فصل: تفسير الآيات (168- 176):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (168- 176):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
الحلال: مقابل الحرام ومقابل المحرم. يقال شيء حلال: أي سائغ الانتفاع به، وشيء حرام: ممنوع منه، ورجل حلال: أي ليس بمحرم. قيل: وسمي حلالاً لانحلال عقد المنع منه، والفعل منه حتى يحل، بكسر الحاء في المضارع، على قياس الفعل المضاعف اللازم. ويقال: هذا حل، أي حلال، ويقال: حل بل على سبيل التوكيد، وحل بالمكان: نزل به، ومضارعه جاء بضم الحاء وكسرها، وحل عليه الدين: حان وقت أدائه. الخطوة، بضم الخاء: ما بين قدمي الماشي من الأرض، والخطوة، بفتحها: المرة من المصدر. يقال: خطا يخط خطواً: مشى. ويقال: هو واسع الخطو. فالخطوة بالضم، عبارة عن المسافة التي يخطو فيها، كالغرفة والقبضة، وهما عبارتان عن الشيء المعروف والمقبوض، وفي جمعها بالألف والياء لغي ثلاث: إسكان الطاء كحالها في المفرد، وهي لغة تميم وناس من قيس، وضمة الطاء اتباعاً لضمة الخاء، وفتح الطاء. ويجمع تكسيراً على خطى، وهو قياس مطرد في فعلة الاسم. الفحشاء: مصدر كالبأساء، وهو فعلاء من الفحش، وهو قبح المنظر، ومنه قول امرئ القيس:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ** إذا هي نصته ولا بمعطل

ثم توسع فيه حتى صار يستعمل فيما يستقبح من المعاني. ألفى: وجد، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف، ومن منع جعل الثاني حالاً، والأصح كونه مفعولاً لمجيئه معرفة، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل. النعيق: دعاء الراعي وتصويته بالغنم، قال الشاعر:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما ** منتك نفسك في الخلاء ضلالاً

ويقال: نعق المؤذن، ويقال: نعق يتعق نعيقاً ونعاقاً ونعقاً، وأما نغق الغراب، فبالغين المعجمة. وقيل أيضاً: يقال بالمهملة في الغراب. النداء: مصدر نادى، كالقتال مصدر قاتل، وهو بكسر النون، وقد يضم. قيل: وهو مرادف للدعاء، وقيل: مختص بالجهر، وقيل: بالبعد، وقيل: بغير المعين. ويقال: فلان أندى صوتاً من فلان، أي أقوى وأشد وأبعد مذهباً. اللحم: معروف. يقال: لحم الرجل لحامه، فهو لحيم: ضخم. ولحم يلحم، فهو لحم: اشتاق إلى اللحم. ولحم الناس يلحمهم: أطعمهم اللحم، فهو لاحم. وألحم، فهو ملحم: كثر عنده اللحم. الخنزير: حيوان معروف، ونونه أصلية، فهو فعليل. وزعم بعضهم أن نونه زائدة، وأنه مشتق من خزر العين، لأنه كذلك ينظر. يقال: تخازر الرجل: ضيق جفنه ليحدد النظر، والخزر: ضيق العين وصغرها، ويقال: رجل أخزر: بين الخزر. وقيل: هو النظر بمؤخر العين، فيكون كالتشوش. الإهلال: رفع الصوت، ومنه الإهلال بالتلبية، ومنه سمي الهلال لارتفاع الصوت عند رؤيته، ويقال: أهل الهلال واستهل، ويقال: أهل بكذا: رفع صوته. قال ابن أحمر:
يهل بالفدفد ركباننا ** كما يهل الراكب المعتمر

وقال النابغة:
أو درة صدفية غوّاصها ** بهج متى تره يهل ويسجد

ومنه: إهلال الصبي واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال الشاعر:
يضحك الذئب لقتلي هذيل ** وترى الذئب لها يستهل

البطن: معروف، وجمعه على فعول قياس، ويجمع أيضاً على بطنان، ويقال: بطن الأمر يبطن، إذا خفي. وبطن الرجل، فهو بطين: كبر بطنه. والبطنة: امتلاء البطن بالطعام. ويقال: البطنة تذهب الفطنة.
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين}: هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله: يا أيها الناس، ولفظه عام. قال الحسن: نزلت في كل من حرم على نفسه شيئاً لم يحرمه الله عليه. وروى الكلبي ومقاتل وغيرهما: أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب، قاله النقاش. وقيل: في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة. قيل: وبني مدلج، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام. فإن صح هذا، كان السبب خاصاً واللفظ عاماً، والعبرة بعموم اللفظ لا يخصوص السبب. ومناسبة هذا لما قبله، أنه لما بين التوحيد ودلائله، وما للتائبين والعاصين، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن، ليدل أن الكفر لا يؤثر في قطع الأنعام. وقال المروزي: لما حذر المؤمنين من حال من يصير عمله عليه حسرة، أمرهم بأكل الحلال، لأن مدار الطاعة عليه. كلوا: أمر إباحة وتسويغ، لأنه تعالى هو الموجد للأشياء، فهو المتصرف فيها على ما يريد.
مما في الأرض، من: تبعيضية، وما: موصولة، ومن: في موضع المفعول، نحو: أكلت من الرغيف، وحلالاً: حال من الضمير المتسقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليها. وقال مكي بن أبي طالب: حلالاً: نعت لمفعول محذوف تقديره شيئاً حلالاً، قال ابن عطية: وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده، وبعده أنه مما حذف الموصوف، وصفته غير خاصة، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول. وإذا كانت الصفة هكذا، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه. وأجاز قوم أن ينتصب حلالاً على أنه مفعول بكلوا، وبه ابتدأ الزمخشري. ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا، أو متعلقة بمحذوف، فيكون حالاً، والتقدير: كلوا حلالاً مما في الأرض. فلما قدمت الصفة صارت حالاً، فتعلقت بمحذوف، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف. وقال ابن عطية: مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالاً مفعولاً بكلوا، تأمل. انتهى.
طيباً: انتصب صفة لقوله: حلالاً، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد، وهو قول مالك وغيره، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ، وهو قول الشافعي وغيره. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. وقيل: انتصب طيباً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلاً طيباً، وهو خلاف الظاهر. وقال ابن عطية: ويصح أن يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره: مستطيبين، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى.
أما اللفظ فلأن طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير، لأن الضمير جمع، وطيب مفرد، وليس طيب بمصدر، فيقال: لا يلزم المطابقة. وأما المعنى: فلأن طيباً مغاير لمعنى مستطيبين، لأن الطيب من صفات المأكول، والمستطيب من صفات الآكل. تقول: طاب لزيد الطعام، ولا تقول: طاب زيد الطعام، في معنى استطابه. وقال الزمخشري في قوله طيباً: طاهراً من كل شبهة. وقال السجاوندي: حلالاً مطلق الشرع، طيباً مستلذ الطبع. وقال في المنتخب ما ملخصه: الحلال: الذي انحلت عنه عقدة الخطر، إما لكونه حراماً لجنسه كالميتة، وإما لا لجنسه كملك الغير، إذ لم يأذن في أكله. والطيب لغة الطاهر، والحلال يوصف بأنه طيب، كما أن الحرام يوصف بأنه خبيث، والأصل في الطيب ما يستلذ، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس، والحرام لا يستلذ، لأن الشرع منع منه. انتهى. والثابت في اللغة: أن الطيب هو الطاهر من الدنس. قال:
والطيبون معاقد الأزر

وقال آخر:
ولي الأصل الذي في مثله ** يصلح الآبر زرع المؤتبر

طيبوا الباءة سهل ولهم ** سبل إن شئت في وحش وعر

وقال الحسن: الحلال الطيب: هو ما لا يُسأل عنه يوم القيامة. وقال ابن عباس: الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا وبال في الآخرة. وقيل: الحلال ما يجوزه المفتي، والطيب ما يشهد له القلب بالحل. وقد استدل من قال بأن الأصل في الأشياء الحظر بهذه الآية، لأن الأشياء ملك الله تعالى، فلابد من إذنه فيما يتناول منها، وما عدا ما لم يأذن فيه يبقى على الحظر. وظاهر الآية أن ما جمع الوصفين الحل والطيب مما في الأرض، فهو مأذون في أكله. أما تملكه والتصدق به، أو ادخاره، أو سائر الانتفاعات به غير الأكل، فلا تدل عليه الآية. فإما أن يجوز ذلك بنص آخر، أو إجماع عند من لا يرى القياس، أو بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس.
{ولا تتبعوا خطوات الشيطان} وقرأ ابن عامر والكسائي وقنبل وحفص وعباس، عن أبي عمرو والبرجمي، عن أبي بكر: بضم الخاء والطاء وبالواو. وقرأ باقي السبعة: بضم الخاء وإسكان الطاء وبالواو. وقرأ أبو السمال: خطوات، بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو. وقد تقدم أن هذه لغى ثلاث في جمع خطوة. ونقل ابن عطية والسجاوندي أن أبا السمال قرأ: خطوات، بفتح الخاء والطاء وبالواو، جمع خطوة، وهي المرة من الخطو. وقرأ علي وقتادة والأعمش وسلام: خطؤات، بضم الخاء والطاء والهمزة، واختلف في توجيه هذه القراءة فقيل: الهمزة أصل، وهو من الخطأ جمع خطأة، إن كان سمع، وإلا فتقديراً. وممن قال إنه من الخطأ أبو الحسن الأخفش، وفسره مجاهد خطاياه، وتفسيره يحتمل أن يكون فسر بالمرادف، أو فسر بالمعنى.
وقيل: هو جمع خطوة، لكنه توهم ضمة الطاء أنها على الواو فهمز، لأن مثل ذلك قد يهمز. قال معناه الزمخشري: والنهي عن اتباع خطوات الشيطان كناية عن ترك الاقتداء به، وعن اتباع ما سنّ من المعاصي. يقال: اتبع زيد خطوات عمرو ووطئ على عقبيه، إذ سلك مسلكه في أحواله. قال ابن عباس: خطواته أعماله. وقال مجاهد: خطاياه. وقال السدي: طاعته. وقال أبو مجلز: النذور في المعاصي. وقيل: ما ينقلهم إليه من معصية إلى معصية، حتى يستوعبوا جميع المعاصي، مأخوذ من خطو القدم من مكان إلى مكان. وقال الزجاج وابن قتيبة: طرقه. وقال أبو عبيدة: محقرات الذنوب. وقال المؤرّج آثاره وقال عطاء: زلاته، وهذه أقوال متقاربة المعنى صدرت من قائلها على سبيل التمثيل. والمعنى بها كلها النهي عن معصية الله، وكأنه تعالى لما أباح لهم الأكل من الحلال الطيب، نهاهم عن معاصي الله وعن التخطي إلى أكل الحرام، لأن الشيطان يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة، فيزين بذلك ما لا يحل، فزجر الله عن ذلك. والشيطان هنا إبليس، والنهي عنا عن اتباع كل فرد فرد من المعاصي، لا أن ذلك يفيد الجمع، فلا يكون نهياً عن المفرد.
{إنه لكم عدوّ مبين}: تعليل لسبب هذا التحذير من اتباع الشيطان، لأن من ظهرت عداوته واستبانت، فهو جدير بأن لا يتبع في شيء وأن يفرّ منه، فإنه ليس له فكر إلا في إرداء عدوه.
{إنما يأمركم بالسوء والفحشاء}: لما أخبر أنه عدوّ، أخذ يذكر ثمرة العداوة وما نشأ عنها، وهو أمره بما ذكر. وقد تقدم الكلام في إنما في قوله: {إنما نحن مصلحون} وفي الخلاف فيها، أتفيد الحصر أم لا؟ وأمر الشيطان، إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور، وإما بوسوسته وإغوائه. فإذا أطيع، نفذ أمره بالسوء، أي بما يسوء في العقبى. وقال ابن عباس: السوء ما لا حد له. والفحشاء، قال السدي: هي الزنا. وقال ابن عباس: كل ما بلغ حداً من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ. وقيل: ما تفاحش ذكره. وقيل: ما قبح قولاً أو فعلاً. وقال طاوس: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. وقال عطاء: هي البخل.
{وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، قال الطبري: يريد به ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوه، وجعلوه شرعاً. وقال الزمخشري: هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله مما لا يجوز عليه. انتهى. قيل: وظاهر هذا تحريم القول في دين الله بما لا يعلمه القائل من دين الله، فيدخل في ذلك الرأي والأقيسة والشبهية والاستحسان. قالوا: وفي هذه الآية إشارة إلى ذمّ من قلد الجاهل واتبع حكمه.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمراً مع قوله: {ليس لك عليهم سلطان}؟ قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتني نفسي بكذا، وتحته رمز إلى أنكم فيه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه، ولذلك قال: {ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام} {ولأمرهن فليغيرنّ خلق الله}. وقال الله تعالى: {إن النفس لأمّارة بالسوء} لما كان الإنسان يطعمها ويعطيها ما اشتهت. انتهى كلامه.
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}: الضمير في لهم عائد على كفار العرب، لأن هذا كان وصفهم، وهو الاقتداء بآبائهم، ولذلك قالوا لأبي طالب، حين احتضر: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ذكروه بدين أبيه ومذهبه. وقال ابن عباس: نزلت في اليهود، فعلى هذا يكون الضمير عائداً على غير مذكور، وهم أشد الناس اتباعاً لأسلافهم. وقيل: هو عائد على من، من قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً}، وهو بعيد. وقال الطبري: هو عائد على الناس من قوله: {يا أيها الناس كلوا} وهذا هو الظاهر، ويكون ذلك من باب الالتفات، وحكمته أنهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجب من فعله، حيث دعي إلى اتباع شريعة الله التي هي الهدى والنور. فأجاب باتباع شريعة أبيه، وكأنه يقال: هل رأيتم أسخف رأياً وأعمى بصيرة ممن دعى إلى اتباع القرآن المنزل من عند الله، فرد ذلك وأضرب عنه؟ وأثبت أنه يتبع ما وجد عليه أباه؟ وفي هذا دلالة على ذم التقليد، وهو قبول الشيء بلا دليل ولا حجة. وحكى ابن عطية أن الإجماع منعقد على إبطاله في العقائد. وفي الآية دليل على أن ما كان عليه آباؤهم هو مخالف لما أنزل الله، فاتباع أبنائهم لآبائهم تقليد في ضلال. وفي هذا دليل على أن دين الله هو اتباع ما أنزل الله، لأنهم لم يؤمروا إلا به. والمراد بقوله: وإذا، التكرار. وبنى قيل لما لم يسم فاعله، لأنه أخصر، لأنه لو ذكر الآمرون لطال الكلام، لأن الآمر بذلك هو الرسول ومن يتبعه من المؤمنين. وفي قوله: {ما أنزل الله} إعلام بتعظيم ما أمروهم باتباعه أن نسب إنزاله إلى الله الذي هو المشرّع للشرائع، فكان ينبغي أن يتلقى بالقبول ولا يعارض باتباع آبائهم رؤوس الضلالة. وأدغم الكسائي لام بل في نون نتبع، وأظهر ذلك غيره. وبل هنا عاطفة جملة على جملة محذوفة، التقدير: لا نتبع ما أنزل الله، {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}. ولا يجوز أن يعطف على قوله: {اتبعوا ما أنزل الله}. وعليه متعلق بقوله: ألفينا، وليست هنا متعدية إلى اثنين، لأنها بمعنى وجد، التي بمعنى أصاب.
{أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}: الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم، وأما الواو بعد الهمزة، فقال الزمخشري: الواو للحال، ومعناه: أيتبعونهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب؟ وقال ابن عطية: الواو لعطف جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزام هذا، أي هذه حال آبائهم.
انتهى كلامه. وظاهر قول الزمخشري أن الواو للحال، مخالف لقول ابن عطية إنها للعطف، لأن واو الحال ليست للعطف. والجمع بينهما أن هذه الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق، هي جملة شرطية. فإذا قال: اضرب زيداً ولو أحسن إليك، المعنى: وإن أحسن، وكذلك: اعطوا السائل ولو جاء على فرس؛ ردّوا السائل ولو بشق تمرة، المعنى فيها: وإن. وتجيء لو هنا تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل. ولذلك لا يجوز: اضرب زيداً ولو أساء إليك، ولا أعطوا السائل ولو كان محتاجاً، ولا ردوا السائل ولو بمائة دينار. فإذا تقرر هذا، فالواو في ولو في المثل التي ذكرناها عاطفة على حال مقدرة، والعطف على الحال حال، فصح أن يقال: إنها للحال من حيث أنها عطفت جملة حالية على حال مقدرة. والجملة المعطوفة على الحال حال، وصح أن يقال: إنها للعطف من حيث ذلك العطف، والمعنى: والله أعلم إنكار اتباع آبائهم في كلّ حال، حتى في الحالة التي لا تناسب أن يتبعوا فيها، وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية. ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على لو، إذا كانت تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها. وإن كانت الجملة الواقعة حالاً فيها ضمير يعود على ذي الحال، لأن مجيئها عارية من الواو يؤذن بتقييد الجملة السابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال. فهما معنيان مختلفان، والفرق ظاهر بين: أكرم زيداً لو جفاك، أي إن جفاك، وبين أكرم زيداً ولو جفاك. وانتصاب شيئاً على وجهين: أحدهما: على المفعول به فعم جميع المعقولات، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئاً بل أشياء. والثاني: أن يكون منصوباً على المصدر، أي شيئاً من العقل، وإذا انتفى، انتفى سائر العقول، وقدم نفي العقل، لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرّفات، وأخر نفي الهداية، لأن ذلك مترتب على نفي العقل، لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل، وعدم العقل عدم لها.
{ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون}: لما ذكر تعالى أن هؤلاء الكفار، إذا أمروا باتباع ما أنزل الله، أعرضوا عن ذلك ورجعوا إلى ما ألفوه من اتباع الباطل الذي نشأوا عليه ووجدوا عليه آباءهم، ولم يتدبروا ما يقال لهم، وصموا عن سماع الحق، وخرسوا عن النطق به، وعموا عن إبصار النور الساطع النبوي.
ذكر هذا التشبيه العجيب في هذه الآية منبهاً على حالة الكافر في تقليده أباه ومحقراً نفسه، إذ صار هو في رتبة البهيمة، أو في رتبة داعيها، على الخلاف الذي سيأتي في هذا التشبيه.
وهذه الآية لابد في فهم معناها من تقدير محذوف. واختلفوا، فمنهم من قال: المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق. ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به، ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق، ومنهم من قال: هو مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به. فعلى أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق، قيل: يكون التقدير: ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم وعقلهم، كمثل الرّعاة يكلمون البهم، والبهم لا تعقل شيئاً. وقيل: يكون التقدير: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم، كمثل الناعق بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلا العناء. قال الزمخشري: وقد ذكر هذا القول، إلا أن قوله: {إلاّ دعاء ونداء} لا يساعد عليه، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً. انتهى كلامه. ولحظ الزمخشري في هذا القول تمام التشبيه من كلّ جهة، فكما أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاء ونداء، فكذلك مدعو الكافر من الصنم، والصنم لا يسمع، فضعف عنده هذا القول. ونحن نقول: التشبيه وقع في مطلق الدعاء، لا في خصوصيات المدعو، فشبه الكافر في دعائه الصنم بالناعق بالبهيمة، لا في خصوصيات المنعوق به. وقيل في هذا القول، أعني قول من قال التقدير: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأصنامهم أن الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم من الضأن أو غيرها، وإنما المراد به الصائح في جوف الجبال، فيجيبه منها صوت يقال له الصدا، يجيبه ولا ينفعه. فالمعنى: بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه ونداءه، قاله ابن زيد. فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميراً يعود على ما، وهو المنعوق به. وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميراً عائداً على الذي ينعق، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفاً لفهم المعنى تقديره: بما لا يسمع منه، وليس فيه شروط جواز الحذف، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره. واختلف ما يتعلقان به، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق، والثاني من تعلق بيسمع. وقد جاء في كلامهم مثل هذا، قال: وقيل المراد بالذين كفروا: المتبوعون لا التابعون، ومعناه: مثل الذين كفروا في دعائهم أتباعهم، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلا الخيبة والخسران، كمثل الناعق بالغنم.
وأمّا القول على أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به، وهو البهائم التي لا تعقل مثل: الإبل، والبقر، والغنم، والحمير، وهو قول ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة والحسن والربيع والسدي. وأكثر المفسرين اختلفوا في تقديره مصحح هذا التشبيه، فقيل التقدير: ومثل الذين كفروا في دعاتهم إلى الله تعالى وعدم سماعهم إياه، كمثل بهائم الذي ينعق، فهو على حذف قيد في الأول، وحذف مضاف من الثاني. وقيل التقدير: ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي غير الصوت. فيراد بالذي ينعق، الذي ينعق به، فيكون هذا من المقلوب عندهم. قالوا: كما تقول: دخل الخاتم في يدي والخف في رجلي. وكقولهم: عرض الحوض على الناقة، وأوردوا مما ذكروا أنه مقلوب جملة. وذهب إلى هذا التفسير أبو عبيدة والفراء وجماعة، وينبغي أن ينزه القرآن عنه، لأن الصحيح أن القلب لا يكون إلا في الشعر، أو إن جاء في الكلام، فهو من القلة بحيث لا يقاس عليه. وأما القول على أن المثل مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق، فيكون قوله تعالى: {ومثل الذين كفروا} هو على تقدير: ومثل داعي الذين كفروا. فهو على حذف مضاف، فلا يكون من تشبيه الكافر بالناعق، ولا بالمنعوق، وإنما يكون من باب تشبيه داعي الكافر في دعائه إياه بالناعق بالبهائم، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطبه به داعيه إلا دويّ الصوت دون إلقاء ذهن ولا فكر، فهو شبيه بالناعق بالبهيمة التي لا تسمع من الناعق بها إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم شيئاً آخر. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بما لا يسمع الأصم الأصلخ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والصوت لا غير، من غير فهم للحروف. وأما على القول بأن المثل مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به، فهو الذي اختاره سيبويه في الآية. إن المعنى: مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا، كمثل الناعق والمنعوق به. وقد اختلف في كلام سيبويه فقيل: هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، وقيل: هو تفسير إعراب، وهو أن في الكلام حذفين: حذف من الأول، وهو حذف داعيهم، وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذف من الثاني، وهو حذف المنعوق به، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتاً، ولا يعرفون ما وراءها. وفي هذا الوجه حذف كثير، إذ فيه حذف معطوفين، إذ التقدير الصناعي: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به.
وذهب إلى تقرير هذا الوجه جماعة من أصحابنا، منهم الأستاذ أبو بكر بن طاهر وتلميذه أبو الحسن بن خروف، والأستاذ أبو علي الشلوبين وقالوا: إن العرب تستحسنه، وإنه من بديع كلامها، ومثاله قوله تعالى: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء} التقدير: وأدخل يدك في جيبك تدخل، وأخرجها تخرج بيضاء، فحذف تدخل لدلالة تخرج، وحذف وأخرجها لدلالة وأدخل، قالوا: ومثل ذلك قول الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك فترة ** كما انتفض العصفور بلله القطر

لم يرد أن يشبه فترته بانتفاض العصفور حين يبله القطر، لكونهما حركة وسكوناً، فهما ضدان، ولكن تقديره: إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة، وفترة العصفور قبل انتفاضه. وهذه الأقوال كلها في التشبيه، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به. وأمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة، بل ينظر فيه إلى المعنى. وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب، قال الراغب: فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به. وعلى هذا {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} وقوله تعالى: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا} فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية.
وقد بقي شيء من الكلام عليها، فنقول: ومثل الذين مبتدأ، خبره كمثل، والكاف للتشبيه. شبه الصفة بالصفة، أي صفتهم كصفة الذي ينعق. ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة، فقوله ليس بشيء، لأن الصفة ليست عين الصفة، فلابد من الكاف التي تعطى التشبيه. بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها، لأن به تصحيح المعنى. والذي ينعق، لا يراد به مفرد، بل المراد الجنس. وتقدّم أن المراد: كالناعق بالبهائم، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ، أو كالمنعوق به، فيكون من باب القلب. وقيل: كالمصوت بشيء بعيد منه، فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه. وقيل: وقع التشبيه بالراعي للضأن، لأنها من أبله الحيوان، فهي تحمق راعيها. وفي المثل: أحمق من راعي ضأن ثمانين. وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف، يوم هوازن: راعي ضأن والله، لأنه لما جاء إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلم، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء، فلما لقيه دريد قال: أراك سقت المال والنساء؟ فقال: يقاتلون عن أموالهم وحريمهم.
فقال له دريد: أمنت أن تكون عليك راعي ضان والله لأصحبتك، وقال الشاعر:
أصبحت هزأ لراعي الضان يهزأ بي ** ماذا يريبك مني راعي الضان

{إلاّ دعاء ونداء}: هذا استثناء مفرّغ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله. وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغاً وأن إلاّ زائدة، والدعاء والنداء منفي سماعهما، والتقدير: بما لا يسمع دعاء ولا نداء، وهذا ضعيف، لأن القول بزيادة إلا، قول بلا دليل. وقد ذهب الأصمعي، رحمه الله، إلى ذلك في قوله:
حراجيح ما تنفك إلا مناخة ** على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا

وضعف قوله في ذلك، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به، فنثبت لها الزيادة، وأورد بعضهم هنا سؤالاً فقال: فإن قيل قوله لا يسمع إلا دعاء ونداء، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء؟ وكأنه قيل: لا يسمعون إلا المسموع، وهذا لا يجوز. فالجواب: أن في الكلام إيجاراً، وإنما المعنى: لا يفهمون معاني ما يقال لهم، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها، وإنما يفهم شيئاً يسيراً، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة، فكأنه قيل: ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض. انتهى كلامه. وقال علي بن عيسى: إنما ثنى فقال: {إلاّ دعاء ونداء}، لأن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصوت. {صم بكم عمي}: تقدم الكلام على هذه الكلم. {فهم لا يعقلون}: لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس، قضى بأنهم لا يعقلون. كما قال أبو المعالي وغيره: العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس، إذ لابد في كسبها من الحواس. انتهى. قيل: والمراد العقل الاكتسابي، لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم، والعقل عقلان: مطبوع ومكسوب. ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث، كان إعراضهم عنها فقداً للعقل المكتسب، ولهذا قيل: من فقد حساً فقد فَقَد عقلاً.
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}: لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بين لهم ما حرم عليهم، لكونه أقل. فلما بين ما حرم، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر. وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم، لما سئل عما يلبس المحرم فقال: «لا يلبس القميص ولا السراويل»، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور، لكثرة المباح وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ. والذين آمنوا: جمع من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يراد أهل المدينة، فاللفظ عام والمراد خاص. وقيل: هذا الخطاب مؤكداً لقوله: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض}، ولما كان لفظ الناس يعم المؤمن والكافر، ميز الله المؤمنين بهذا النداء، تشريفاً لهم وتنبيهاً على خصوصيتهم وظاهر كلوا: الأمر بالأكل المعهود.
وقيل: المراد الانتفاع به، ونبه بالأكل على وجوه الانتفاع، إذ كان الأكل أعظمها، إذ به تقوم البنية. قيل: وهذا أقرب إلى المعنى، لأنه تعالى ما خص الحل والحرمة بالمأكولات، بل بسائر ما ينتفع به من أكل وشرب ولبس وغير ذلك والطيبات. قيل: الحلال، وقيل: المستلذ المستطاب، لكن بشرط أن يكون حلالاً. وقد تقدم هذا الشرط في قوله: {كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً}، فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقة المستلذ الحلال. ما رزقناكم: فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة، لما في الرزق من الامتنان والإحسان. وإذا فسر الطيبات بالحلال، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينقسم إلى حلال وإلى حرام، بخلاف ما ذهبت إليه المعتزلة، من أن الرزق لا يكون إلا حلالاً. وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة، فأغنى عن إعادته هنا. ومن منع أن يكون الرزق حراماً قال: المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم، وهو الحلال، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعاً لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى.
{واشكروا لله}: هذا من الالتفات، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب، وحكمة ذلك ظاهرة، لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والزرق والشكر، ليس على هذا الإذن الخاص، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص. وجاء هنا تعدية الشكر باللام، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وتضمنت هذه الآية أمرين: الأول: {كلوا}، قالوا: وهو عند دفع الضرر واجب، ومع الضيف مندوب إليه، وإذا خلا عن العوارض كان مباحاً، وكذا هو في الآية. والثاني: {واشكروا لله}، وهو أمر وليس بإباحة. قيل: ولا يمكن القول بوجوب الشكر، لأنه إما أن يكون بالقلب، أو باللسان، أو بالجوارح. فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم، أو العزم على تعظيمه باللسان، أو الجوارح. أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل، فإن العاقل لا ينسى ذلك. فإذا كان ذلك العلم ضرورياً، فكيف يمكن إيجابه؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح. فإذا بينا أنهما لا يجبان، كان العزم بأن لا يجب أولى. وأما الشكر باللسان، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعماً، أو بالثناء عليه. فهذا غير واجب بالاتفاق، بل هو من باب المندوبات. وأما الشكر بالجوارح والأعضاء، فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه، وذلك أيضاً غير واجب.
وقال غير هذا القائل الذي تلخص أنه يجب اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم، وإظهار ذلك باللسان أو سائر الأفعال إن وجدت هناك. وهذا البحث في وجوب الشكر أو عدم وجوبه، كان يناسب في أول شكر أمر به وهو قوله: {واشكروا لي ولا تكفرون}
{إن كنتم إياه تعبدون}: من ذهب إلى أن معناها معنى إذ، فقوله ضعيف، وهو قول كوفي، ولا يراد بالشرط هنا إلا التثبت والهز للنفوس، وكأن المعنى: العبادة له واجبة، فالشكر له واجب، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية إن كنت عبدي فأطعني، لا تريد بذلك التعليق المحض، بل تبرزه في صورة التعليق، ليكون أدعى للطاعة وأهزلها. وقيل: عبر بالعبادة عن العرفان، كما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قيل: معناه ليعرفون، فيكون المعنى: أشكروا لله إن كنتم عارفين به وبنعمه، وذلك من إطلاق الأثر على المؤثر. وقيل: عبر بالعبادة عن إرادة العبادة، أي اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته، لأن الشكر رأس العبادات. وقال الزمخشري: إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري. انتهى كلامه. وإيا هنا مفعول مقدم، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه، لأنه عائد على الله تعالى، كما في قولك: {وإياك نستعين} وهذا من الموضع التي يجب فيها انفصال الضمير، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر، لم ينفصل إلا في ضرورة، قال:
إليك حتى بلغت إياكا..... {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله}: تقدم الكلام على إنما في قوله: {إنما نحن مصلحون} وقرأ الجمهور: حرم مسنداً إلى ضمير اسم الله، وما بعده نصب، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية. وقرأ ابن أبي عبلة: برفع الميتة وما بعدها، فتكون ما موصولة اسم إن، والعائد عليها محذوف، أي إن الذي حرمه الله الميتة، وما بعدها خبران. وقرأ أبو جعفر: حرم، مشدداً مبنياً للمفعول، فاحتملت ما وجهين: أحدهما: أن تكون موصولة اسم إن، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران. والوجه الثاني: أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: إنما حرم، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً، والميتة وما بعدها مرفوع. ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل، والميتة فاعل يحرم، إن كانت ما مهيئة، وخبر إن، إن كانت ما موصولة. وقرأ أبو جعفر: الميتة، بتشديد الياء في جميع القرآن، وهو أصل للتخفيف. وقد تقدم الكلام على هذا التخفيف في قوله: {أو كصيِّب}، وهما لغتان جيدتان، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:
ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء

قيل: وحكى أبو معاذ عن النحويين الأولين، أن الميت بالتخفيف: الذي فارقته الروح، والميت بالتشديد: الذي لم يمت، بل عاين أسباب الموت. وقد تقدم الكلام في الموت. ولما أمر تعالى: بأكل الحلال في الآية السابقة، فصل هنا أنواع الحرام، وأسند التحريم إلى الميتة. والظاهر أن المحذوف هو الأكل، لأن التحريم لا يتعلق بالعين، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله: {كلوا مما في الأرض}، {كلوا من طيبات ما رزقناكم}. فالممنوع هنا هو الأكل، وهكذا حذف المضاف يقدر بما يناسب. فقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} المحذوف: وطء، كأنه قيل: وطء أمهاتكم، {وأحل لكم ما وراء ذلكم} أي وطء ما وراء ذلكم. فسائر وجوه الانتفاعات محرم من هذه الأعيان المذكورة، إما بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس، وإما بدليل سمعي عند من لا يقول به.
وقال بعض الناس ما معناه: أنه تعالى لما أسند التحريم إلى الميتة، وما نسق عليها وعلقه بعينها، كان ذلك دليلاً على تأكيد حكم التحريم وتناول سائر وجوه المنافع، فلا يخص شيء منها إلا بدليل يقتضي جواز الانتفاع به، فاستنبط هذا القول تحريم سائر الانتفاعات من اللفظ. والأظهر ما ذكرناه من تخصص المضاف المحذوف بأنه الأكل. وظاهر لفظ الميتة يتناول العموم، ولا يخص شيء منها إلا بدليل. قال قوم: خص هذا العموم بقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعاماً متاعاً لكم وللسيارة}، وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «حلت لنا ميتتان» وقال ابن عطية: الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم. انتهى. فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ، فلا نسلم له ذلك. وإن عنى لم يدخل في الإرادة، فهو كما قال، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به.
قال الزمخشري: فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قلت: قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أن القائل إذا قال: أكل فلان ميتة، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد؟ كما لو قال: أكل دماً، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: من حلف لا يأكل لحماً، فأكل سمكاً، لم يحنث، وإن أكل لحماً في الحقيقة. وقال الله تعالى: {لتأكلوا منه لحماً طرياً} وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة، فركب كافراً، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا} انتهى كلامه.
وملخص ما يقوله: إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة، وليس كما قال. وكيف يكون ذلك، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحلت لنا ميتتان»؟ فلو لم يندرج في الدلالة، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله، إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.
وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة، كما قال الزمخشري، بل لو لم يكن للمخاطب شعور ألبتة، ولا علم ببعض أفراد العام، وعلق الحكم على العام، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به. مثال ذلك ما جاء في الحديث: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع» فهذا علق الحكم فبه بكل ذي ناب. والمخاطب، الذين هم العرب، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي، كما في بلادنا، بلاد الأندلس، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله، ولا يشبه الأسد، ولا الذئب، ولا النمر، ولا شيئاً مما يعرفه العرب، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس. فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجاً في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب، بل شمله النهي، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به، فهو معلق بكل فرد من أفراده، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب، ثم خلق شكلاً مبايناً لسائر الأشكال ذوات الأنياب، فيندرج فيه، ويحكم بالنهي عنه. وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان، فللإيمان أحكام منوطة بها، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه.
{والميتة}: ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة. واختلف في السمك الطافي، وهو ما مات في الماء فطفا. فذهب مالك وغيره أنه حلال. ومذهب العراقيين أنه ممنوع من أكله. وفي كلام بعض الحنفيين عن أبي حنيفة أنه مكروه. وأما ما مات من الجراد بغير تسبب، فهو عند مالك وجمهور أصحابه أنه حرام، وعند ابن عبد الحكم وابن نافع حلال، وعند ابن القاسم وابن وهب وأشهب وسحنون تقييدات في الجراد ذكرت في كتب المالكية. هذا حكم الميتة بالنسبة إلى الأكل. وأما الانتفاع بشيء منها، نحو: الجلد، والشعر، والريش، واللبن، والبيض، والأنفخة، والجنين، والدهن، والعظم، والقرن، والناب، والغصب، فذلك مذكور في كتب الفقه، ولهم في ذلك اختلاف وتقييد كثير يوقف على ذلك في تصانيفهم.
والدم: ظاهره العموم، ويتخصص بالمسفوح لآية الأنعام. فإذا كان مسفوحاً، فلا خلاف في نجاسته وتحريمه. وفي دم السمك المزايل له في مذهب مالك قولان: أحدهما: أنه طاهر، ويقتضي ذلك أنه غير محرم. وأجمعوا على جواز أكل الدم المتحلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه، وكذلك الكبد والطحال. وذكر المفسرون في يسير الدم المسفوح الخلاف في العفو عنه، وفي مقدار اليسير، والخلاف في دم البراغيث والبق والذباب، وهذا كله من علم الفقه، فيطالع في كتب الفقه.
ولم يذكر الله تعالى حكمة في تحريم أكل الميتة والدم، ولا جاء نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. ولو تعبدنا تعالى بجواز أكل الميتة والدم، لكان ذلك شرعاً يجب اتباعه. وقد ذكروا أن الحكمة في تحريم الميتة جمود الدم فيها بالموت، وأنه يحدث أذى للآكل. وفي تحريم الدم أنه بعد خروجه يجمد، فهو في الأذى كالجامد في الميتة، وهذا ليس بشيء، لأن الحس يكذب ذلك. وجدنا من يأكل الميتة، ويشرب الدم من الأمم، صورهم وسحنهم من أحسن ما يرى وأجمله، ولا يحدث لهم أذى بذلك.
{ولحم الخنزير}: ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط. وقد ذهب إلى ذلك داود، رأس الظاهرية، فقال: المحرم اللحم دون الشحم. وقال غيره من سائر العلماء: المحرم لحمه وسائر أجزائه. وإنما خص اللحم بالذكر، والمراد جميع أجزائه، لكون اللحم هو معظم ما ينتفع به. كما نص على قتل الصيد على المحرم، والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد. وكما نص على ترك البيع {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} لأنه كان أعظم ما كانوا يبتغون به منافعهم، فهو أشغل لهم من غيره، والمراد جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة. وقال الزمخشري: فإن قلت: فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت: لأن الشحم داخل في ذكر اللحم بدليل قوله: لحم سمين، يريدون أنه شحيم. انتهى. وقولهم هذا ليس بدليل على أن الشحم داخل في ذكر اللحم، لأن وصف الشيء بأنه يمازجه شيء آخر، لا يدل على أنه مندرج تحت مدلول ذلك الشيء، ألا ترى أنك تقول مثلاً رجل لابن، أو رجل عالم؟ لا يدل ذلك على أن اللبن أو العلم داخل في ذكر الرجل، ولا أن ذكر الرجل مجرداً عن الوصفين يدل عليهما. وقال ابن عطية: وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه، ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هناك من الغضاريف وغيرها. وأجمعت الأمة على تحريم شحمه. انتهى كلامه. وليس كما ذكر، لأن ذكر اللحم لا يعم الشحم وما هناك من الغضاريف، لأن كلاًّ من اللحم والشحم وما هناك من غضروف وغيره، وليس له اسم يخصه. إذا أطلق ذلك الاسم، لم يدخل فيه الآخر، ولا يدل عليه، لا بمطابقة، ولا تضمن. فإذن، تخصيصه بالذكر يدل على تخصيصه بالحكم، إذ لو أريد المجموع، لدل بلفظ يدل على المجموع. وقوله: أجمعت الأمة على تحريم شحمه، ليس كما ذكر. ألا ترى أن داود لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى، وهو اللحم دون الشحم؟ إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني، من أنه لا يعتد في الإجماع، بخلاف داود، فيكون ذلك عنده إجماعاً. وقد اعتد أهل العلم الذين لهم الفهم التام والاجتهاد، قبل أن يخلق الجويني بأزمان، بخلاف داود، ونقلوا أقاويله في كتبهم، كما نقلوا أقاويل الأئمة، كالأوزاعي، وأبي حنيفة، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد.
ودان بمذهبه وقوله وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة، ولكنه في عصرنا هذا قد خمل هذا المذهب. ولما كان اللحم يتضمن عند مالك الشحم، ذهب إلى أنه لو حلف حالف أن لا يأكل لحماً، فأكل شحماً، أنه يحنث. وخالفه أبو حنيفة والشافعي فقالا: لا يحنث، كما لو حلف أنه لا يأكل شحماً، فأكل لحماً. وقال تعالى: {حرمنا عليهم شحومهما} والإجماع، أن اللحم ليس بمحرم على اليهود، فالحق أن كلاًّ منهما لا يندرج تحت لفظ الآخر.
واختلفوا في الانتفاع بشعره، في خرز وغيره، فأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي، ولم يجز ذلك الشافعي. وقال أبو يوسف: أكره الخرز به. وروي عنه الإباحة أيضاً. وهل يتناول لفظ الخنزير خنزير البحر؟ ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه؟ فمنعوا من أكله؟ وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي: لا بأس بأكله. وقال الليث: لا يؤكل خنزير الماء، ولا إنسانه، ولا كلبه. وسئل مالك عن خنزير الماء، فتوقف وقال: أنتم تسمونه خنزيراً. وقال ابن القاسم: أنا أتقيه ولا أحرمه. وعلة تحريم لحم الخنزير قالوا: تفرد النصارى بأكله، فنهى المسلمون عن أكله، ليكون ذلك ذريعة إلى أن تقاطعوهم، إذ كان الخنزير من أنفس طعامهم. وقيل: لكونه ممسوخاً، فغلظ تحريم أكله لخبث أصله. وقيل: لأنه يقطع الغيرة ويذهب بالأنفة، فيتساهل الناس في هتك المحرم وإباحة الزنا، ولم تشر الآية الكريمة إلى شيء من هذه التعليلات التي ذكروها.
{وما أهلّ به لغير الله}: أي ما ذبح للأصنام والطواغيت، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك، أو ما ذكر عليه اسم غير الله، قاله الربيع بن أنس وغيره، أو ما ذكر اسم المسيح عليه، قاله الزهري، أو ما قصد به غير وجه الله تعالى للتفاخر والتباهي، قاله عليّ والحسن. وروي أن علياً قال في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق: إنها مما أهلّ بها لغير الله، فتركها الناس، راعى على النية في ذلك. ومنع الحسن من أكل جزور ذبحتها امرأة للعبها وقال: إنها نحرت لصنم. وسئلت عائشة عن أكل ما يذبحه الأعاجم لأعيادهم ويهدون للمسلمين فقالت: لا تأكلوه، وكلوا من أشجارهم. والذي يظهر من الآية تحريم ما ذبح لغير الله، فيندرج في لفظ غير الله الصنم والمسيح والفخر واللعب، وسمي ذلك إهلالاً، لأنهم يرفعون أصواتهم باسم المذبوح له عند الذبيحة، ثم توسع فيه وكثر حتى صار اسماً لكل ذبيحة جهر عليها أو لم يجهر، كالإهلال بالتلبية صار علماً لكل محرم رفع صوته أو لم يرفعه. ومن حمل ذلك على ما ذبح على النصب، وهي الأوثان، أجاز ذبيحة النصراني، إذا سمى عليها باسم المسيح.
وإلى هذا ذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وابن المسيب والأوزاعي والليث. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي: لا تؤكل ذبائحهم إذا سموا عليها اسم المسيح، وهو ظاهر قوله: {لغير الله} كما ذكرناه، لأن الإهلال لغير الله، هو إظهار غير اسم الله، ولم يفرق بين اسم المسيح واسم غيره. وروي عن علي أنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا. وأهلّ: مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله. والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله: به، والضمير في به عائد على ما، إذ هي موصولة بمعنى الذي. ومعنى أهل بكذا، أي صالح. فالمعنى: وما صيح به، أي فيه، أي في ذبحه لغير الله، ثم صار ذلك كناية عن كل ما ذبح لغير الله، صيح في ذبحه أو لم يصح، كما ذكرناه قبل. وفي ذبيحتة المجوسي خلاف. وكذلك فيما حرم على اليهودي والنصراني بالكتاب. أما ما حرموه باجتهادهم، فذلك لنا حلال. ونقل ابن عطية عن مالك: الكراهة فيما سمى عليه الكتابي اسم المسيح، أو ذبحه لكنيسة، ولا يبلغ به التحريم.
{فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}، وقال: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} وقال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} فلم يقيد في هذه الآية الاضطرار، وقيده فيما قبل. فإن المضطر يكون غير متجانف لإثم. وفي الأولى بقوله: {غير باغ ولا عاد}. قال مجاهد وابن جبير وغيرهما: غير باغ على المسلمين وعاد عليهم. فيدخل في الباغي والعادي: قطاع السبيل، والخارج على السلطان، والمسافر في قطع الرحم، والغارة على المسلمين وما شاكله، ولغير هؤلاء هي الرخصة. وإلى هذا ذهب الشافعي، وهو أنه إذا لم يخرج باغياً على إمام المسلمين، ولم يكن سفره في معصية، فله أن يأكل من هذه المحرّمات إذا اضطر إليها. وإن كان سفره في معصية، أو كان باغياً على الإمام، لم يجز له أن يأكل. وقال عكرمة وقتادة والربيع وابن زيد وغيرهم: غير قاصد فساد وتعدّ، بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة. وقال ابن عباس والحسن: غير باغ في الميتة في الأكل، ولا عاد بأكلها، وهو يجد غيرها، وهو يرجع لمعنى القول قبله. وبه قال أبو حنيفة ومالك: وأباح هؤلاء للبغاة الخارجين على المسلمين الأكل من هذه المحرّمات عند الاضطرار، كما أباحوا لأهل العدل. وقال السدي: غير باغ، أي متزيد على إمساك رمقه وإبقاء قوّته، فيجيء أكله شهوة، ولا عاد، أي متزوّد. وقيل: غير باغ، أي مستحل لها، ولا عاد، أي متزوّد منها. وقال شهر بن حوشب: غير باغ، أي مجاوز القدر الذي يحل له، ولا عاد، أي لا يقصده فيما لا يحل له.
والظاهر من هذه الأقوال، على ما يفهم من ظاهر الآية، أنه لا إثم في تناول شيء من هذه المحرمات للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد. وإن قوله: {إلا ما اضطررتم إليه}، لابد فيه من التقييد المذكور هنا، وفي قوله: {غير متجانف لإثم}، لأن آية الأنعام فيها حوالة على هاتين الآيتين، لأنه قال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}. وتفصيل المحرّم هو في هاتين الآيتين، والاضطرار فيهما مقيد، فتعين أن يكون مقيداً في الآية التي أحيلت على غيرها. والظاهر في البغي والعدوان، أن ذلك من قبل المعاصي، لأنهما متى أطلقتا، تبادر الذهن إلى ذلك. وفي جواز مقدار ما يأكل من الميتة، وفي التزوّد منها، وفي شرب الخمر عند الضرورة قياساً على هذه المحرمات. وفي أكل ابن آدم خلاف مذكور في كتب الفقه، قالوا: وإن وجد ميتة وخنزيراً، أكل الميتة، قالوا: لأنها أبيحت له في حال الاضطرار، والخنزير لا يحل بحال، وليس كما قالوا، لأن قوله: {فمن اضطر} جاء بعد ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. فالمعنى: فمن اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات، فرتبتها في الإباحة للأكل منها متساوية، فليس شيء منها أولى من الآخر بالإباحة، والمضطر مخير فيما يأكل منها. فقولهم: إن الخنزير لا يحل بحال ليس بصحيح.
وذكر بعض المفسرين أنهم أجمعوا على أن من سافر لغزو، أو حج، أو تجارة، وكان مع ذلك باغياً في أخذ مال، أو عادياً في ترك صلاة أو زكاة، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعاً من استباحة الميتة للضرورة. وأنهم أجمعوا أيضاً على جواز الترخيص للباغي، أو العادي الحاضر، وفي نقل هذين الإجماعين نظر.
واختلف القراء في حركة النون من قوله: {فمن اضطر} {وأن احكم} {ولكن انظر}، وشبهه وحركة الدال من: {ولقد استهزئ} والتاء من: {وقالت اخرج عليهن} وحركة التنوين من: {فتيلاً انظر} ونحوه، وحركة اللام من نحو: {قل ادعوا الله} والواو من نحو: {أو ادعوا الرحمن} فكسر ذلك عاصم وحمزة، وحركها أبو عمرو، إلا في اللام والواو؛ وعباس ويعقوب، إلا في الواو؛ وضم باقي السبعة، إلا ابن ذكوان، فإنه كسر التنوين. وعنه في: {برحمة ادخلوا} و{خبيثة اجتثت} خلاف، وضابط هذا أنه يكون ضمة هذه الأفعال لازمة، فإن كانت عارضة، فالكسر نحو: {أن امشوا} وتوجيه الكسر أنه حركة التقاء الساكنين، والضم أنه اتباع. ولم يعتدوا بالساكن، لأنه حاجز غير حصين، أو ليدلوا على أن حركة همزة الوصل المحذوفة كانت ضمة. وقرأ أبو جعفر وأبو السمال: فمن اضطر، بكسر الطاء، وأصله اضطرر، فلما أدرغم نقلت حركة الراء إلى الطاء. وقرأ ابن محيصن: فمن اطر، بإدغام الضاد في الطاء، وذلك حيث وقع. ومعنى الاضطرار: الالجاء بعدم، وغرث هذا قول الجمهور.
وقيل معناه: أكره وغلب على أكل هذه المحرمات. وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر، وجعله بعضهم حالاً من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله: اضطر، وقدره: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيداً في الأكل، لا في الاضطرار. ولا يتعين ما لاقاه، إذ يحتمل أن يكون هذا المقدر بعد قوله: غير باغ ولا عاد، بل هو الظاهر والأولى، لأن في تقدير قبل غير باغ ولا عاد فصلاً بين ما ظاهره الاتصال بما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله غير باغ ولا عاد. وعاد: اسم فاعل من عدا، وليس اسم فاعل من عاد، فيكون مقلوباً، أو محذوفاً من باب شاك ولاث، كما ذهب إليه بعضهم، لأن القلب لا ينقاس، ولا نصير إليه إلا لموجب، ولا موجب هنا لادعاء القلب. وأصل البغي، كما تقدم، هو طلب الفساد، وإن كان قد ورد لمطلق الطلب، فاستعمل في طلب الخير، كما قال الشاعر:
أألخير الذي أنا أبتغيه ** أم الشر الذي هو يبتغيني

وقال:
لا يمنعك من بغاء الخير تعقاد التمائم

فلا إثم عليه، الإثم: تحمل الذنب، نفى بذلك عنه الحرج. والمحذوف الذي قدرناه من قولنا: فأكل، لابد منه، لأنه لا ينفي الإثم عمن لم يوجد منه الاضطرار، ولا يترتب ذلك على الاضطرار وحده، بل على الأكل المترتب على الاضطرار، في حال كون المضطر لا باغياً ولا عادياً. وظاهر هذا التركيب أنه متى كان عاصياً بسفره فأكل، أنه يكون عله الإثم، لأنه يطلق أنه باغ، خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه، فإنه يبيح له الأكل عند الضرورة. وظاهر بناء اضطر حصول مطلق الضرورة بشغب، أو إكراه، سواء حصل الاضطرار في سفر أو حضر. وظاهر قوله: {فلا إثم عليه} نفي كل فرد من الإثم عنه إذا أكل، لا وجوب الأكل. وقال الطبري: ليس الأكل عند الضرورة رخصة، بل ذلك عزيمة واجبة، ولو امتنع من الأكل كان عاصياً. وقال مسروق: بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات، دخل النار، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح الله له.
{إن الله غفور رحيم}: لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم، لأن المخاطب بصدد أن يخالف، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا، رحيم بهم. أو لأن المخاطب، إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة، فهو تعالى غفور له ذلك، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة.
أو لأن مقتضى الحرمة قائم في هذه المحرمات، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع، فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة، ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمة، أي لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك..
{إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب}: روي عن ابن عباس أنها نزلت في علماء اليهود، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم. فلما بعث من غيرهم، غيروا صفته وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، حتى لا يتبعوه. وروي عنه أنه قال: إن الملوك سألوا علماءهم قبل المبعث: ما الذي تجدون في التوراة؟ فقالوا: نجد أن الله يبعث نبياً من بعد المسيح يقال له محمد، بتحريم الربا والخمر والملاهي وسفك الدماء. فلما بعث، قالت الملوك لليهود: هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقالوا، طمعاً في أموال الملوك: ليس هذا بذلك النبي. فأعطاهم الملوك الأموال، فأنزلت إكذاباً لهم. وقيل: نزلت في كل كاتم حق، لأخذ غرض أو إقامة غرض من مؤمن ويهودي ومشرك ومعطل. وإن صح سبب نزول، فهي عامة، والحكم للعموم. وإن كان السبب خاصاً، فيتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك، لسبب دنيا يصيبها.
{ما أنزل الله من الكتاب}: ظاهره أنه أنزل من علو إلى أسفل، وأنه تعالى أنزل ملكاً به، أي بالكتاب على رسوله. وقيل: معنى أنزل الله، أي أظهر، كقوله: {سأنزل مثل ما أنزل الله}، أي أظهر. فكون المعنى: أن الذين يكتمون ما أظهر الله، فيكون الإظهار في مقابلة الكتمان. وفي المراد بالكتاب هنا أقوال: أحدها: أنه التوراة، فيكون الكاتمون أحبار اليهود، كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيروها، وكتموا آيات في التوراة، كآية الرجم وشبه ذلك. وقيل: التوراة والإنجيل، ووحد اللفظ على المكتوب، ويكون الكاتمون اليهود والنصارى. وصف الله نبيه في الكتابين، ونعته فيهما وسماه فقال: {يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} وقال: {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} والطائفتان أنكروا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شهدت التوراة والإنجيل بذلك، والنصوص موجودة فيهما، إلا أن في مواضع منها في التوراة في الفصل التاسع، وفي الفصل العاشر من السفر الأول، وفي الفصل العشرين من السفر الخامس. ومنها في الإنجيل مواضع تدلّ على ذلك، قد ذكر جميعها، من تعرض للكلام على ذلك. وقيل: الكتاب المكتوب، وهو أعم من التوراة والإنجيل، فيتناول كل من كتم ما أنزل الله مما يتعلق بالأحكام قديماً وحديثاً، وكل كاتم لحق وساتر لأمر مشروع.
{ويشترون به ثمناً قليلاً}: لما تعوضوا عن الكتم شيئاً من سحت الدّنيا، أشبه ذلك البيع والشراء، لانطوائهما على عوض ومعوض عنه، فأطلق عليه اشتراء. وبه: الضمير عائد على الكتمان، أو الكتاب، أو على الموصول الذي هو: ما أقوال ثلاثة، أظهرها الآخر، ويكون على حذف مضاف، أي بكتم ما أنزل الله به.
والفرق بين هذا القول وقول من جعله عائداً على الكتم، أنه يكون في ذلك القول عائداً على المصدر المفهوم من قوله: {يكتمون}، وفي هذا عائداً على ما على حذف مضاف، وتقدم الكلام في تفسير قوله: {ليشتروا به ثمناً قليلاً} فأغنى عن إعادته، إلا فعل الاشتراء جعل علة هناك وهنا جعل معطوفاً على قوله {يكتمون}، ورتب الخبر على مجموع الأمرين من الكتم والاشتراء، لأن الكتم ليست أسبابه منحصرة في الاشتراء، بل الاشتراء بعض أسبابه. فكتم ما أنزل الله من الكتاب، وهو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنكار نبوته وتبديل صفته، كان لأمور منها البغي، {بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} ومنها الخسارة، لكونه من العرب لا منهم. ومنها طلب الرياسة، وأن يستتبعوا أهل ملتهم. ومنها تحصيل أموالهم ورشاء ملوكهم وعوامهم.
{أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار}: أتى بخبر إن جملة، لأنها أبلغ من المفرد، وصدر بأولئك، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة. وقد تقدم لنا الكلام في ذلك في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} ثم أخبر عن أولئك بأخبار أربعة: الأول: {ما يأكلون في بطونهم إلا النار}، فمنهم من حمله على ظاهره وقال: إن ذلك يكون في الدنيا، وإن الرشاء التي هم يأكلونها تصير في أجوافهم ناراً، فلا يحسون بها إلا بعد الموت. ومنع تعالى أن يدركوا أنها نار، استدراجاً وإملاء لهم. ويكون في هذا المعنى بعض تجوز، لأنه حالة الأكل لم يكن ناراً، إنما بعد صارت في بطونهم ناراً. وقيل: إن ذلك يكون في الآخرة، فهو حقيقة أيضاً. واختلفوا فقيل: جميع ما أكلوه من السحت والرشاء في الدنيا يجعل ناراً في الآخرة، ثم يطعمهم الله إياه في النار. وقيل: يأمر الزبانية أن تطعمهم النار ليكون عقوبة الأكل من جنسه. وأكثر العلماء على تأويل قوله: {ما يأكلون في بطونهم إلا النار}، على معنى: أنهم يجازون على ما اقترفوه من كتم ما أنزل الله، والاشتراء به الثمن القليل، بالنار. وإن ما اكتسبوه بهذه الأوصاف الذميمة مآله إلى النار. وعبر بالأكل، لأنه أعظم منافع ما تصرف فيه الأموال. وذكر في بطونهم، إما على سبيل التوكيد، إذ معلوم أن الأكل لا يكون إلا في البطن، فصار نظير: {ولا طائر يطير بجناحيه} أو كناية عن ملء البطن، لأنه يقال: فلان أكل في بطنه، وفلان أكل في بعض بطنه. أو لرفع توهم المجاز، إذ يقال: أكل فلان ماله، إذا بذره، وإن لم يأكله. وجعل المأكول النار، تسمية له بما يؤول إليه، لأنه سبب النار، وذلك كما يقولون: أكل فلان الدم، يريدون الدية، لأنها بدل من الدم، قال الشاعر:
فلو أن حياً يقبل المال فدية ** لسقنا إليه المال كالسيل مفعما

ولكن لنا قوم أصيب أخوهم ** رضا العار واختاروا على اللبن الدما

وقال آخر:
أكلت دماً إن لم أرعك بضربة ** بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

وقال آخر:
تأكل كل ليلة أكافا

أي ثمن أكاف، ومعنى التلبس موجود في جميع ذلك. وتسمية الشيء بما يؤول إليه كثير، ومن ذلك: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً} ومن ذلك الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرهم وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعوم الذي هو أحسن متناول، قاله الراغب. وقال ابن عطية نحوه، قال: وفي ذكر البطن تنبيه على مذهبهم، بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم.
{ولا يكلمهم الله يوم القيامة}: هذا الخبر الثاني عن أولئك، وظاهره نفي الكلام مطلقاً، أعني مباشرتهم بالكلام، فيكون ما جاء في القرآن، أو في السنة، مما ظاهره أنه تعالى يحاورهم بالكلام، متأولاً بأنه يأمر من يقول لهم ذلك، نحو قوله تعالى: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} ويكون في نفي كلامه تعالى إياهم، دلالة على الغضب عليهم، ألا ترى أن من غضب على شخص صرمه وقطع كلامه؟ لأن في التكلم، ولو كان بشر، تأنيساً مّا والتفاتاً إلى المكلم. وقيل: معنى ولا يكلمهم الله: أي يغضب عليهم. وليس المراد نفي الكلام، إذ قد جاء في غير موضع ما ظاهره: أنه يكلم الكافرين، قاله الحسن. وقيل: المعنى ليس على العموم، إذ قد جاء في القرآن ما ظاهره أنه يكلمهم، كقوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين} والسؤال لا يكون إلا بالتكليم، وقال: {قال اخسئوا فيها ولا تكلمون}. فالمعنى: لا يكلمهم كلام خير وإقبال وتحية، وإنما يكلمهم كلاماً يشق عليهم. وقيل: المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. وقيل: ولا يكلمهم الله، تعريض بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة الله إياهم بكلامه. وقيل: المعنى لا يحملهم على الكلام، لأن من كلمته، كنت قد استدعيت كلامه، كأنه قال: لا يستدعي كلامهم فيكون نحو قوله: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} فنفى الكلام، وهو يراد ما يلزم عنه، وهو استدعاء الكلام.
{ولا يزكيهم}: هذا هو الخبر الثالث، والمعنى: لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء، أو لا ينزلهم منزلة الأزكياء. وقيل: المعنى لا يصلح أعمالهم الخبيثة. وقيل: المعنى لا يثني عليهم من قولهم: زكى فلاناً، إذ أثنى عليه، قاله الزجاج. وقيل: لا يطهرهم من دنس كفرهم، وهو معنى قول بعضهم: لا يطهرهم من موجبات العذاب، قاله ابن جرير. وقيل: المعنى لا يسميهم أزكياء.
{ولهم عذاب أليم}: هذا هو الخبر الرابع لأولئك، وقد تقدم تفسير قوله: {ولهم عذاب أليم} في أول السورة. وترتب على الكتمان واشتراء الثمن القليل هذه الأخبار الأربعة، وانعطفت بالواو الجامعة لها. وعطف الأخبار بالواو، ولا خلاف في جوازه، بخلاف أن لا تكون معطوفة، فإن في ذلك خلافاً وتفصيلاً. وناسب ذكر هذه الأخبار ما قبلها، ومناسب عطف بعضها على بعض، لما نذكره فنقول: متى ذكر وصف ورتب عليه أمر، فللعرب فيه طريقان: أحدهما: أن تكون تلك الأمور المترتبة على الأوصاف مقابلة لها، الأول منها لأول تلك الأوصاف، والثاني للثاني، فتحصل المقابلة من حيث المعنى ومن حيث الترتيب اللفظي، حيث قوبل الأول بالأول، والثاني بالثاني. وتارة يكون الأول من تلك الأمور مجاوراً لما يليه من تلك الأوصاف، فتحصل المقابلة من حيث المعنى، لا من حيث الترتيب اللفظي، وهذه الآية جاءت من هذا القبيل.
لما ذكر تعالى اشتراءهم الثمن القليل، وكان ذلك كناية عن مطاعمهم الخسيسة الفانية، بدأ أولاً في الخبر بقوله: {ما يأكلون في بطونهم إلا النار}. ثم قابل تعالى كتمانهم الدين والكتمان، هو أن لا يتكلموا به بل يخفوه بقوله تعالى: {ولا يكلمهم الله}، فجوزوا على منع التكلم بالدين أن منعوا تكليم الله إياهم، وابتنى على كتمانهم الدين، واشترائهم بما أنزل الله ثمناً قليلاً، أنهم شهود زور وأخبار سوء، حيث غيروا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعوا أن النبي المبتعث هو غير هذا، فقوبل ذلك كله بقوله: {ولا يزكيهم}. ثم ذكر أخيراً ما أعد لهم من العذاب الأليم، فرتب على اشتراء الثمن القليل قوله: {ما يأكلون في بطونهم إلا النار}، وعلى الكتمان قوله: {ولا يكلمهم الله}، وعلى مجموع الوصفين قوله: {ولا يزكيهم عذاب أليم}. فبدأ أولاً: بما يقابل فرداً فرداً، وثانياً: بما يقابل المجموع. ولما كانت الجملة الأولى مشتملة على فعل مسند إلى الله، كان الكلام الذي قابلها فيه فعل مسند إلى الله. ولما كانت الثانية مسندة إليهم، ليس فيها إسناد إلى الله، جاءت الجملة المقابلة لها مسندة إليهم، ولم يأت ما يطعمهم الله في بطونهم إلا النار. وناسب ذكر هذه الآية ما قبلها، لأنه تعالى ذكر في الآية قبلها إباحة الطيبات، ثم فصل أشياء من المحرمات، فناسب أن يذكر جزاء من كتم شيئاً من دين الله، ومما أنزله على أنبيائه، فكان ذلك تحذيراً أن يقع المؤمنون فيما وقع فيه أهل الكتاب، من كتم ما أنزل الله عليهم واشترائهم به ثمناً قليلاً.
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}، أولئك: اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم، وذكر ما أوعدوا به، وتقدم تفسير: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} مستوعباً في أول السورة، فأغنى عن إعادته. {والعذاب بالمغفرة}: لما قدم حالهم في الدنيا، بأنهم اعتاضوا من الهدى الضلالة، ذكر نتيجة ذلك في الآخرة، وهو أنهم اعتاضوا من المغفرة التي هي نتيجة الهدى.
وسبب النعم الأطول السرمدي، العذاب الأطول السرمدي، الذي هو نتيجة الضلالة، لأنهم لما كانوا عالمين بالحق، وكتموه لغرض خسيس دنياوي. فإن كان ذلك اشتراء للعذاب بالمغفرة. وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة. واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة، وعدم النظر في العواقب.
{فما أصبرهم على النار}: اختلف في ما، فالأظهر أنها تعجبية، وهو قول الجمهور من المفسرين. وقد جاء: {قتل الإنسان ما أكفره} {أسمع بهم وأبصر} وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو. الأول قول سيبويه والجمهور، والثاني قول الفراء وابن درستويه، والثالث والرابع للأخفش. وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية، أهو فعل؟ وهو مذهب البصريين، أم اسم؟ وهو مذهب الكوفيين. وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به؟ وإذا قلنا: إن الكلام هو تعجب، فالتعجب هو استعظام الشيء وخفاء حصول السبب، وهذا مستحيل في حق الله تعالى، فهو راجع لمن يصح ذلك منه، أي هم ممن يقول فيهم من رآهم: ما أصبرهم على النار! واختلف قائلو التعجب، أهو صبر يحصل لهم حقيقة إذا كانوا في النار؟ فذهب إلى ذلك الأصم وقال: إذا قيل لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} سكتوا وانقطع كلامهم، وصبروا على النار ليأسهم من الخلاص. وضعف قول الأصم، بأن ظاهر التعجب، أنه من صبرهم في الحال، لا أنهم سيصبرون، وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع. وقيل: الصبر مجاز عن البقاء في النار، أي ما أبقاهم في النار. أم هو صبر يوصفون به في الدنيا؟ وهو قول الجمهور. واختلف، أهو حقيقة أم مجاز؟ والقائلون بأنه حقيقة، قالوا: معناه ما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار، لأنهم كانوا علماء بأن من عاند النبي صلى الله عليه وسلم صار إلى النار، قاله المؤرج. وقيل: التقدير ما أصبرهم على عمل أهل النار، كما تقول: ما أشبه سخاءك بحاتم، أي بسخاء حاتم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهو قول الكسائي وقطرب، وهو قريب من قول المؤرج. وقيل: اصبر هنا بمعنى أجرأ، وهي لغة يمانية، فيكون لفظ اصبر إذ ذاك مشتركاً بين معناها المتبادر إلى الذهن من حبس النفس على الشيء المكروه، ومعنى الجراءة، أي ما أجرأهم على العمل الذي يقرب إلى النار، قاله الحسن وقتادة والربيع وابن جبير.
قال الفراء: أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما، فحلف له خصمه، فقال له: ما أصبرك على الله! أي ما أجرأك على الله! والقائلون بأنه مجاز. فقيل: هو مجاز أريد به العمل، أي ما أعملهم بأعمال أهل النار! قاله مجاهد. وقيل: هو مجاز أريد به قلة الجزع، أي ما أقل جزعهم من النار! وقيل: هو مجاز أريد به الرضا، وتقريره أن الراضي بالشيء يكون راضياً بمعلوله ولازمه، إذا علم ذلك اللزوم. فلما أقدموا على ما يوجب النار، وهم عالمون بذلك، صاروا كالراضين بعذاب الله والصابرين عليه، وهو كما يقول لمن تعرض لغضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن! وقال الزمخشري: فما أصبرهم على النار! تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم. انتهى كلامه، وانتهى القول في أن الكلام تعجب. وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم، أي: أيّ شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهو قول ابن عباس والسدي. يقال: صبره وأصبره بمعنى: أي جعله يصبر، لا أن أصبر هنا بمعنى: حبس واضطر، فيكون أفعل بمعنى: فعل، خلافاً للمبرد، إذ زعم أن أصبر بمعنى: صبر، ولا نعرف ذلك في اللغة، وإنما تكون الهمزة للنقل، أي يجعل ذا صبر. وذهب قوم إلى أن ما نافية، والمعنى: أن الله ما أصبرهم على النار، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب، فتلخص في معنى قوله: {فما أصبرهم على النار} التعجب والاستفهام والنفي، وتلخص في التعجب، أهو حقيقة أم مجاز؟ وكلاهما: أذلك في الدنيا أو في الآخرة؟.
{ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق}، ذلك: إشارة إلى ما تقدم من الوعيد، قاله الزجاج؛ أو إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار، قاله الحسن، أو العذاب، قاله الزمخشري؛ أو الاشتراء، قاله ابن عطية، تقريعاً على بعض التفاسير في الكتاب من قوله: {نزل الكتاب}، وسيذكر أي ذلك الاشتراء بما سبق لهم في علم الله وورد أخباره به، أو الكتمان. وأبعدها أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار الله أنه ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم، وأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون. واختلف في إعراب ذلك فقيل: هو منصوب بفعل محذوف تقديره: فعلنا ذلك، وتكون الباء في بأن الله متعلقة بذلك الفعل المحذوف. وقيل: مرفوع، واختلفوا، أهو فاعل، والتقدير: وجب ذلك لهم؟ أم خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلك؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق. فاختلفوا، أم مبتدأ، والخبر قوله: {بأن الله نزل}؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور، وهو العذاب، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه، وأقام السبب مقام المسبب.
والتفسير المعنوي: ذلك العذاب حاصل لهم بكتمان ما نزل الله من الكتاب المصحوب بالحق، أو الكتاب الذي نزله بالحق. وقال الأخفش: الخبر محذوف تقديره: ذلك معلوم بأن الله، فيتعلق الباء بهذا الخبر المقدر، والكتاب التوراة والإنجيل، أو القرآن، أو كتب الله المنزلة على أنبيائه، أو ما كتب عليهم من الشقاوة بقوله: {صم بكم عمي}، فيكون الكتاب بمعنى الحكم والقضاء، أقوال أربعة. بالحق، قال ابن عباس: بالعدل. وقال مقاتل: ضد الباطل. وقال مكي: بالواجب، وحيثما ذكر بالحق فهو الواجب.
{وإن الذين اختلفوا في الكتاب}، قيل: هم اليهود، والكتاب: التوراة، واختلافهم: كتمانهم بعث عيسى، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. آمنوا ببعض، وهو ما أظهروه، وكفروا ببعض، وهو ما كتموه. وقيل: هم اليهود والنصارى، قاله السدي؛ واختلاف كفرهم بما قصه الله تعالى من قصص عيسى وأمه عليهما السلام، وبإنكار الإنجيل، ووقع الاختلاف بينهم حتى تلاعنوا وتقاتلوا. وقيل: كفار العرب، والكتاب: القرآن. قال بعضهم: هو سحر، وبعضهم: هو أساطير الأولين، وبعضهم: هو مفترى إلى غير ذلك. وقيل: أهل الكتاب والمشركون. قال أهل الكتاب: إنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هو من كلام الله. وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقالوا: دارست، وقالوا: إن هذا إلا اختلاق، إلى غير ذلك. وقال المشركون: بعضهم قال: سحر، وبعضهم: شعر، وبعضهم: كهانة، وبعضهم: أساطير، وبعضهم: افتراء إلى غير ذلك. والظاهر الإخبار عمن صدر منهم الاختلاف فيما أنزل الله من الكتاب بأنهم في معاداة وتنافر، لأن الاختلاف مظنة التباغض والتباين، كما أن الائتلاف مظنة التحاب والاجتماع. وفي المنتخب: الأقرب، حمل الكتاب على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيهما، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه، وعرفوا تأويله. فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة به، فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم، دون القرآن. انتهى كلامه.
{لفي شقاق بعيد}: تقدم أن ذلك إما مأخوذ من كون هذا يصير في شق وهذا في شق، أو من كون هذا يشق على صاحبه. وكنى بالشقاق عن العداوة، ووصف الشقاق بالبعد، إما لكونه بعيداً عن الحق، أو لكونه بعيداً عن الألفة. أو كنى به عن الطول، أي في معاداة طويلة لا تنقطع. وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق، وأن غيره افتراء، وقد كذبوا في ذلك. كتب الله يشبه بعضها بعضاً، ويصدق بعضها بعضاً.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء الناس ثانياً، وأمرهم بالأكل من الحلال الطيب، ونهيهم عن اتباع الشيطان، وذكر خطواته، كأنهم يقتفون آثاره، ويطؤون عقبه.
فكلما خطا خطوة، وضعوا أقدامهم عليها، وذلك مبالغة في اتباعه. ثم بين أنه إنما نهاهم عن اتباعه، لأنه هو العدوّ المظهر لعداوته. ثم لم يكتف بذكر العداوة حتى ذكر أنه يأمرهم بالمعاصي. ولما كان لهم متبوعاً وهم تابعوه، ناسب ذكر الأمر، إذ هم ممتثلون ما زين لهم ووسوس. ثم ذكر ما به أمرهم، وهو أمره إياهم بالافتراء على الله، والإخبار عن الله بما لا يعلمونه عن الله، ثم ذكر شدة إعراضهم عما أنزل الله، واقتفاء اتباع آبائهم، حتى أنهم لو كان آباؤهم مسلوبي العقل والهداية، لكانوا متبعيهم، مبالغة في التقليد البحت والإعراض عن كتاب الله، وجرياً لخلفهم على سلف سننهم، من غير نظر ولا استدلال.
ثم ذكر أن مثل الكفار وداعيهم إلى ما أنزل الله، مثل الناعق بما لا يسمع إلا مجرد ألفاظ. ثم ذكر ما هم عليه من الصمم والبكم والعمي، التي هي مانعة من وصول العلوم إلى الإنسان، فلذلك ختم بقوله {فهم لا يعقلون}، لأن طرق العقل والعلم منسدة عليهم. ثم نادى المؤمنين نداء خاصاً، وأمرهم بالأكل من الطيب وبالشكر لله. ثم ذكر أشياء مما حرم، وأباح الأكل منها حال الاضطرار، وشرط في تناول ذلك أن لا يكون المضطر باغياً ولا عادياً. ولما أحل أكل الطيبات وحرم ما حرم هنا، ذكر أحوال من كتم ما أنزل الله واشترى به النزر اليسير، لتعتبر هذه الأمة بحال من كتم العلم وباعه بأخس ثمن، إذ أخبر تعالى أنه لا يأكل في بطنه إلا النار، أي ما يوجب أكله النار. وأن الله لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم حين يكلم المؤمنين تكليم رحمة وإحسان. وذكر أنهم مع انتفاء التعليم الذي هو أعلى الرتب للمرؤوس من الرئيس، حيث أهله لمناجاته ومحادثته، وانتفاء الثناء عليهم لهم العذاب المؤلم. ثم بالغ في ذمهم بأن هؤلاء هم الذين آثروا الضلال على الهدى، والعذاب على النعيم. ثم ذكر أنهم بصدد أن يتعجب من جلدهم على النار، وأن ما حصل لهم من العذاب هو بسبب ما أنزل الله من الكتاب فخالفوه. ثم ذكر أن الذين اختلفوا فيما أنزل الله هم في معاداة لا تنقطع.