فصل: سورة الشورى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة الشورى:

.تفسير الآيات (1- 12):

{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}
هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس: مكية إلا أربع آيات من قوله: {قل لا أسلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} إلى آخر الأربع آيات، فإنها نزلت بالمدينة. وقال مقاتل: فيها مدني قوله: {ذلك الذين يبشر الله عباده} الى {الصدور}. ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها أنه قال: {قل أرأيتم إن كان من عند الله} الآية، وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال. لما كفروا به قال هنا: {كذلك}، أي مثل الإيحاء السابق في القرآن الذي كفر به هؤلاء، {يوحى إليك}: أي إن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع، يتعهدك وقتاً بعد وقت. وذكر المفسرون في {حم عسق} أقوالاً مضطربة لا يصح منها شيء كعادتهم في هذه الفواتح، ضربنا عن ذكرها صفحاً. وقرأ الجمهور: يوحي مبنياً للفاعل؛ وأبو حيوة، والأعشى عن أبي بكر، وأبان: نوحي بنون العظمة؛ ومجاهد، وابن وكثير، وعباس، ومحبوب، كلاهما عن أبي عمرو: يوحي مبنياً للمفعول؛ والله مرفوع بمضمر تقديره أوحي، أو بالابتداء، التقدير: الله العزيز الحكيم الموحي؛ وعلى قراءة نوحي بالنون، يكون {الله العزيز الحكيم} مبتدأ وخبراً. ويوحي، إما في معنى أوجب حتى ينتظم قوله: {وإلذين من قبلك}، أو يقرأ على موضوعه، ويضمر عامل يتعلق به إلى الذين تقديره: وأوحي إلى الذين من قبلك.
وتقدم الكلام على {تكاد السموات يتفطرن} في سورة مريم قراءة وتفسيراً. وقال الزمخشري: وروى يونس عن أبي عمر وقراءة عربية: تتفطرن بتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر روي في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشممن. انتهى. والظاهر أن هذا وهم من الزمخشري في النقل، لأن ابن خالويه ذكر في شواذ القراآت له ما نصب: تفطرن بالتاء والنون، يونس عن أبي عمرو. وقال ابن خالويه: هذا حرف نادر، لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث. لا يقال: النساء تقمن، ولكن يقمن، والوالدات يرضعن. قد كان أبو عمر الزاهد روى في نوادر ابن الأعرابي: الإبل تتشممن، فأنكرناه، فقد قواه، لأن هذا كلام ابن خالويه. فإن كانت نسخ الزمخشري متفقة على قوله بتاءين مع النون فهو وهم، وإن كان في بعضها بتاء مع النون، كان موافقاً لقول ابن خالويه، وكان بتاءين تحريفاً من النساخ. وكذلك كتبهم تتفطرن وتتشممن بتاءين. والظاهر عود الضمير في {فوقهن} على {السموات}. قال ابن عطية: من أعلاهن. وقال الزمخشري: ينفطرن من علو شأن الله تعالى وعظمته، ويدل عليه مجيئه بعد {العلي العظيم}. وقيل: من دعائهم له ولداً، كقوله: {تكاد الصمات يتفطرن منه} فإن قلت: لم قال {من فوقهن}؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السموات، وهي العرض والكرسي وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال: {يتفطرن من فوقهن}: أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية.
وقال جماعة، منهم الحوفي، قال: {من فوقهن}، والهاء والنون كناية عن الأرضين. انتهى. {من فوقهن} متعلق يتفطرن، ويدل على هذا القول ذكر الأرض قبل. وقال علي بن سليمان الأخفش: الضمير للكفار، والمعنى: من فوق الفرق والجماعات الملحدة، أي من أجل أقوالها. انتهى.
فهذه الآية كالذي في سورة مريم، واستبعد مكي هذا القول، قال: لا يجوز في الذكور من بني آدم، يعني ضمير المؤنث والاستشعار ما ذكره مكي. قال علي بن سليمان: من فوق الفرق والجماعات، وظاهر الملائكة العموم. وقال مقاتل: حملة العرش والتسبيح، قيل: قولهم سبحان الله، وقيل: يهللون؛ والظاهر يستغفرون طلب الغفران، ولأهل الأرض عام مخصوص بقوله: {ويستغفرون للذين آمنوا} قاله السدي. وقيل: عام. ومعنى الاستغفار: طلب الهداية المؤدية إلى المغفرة، كأنهم يقولون: اللهم اهد أهل الأرض، فاغفر لهم. ويدل عليه وصفه بالغفران والحرمة والاستفتاح. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار لهم: طلب الحلم والغفران في قوله: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}، إلى أن قال: {إنه كان حليماً غفوراً} وقوله: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} والمراد: الحلم عنهم، وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاماً. انتهى. وتكلم أبو عبد الله الرازي في قوله: {تكاد السموات} كلاماً خارجاً عن مناحي مفهومات العرب، منتزعاً من كلام الفلاسفة ومن جرى مجراهم، يوقف على ذلك في كتابه.
{والذين اتخذوا من دونه أولياء}: أي أصناماً وأوثاناً، {الله حفيظ عليهم}: أي على أعمالهم ومجازيهم عليها، {وما أنت عليهم بوكيل}: أي بمفوض إليك أمرهم ولا قائم. وما في هذا من الموادعة منسوخ بآية السيف. {وكذلك}: أي ومثل هذا الإيحاء والقضاء، إنك لست بوكيل عليهم، {أوحينا إليك قرآناً عربياً}. والظاهر أن {قرآناً} مفعول {أوحينا}. وقال الزمخشري: الكاف مفعول به، أي أوحيناه إليك، وهو قرآن عربي لا لبس فيه عليك، إذ نزل بلسانك. انتهى. فاستعمل الكاف اسماً في الكلام، وهو مذهب الأخفش. {لتنذر أم القرى}: مكة، أي أهل أم القرى، وكذلك المفعول الأول محذوف، والثاني هو: {يوم الجمع}: أي اجتماع الخلائق، والمنذر به هو ما يقع في يوم الجمع من الجزاء وانقسام الجمع إلى الفريقين، أو اجتماع الأرواح بالأجساد، أو أهل الأرض بأهل السماء، أو الناس بأعمالهم، أقوال أربعة. لينذر بياء الغيبة، أي لينذر القرآن. {لا ريب فيه}: أي لا شك في وقوعه. وقال الزمخشري: {لا ريب فيه}: اعتراض لا محالة. انتهى. ولا يظهر أنه اعتراض، أعني صناعياً، لأنه لم يقع بين طالب ومطلوب. وقرأ الجمهور: {فريق} بالرفع فيهما، أي هم فريق أو منهم فريق. وقرأ زيد بن عليّ بنصبهما، أي افترقوا، فريقاً في كذا، وفريقاً في كذا؛ ويدل على الافتراق: الاجتماع المفهوم من يوم الجمع.
{ولو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة}: يعني من إيمان أو كفر، قال معناه الضحاك، وهو قول أهل السنة، وذلك تسلية للرسول. كما كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيف على أن ذلك راجع إلى مشيئته، ولكن من سبقت له السعادة أدخله في رحمته. وقال الزمخشري: {لجعلهم أمة واحدة}: أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} وقوله: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} والدليل على أن المعنى هو الإيحاء إلى الإيمان قوله: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، وذكر ما ظنه استدلالاً على ذلك، وهو على طريق الاعتزال. وقال أنس بن مالك: {في رحمته}: في دين الإسلام. {أم اتخذوا من دونه أولياء}، أم بمعنى بل، للانتقال من كلام إلى كلام، والهمزة للإنكار عليهم اتخاذ أولياء من دون الله. وقيل: أم بمعنى الهمزة فقط، وتقدّم الكلام على مثل هذا، حيث جاءت أم المنقطعة، والمعنى: اتخذوا أولياء دون الله، وليسوا بأولياء حقيقة، فالله هو الولي، والذي يجب أن يتولى وحده، لا ما لا يضر ولا ينفع من أوليائهم. ولما أخبر أنه هو الولي، عطف عليه هذا الفعل الغريب الذي لا يقدر عليه غيره، وهو إحياء الموتى. ولما ذكر هذا الوصف، ذكر قدرته على كل شيء تتعلق إرادته به. وقال الزمخشري: في قوله: {فالله هو الولي}، والفاء في قوله: {فالله هو الولي} جواب شرط مقدر، كأنه قيل: بعد إنكار كل ولي سواه، وإن أراد ولياً بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولي سواه. انتهى. ولا حاجة إلى تقدير شرط محذوف، والكلام يتم بدونه.
{وما اختلفتم فيه من شيء}: هذا حكاية لقول الرسول، أي ما اختلفتم فيه أيها الناس من تكذيب أو تصديق وإيمان وكفر وغير ذلك، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليس ذلك إلا إلى الله، لا إليّ، ولفظة من شيء تدل على العموم. وقيل: من شيء من الخصومات، فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره، كقوله: {وإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} وقيل: {من شيء}: من تأويل آية واشتبه عليكم، فارجعوا في بيانه إلى آي المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: ما وقع منكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم، كمعرفة الروح. وقال الزمخشري: أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاتبة المبطلين. {ذلكم}: الحكم بينكم هو {ربي عليه توكلت} في رد كيد أعداء الدين، وإليه أرجع في كفاية شرهم.
انتهى. وقرأ الجمهور: {فاطر} بالرفع، أي هو فاطر، أو خبر بعد خبر كقوله: {ذلكم}. وقرأ زيد بن عليّ: فاطر بالجر، صفة لقوله: {إلى الله}، والجملة بعدها اعتراض بين الصفة والموصوف.
{جعل لكم من أنفسكم}: أي من جنس أنفسكم، أي آدميات، {أزواجاً}: إناثاً، أو جعل الخلق لأبينا آدم من ضلعه حواء زوجاً له خلقاً لنا، {ومن الأنعام أزواجاً}: أي أنواعاً كثيرة، ذكوراً وإناثاً، أو أزواجاً إناثاً. {يذرؤكم فيه}، قال ابن عباس: أي يجعل لكم فيه معيشية تعيشون بها. وقال ابن زيد: يرزقكم فيه، وهو قريب من القول قبله. وقال مجاهد: يخلقكم في بطون الإناث. وقال ابن زيد أيضاً: يذرأكم فيما خلق من السموات والأرض. وقال الزجاج: يكثركم به، أي فيه، أي يكثركم في خلقكم أزواجاً. وقال عليّ بن سليمان: ينقلكم من حال إلى حال. وقال ابن عطية: الضمير في فيه للجعل، أي يخلقكم ويكثركم في الجعل، كما تقول: كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه، قال: ولفظة ذرأ تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق، وهو توالي الطبقات على مر الزمان.
وقال الزمخشري: {يذرؤكم}: يكثركم، يقال ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم، والذرء والذروء والذرواء أخوات في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في يذرؤكم يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيه مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين. انتهى. وقوله: وهي من الأحكام ذات العلتين، اصطلاح غريب، ويعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا فتقول: أنت وزيد تقومان؛ والعاقل يغلب على غير العاقل إذا اجتمعا، فتقول: الحيوان وغيرهم يسبحون خالقهم. قال الزمخشري؛ فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير؟ كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة} انتهى. {ليس كمثله شيء}، تقول العرب: مثلك لا يفعل كذا، يريدون به المخاطب، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفياً عن الشخص، وهو من باب المبالغة، ومثل الآية قول أوس بن حجر:
ليس كمثل الفتى زهير ** خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر:
وقتلى كمثل جذوع النخيل تغشاهم مسبل منهمر

وقال آخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ** ما إن كمثلهم في الناس من أحد

فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء. وما ذهب إليه الطبري وغيره من أن مثلاً زائدة للتوكيد كالكاف في قوله:
فأصبحت مثل كعصف مأكول ** وقوله:

وصاليات ككما يؤثفين

ليس بجيد، لأن مثلاً اسم، والأسماء لا تزاد، بخلاف الكاف، فإنها حرف، فتصلح للزيادة.
ونظير نسبة المثل إلى من لا مثل له قولك: فلان يده مبسوطة، يريد أنه جواد، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له، كقوله: {بل يداه مبسوطتان} فكما جعلت ذلك كناية عن الجواد فيمن لا يد له، فكذلك جعلت المثل كناية عن الذوات في من لا مثل له. ويحتمل أيضاً أن يراد بالمثل الصفة، وذلك سائغ، يطلق المثل بمعنى المثل وهو الصفة، فيكون المعنى: ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره، وهذا محمل سهل، والوجه الأول أغوص. قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثال مقام النفس، فيقول: مثلي لا يقال له هذا، أي أنا لا يقال لي هذا. انتهى. فقد صار ذلك كناية عن الذات، فلا فرق بين قولك: ليس كالله شيء، أو ليس كمثل الله شيء. وقد أجمع المفسرون على أن الكاف والمثل يراد بهما موضوعهما الحقيقي من أن كلاً منهما يراد به التشبيه، وذلك محال، لأن فيه إثبات مثل لله تعالى، وهو محال. {وهو السميع} لأقوال الخلق، {البصير} لأعمالهم. وتقدم تفسير: {له مقاليد السموات والأرض} في سورة الزمر؛ وقرئ: {ويقدر}: أي يضيق. {إنه بكل شيء عليم}: أي يوسع لمن يشاء، ويضيق على من يشاء. وقال الزمخشري: فإذا علم أن الغنى خير للعبد أغناه لا أفقره. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.

.تفسير الآيات (13- 20):

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}
لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة، أتبعه بذكر نعمه العامة، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها، من توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر، والجزاء فيه. ولما كان أول الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال: {ما وصى به نوحاً والذين أوحينا إليك}، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم، إذ كان أبا العرب، ففي ذلك هزلهم وبعث على ابتاع طريقته، وموسى وعيسى صلوات الله عليهم، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد، وفي كثير من الأحكام، كتحريم الزنا والقتل بغير حق. والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام؛ ويقال: إن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم. وقال ابن عباس: اختار، ويحتمل أن تكون أن مفسرة، لأن قبلها ما هو بمعنى القول، فلا موضع لها من الإعراب. وأن تكون أن المصدرية، فتكون في موضع نصب على البدل من ما؛ وما عطف عليها، أو في موضع رفع، أي ذلك، أو هو إقامة الدين، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لابد من اعتقاده. ثم نهى عن التفرقة فيه، لأن التفرق سبب للهلاك، والاجتماع والألفة سبب للنجاة. {كبر على المشركين}: أي عظم وشق، {ما تدعوهم إليه} من توحيد الله وترك عباده الأصنام وإقامة الدين. {الله يجتبي}: يجتلب ويجمع، {إليه من يشاء} هدايته، وهذا تسلية للرسول. وقيل: يجتبي، فيجعله رسولاً إلى عباده، {ويهدي إليه من ينيب}: يرجع إلى طاعته عن كفره. وقال الزمخشري: {من يشاء}: من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفة. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال.
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه، ولم تفرض، له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، وإنما كان منبهاً على بعض الأمور، مقتصراً على ضرورات المعاش. واستمر الهدى إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الأدب في الديانات. ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحداً بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فكان المعنى: أوصيناك يا محمد ونوحاً ديناً واحداً في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقريب بصالح الأعمال، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروات؛ فهذا كله مشروع ديناً واحداً، أو ملة متحدة، لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}: أي اجعلوه قائماً، يريد دائماً مستمراً محفوظاً مستقراً من غير خلاف فيه ولا اضطراب.
انتهى. وقال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته، فهو إقامة الدين. وقال أبو العالية: إقامة الدين: الأخلاص لله وعبادته، {ولا تتفرقوا فيه}، قال أبو العالية: لا تتعادوا فيه. وقال مقاتل: معناه لا تختلفوا، فإن كل نبي مصدق. وقيل: لا تتفرقوا فيه، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض.
{وما تفرقوا}، قال ابن عباس: يعني قرشياً، والعلم: محمد عليه الصلاة والسلام، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي، كما قال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير} يريدون نبياً. وقيل: الضمير يعود على أمم الأنبياء، جاءهم العلم، فطال عليهم الأمد، فآمن قوم وكفر قوم. وقال ابن عباس أيضاً: عائد على أهل الكتاب، والمشركين دليله: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} قال المشركون: لم خص بالنبوة، واليهود والنصارى حسدوه. {ولولا كلمة}: أي عدة التأخر إلى يوم القيامة، فحينئذ يقع الجزاء، {لقضي بينهم}: لجوزوا بأعمالهم في الدنيا؛ لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة. وقال الزجاج: الكلمة قوله: {بل الساعة موعدهم} {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم}: هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، {من بعدهم}: أي من بعد أسلافهم، أو هم المشركون، أورثوا الكتاب من بعدما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرأ زيد بن علي: ورثوا مبنياً للمفعول مشدد الراء، {لفي شك منه}: أي من كتابهم، أو من القرآن، أو مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو من الدين الذي وصى به نوحاً. ولما تقدم شيئآن: الأمر بإقامة الدين، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك، احتمل قوله. {فلذلك}، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين، أي فادع لدين الله وإقامته، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل، لأن دعا يتعدى باللام، قال الشاعر:
دعوت لما نابني مسوراً ** فلبى فلبى يدي مسورا

واحتمل أن تكون اللام للعلة، أي فلأجل ذلك التفرق. ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً، {فادع} إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية، {واستقم}: أي دم على الاستقامة، وتقدم الكلام على {فاستقم كما أمرت} وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود. {ولا تتبع أهواءهم} المختلفة الباطلة، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله الله، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض. {وأمرت لأعدل بينهم}، قيل: إن المعنى: وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في ايصال ما أمرت به إليكم، لا أخص شخصاً بشيء دون شخص، فالشريعة واحدة، والأحكام مشترك فيها. وقيل: لاعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم. {لا حجة بيننا وبينكم}: أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك.
{الله يجمع بيننا} وبينكم، أي يوم القيامة، فيفصل بيننا. وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف.
{والذين يحاجون في الله}: أي يخاصمون في دينه، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم، بل قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم؛ فديننا أفضل، فنزلت الآية في ذلك. وقيل: نزلت في قريش، كانوا يجادلون في هذا المعنى، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية. واستجيب مبني للمفعول، فقيل: المعنى من بعدما استجاب الناس لله، أي لدينه ودخلوا فيه. وقيل: من بعدما استجاب الله له، أي لرسوله ودينه، بان نصره يوم بدر وظهر دينه. {حجتهم داحضة} أي باطلة لا ثبوت لها. ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب، والكتاب جنس يراد به الكتب الآلهية. {والميزان}، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: هو المعدل؛ وعن ابن مجاهد: هو هنا الميزان الذي بإيدي الناس، وهذا مندرج في العدل.
{وما يدريك} أيها المخاطب، {لعل الساعة قريب}، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف: أي لعل مجيء الساعة؛ ولعل الساعة في موضع معمول، وما يدريك، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء: {وإن أدري لعله فتنة لكم} وتوافقت هذه الجملة مع قوله: {الله الذين أنزل الكتاب بالحق والميزان}. الساعة: يوم الحساب، ووضع الموازين: القسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم. {يستعجل لها الذين لا يؤمنون} بها بطلب وقوعها عاجلة، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم، أي هي مما لا يقع عندهم. {إلا إن الذين يمارون} ويلحون في أمر الساعة، {لفي ظلال بعيد} عن الحق، لأن البعث غير مستبعد من قدرة الله، ودل عليه الكتاب المعجز، فوجب الإيمان به. {الله لطيف بعباده}: أي بر بعباده المؤمنين، ومن سبق له الخلود في الدنيا، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف، إنما هو إملاء، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام. وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً. وقال الزمخشري: يوصل بره إلى جميعهم، {يرزق من يشاء}: أي من يشاء يرزقه شيئاً خاصاً، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص، وكل منهم مرزوق، وإن اختلف الرزق، {وهو القوي}: أي البالغ القوة، وهي القدرة {العزيز}: الغالب الذي لا يغلب.
ولما ذكر تعالى الرزق، ذكر حديث الكسب. ولما كان الحرث في الأرض أصلاً من أصول المكاسب، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة، أي من كان يريد عمل الآخرة، وسعى لها سعيها، {نزد له في حرثه}: أي جزاء حرثه أي من جزاء حرثه من تضعيف الحسنات، {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها}: أي العمل لها لا لآخرته، {نؤته منها}: أي نعطه شيئاً منها، {وما له في الآخرة من نصيب}، لأنه لم يعمل شيئاً للآخرة.
والجملة الأولى وعد منجز، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه، وكل ما يريده هو. واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة، كأنه غير معتبر، فلا يناسب ذكر مع ما أعد الله له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء. وجعل فعل الشرط ماضياً، والجواب مجزوم لقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها} ولا نعلم خلافاً في جواز الجزم، فإنه فصيح مختار، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب، وهو أبو الحكم بن عذرة، عن بعض النحويين، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع كأن لأنها أصل الأفعال، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال. ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها، وأنشد سيبويه للفرزدق:
دست رسولاً بأن القوم إن قدروا ** عليك يشفوا صدوراً ذات توغير

وقال آخر:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني ** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وقرأ الجمهور: نزد ونؤته بالنون فيهما: وابن مقسم، والزعفراني، ومحبوب، والمنقري، كلاهما عن أبي عمرو: بالياء فيهما. وقرأ سلام: نؤته منها برفع الهاء، وهي لغة الحجاز.