالإظهار. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، قيل: كان قبطياً ابن عم فرعون، وكان يجري مجرى ولي العهد، ومجرى صاحب الشرطة.
وقيل: كان قبطياً ليس من قرابته. وقيل: قيل فيه من آل فرعون، لأنه كان في الظاهر على دينه ودين أتباعه. وقيل: كان إسرائيلياً وليس من آل فرعون، وجعل آل فرعون متعلقاً بقوله: {يكتم إيمانه}، لا في موضع الصفة لرجل، كما يدل عليه الظاهر، وهذا فيه بعد، إذ لم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتجاسر عند فرعون بمثل ما تكلم به هذا الرجل. وقد رد قول من علق من آل فرعون بيكتم، فإنه لا يقال: كتمت من فلان كذا، إنما يقال: كتمت فلاناً كذا، قال تعالى: {ولا يكتمون الله حديثاً} وقال الشاعر:
كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً ** وهمين هماً مستكناً وظاهرا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها ** وورد هموم لن يجدن مصادرا

أي: كتمتك أحاديث نفس وهمين. قيل: واسمه سمعان. وقيل: حبيب. وقيل: حزقيل. وقرأ الجمهور: {رجل} بضم الجيم. وقرأ عيسى، وعبد الوارث، وعبيد بن عقيل، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو: بسكون، وهي لغة تميم ونجد. {أتقتلون رجلاً أن يقول}: أي لأن يقول {ربي الله}، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت لهم، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها، وهي قوله: {ربي الله}، مع أنه {قد جاءكم بالبينات من ربكم}: أي من عند من نسب إليه الربوبية، وهو ربكم لا ربه وحده؟ وهذا استدراج إلى الاعتراف. وقال الزمخشري: ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً، أي وقت أن يقول، والمعنى: أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره؟ انتهى. وهذا الذي أجازه من تقدير المضاف المحذوف الذي هو وقت لا يجوز، تقول: جئت صياح الديك، أي وقت صياح الديك، ولا أجيء أن يصيح الديك، نص على ذلك النحاة، فشرط ذلك أن يكون المصدر مصرحاً به لا مقدراً، وأن يقول ليس مصدراً مصرحاً به. {بالبينات}: بالدلائل على التوحيد، وهي التي ذكرها في طه والشعراء حالة محاورته له في سؤاله عن ربه تعالى.
ولما صرح بالإنكار عليهم، غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق، وأدّى ذلك في صورة احتمال ونصيحة، وبدأ في التقسيم بقوله: {وإن يك كاذباً فعليه كذبه}، مداراة منه وسالكاً طريق الإنصاف في القول، وخوفاً إذا أنك عليهم قتله أنه ممن يعاضده ويناصره، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره، ويكون ذلك أدنى لتسليمهم. ومعنى {فعليه كذبه}: أي لا يتخطاه ضرره. {وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم}، وهو يعتقد أنه نبي صادق قطعاً، لكنه أتى بلفظ بعض لإلزام الحجة بأسرها في الأمر، وليس فيه نفي أن يصيبهم كل ما يعدهم. وقالت فرقة: يصبكم بعض العذاب الذي يذكر، وذلك كان في هلاكهم، ويكون المعنى: يصبكم القسم الواحد مما يعد به، وذلك هو بعض مما يعد، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعمة، وإن كفروا بالنقمة.
وقالت فرقة: بعض الذي يعدكم عذاب الدنيا، لأنه بعض عذاب الآخرة، ويصيرون بعد ذلك إلى النار. وقال أبو عبيدة وغيره: بعض بمعنى كل، وأنشدوا عمرو بن شسيم القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقال الزمخشري: وذلك أنه حين فرض صادقاً، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه {يصبكم بعض الذين يعدكم}، ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه وافياً فضلاً أن يتعصب له. فإن قلت: وعن أبي عبيدة أنه قسم البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد وهو:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ** ويريك من بعض النفوس حمامها

قلت: إن صحت الرواية عنه فقد حق في قول المازني في مسألة العافي كان أحفى من أن يفقه ما أقول له. انتهى، ويعني أن أبا عبيدة خطأه الناس في اعتقاده أن بعضاً يكون بمعنى كل، وأنشدوا أيضاً في كون بعض بمعنى كل قول الشاعر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ** دون الشيوخ في بعضها خللا

أي: إذا رأى الأحداث، ولذلك قال دبرها ولم يقل دبروها، راعي المضاف المحذوف. {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} فيه: إشارة إلى علو شأن موسى، عليه السلام، وأن من اصطفاه الله للنبوة لا يمكن أن يقع منه إسراف ولا كذب، وفيه تعريض بفرعون، إذ هو غاية الإسراف على نفسه بقتل أبناء المؤمنين، وفي غاية الكذب، إذ ادّعى الإلهية والربوبية، ومن هذا شأنه لا يهديه الله. وفي الحديث: «الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون، وعليّ بن أبي طالب» وفي الحديث: «أنه عليه السلام، طاف بالبيت، فحين فرغ أخذ بمجامع ردائه، فقالوا: له أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال: أنا ذاك، فقام أبو بكر، رضي الله عنه، فالتزمه من ورائه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم»، رافعاً صوته بذلك وعيناه تسفحان بالدموع حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق: أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرًّا، وأبو بكر قاله ظاهراً. وقال السدي: مسرف بالقتل. وقال قتادة: مسرف بالكفر. وقال صاحب التحرير والتحبير: هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، والقوم على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له، وأنه من أتباعه، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله}، ولم يذكر اسمه، بل قال رجلاً يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له، {أن يقول ربي الله}، ولم يقل رجلاً مؤمناً بالله، أو هو نبي الله، إذ لو قال شيئاً من ذلك لعلموا أنه متعصب.
ولم يقبلوا قوله، ثم اتبعه بما بعد ذلك، فقدم قوله: {وإن يك كاذباً}، موافقة لرأيهم فيه. ثم تلاه بقوله: {وإن يك صادقاً}، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم، لعلموا أنه متعصب، وأنه يزعم أنه نبي، وأنه يصدقه، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق، وهو قوله: {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب}. انتهى.
ثم قال: {يا قوم} نداء متلطف في موعظتهم. {لكم الملك اليوم ظاهرين}: أي عالمين: {في الأرض}: في أرض مصر، قد غلبتم بني إسرائيل فيها، وقهرتموهم واستعبدتموهم، وناداهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجهلها، وهو من جهة شهواتهم، وانتصب ظاهرين على الحال، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور، وذو الحال هو ضمير لكم. ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأس الله لم يجدوا ناصراً لهم ولا دافعاً، وأدرج نفسه في قوله: {ينصرنا}، {وجاءنا} لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه. وأقوال هذا المؤمن تدل على زوال هيبة فرعون من قلبه، ولذلك استكان فرعون وقال: {ما أريكم إلا ما أرى}: أي ما أشير عليكم إلا بقتله، ولا أستصوب إلا ذلك، وهذا قول من لا تحكم له، وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد.
{وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}، لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب، بل كان خائفاً وجلاً، وقد علم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق، ولكنه كان يتجلد، ويرى ظاهره خلاف ما أبطن. وأورد الزمخشري وابن عطية وأبو القاسم الهذلي هنا أن معاذ بن جبل قرأ الرشاد بشد الشين. قال أبو الفتح: وهو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي رشد، فهو كعباد من عبد. وقال الزمخشري: أو من رشد، كعلام من علم. وقال النحاس: هو لحن، وتوهمه من الفعل الرباعي، ورد عليه أنه لا يتعين أن يكون من الرباعي، بل هو من الثلاثي، على أن بعضهم قد ذهب إلى أنه من الرباعي، فبنى فعال من أفعل، كدراك من أدرك، وسآر من أسأر، وجبار من أجبر، وقصار من أقصر، ولكنه ليس بقياس، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة، وفعال من الثلاثي مقيس فحمل عليه. وقال أبو حاتم: كان معاذ بن جبل يفسرها بسبيل الله. قال ابن عطية: ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه. وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله؟ وتعلق بناء اللفظ على هذا التأويل. انتهى. وإيراد الخلاف في هذا الحرف الذي هو من قول فرعون خطأ، وتركيب قول معاذ عليه خطأ، والصواب أن الخلاف فيه هو قول المؤمن: {اتبعون أهدكم سبيل الرشاد}.
قال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له من شواذ القراءات ما نصه: معاذ بن جبل سبيل الرشاد، الحرف الثاني بالتشديد، وكذلك الحسن، وهو سبيل الله تعالى الذي أوضح الشرائع، كذلك فسره معاذ بن جبل، وهو منقول من مرشد، كدراك من مدرك، وجباز من مجبر، وقصار من مقصر عن الأمر، ولها نظائر معدودة، فأما قصار فهو من قصر من الثوب قصارة. وقال ابن خالويه، بعد أن ذكر الخلاف في التناد وفي صد عن السبيل ما نصه: سبيل الرشاد بتشديد الشين، معاذ بن جبل. قال ابن خالويه: يعني بالرشاد الله تعالى. انتهى. فهذا لم يذكر الخلاف إلا في قول المؤمن: {أهديكم سبيل الرشاد}، فذكر الخلاف فيه في قول فرعون خطأ، ولم يفسر معاذ بن جبل الرشاد أنه الله تعالى إلا في قول المؤمن، لا في قول فرعون. قال ابن عطية: ذلك التأويل من قول فرعون وَهْمٌ.