فصل: تفسير الآيات (26- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (26- 29):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة، أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم، عليهما السلام، تشريفاً لهما بالذكر. أما نوح، فلأنه أول الرسل إلى من في الأرض؛ وأما إبراهيم، فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء عليهم السلام، وهو معظم في كل الشرائع. ثم ذكر أشرف ما حصل لذريتهما، وذلك النبوة، وهي التي بها هدي الناس من الضلال؛ {والكتاب}، وهي الكتب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وهي جميعها في ذرية إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم من ذرية نوح، فصدق أنها في ذريتهما. وفي مصحف عبد الله: والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو. وقال ابن عباس: {والكتاب}: الخط بالقلم، والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية. وقيل: يعود على المرسل إليهم لدلالة ذكر الإرسال والمرسلين عليهم. ومع إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العلل بذلك، انقسموا إلى مهتد وفاسق، وأخبر بالفسق عن الكثير منهم.
{ثم قفينا}: أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم، {على آثارهم}: أي آثار الذرية، {برسلنا}: وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية، {وقفينا بعيسى}: ذكره تشريفاً له، ولانتشار أمته، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه. وتقدمت قراءة الحسن: الإنجيل، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران. قال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له. انتهى، وهي لفظة أعجمية، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب. وقال الزمخشري: أمره أهون من أمر البرطيل، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي؛ وأما الإنجيل فأعجمي. وقرئ: رآفة على وزن فعالة، {وجعلنا}: يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا، كقوله: {وجعل الظلمات والنور} ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا، فيكون {في قلوب}: في موضع المفعول الثاني لجعلنا. {ورهبانية} معطوف على ما قبله، فهي داخلة في الجمل. {ابتدعوها}: جملة في موضع الصفة لرهبانية، وخصت الرهبانية بالابتداع، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، بخلاف الرهبانية، فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضع للتكسب. قال قتادة: الرأفة والرحمة من الله، والرهبانية هم ابتدعوها؛ والرهبانية: رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاد الصوامع. وجعل أبو علي الفارسي {ورهبانية} مقتطعة من العطف على ما قبلها من {رأفة ورحمة}، فانتصب عنده {ورهبانية} على إضمار فعل يفسره ما بعده، فهو من باب الاشتغال، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها. واتبعه الزمخشري فقال: وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها. انتهى، وهذا إعراب المعتزلة، وكان أبو عليّ معتزلياً. وهم يقولون: ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد، فالرأفة والرحمة من خلق الله، والرهبانية من ابتداع الإنسان، فهي مخلوقة له. وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله: {ورهبانية}، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة.
وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق: ففرقة قاتلت الملوك على الدين فغلبت وقتلت؛ وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل، فأخذها الملوك ينشرونهم بالمناشير فقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي، وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت. والرهبانية: الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف بني فعلان من رهب، كالخشيان من خشي. وقرئ: ورهبانية بالضم. قال الزمخشري: كأنها نسبة إلى الرهبان، وهو جمع راهب، كراكب وركبان. انتهى. والأولى أن يكون منسوباً إلى رهبان وغير بضم الراء، لأن النسب باب تغيير. ولو كان منسوباً إلى رهبان الجمع لرد إلى مفرده، فكان يقال: راهبية، إلا إن كان قد صار كالعلم، فإنه ينسب إليه على لفظه كالأنصار. والظاهر أن {إلا ابتغاء رضوان} الله استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله، وصار المعنى: أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته، وهذا قول مجاهد، ويكون كتب بمعنى قضى. وقال قتادة وجماعة: المعنى: لم يفرضها عليهم، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى، فالاستثناء على هذا منقطع، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى. والظاهر أن الضمير في {رعوها} عائد على ما عاد عليه في {ابتدعوها}، وهو ضمير {الذين اتبعوه}، أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه. وقال نحوه ابن زيد، قال: لم يدوموا على ذلك، ولا وفوه حقه، بل غيروا وبدلوا، وعلى تقدير أن فيهم من رعى يكون المعنى: فما رعوها بأجمعهم. وقال ابن عباس وغيره: الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم. وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها. {فآتينا الذين آمنوا}: وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام. {وكثير منهم فاسقون}: وهم الذين لم يرعوها.
{يا أيها الذين آمنوا}: الظاهر أنه نداء لمن آمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمعنى آمنوا: دوموا واثبتوا، وهكذا المعنى في كل أمر يكون المأمور ملتبساً بما أمر به. {يؤتكم كفلين}، قال أبو موسى الأشعري: كفلين: ضعفين بلسان الحبشة. انتهى، والمعنى: أنه يؤتكم مثل ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} إذ أنتم مثلهم في الإيمانين، لا تفرقوا بين أحد من رسله. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، وادعوا الفضل عليهم، فنزلت. وقيل: النداء متوجه لمن آمن من أهل الكتاب، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، يؤتكم الله كفلين، أي نصيبين من رحمته، وذلك لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإيمانكم بمن قبله من الرسل.
{ويجعل لكم نوراً تمشون به}: وهو النور المذكور في قوله: {يسعى نورهم}، ويغفر لكم ما أسلفتم من الكفر والمعاصي. ويؤيد هذا المعنى ما ثبت في الصحيح: «ثلاثة يؤتهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي»، الحديث.
ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا أنهم لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله، ولم يكسبهم فضلاً قط. وإذا كان النداء لمؤمني هذه الأمة والأمر لهم، فروي أنه لما نزل هذا الوعد لهم حسدهم أهل الكتاب، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها، وتزعم أنهم أحباء الله وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به. ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون. وقرأ الجمهور: {لئلا يعلم}، ولا زائدة كهي في قوله: {ما منعك أَن لا تسجد} وفي قوله: {أنهم لا يرجعون} في بعض التأويلات. وقرأ خطاب بن عبد الله: لأن لا يعلم؛ وعبد الله وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة: على اختلاف ليعلم؛ والجحدري: لينيعلم، أصله لأن يعلم، قلب الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغم النون في الياء بغير غنة، كقراءة خلف أن يضرب بغير غنة. وروى ابن مجاهد عن الحسن: ليلاً مثل ليلى اسم المرأة، يعلم برفع الميم أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة، فحذفت الهمزة، اعتباطاً، وأدغمت النون في اللام، فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها، فأبدلوا من الساكنة ياء فصار ليلاً، ورفع الميم، لأن إن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، إذ الأصل لأنه لا يعلم. وقطرب عن الحسن أيضاً: لئلا بكسر اللام وتوجيهه كالذي قبله، إلا أنه كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر. وعن ابن عباس: كي يعلم، وعنه: لكيلا يعلم، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة: لكي يعلم. وقرأ الجمهور: أن لا يقدرون بالنون، فإن هي المخففة من الثقيلة؛ وعبد الله بحذفها، فإن الناصبة للمضارع، والله تعالى أعلم.

.سورة المجادلة:

.تفسير الآيات (1- 7):

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
قرأ الجمهور: {قد سمع} بالبيان؛ وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن: بالإدغام، قال خلف بن هشام البزار: سمعت الكسائي يقول: من قرأ قد سمع، فبين الدال عند السين، فلسانه أعجمي ليس بعربي، ولا يلتفت إلى هذا القول؛ فالجمهور على البيان. والتي تجادل خولة بنت ثعلبة، ويقال بالتصغير، أو خولة بنت خويلد، أو خولة بنت حكيم، أو خولة بنت دليج، أو جميلة، أو خولة بنت الصامت، أقوال للسلف. وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة. وقيل: سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته. قالت زوجته: يا رسول الله، أكل أوس شبابي ونثرت له بطني، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني، فقال لها: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»، فقالت: يا رسول الله لا تفعل، فإني وحيدة ليس لي أهل سواه، فراجعها بمثل مقالته فراجعته، فهذا هو جدالها، وكانت في خلال ذلك تقول: اللهم إن لي منه صبية صغاراً، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فهذا هو اشتكاؤها إلى الله، فنزل الوحي عند جدالها. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات. كان بعض كلام خولة يخفى عليّ، وسمع الله جدالها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوس وعرض عليه كفارة الظهار: «العتق»، فقال: ما أملك، و«الصوم»، فقال: ما أقدر، و«الإطعام»، فقال: لا أجد إلا أن تعينني، فأعانه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً ودعا له، فكفر بالإطعام وأمسك أهله. وكان عمر، رضي الله تعالى عنه، يكرم خولة إذا دخلت عليه ويقول: قد سمع الله لها. وقال الزمخشري: معنى قد: التوقع، لأنه صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا متوقعين أن يسمع الله مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرح عنها. انتهى.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو: يظهرون بشدّهما؛ والأخوان وابن عامر: يظاهرون مضارع ظاهر؛ وأبيّ: يتظاهرون، مضارع تظاهر؛ وعنه: يتظهرون، مضارع تظهر؛ والمراد به كله الظهار، وهو قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، يريد في التحريم، كأنه إشارة إلى الركوب، إذ عرفه في ظهور الحيوان. والمعنى أنه لا يعلوها كما لا يعلو أمّه، ولذلك تقول العرب في مقابلة ذلك: نزلت عن امرأتي، أي طلقتها. وقوله: {منكم}، إشارة إلى توبيخ العرب وتهجين عادتهم في الظهار، لأنه كان من إيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم.
وقرأ الجمهور: {أمهاتهم}، بالنصب على لغة الحجاز؛ والمفضل عن عاصم: بالرفع على لغة تميم؛ وابن مسعود: بأمهاتهم، بزيادة الباء. قال الزمخشري: في لغة من ينصب. انتهى. يعني أنه لا تزاد الباء في لغة تميم، وهذا ليس بشيء، وقد رد ذلك على الزمخشري.
وزيادة الباء في مثل: ما زيد بقائم، كثير في لغة تميم، والزمخشري تبع في ذلك أبا عليّ الفارسي رحمه الله. ولما كان معنى كظهر أمي: كأمي في التحريم، ولا يراد خصوصية الظهر الذي هو من الجسد، جاء النفي بقوله: {ما هنّ أمّهاتهم}، ثم أكد ذلك بقوله: {إن أمّهاتهم}: أي حقيقة، {إلا اللائي ولدنهم} وألحق بهنّ في التحريم أمّهات الرضاع وأمّهات المؤمنين أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، والزوجات لسن بأمّهات حقيقة ولا ملحقات بهنّ. فقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع، وزور: كذب باطل منحرف عن الحق، وهو محرم تحريم المكروهات جدّاً، فإذا وقع لزم، وقد رجى تعالى بعده بقوله: {وإن الله لعفو غفور} مع الكفارة. وقال الزمخشري: {وإن الله لعفو غفور} لما سلف منه إذ تاب عنه ولم يعد إليه. انتهى، وهي نزغة اعتزالية.
والظاهر أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها. فلو قال: أنت عليّ كظهر أختي أو ابنتي، لم يكن ظهاراً، وهو قول قتادة والشعبي وداود، ورواية أبي ثور عن الشافعي. وقال الجمهور: الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي في قول هو ظهار، والظاهر أن الذمي لا يلزمه ظهاره لقوله: {منكم}، أي من المؤمنين وبه قال أبو حنيفة والشافعي لكونها ليست من نسائه. وقال مالك: يلزمه ظهاره إذا نكحها، ويصح من المطلقة الرجعية. وقال: المزني لا يصح. وقال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها، ولو ظاهر من أمته التي يجوز له وطئها، لزمه عند مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم، وسبب الخلاف هو: هل تندرج في نسائهم أم لا؟ والظاهر صحة ظهار العبد لدخوله في يظهرون منكم، لأنه من جملة المسلمين، وإن تعذر منه العتق والإطعام، فهو قادر على الصوم. وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهاره، وليست المرأة مندرجة في الذين يظهرون، فلو ظاهرت من زوجها لم يكن شيئاً. وقال الحسن بن زياد: تكون مظاهرة. وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف: إذا قالت لزوجها أنت عليّ كظهر فلانة، فهي يمين تكفرها. وقال الزهري: أرى أن تكفر كفارة الظاهر، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها.
والظاهر أن قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا}: أن يعودوا للفظ الذي سبق منهم، وهو قول الرجل ثانياً: أنت مني كظهر أمي، فلا تلزم الكفارة بالقول، وإنما تلزم بالثاني، وهذا مذهب أهل الظاهر. وروي أيضاً عن بكير بن عبد الله بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة: وهو قول الفراء. وقال طاووس وقتادة والزهري والحسن ومالك وجماعة: {لما قالوا}: أي للوطء، والمعنى: لما قالوا أنهم لا يعودون إليه، فإذا ظاهر ثم وطئ، فحينئذ يلزمه الكفارة، وإن طلق أو ماتت.
وقال أبو حنيفة ومالك أيضاً والشافعي وجماعة: معناه يعودون لما قالوا بالعزم على الإمساك والوطء، فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة، طلق أو ماتت. قال الشافعي: العود الموجب للكفارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار، ويمضي بعده زمان يمكن أن يطلقها فيه فلا يطلق. وقال قوم: المعنى: والذين يظهرون من نسائهم في الجاهلية، أي كان الظهار عادتهم، ثم يعودون إلى ذلك في الإسلام، وقاله القتيبي. وقال الأخفش: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: فتحرير رقبة لما قالوا، وهذا قول ليس بشيء لأنه يفسد نظم الآية.
{فتحرير رقبة}، والظاهر أنه يجزئ مطلق رقبة، فتجزئ الكافرة. وقال مالك والشافعي: شرطها الإسلام، كالرقبة في كفارة القتل. والظاهر إجزاء المكاتب، لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه: وإن عتق نصفي عبدين لا يجزئ. وقال الشافعي: يجزئ. {من قبل أن يتماسا}: لا يجوز للمظاهر أن يطأ حتى يكفر، فإن فعل عصى، ولا يسقط عنه التكفير. وقال مجاهد: يلزمه كفارة أخرى. وقيل: تسقط الكفارة الواجبة عليه، ولا يلزمه شيء. وحديث أوس بن الصامت يرد على هذا القول، وسواء كانت الكفارة بالعتق أم الصوم أم الإطعام. وقال أبو حنيفة: إذا كانت بالإطعام، جاز له أن يطأ ثم يطعم، وهو ظاهر قوله: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً}، إذ لم يقل فيه: {من قبل أن يتماسا}، وقيد ذلك في العتق والصوم. والظاهر في التماس الحقيقة، فلا يجوز تماسهما قبلة أو مضاجعة أو غير ذلك من وجوه الاستمتاع، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. وقال الأكثرون: هو الوطء، فيجوز له الاستمتاع بغيره قبل التكفير، وقاله الحسن والثوري، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. والضمير في {يتماسا} عائد على ما عاد عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها. {ذلكم توعظون به}: إشارة إلى التحرير، أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار.
{فمن لم يجد}: أي الرقبة ولا ثمنها، أو وجدها، أو ثمنها، وكان محتاجاً إلى ذلك، فقال أبو حنيفة: يلزمه العتق ولو كان محتاجاً إلى ذلك، ولا ينتقل إلى الصوم، وهو الظاهر. وقال الشافعي: ينتقل إلى الصوم. والشهران بالأهلة، وإن جاء أحدهما ناقصاً، أو بالعدد لا بالأهلة، فيصوم إلى الهلال، ثم شهراً بالهلال، ثم يتم الأول بالعدد. والظاهر وجوب التتابع، فإن أفطر بغير عذر استأنف، أو بعذر من سفر ونحوه. فقال ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي: في أحد قوليه يبني. وقال النخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري وأصحاب الرأي والشافعي: في أحد قوليه. والظاهر أنه إن وجد الرقبة بعد أن شرع في الصوم، أنه يصوم ويجزئه، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلزمه العتق، ولو وطئ في خلال الصوم بطل التتابع ويستأنف، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال الشافعي: يبطل إن جامع نهاراً لا ليلاً.
{فمن لم يستطع} لصوم لزمانة به، أو كونه يضعف به ضعفاً شديداً، كما جاء في حديث أوس لما قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال: والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني. والظاهر مطلق الإطعام، وتخصصه ما كانت العادة في الإطعام وقت النزول، وهو ما يشبع من غير تحديد بمدّ. ومذهب مالك أنه مد وثلث بالمدّ النبوي، ويجب استيعاب العدد ستين عند مالك والشافعي، وهو الظاهر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. {ذلك لتؤمنوا}، قال ابن عطية: إشارة إلى الرجعة والتسهيل في الفعل من التحرير إلى الصوم والإطعام. ثم شدّد تعالى بقوله: {وتلك حدود الله}: أي فالزموها وقفوا عندها. ثم توعد الكافرين بهذا الحكم الشرعي. وقال الزمخشري: ذلك البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها، لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه التي شرعها في الظهار وغيره، ورفض ما كنتم عليه من جاهليتكم، {وتلك حدود الله} التي لا يجوز تعديها، {وللكافرين} الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها {عذاب أليم}. انتهى.
{إن الذين يحادون الله ورسوله}: نزلت في مشركي قريش، أخزوا يوم الخندق بالهزيمة، كما أخزى من قاتل الرسل من قبلهم. ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر المحادّين المخالفين لها، والمحادة: المعاداة والمخالفة في الحدود. {كبتوا}، قال قتادة: أخزوا. وقال السدي: لعنوا. قيل: وهي لغة مذحج. وقال ابن زيد وأبو روق: ردّوا مخذولين. وقال الفراء: غيظوا يوم الخندق. {كما كبت الذين من قبلهم}: أي من قاتل الأنبياء. وقيل: يوم بدر. وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا. وعن أبي عبيدة: التاء بدل من الدال، أي كبدوا: أصابهم داء في أكبادهم. قيل: والذين من قبلهم منافقو الأمم. قيل: وكبتوا بمعنى سيكبتون، وهي بشارة للمؤمنين بالنصر. وعبر بالماضي لتحقق وقوعه، وتقدّم الكلام في مادة كبت في آل عمران.
{وقد أنزلنا آيات بينات} على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما جاء به. {وللكافرين}: أي الذين يحادّونه، {عذاب مهين}: أي يهينهم ويذلهم. والناصب ليوم يبعثهم العامل في للكافرين أو مهين أو اذكر أو يكون على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء؟ فقيل له: {يوم يبعثهم الله}: أي يكون يوم يبعثهم الله، وانتصب {جميعاً} على الحال: أي مجتمعين في صعيد واحد، أو معناه كلهم، إذ جميع يحتمل ذينك المعنيين؛ {فينبئهم بما عملوا}، تخجيلاً لهم وتوبيخاً. {أحصاه} بجميع تفاصيله وكميته وكيفيته وزمانه ومكانه. {ونسوه} لاستحقارهم إياه واحتقارهم أنه لا يقع عليه حساب.
{شهيد}: لا يخفى عليه شيء. وقرأ الجمهور: ما يكون بالياء؛ وأبو جعفر وأبو حيوة وشيبة: بالتاء لتأنيث النجوى.
قال صاحب اللوامح: وإن شغلت بالجار، فهي بمنزلة: ما جاءتني من امرأة، إلا أن الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في العامة، يعني القراءة العامة، قال: لأنه مسند إلى {من نجوى} وهو يقتضي الجنس، وذلك مذكر. انتهى. وليس الأكثر في هذا الباب التذكير، لأن من زائدة. فالفعل مسند إلى مؤنث، فالأكثر التأنيث، وهو القياس، قال تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} {ما تسبق من أمة أجلها} ويكون هنا تامة، ونجوى احتمل أن تكون مصدراً مضافاً إلى ثلاثة، أي من تناجي ثلاثة، أو مصدراً على حذف مضاف، أي من ذوي نجوى، أو مصدراً أطلق على الجماعة المتناجين، فثلاثة: على هذين التقديرين. قال ابن عطية: بدل أو صفة. وقال الزمخشري: صفة. وقرأ ابن أبي عبلة ثلاثة وخمسة بالنصب على الحال، والعامل يتناجون مضمرة يدل عليه نجوى. وقال الزمخشري: أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبها من المستكن فيه. وقال ابن عيسى: كل سرار نجوى. وقال ابن سراقة: السرار ما كان بين اثنين، والنجوى ما كان بين أكثر. قيل: نزلت في المنافقين، واختص الثلاثة والخمسة لأن المنافقين كانوا يتناجون على هذين العددين مغايظة لأهل الإيمان؛ والجملة بعد إلا في المواضع الثلاثة في موضع الحال، وكونه تعالى رابعهم وسادسهم ومعهم بالعلم وإدراك ما يتناجون به. وقال ابن عباس: نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية، تحدّثوا فقال أحدهم: أترى الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً، فقال الثالث: إن كان يعلم بعضاً فهو يعلمه كله.
{ولا أدنى من ذلك}: إشارة إلى الثلاثة والخمسة، والأدنى من الثلاثة الاثنين، ومن الخمسة الأربعة؛ ولا أكثر يدل على ما يلي الستة فصاعداً. وقرأ الجمهور: {ولا أكثر} عطفاً على لفظ المخفوض؛ والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب: بالرفع عطفاً على موضع نجوى إن أريد به المتناجون، ومن جعله مصدراً محضاً على حذف مضاف، أي ولا نجوى أدنى، ثم حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه. ويجوز أن يكون {ولا أدنى} مبتدأ، والخبر {إلا هو معهم}، فهو من عطف الجمل، وقرأ الحسن أيضاً ومجاهد والخليل بن أحمد ويعقوب أيضاً: ولا أكبر بالباء بواحدة والرفع، واحتمل الإعرابين: العطف على الموضع والرفع بالابتداء. وقرئ: {ينبئهم} بالتخفيف والهمز؛ وزيد بن علي: بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء؛ والجمهور: بالتشديد والهمز وضم الهاء.