فصل: تفسير الآيات (8- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (8- 11):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)}
نزلت {ألم تر} في اليهود والمنافقين. كانوا يتناجون دون المؤمنين، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم، موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أقرباؤهم. فلما كثر ذلك منهم، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين، فلم ينتهوا، فنزلت، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: نزلت في اليهود. وقال ابن السائب: في المنافقين. وقرأ الجمهور: {ويتناجون}؛ وحمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ورويس: وينتجون مضارع انتجى. {بما لم يحيك به الله}: كانوا يقولون: السام عليك، وهو الموت؛ فيرد عليهم: وعليكم. وتحية الله لأنبيائه: {وسلام على عباده الذين اصطفى} {لولا يعذبنا الله بما نقول}: أي إن كان نبياً، فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما نقول؟ فقال تعالى: {حسبهم جهنم}.
ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار، وبدأ بالإثم لعمومه، ثم بالعدوان لعظمته في النفوس، إذ هي ظلامات العباد. ثم ترقى إلى ما هو أعظم، وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذا طعن على المنافقين، إذ كان تناجيهم في ذلك. وقرأ الجمهور: {فلا تتناجوا}، وأدغم ابن محيصن التاء في التاء. وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس: فلا تنتجوا مضارع انتجى؛ والجمهور: بضم عين العدوان؛ وأبو حيوة بكسرها حيث وقع؛ والضحاك: ومعصيات الرسول على الجمع. والجمهور: على الإفراد. وقرأ عبد الله: إذا انتجيتم فلا تنتجوا. وأل في {إنما النجوى} للعهد في نجوى الكفار {بالإثم والعدوان}، وكونها {من الشيطان}، لأنه هو الذي يزينها لهم، فكأنها منه.
{ليحزن الذين آمنوا}: كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا. {وليس}: أي التناجي أو الشيطان أو الحزن، {بضارهم}: أي المؤمنين، {إلا بإذن الله}: أي بمشيئته، فيقضي بالقتل أو الغلبة. وقال ابن زيد: هي نجوى قوم من المسلمين يقصدون مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لهم حاجة ولا ضرورة. يريدون التبجح بذلك، فيظن المسلمون أن ذلك في أخبار بعد وقاصداً نحوه. وقال عطية العوفي: نزلت في المناجاة التي يراها المؤمن في النوم تسوءه، فكأنه نجوى يناجي بها. انتهى. ولا يناسب هذا القول ما قبل الآية ولا ما بعدها، وتقدمت القراءتان في نحو: {ليحزن}. وقرئ: بفتح الياء والزاي، فيكون {الذين} فاعلاً، وفي القراءتين مفعولاً.
ولما نهى تعالى المؤمنين عن ما هو سبب للتباغض والتنافر، أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب، فقال: {يا أيها الذين آمنوا} الآية. قال مجاهد وقتادة والضحاك: كانوا يتنافسون في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقال ابن عباس: المراد مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان الصحابة يتشاحون على الصف الأول، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة، فنزلت.
وقرأ الجمهور: {تفسحوا}؛ وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى: تفاسحوا. والجمهور: في المجلس؛ وعاصم وقتادة وعيسى: {في المجالس}. وقرئ: في المجلس بفتح اللام، وهو الجلوس، أي توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه. والظاهر أن الحكم مطرد في المجالس التي للطاعات، وإن كان السبب مجلس الرسول. وقيل: الآية مخصوصة بمجلس الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذا مجالس العلم؛ ويؤيده قراءة من قرأ {في المجالس}، ويتأول الجمع على أن لكل أحد مجلساً في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم. وانجزم {يفسح الله} على جواب الأمر في رحمته، أو في منازلكم في الجنة، أو في قبوركم، أو في قلوبكم، أو في الدنيا والآخرة، أقوال.
{وإذا قيل انشزوا}: أي انهضوا في المجلس للتفسح، لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع. أمروا أولاً بالتفسح، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إذا ائتمروا. وقال الحسن وقتادة والضحاك: معناه: إذا دعوا إلى قتال وصلاة أو طاعة نهضوا. وقيل: إذا دعوا إلى القيام عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم نهضوا، إذ كان عليه الصلاة والسلام أحياناً يؤثر الانفراد في أمر الإسلام. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن عامر ونافع وحفص: بضم السين في اللفظين؛ والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة: بكسرها. والظاهر أن قوله: {والذين أوتوا العلم} معطوف على {الذين آمنوا}، والعطف مشعر بالتغاير، وهو من عطف الصفات، والمعنى: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات، فالوصفان لذات واحدة. وقال ابن مسعود وغيره: تم الكلام عند قوله: {منكم}، وانتصب {والذين أوتوا العلم} بفعل مضمر تقديره: ويخص الذين أوتوا العلم درجات، فللمؤمنين رفع، وللعلماء درجات.
وقرأ عياش عن أبي عمرو خبير: بما يعملون بالياء من تحت، والجمهور بالتاء.

.تفسير الآيات (12- 22):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
{بين يدي نجواكم}: استعارة والمعنى: قبل نجواكم. وعن ابن عباس وقتادة: أن قوماً من المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير جاحة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يرد أحداً فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة. وهذا الحكم قيل: نسخ قبل العمل به. وقال قتادة: عمل به ساعة من نهار. وقال مقاتل: عشرة أيام. وقال عليّ كرم الله وجهه: ما عمل به أحد غيري أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيت عشر مرار أتصدق في كل مرة بدرهم ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة. وقرئ: صدقات بالجمع. وقال ابن عباس: هي منسوخة بالآية التي بعدها. وقيل بآية الزكاة. {أأشفقتم}: أخفتم من ذهاب المال في الصدقة أو من العجز عن وجودها تتصدقون به؟ {فإذ لم تفعلوا}: ما أمرتم به {وتاب الله عليكم}: عذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وأفعال الطاعات.
{الذين تولوا}: هم المنافقون، والمغضوب عليهم: هم اليهود، عن السدي ومقاتل، أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان»، فدخل عبد الله بن أبي بن سلول، وكان أزرق أسمر قصيراً، خفيف اللحية، فقال عليه الصلاة والسلام: «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فحلف بالله ما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام له: «فعلت»، فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت. والضمير في {ما هم} عائد على {الذين تولوا}، وهم المنافقون: أي ليسوا منكم أيها المؤمنون، {ولا منهم}: أي ليسوا من الذين تولوهم، وهم اليهود. وما هم استئناف إخبار بأنهم مذبذبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه» وقال ابن عطية: يحتمل تأويلاً آخر، وهو أن يكون قوله: {ما هم} يريد به اليهود، وقوله: {ولا منهم} يريد به المنافقين، فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن، لأنهم تولوا مغضوباً عليهم، ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم، ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً. انتهى. والظاهر التأويل الأول، لأن الذين تولوا هم المحدث عنهم. والضمير في {ويحلفون} عائد عليهم، فتتناسق الضمائر لهم ولا تختلف. وعلى هذا التأويل يكون {ما هم} استئنافاً، وجاز أن يكون حالاً من ضمير {تولوا}. وعلى احتمال ابن عطية، يكون {ما هم} صفة لقوم. {ويحلفون على الكذب}، إما أنهم ما سبوا، كما روي في سبب النزول، أو على أنهم مسلمون. والكذب هو ما ادعوه من الإسلام. {وهم يعلمون}: جملة حالية يقبح عليهم، إذ حلفوا على خلاف ما أبطنوا، فالمعنى: وهم عالمون متعمدون له.
والعذاب الشديد: المعد لهم في الآخرة. وقرأ الجمهور: {أيمانهم} جمع يمين؛ والحسن: إيمانهم، بكسر الهمزة: أي ما يظهرون من الإيمان، {جنة}: أي ما يتسترون به ويتقون المحدود، وهو الترس، {فصدوا}: أي أعرضوا، أو صدوا الناس عن الإسلام، إذ كانوا يثبطون من لقوا عن الإسلام ويضعفون أمر الإيمان وأهله، أو صدوا المسلمين عن قتلهم بإظهار الإيمان، وقتلهم هو سبيل الله فيهم، لكن ما أظهروه من الإسلام صدوا به المسلمين عن قتلهم.
{لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً}: تقدم الكلام على هذه الجملة في أوائل آل عمران. {فيحلفون له}: أي لله تعالى. ألا ترى إلى قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} {كما يحلفون لكم} أنهم مؤمنون، وليسوا بمؤمنين. والعجب منهم، كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على عالم الغيب والشهادة، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم؟ والمقصود أنهم مقيمون على الكذب، قد تعودوه حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا، {ويحسبون أنهم على شيء}: أي شيء نافع لهم.
{استحوذ عليهم الشيطان}: أي أحاط بهم من كل جهة، وغلب على نفوسهم واستولى عليها، وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى: {ألم نستحوذ عليكم} في النساء، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها، وجمعها غالباً لها، ومنه كان أحوذياً نسيج وحده. وقرأ عمر: استحاذ، أخرجه على الأصل والقياس، واستحوذ شاذ في القياس فصيح في الاستعمال. {فأنساهم ذكر الله}: فهم لا يذكرونه، لا بقلوبهم ولا بألسنتهم؛ و{حزب الشيطان}: جنده، قاله أبو عبيدة. {أولئك في الأذلين}: هي أفعل التفضيل، أي في جملة من هو أذل خلق الله تعالى، لا ترى أحداً أذل منهم.
وعن مقاتل: لما فتح الله مكة للمؤمنين، والطائف وخيبر وما حولهم، قالوا: نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}: {كتب}: أي في اللوح المحفوظ، أو قضى. وقال قتادة: بمعنى قال، {ورسلي}: أي من بعثت منهم بالحرب ومن بعثت منهم بالحجة. {إن الله قوي}: ينصر حزبه، {عزيز}: يمنعه من أن يذل.
{لا تجد قوماً}، قال الزمخشري، من باب التخييل: خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوادون المشركين، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله. وزاد ذلك تأكيداً بقوله: {ولو كانوا آباءهم}. انتهى. وبدأ بالآباء لأنهم الواجب على الأولاد طاعتهم، فنهاهم عن موادتهم.
وقال تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم أتى ثالثاً بالإخوان لأنهم بهم التعاضد، كما قيل:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له ** كساع إلى الهيجاء بغير سلاح

ثم رابعاً بالعشيرة، لأن بها التناصر، وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إلى ما دعوا إليه، كما قال:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ** في النائبات على ما قال برهاناً

وقرأ الجمهور: {كتب} مبنياً للفاعل، {في قلوبهم الإيمان} نصباً، أي كتب الله. وأبو حيوة والمفضل عن عاصم: كتب مبنياً للمفعول، والإيمان رفع. والجمهور: {أو عشيرتهم} على الإفراد؛ وأبو رجاء: على الجمع، والمعنى: أثبت الإيمان في قلوبهم وأيدهم بروح منه تعالى، وهو الهدى والنور واللطف. وقيل: الروح: القرآن. وقيل: جبريل يوم بدر. وقيل: الضمير في منه عائد على الإيمان، والإنسان في نفسه روح يحيا به المؤمن، والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله. قيل: والآية نزلت في أبي حاطب بن أبي بلتعة. وقيل: الظاهر أنها متصلة بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود. وقيل: نزلت في ابن أبيّ وأبي بكر الصديق، رضى الله تعالى عنه، كان منه سب للرسول صلى الله عليه وسلم، فصكه أبو بكر صكة سقط منها، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: «أوفعلته»؟ قال: نعم، قال: «لا تعد»، قال: والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته وقيل: في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أُحد، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وفي مصعب بن عمير قتل أخاه بن عمير يوم أُحد. وقال ابن شوذب: يوم بدر، وفي عمر قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر، وفي عليّ وحمزة وعبيد بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة يوم بدر. وقال الواقدي في قصة أبي عبيدة أنه قتل أباه، قال: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالاً من بني فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام. انتهى، يعنون في الجاهلية قبل ظهور الإسلام. وقد رتب المفسرون. {ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومصعب وعمر وعليّ وحمزة وعبيد مع أقربائهم، والله تعالى أعلم.