فصل: سورة الجمعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة الجمعة:

.تفسير الآيات (1- 11):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
وقرأ الجمهور: {الملك} بجرّه وجر ما بعده؛ وأبو وائل ومسلمة بن محارب ورؤبة وأبو الدّينار الأعرابي: بالرفع على إضمار هو، وحسنه الفصل الذي فيه طول بين الموصوف والصفة، وكذلك جاء عن يعقوب. وقرأ أبو الدينار وزيد بن عليّ: القدوس بفتح القاف؛ والجمهور: بالضم. {هو الذي بعث} الآية: تقدم الكلام في نظيرها في آل عمران وفي نسبة الأمّي.
{وآخرين}: الظاهر أنه معطوف على {الأمّيين}، أي وفي آخرين من الأمّيين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون. وقيل: {وآخرين} منصوب معطوف على الضمير في {ويعلمهم}، أسند تعليم الآخرين إليه عليه الصلاة والسلام مجازاً لما تناسق التعليم إلى آخر الزمان وتلا بعضه بعضاً، فكأنه عليه الصلاة والسلام وجد منه. وقال أبو هريرة وغيره: وآخرين هم فارس، وجاء نصاً عنه في صحيح البخاري ومسلم، ولو فهم منه الحصر في فارس لم يجز أن يفسر به الآية، ولكن فهم المفسرون منه أنه تمثيل. فقال مجاهد وابن جبير: الروم والعجم. وقال مجاهد أيضاً وعكرمة ومقاتل: التابعين من أبناء العرب لقوله: {منهم}، أي في النسب. وقال مجاهد أيضاً والضحاك وابن حبان: طوائف من الناس. وقال ابن عمر: أهل اليمن. وعن مجاهد أيضاً: أبناء الأعاجم؛ وعن ابن زيد أيضاً: هم التابعون؛ وعن الضحاك أيضاً: العجم؛ وعن أبي روق: الصغار بعد الكبار، وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل، كما حملوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في فارس: {وهو العزيز الحكيم} في تمكينه رجلاً أمّياً من ذلك الأمر العظيم، وتأييده واختياره من سائر البشر.
{ذلك فضل الله}: أي إيتاء النبوة وجعله خير خلقه واسطة بينه وبين خلقه. {مثل الذين حملوا التوراة}: هم اليهود المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم، كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها، ولم يطيقوا القيام بها حين كذّبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي ناطقة بنبوته. وقرأ الجمهور: حملوا مشدداً مبنياً للمفعول؛ ويحيى بن يعمر وزيد بن عليّ: مخففاً مبنياً للفاعل. شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتباً، فهو لا يدري ما عليه، أكتب هي أم صخر وغير ذلك؟ وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب بحملها. وقال الشاعر في نحو ذلك:
زوامل للأشعار لا علم عندهم ** بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدى ** بأوساقه أو راح ما في الغرائر

وقرأ عبد الله: حمار منكراً؛ والمأمون بن هارون: يحمل بشد الميم مبنياً للمفعول. والجمهور: الحمار معرفاً، ويحمل مخففاً مبنياً للفاعل، ويحمل في موضع نصب على الحال. قال الزمخشري: أو الجر على الوصف، لأن الحمار كاللئيم في قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

وهذا الذي قاله قد ذهب إليه بعض النحويين، وهو أن مثل هذا من المعارف يوصف بالجمل، وحملوا عليه
{وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} وهذا وأمثاله عند المحققين في موضع الحال، لا في موضع الصفة. ووصفه بالمعرفة ذي اللام دليل على تعريفه مع ما في ذلك المذهب من هدم ما ذكره المتقدمون من أن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة، والجمل نكرات. {بئس مثل القوم}. قال الزمخشري: بئس مثلاً مثل القوم. انتهى. فخرجه على أن يكون التمييز محذوفاً، وفي بئس ضمير يفسره مثلاً الذي ادعى حذفه. وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسره الضمير المستكن في نعم وبئس وما أجري مجراهما لا يجوز حذفه. وقال ابن عطية: والتقدير بئس المثل مثل القوم. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن فيه حذف الفاعل، وهو لا يجوز. والظاهر أن {مثل القوم} فاعل {بئس}، والذين كفروا هو المخصوص بالذم على حذف مضاف، أي مثل الذين كذبوا بآيات الله، وهم اليهود، أو يكون {الذين كذبوا} صفة للقوم، والمخصوص بالدم محذوف، التقدير: بئس مثل القوم المكذبين مثلهم، أي مثل هؤلاء الذين حملوا التوراة.
روي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتموه أطعناكم، وإن خالفتموه خالفناه، فقالوا لهم: نحن أبناء خليل الرحمن، ومنا عزير بن الله والأنبياء، ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد، ولا سبيل إلى اتباعه، فنزلت: {قل يا أيها الذين هادوا}، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، وإن كان قولكم حقاً فتمنوا أن تنقلوا سريعاً إلى دار كرامته المعدة لأوليائه، وتقدم تفسير نظير بقية الآية في سورة البقرة. وقرأ الجمهور: {فتمنوا الموت}، بضم الواو؛ وابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع: بكسرها؛ وعن ابن السميفع أيضاً: فتحها. وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمز مضمومة بدل الواو، وهذا كقراءة من قرأ: تلؤون بالهمز بدل الواو. قال الزمخشري: ولا فرق بين لا ولن في أن كل واحد منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا، فأتى مرة بلفظ التأكيد: {ولن يتمنوه} ومرة بغير لفظه: {ولا يتمنونه}، وهذا منه رجوع عن مذهبه في أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة في أنها لا تقتضيه، وأما قوله: إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا، فيحتاج ذلك إلى نقل عن مستقري اللسان.
وقرأ الجمهور: {فإنه}، والفاء دخلت في خبر إن إذا جرى مجرى صفته، فكان إن باشرت الذي، وفي الذي معنى الشرط، فدخلت الفاء في الخبر، وقد منع هذا قوم، منهم الفراء، وجعلوا الفاء زائدة. وقرأ زيد بن علي: إنه بغير فاء، وخرجه الزمخشري على الاستئناف، وخبر إن هو الذي، كأنه قال: قل إن الموت هو الذي تفرون منه.
انتهى. ويحتمل أن يكون خبر أن هو قوله: أنه ملاقيكم، فالجملة خبر إن، ويحتمل أن يكون إنه توكيداً، لأن الموت وملاقيكم خبر إن. لما طال الكلام، أكد الحرف مصحوباً بضمير الاسم الذي لإن.
{إذا نودي}: أي إذا أذن، وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر. وكذا كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان إذا صعد على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة. وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر إلى زمان عثمان، كثر الناس وتباعدت المنازل، فزاد مؤذناً آخر على داره التي تسمى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذن الثاني، فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة، ولم يعب ذلك أحد على عثمان رضى الله عنه. فإن قلت: من في قوله: {من يوم الجمعة} ما هي؟ قلت: هي بيان لإذا وتفسير له. انتهى. وقرأ الجمهور: الجمعة بضم الميم؛ وابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة، ورواية عن أبي عمرو وزيد بن علي والأعمش: بسكونها، وهي لغة تميم، ولغة بفتحها لم يقرأ بها، وكان هذا اليوم يسمى عروبة، ويقال: العروبة. قيل: أول من سماه الجمعة كعب بن لؤي، وأول جمعة صليت جمعة سعد بن أبي زرارة، صلى بهم ركعتين وذكرهم، فسموهم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة، فهي أول جمعة جمعت في الإسلام.
وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قدم المدينة، نزل بقباء على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة، فأدرك صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، في بطن واد لهم، فخطب وصلى الجمعة. والظاهر وجوب السعي لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله}، وأنه يكون في المشي خفة وبدار. وقال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم: إنما تؤتى الصلاة بالسكينة، والسعي هو بالنية والإرادة والعمل، وليس الإسراع في المشي، كالسعي بين الصفا والمروة؛ وإنما هو بمعنى قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي كله سعي. والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموماً، وأنهما فرض على الأعيان. وعن بعض الشافعية، أنها فرض كفاية، وعن مالك رواية شاذة: أنها سنة. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم» وقالوا: المأمور بالسعي المؤمن الصحيح الحر الذكر المقيم. فلو حضر غيره أجزأتهم. انتهى.
والمسافة التي يسعى منها إلى صلاة الجمعة لم تتعرض الآية لها، واختلف الفقهاء في ذلك. فقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس والزهري: ستة أميال. وقيل: خمسة.
وقال ربيعة: أربعة أميال. وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر. وقال مالك والليث: ثلاثة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: على من في المصر، سمع النداء أو لم يسمع، لا على من هو خارج المصر، وإن سمع النداء. وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد وإسحاق: على من سمع النداء. وعن ربيعة: على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة. وقرأ كبراء من الصحابة والتابعين: فامضوا بدل {فاسعوا}، وينبغي أن يحمل على التفسير من حيث أنه لا يراد بالسعي هنا الإسراع في المشي، ففسروه بالمضي، ولا يكون قرآناً لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون.
وذكر الله هنا الخطبة، قاله ابن المسيب، وهي شرط في انعقاد الجمعة عند الجمهور. وقال الحسن: هي مستحبة، والظاهر أنه يجزئ من ذكر الله تعالى ما يسمى ذكراً. قال أبو حنيفة: لو قال الحمد لله أو سبحان الله واقتصر عليه جاز، وقال غيره: لابد من كلام يسمى خطبة، وهو قول الشافعي وأبي سفيان ومحمد بن الحسن، والظاهر تحريم البيع، وأنه لا يصح. وقال ابن العربي: يفسخ، وهو الصحيح. وقال الشافعي: ينعقد ولا يفسخ، وكلما يشغل من العقود كلها فهو حرام شرعاً، مفسوخ ورعاً. انتهى. وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار، فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة، ونهوا عن تجارة الدنيا، ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة، قاله الضحاك والحسن وعطاء. وقال ناس غيرهم: من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ، والإشارة بذلكم إلى السعي وترك البيع، والأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة، وفضل الله هو ما يلبسه في حالة حسنة، كعيادة المريض، وصلة صديق، واتباع جنازة، وأخذ في بيع وشراء، وتصرفات دينية ودنيوية؛ فأمر مع ذلك بإكثار ذكر الله. وقال مكحول والحسن وابن المسيب: الفضل: المأمور بابتغائه هو العلم. وقال جعفر الصادق: ينبغي أن يكون فجر صبح يوم السبت، ويعني أن يكون بقية يوم الجمعة في عبادة.
وروي أنه كان أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بعير تحمل ميرة. قال مجاهد: وكان من عرفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درابها، فدخلت بها، فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوه صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر في اثني عشر رجلاً. قال جابر: أنا أحدهم. قال أبو بكر غالب بن عطية: هم العشرة المشهود لهم بالجنة، والحادي عشر قيل: عمار. وقيل: ابن مسعود. وقيل: ثمانية، قالوا: فنزلت: {وإذا رأوا تجارة}. وقرأ الجمهور: {إليها} بضمير التجارة؛ وابن أبي عبلة: إليه بضمير اللهو، وكلاهما جائز، نص عليه الأخفش عن العرب. وقال ابن عطية: وقال إليها ولم يقل إليهما تهمماً بالأهم، إذ كانت سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها.
وتأمّل أن قدّمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين. انتهى. وفي قوله: {قائماً} دلالة على مشروعية القيام في الخطبة. وأول من استراح في الخطبة عثمان، وأول من خطب جالساً معاوية. وقرئ: إليهما بالتثنية للضمير، كقوله تعالى: {إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما} وتخريجه على أن يتجوّز بأو، فتكون بمعنى الواو، وقد تقدّم غير هذا التخريج في قوله: {فالله أولى بهما} في موضعه في سورة النساء. وناسب ختمها بقوله: {والله خير الرازقين}، لأنهم كانوا قد مسهم شيء من غلاء الأسعار، كما تقدم في سبب النزول، وقد ملأ المفسرون كثيراً من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن.

.سورة المنافقون:

.تفسير الآيات (1- 11):

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}
{قالوا نشهد}: يجري مجرى اليمين، ولذلك تلقى بما يتلقى به القسم، وكذا فعل اليقين. والعلم يجري مجرى القسم بقوله: {إنك لرسول الله} وأصل الشهادة أن يواطئ اللسان القلب هذا بالنطق، وذلك بالاعتقاد؛ فأكذبهم الله وفضحهم بقوله: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}: أي لم تواطئ قلوبهم ألسنتهم على تصديقك، واعتقادهم أنك غير رسول، فهم كاذبون عند الله وعند من خبر حالهم، أو كاذبون عند أنفسهم، إذ كانوا يعتقدون أن قولهم: {إنك لرسول الله} كذب. وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله}، إيذاناً أن الأمر كما لفظوا به من كونه رسول الله حقاً. ولم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب، فوسطت الأمر بينهما ليزول ذلك التوهم. {اتخذوا أيمانهم}: سمى شهادتهم تلك أيماناً. وقرأ الجمهور: أيمانهم، بفتح الهمزة جمع يمين؛ والحسن: بكسرها، مصدر آمن. ولما ذكر أنهم كاذبون، أتبعهم بموجب كفرهم، وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها، ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم، كما قال بعض الشعراء:
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا ** لصون دمائهم أن لا تسالا

ومن أيمانهم أيمان عبد الله، ومن حلف معه من قومه أنه ما قال ما نقله زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلوا تلك الأيمان جنة تقي من القتل، وقال أعشى همدان:
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة ** من المال سار القوم كل مسير

وقال الضحاك: اتخذوا حلفهم بالله أنهم لمنكم. وقال قتادة: كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم، حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم. وقال السدي: {جنة} من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، {فصدوا}: أي أعرضوا وصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الإسلام، {ذلك} أي ذلك الحلف الكاذب والصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب أيمانهم ثم كفرهم. وقال ابن عطية: ذلك إشارة إلى فعل الله بهم في فضيحتهم وتوبيخهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى: ساء عملهم بأن كفروا. وقال الزمخشري: ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستخفاف بالإيمان، أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا. وقرأ الجمهور: {فطبع} مبنياً للمفعول؛ وزيد بن علي: مبنياً للفاعل: أي فطبع الله؛ وكذا قراءة الأعمش وزيد في رواية مصرحاً بالله. ويحتمل على قراءة زيد الأولى أن يكون الفاعل ضميراً يعود على المصدر المفهوم من ما قبله، أي فطبع هو، أي بلعبهم بالدين. ومعنى {آمنوا}: نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون، {ثم كفروا}: أي ظهر كفرهم بما نطقوا به من قولهم: لئن كان محمد ما يقوله حقاً فنحن شر من الحمير، وقولهم: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند شياطينهم، أو ذلك فيمن آمن ثم ارتد.
{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم}: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو للسامع: أي لحسنها ونضارتها وجهارة أصواتهم، فكان منظرهم يروق، ومنطقهم يحلو. وقرأ الجمهور: {تسمع} بتاء الخطاب؛ وعكرمة وعطية العوفي: يسمع بالياء مبنياً للمفعول، و{لقولهم}: الجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وليست اللام زائدة، بل ضمن يسمع معنى يصغ ويمل، تعدى باللام وليست زائدة، فيكون قولهم هو المسموع. وشبهوا بالخشب لعزوب أفهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان، ولم يكن حتى جعلها مسندة إلى الحائط، لا انتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها، وأما إذا كانت غير منتفع بها فإنها تكون مهملة مسندة إلى الحيطان أو ملقاة على الأرض قد صففت، أو شهوة بالخشب التي هي الأصنام وقد أسندت إلى الحيطان، والجملة التشبيهية مستأنفة، أو على إضمارهم. وقرأ الجمهور: {خشب} بضم الخاء والشين؛ والبراء بن عازب والنحويان وابن كثير: بإسكان الشين، تخفيف خشب المضموم. وقيل: جمع خشباء، كحمر جمع حمراء، وهي الخشبة التي نخر جوفها، شبهوا بها في فساد بواطنهم. وقرأ ابن المسيب وابن جبير: خشب بفتحتين، اسم جنس، الواحد خشبة، وأنث وصفه كقوله: {أعجاز نخل خاوية} أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام. وذكر ممن كان ذا بهاء وفصاحة عبد الله بن أبيّ، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير. قال الشاعر في مثل هؤلاء:
لا تخدعنك اللحى ولا الصور ** تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسحاب منتشرا ** وليس فيها لطالب مطر

في شجر السرو منهم شبه ** له رواء وما له ثمر

وقيل: الجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور، ويدل عليه: {يحسبون كل صيحة عليهم} في موضع المفعول الثاني ليحسبون، أي واقعة عليهم، وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب. قال مقاتل: كانوا متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان، أو أخبروا بنزول وحي، طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم، وكانوا يخافون أن ينزل الله تعالى فيهم ما تباح به دماؤهم وأموالهم، ونحو هذا قول الشاعر:
يروعه السرار بكل أرض ** مخافة أن يكون به السرار

وقال جرير:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ** خيلاً تكر عليهم ورجالا

أنشده ابن عطية لجرير، ونسب هذا البيت الزمخشري للأخطل. قال: ويجوز أن يكون {هم العدو} المفعول الثاني كما لو طرحت الضمير. فإن قلت: فحقه أن يقول: هي العدو. قلت: منظور فيه إلى الخبر، كما ذكر في هذا ربي، وأن يقدر مضاف محذوف على يحسبون كل أهل صيحة.
انتهى. وتخريج {هم العدو} على أنه مفعول ثان ليحسبون تخريج متكلف بعيد عن الفصاحة، بل المتبادر إلى الذهن السليم أن يكون {هم العدو} إخباراً منه تعالى بأنهم، وإن أظهروا الإسلام وأتباعهم، هم المبالغون في عداوتك؛ ولذلك جاء بعده أمره تعالى إياه بحذرهم فقال: {فاحذرهم}، فالأمر بالحذر متسبب عن إخباره بأنهم هم العدو. و{قاتلهم الله}: دعاء يتضمن إبعادهم، وأن يدعو عليهم المؤمنون بذلك. {أنى يؤفكون}: أي كيف يصرفون عن الحق، وفيه تعجب من ضلالهم وجهلهم.
ولما أخبره تعالى بعداوتهم، أمره بحذرهم، فلا يثق بإظهار مودتهم، ولا بلين كلامهم. و{قاتلهم الله}: كلمة ذم وتوبيخ، وقالت العرب: قاتله الله ما أشعره. يضعونه موضع التعجب، ومن قاتله الله فهو مغلوب، لأنه تعالى هو القاهر لكل معاند. وكيف استفهام، أي كيف يصرفون عن الحق ولا يرون رشد أنفسهم؟ قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون أنى ظرفاً لقاتلهم، كأنه قال: قاتلهم الله كيف انصرفوا أو صرفوا، فلا يكون في هذا القول استفهام على هذا. انتهى. ولا يصح أن يكون أنى لمجرد الظرف، بل لابد يكون ظرفاً استفهاماً، إما بمعنى أين، أو بمعنى متى، أو بمعنى كيف، أو شرطاً بمعنى أين. وعلى هذه التقادير لا يعمل فيها ما قبلها، ولا تتجرد لمطلق الظرفية بحال من غير اعتبار ما ذكرناه، فالقول بذلك باطل.
ولما صدق الله زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن سلول، مقت الناس ابن سلول ولامه المؤمنون من قومه، وقال له بعضهم: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك، فلوّى رأسه إنكاراً لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت، وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد ويستغفر مجزوم على جواب الأمر، ورسول الله يطلب عاملان، أحدهما {يستغفر}، والآخر {تعالوا}؛ فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة، ولو أعمل الأول لكان التركيب: تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب، بخلاف عنهما: {لووا}، بفتح الواو؛ وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى وأبو رجاء والأعرج وباقي السبعة: بشدها للتكثير. وليّ رءوسهم، على سبيل الاستهزاء واستغفار الرسول لهم، هو استتابتهم من النفاق، فيستغفر لهم، إذ كان استغفاره متسبباً عن استتابتهم، فيتوبون وهم يصدون عن المجيء واستغفار الرسول. وقرئ: يصدون ويصدون، جملة حالية، وأتت بالمضارع ليدل على استمرارهم، {وهم مستكبرون}: جملة حالية أيضاً.
ولما سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون البتة، سوى بين استغفاره لهم وعدمه. وحكى مكي أنه عليه الصلاة والسلام كان استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام.
وقال ابن عباس: نزلت هذه بعد قوله تعالى في براءة أن تستغفر لهم سبعين مرة، وقوله عليه الصلاة والسلام: «سوف أستغفر لهم زيادة على السبعين»، فنزلت هذه الآية، فلم يبق للاستغفار وجه. وقرأ الجمهور: {أستغفرت} بهمزة التسوية التي أصلها همزة الاستفهام، وطرح ألف الوصل؛ وأبو جعفر: بمدة على الهمزة. قيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله: {قل آلذكرين حرم} لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر، ولا يحتاج ذلك في الفعل، لأن همزة الوصل فيه مكسورة. وعن أبي جعفر أيضاً: ضم ميم عليهم، إذ أصلها الضم، ووصل الهمزة. وروى معاذ بن معاذ العنبري، عن أبي عمرو: كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة، فتسقط في القراءتين، واللفظ خبر، والمعنى على الاستفهام، والمراد التسوية، وجاز حذف الهمزة لدلالة أم عليها، كما دلت على حذفها في قوله:
بسبع رمينا الجمر أم بثمان

يريد: أبسبع. وقال الزمخشري: وقرأ أبو جعفر: آستغفرت، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان، لا قلب همزة الوصل ألفاً كما في: آلسحر، وآلله. وقال ابن عطية: وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: آستغفرت، بمدة على الهمزة، وهي ألف التسوية. وقرأ أيضاً: بوصل الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كله ضعف، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.
{هم الذين يقولون}: إشارة إلى ابن سلول ومن وافقه من قومه، سفه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى. {لا تنفقوا على من عند رسول الله}: إن كان الله تعالى حكى نص كلامهم، فقولهم: {على من عند رسول الله} هو على سبيل الهزء، كقولهم: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} أو لكونه جرى عندهم مجرى اللعب، أي هو معروف بإطلاق هذا اللفظ عليه، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر. فالظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ، ولكنه تعالى عبر بذلك عن رسوله صلى الله عليه وسلم، إكراماً له وإجلالاً. وقرأ الجمهور: {ينفضوا}: أي يتفرقوا عن الرسول؛ والفضل بن عيسى: ينفضوا، من انفض القوم: فني طعامهم، فنفض الرجل وعاءه، والفعل من باب ما يعدى بغير الهمزة، وبالهمزة لا يتعدى. قال الزمخشري: وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم. وقرأ الجمهور: {ليخرجن الأعز منها الأذل}: فالأعز فاعل، والأذل مفعول، وهو من كلام ابن سلول، كما تقدم. ويعني بالأعز: نفسه وأصحابه، وبالأذل: المؤمنين. والحسن وابن أبي عبلة والسبي في اختياره: لنخرجن بالنون، ونصب الأعز والأذل، فالأعز مفعول، والأذل حال. وقرأ الحسن، فيما ذكر أبو عمر والداني: لنخرجن، بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب الأعز على الاختصاص، كما قال: نحن العرب أقرى الناس للضيف؛ ونصب الأذل على الحال، وحكى هذه القراءة أبو حاتم.
وحكى الكسائي والفراء أن قوماً قرأوا: ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء، فالفاعل الأعز، ونصب الأذل على الحال. وقرئ: مبنياً للمفعول وبالياء، الأعز مرفوع به، الأذل نصباً على الحال. ومجيء الحال بصورة المعرفة متأول عند البصريين، فما كان منها بأل فعلى زيادتها، لا أنها معرفة.
ولما سمع عبد الله، ولد عبد الله بن أبي هذه الآية، جاء إلى أبيه فقال: أنت والله يا أبت الذليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز. فلما دنا من المدينة، جرد السيف عليه ومنعه الدخول حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيما قال له: وراءك لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيساً في يده حتى أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليته. وفي هذا الحديث أنه قال لأبيه: لئن لم تشهد لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك، قال: أفاعل أنت؟ قال: نعم، فقال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. وقيل للحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: أن فيك تيهاً، فقال: ليس بتيه ولكنه عزة، وتلا هذه الآية.
{لا تلهكم أموالكم} بالسعي في نمائها والتلذذ بجمعها، {ولا أولادكم} بسروركم بهم وبالنظر في مصالحهم في حياتكم وبعد مماتكم، {عن ذكر الله}: هو عام في الصلاة والثناء على الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغير ذلك والدعاء. وقال نحواً منه الحسن وجماعة. وقال الضحاك وعطاء: أكد هنا الصلاة المكتوبة. وقال الحسن أيضاً: جميع الفرائض. وقال الكلبي: الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: القرآن. {ومن يفعل ذلك}: أي الشغل عن ذكر الله بالمال والولد، {فأولئك هم الخاسرون}، حيث آثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي.
{وأنفقوا مما رزقناكم}، قال الجمهور: المراد الزكاة. وقيل: عام في المفروض والمندوب. وعن ابن عباس: نزلت في مانعي الزكاة، والله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله؟ يسأل المؤمنون الكرة، قال: نعم أنا أقرأ عليكم به قرآناً، يعني أنها نزلت في المؤمنين، وهم المخاطبون بها. {لولا أخرتني}: أي هلا أخرت موتي إلى زمان قليل؟ وقرأ الجمهور: فأصّدّق، وهو منصوب على جواب الرغبة؛ وأبي وعبد الله وابن جبير: فأتصدق على الأصل. وقرأ جمهور السبعة: {وأكن} مجزوماً. قال الزمخشري: {وأكن} بالجزم عطفاً على محل {فأصدق}، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. انتهى. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع، لأن التقدير: إن تؤخرني أصدق وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي. فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا، وهو أنه جزم وأكن على توهم الشرط الذي يدل عليه بالتمني، ولا موضع هنا، لأن الشرط ليس بظاهر، وإنما يعطف على الموضع، حيث يظهر الشرط كقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم} فمن قرأ بالجزم عطف على موضع {فلا هادي له}، لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوماً. انتهى. والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم: أن العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثره، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود. وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبو عمرو: وأكون بالنصب، عطفاً على {فأصدق}، وكذا في مصحف عبد الله وأبي. وقرأ عبيد بن عمير: وأكون بضم النون على الاستئناف، أي وأنا أكون، وهو وعد الصلاح. {ولن يؤخر الله نفساً}: فيه تحريض على المبادرة بأعمال الطاعات حذاراً أن يجيء الأجل، وقد فرط ولم يستعد للقاء الله. وقرأ الجمهور: {تعملون} بتاء الخطاب، للناس كلهم؛ وأبو بكر: بالياء، خص الكفار بالوعيد، ويحتمل العموم.