فصل: تفسير الآيات (17- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 20):

{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
{يوماً} منصوب بتتقون، منصوب نصب المفعول به على المجاز، أي كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا؟ والضمير في {يجعل} لليوم، أسند إليه الجعل لما كان واقعاً له على سبيل المجاز. وقال الزمخشري: {يوماً} مفعول به، أي فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له إن بقيتم على الكفر ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً؟ انتهى. وتتقون مضارع اتقى، واتقى ليس بمعنى وقى حتى يفسره به، واتقى يتعدى إلى واحد، ووقى يتعدى إلى اثنين. قال تعالى: {ووقاهم عذاب الجحيم}، ولذلك قدره الزمخشري: تقون أنفسكم يوم القيامة، لكنه ليس تتقون بمعنى تقون، فلا يتعدى بعديته، ودس في قوله: ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً الاعتزال. قال: ويجوز أن يكون ظرفاً، أي فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ قال: ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة؟ والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه. انتهى. وقرأ الجمهور: {يوماً} منوناً، {يجعل} بالياء؛ والجملة من قوله: {يجعل} صفة ليوم، فإن كان الضمير في {يجعل} عائداً على اليوم فواضح وهو الظاهر؛ وإن عاد على الله، كما قال بعضهم، فلابد من حذف ضمير يعود إلى اليوم، أي يجعل فيه كقوله: {يوماً لا تجزي نفس}. وقرأ زيد بن عليّ: بغير تنوين: نجعل بالنون، فالظرف مضاف إلى الجملة، والشيب مفعول ثان ليجعل، أي يصير الصبيان شيوخاً، وهو كناية عن شدة ذلك اليوم. ويقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال، والأصل فيه أن الهموم إذا تفاقمت أسرعت بالشيب. قال المتنبي:
والهم يخترم الجسيم نحافة ** ويشيب ناصية الصبي ويهرم

وقال قوم: ذلك حقيقة تشيب رؤوسهم من شدة الهول، كما قد يرى الشيب في الدنيا من الهم المفرط، كهول البحر ونحوه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الاطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة. وقال السدي: الولدان: أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين، والظاهر العموم، أي يشيب الصغير من غير كبر، وذلك حين يقال لآدم: يا آدم قم فابعث بعث النار. وقيل: هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق. {السماء منفطر به}، قال الفراء: يعني المظلة تذكر وتؤنث، فجاء منفطر على التذكير، ومنه قول الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوم ** لحقنا بالسماء وبالسحاب

وعلى القول بالتأنيث، فقال أبو علي الفارسي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، وأعجاز نخل منقعر. انتهى، يعني أنها من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماء، واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث، فجاء منفطر على التذكير.
وقال أبو عمرو بن العلاء، وأبو عبيدة والكسائي، وتبعهم القاضي منذر بن سعيد: مجازها السقف، فجاء عليه منفطر، ولم يقل منفطرة. وقال أبو علي أيضاً: التقدير ذات انفطار كقولهم: امرأة مرضع، أي ذات رضاع، فجرى على طريق التسبب. وقال الزمخشري: أو السماء شيء منفطر، فجعل منفطر صفة لخبر محذوف مقدر بمذكر وهو شيء، والانفطار: التصدع والانشقاق؛ والضمير في به الظاهر أنه يعود على اليوم، والباء للسبب، أي بسبب شدة ذلك اليوم، أو ظرفية، أي فيه. وقال مجاهد: يعود على الله، أي بأمره وسلطانه. والظاهر أن الضمير في {وعده} عائد على اليوم، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي أنه تعالى وعد عباده هذا اليوم، وهو يوم القيامة، فلابد من إنجازه. ويجوز أن يكون عائداً على الله تعالى، فيكون من إضافة المصدر إلى الفاعل، وإن لم يجر له ذكر قريب، لأنه معلوم أن الذي هذه مواعيده هو الله تعالى.
{إن هذه}: أي السورة، أو الأنكال وما عطف عليه، والأخذ الوبيل، أو آيات القرآن المتضمنة شدة القيامة، {تذكرة}: أي موعظة، {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً} بالتقرب إليه بالطاعة، ومفعول شاء محذوف يدل عليه الشرط، لأن من شرطية، أي فمن شاء أن يتخذ سبيلاً اتخذه إلى ربه، وليست المشيئة هنا على معنى الإباحة، بل تتضمن معنى الوعد والوعيد. {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى}: تصلي، كقوله: {قم الليل}. لما كان أكثر أحوال الصلاة القيام عبر به عنها، وهذه الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمرار استعماله من أمر قيام الليل، إما على الوجوب، وإما على الندب، على الخلاف الذي سبق؛ {أدنى من ثلثي الليل}: أي زماناً هو أقل من ثلثي الليل، واستعير الأدنى، وهو الأقرب للأول، لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك. وقرأ الجمهور: {من ثلثي} بضم اللام؛ والحسن وشيبة وأبو حيوة وابن السميفع وهشام وابن مجاهد، عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل: بإسكانها، وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح. وقرأ العربيان ونافع: ونصفه وثلثه، بجرهما عطفاً على {ثلثي الليل}؛ وباقي السبعة وزيد بن علي: بالنصب عطفاً على {أدنى}، لأنه منصوب على الظرف، أي وقتاً أدنى من ثلثي الليل. فقراءة النصب مناسبة للتقسيم الذي في أول السورة، لأنه إذا قام الليل إلا قليلاً صدق عليه {أدنى من ثلثي الليل}، لأن الزمان الذي لم يقم فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثين، فيصدق عليه قوله: {إلا قليلاً}. وأما قوله: {ونصفه} فهو مطابق لقوله أولاً: {نصفه}. وأما ثلثه فإن قوله: {أو انقص منه قليلاً} قد ينتهي النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلث الليل. وأما قوله: {أو زد عليه}، فإنه إذا زاد على النصف قليلاً، كان الوقت أقل من الثلثين، فيكون قد طابق قوله: {أدنى من ثلثي الليل}، ويكون قوله تعالى: {نصفه أو انقص منه قليلاً} شرحاً لمبهم ما دل عليه قوله: {قم الليل إلا قليلاً}، وعلى قراءة النصب.
قال الحسن وابن جبير: معنى تحصوه: تطيقوه، أي قدر تعالى أنهم يقدرون الزمان على ما مر في أول السورة، فلم يطيقوا قيامه لكثرته وشدته، فخفف تعالى عنهم فضلاً منه، لا لعلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات. وأما قراءة الجر، فالمعنى أنه قيام مختلف؛ مرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من النصف، ومرة أدنى من الثلث، وذلك لتعذر معرته البشر مقادير الزمان مع عذر النوم. وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى، والبشر لا يحصون ذلك، أي لا يطيقون مقادير ذلك، فتاب عليهم، أي رجع بهم من الثقل إلى الخفة وأمرهم بقيام ما تيسر. وعلى القراءتين يكون علمه تعالى بذلك على حسب الوقوع منهم، لأنهم قاموا تلك المقادير في أوقات مختلفة قاموا أدنى من الثلثين ونصفاً وثلثاً، وقاموا أدنى من النصف وأدنى من الثلث، فلا تنافي بين القراءتين. وقرأ الجمهور: {وثلثه} بضم اللام؛ وابن كثير في رواية شبل: بإسكانها؛ وطائفة: معطوف على الضمير المستكن في {تقوم}، وحسنة الفصل بينهما. وقوله: {وطائفة من الذين معك} دليل على أنه لم يكن فرضاً على الجميع، إذ لو كان فرضاً، لكان التركيب: والذين معك، إلا إن اعتقد أنهم كان منهم من يقوم في بيته، ومنهم من يقوم معه، فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع.
{والله يقدر الليل والنهار}: أي هو وحده تعالى العالم بمقادير الساعات. قال الزمخشري: وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه يقدر هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير. انتهى. وهذا مذهبه، وإنما استفيد الاختصاص من سياق الكلام لا من تقديم المبتدأ. لو قلت: زيد يحفظ القرآن أو يتفقه في كتاب سيبويه، لم يدل تقديم المبتدأ على الاختصاص. وأن مخففة من الثقيلة، والضمير في {نحصوه}، الظاهر أنه عائد على المصدر المفهوم من يقدر، أي أن لن تحصوا تقدير ساعات الليل والنهار، لا تحيطوا بها على الحقيقة. وقيل: الضمير يعود على القيام المفهوم من قوله: {فتاب عليكم}. قيل: فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به. وقيل: رجع بكم من ثقل إلى خف، ومن عسر إلى عسر، ورخص لكم في ترك القيام المقدر. {فاقرؤا ما تيسر من القرآن}: عبر بالقراءة عن الصلاة لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود، أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل. وقيل: وهذا ناسخ للأول، ثم نسخاً جميعاً بالصلوات الخمس. وهذا الأمر بقوله: {فاقرؤا}، قال الجمهور: أمر إباحة، وقال ابن جبير وجماعة: هو فرض لابد منه، ولو خمسين آية.
وقال الحسن وابن سيرين: قيام الليل فرض، ولو قدر حلب شاة. وقيل: هو أمر بقراءة القرآن بعينها، لا كناية عن الصلاة. وإذا كان المراد: فاقرؤا في الصلاة ما تيسر، فالظاهر أنه لا يتعين ما يقرأ، بل إذا قرأ ما تيسر له وسهل عليه أجزأه وقدره، وأبو حنيفة بآية، حكاه عنه الماوردي؛ وبثلاث. حكاه ابن العربي؛ وعين مالك والشافعي ما تيسر، قالا: هو فاتحة الكتاب، لا يعدل عنها ولا يقتصر على بعضها.
{علم أن سيكون منكم مرضى}: بيان لحكمة النسخ، وهي تعذر القيام على المرضى، والضاربين في الأرض للتجارة، والمجاهدين في سبيل الله، {فاقرؤا ما تيسر منه}، كرر ذلك على سبيل التوكيد. ثم أمر بعمودي الإسلام البدني والمالي، ثم قال: {وأقرضوا الله قرضاً حسناً}: العطف يشعر بالتغاير، فقوله: {وآتوا الزكاة} أمر بأداء الواجب، {وأقرضوا الله}: أمر بأداء الصدقات التي يتطوع بها. وقرأ الجمهور: {هو خيراً وأعظم أجراً} بنصبهما، واحتمل هو أن يكون فصلاً، وأن يكون تأكيداً لضمير النصب في {تجدوه}. ولم يذكر الزمخشري والحوفي وابن عطية في إعراب هو إلا الفصل. وقال أبو البقاء: هو فصل، أو بدل، أو تأكيد. فقوله: أو بدل، وهم لو كان بدلاً لطابق في النصب فكان يكون إياه. وقرأ أبو السمال وابن السميفع: هو خير وأعظم، برفعهما على الابتداء أو الخبر. قال أبو زيد: هو لغة بني تميم، يرفعون ما بعد الفاصلة، يقولون: كان زيد هو العاقل بالرفع، وهذا البيت لقيس بن ذريح وهو:
نحن إلى ليلى وأنت تركتها ** وكنت عليها بالملا أنت أقدر

قال أبو عمرو الجرمي: أنشد سيبويه هذا البيت شاهداً للرفع والقوافي مرفوعة. ويروى: أقدر. وقال الزمخشري: وهو فصل وجاز وإن لم يقع بين معرفتين، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة. انتهى. وليس ما ذكر متفقاً عليه. ومنهم من أجازه، وليس أفعل من أحكام الفصل ومسائله، والخلاف الوارد فيها كثير جداً، وقد جمعنا فيه كتاباً سميناه بالقول الفصل في أحكام الفصل، وأودعنا معظمه شرح التسهيل من تأليفنا.

.سورة المدثر:

.تفسير الآيات (1- 31):

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)}
قال الجمهور: لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه، رجع إلى خديجة فقال: زملوني دثروني، نزلت {يا أيها المدثر}. قال النخعي وقتادة وعائشة: نودي وهو في حال تدثره، فدعى بحال من أحواله. وروي أنه كان تدثر في قطيفة. قيل: وكان يسمع من قريش ما كرهه، فاغتم وتغطى بثوبه مفكراً، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه. وقال عكرمة معناه: يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها، كما قال في المزمل. وقرأ الجمهور: {المدثر} بشد الدال. وأصله المتدثر فأدغم، وكذا هو في حرف أبي على الأصل. وقرأ عكرمة: بتخفيف الدال، كما قرئ بتخفيف الزاي في المزمل، أي دثر نفسه. وعن عكرمة أيضاً: فتح التاء اسم مفعول، وقال: دثرت هذا الأمر وعصب بك. {قم فأنذر}: أي قم من مضجعك، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء، كما تقول: قام زيد يضرب عمراً، أي أخذ، وكما قال:
علام قام يشتمني لئيم

أي أخذ، والمعنى قم قيام تصميم وجد، {فأنذر}: أي حذر عذاب الله ووقائعه، والإنذار عام بجميع الناس وبعثه إلى الخلق. {وربك فكبر}: أي فعظم كبرياءه. وقال الزمخشري: واختص ربك بالتكبير، وهو الوصف بالكبرياء، وأن يقال: الله أكبر. انتهى. وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص، قال: ودخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره. انتهى. وهو قريب مما قدره النحاة في قولك: زيداً فاضرب، قالوا تقديره: تنبه فاضرب زيداً، فالفاء هي جواب الأمر، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة. {وثيابك فطهر}: الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات، لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي، ومن هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي. وقيل: تطهيرها: تقصيرها، ومخالفة العرب في تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر، قال الشاعر:
ثم راحوا عبق المسك بهم ** يلحفون الأرض هداب الأزر

ولا يؤمن من أصابتها النجاسة وفي الحديث: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من ذلك ففي النار» وذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز. فقال ابن عباس والضحاك: تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر. وقال ابن عباس وابن جبير أيضاً: كنى بالثياب عن القلب، كما قال امرؤ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي ** أي قلبي من قلبك وعلى الطهارة من القذر

وأنشد قول غيلان بن سلمة الثقفي:
إني بحمد الله لا ثوب غادر ** لبست ولا من خزية أتقنع

وقيل: كناية عن طهارة العمل، المعنى: وعملك فأصلح، قاله مجاهد وابن زيد. وقال ابن زيد: إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا: فلان خبيث الثياب؛ وإذا كان حسن العمل قالوا: فلان طاهر الثياب، ونحو هذا عن السدي، ومنه قول الشاعر:
لا هم إن عامر بن جهم ** أو ذم حجا في ثياب دسم

أي: دنسة بالمعاصي، وقيل: كنى عن النفس بالثياب، قاله ابن عباس. قال الشاعر:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه

وقال آخر:
ثياب بني عوف طهارى نقية ** وأوجههم بيض سافر غران

أي: أنفسهم. وقيل: كنى بها عن الجسم. قالت ليلى وقد ذكرت إبلاً:
رموها بأثواب خفاف فلا نرى ** لها شبهاً إلا النعام المنفرا

أي: ركبوها فرموها بأنفسهم. وقيل: كناية عن الأهل، قال تعالى: {هن لباس لكم} والتطهر فيهن اختيار المؤمنات العفائف. وقيل: وطئهن في القبل لا في الدبر، في الطهر لا في الحيض، حكاه ابن بحر. وقيل: كناية عن الخلق، أي وخلقك فحسن، قاله الحسن والقرطبي، ومنه قوله:
ويحيى ما يلائم سوء خلق ** ويحيى طاهر الأثواب حر

أي: حسن الأخلاق. وقرأ الجمهور: والرجز بكسر الراء، وهي لغة قريش؛ والحسن ومجاهد والسلمي وأبو جعفر وأبو شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص: بضمها، فقيل: هما بمعنى واحد، يراد بهما الأصنام والأوثان. وقيل: الكسر للبين والنقائص والفجور، والضم لصنمين أساف ونائلة. وقال عكرمة ومجاهد والزهري: للأصنام عموماً. وقال ابن عباس: الرجز: السخط، أي اهجر ما يؤدي إليه. وقال الحسن: كل معصية، والمعنى في الأمر: اثبت ودم على هجره، لأنه صلى الله عليه وسلم كان بريئاً منه. وقال النخعي: الرجز: الإثم. وقال القتبي: العذاب، أي اهجر ما يؤدي إليه.
وقرأ الجمهور: {ولا تمنن}، بفك التضعيف؛ والحسن وأبو السمال: بشد النون. قال ابن عباس وغيره: لا تعط عطاء لتعطي أكثر منه، كأنه من قولهم: منّ إذا أعطى. قال الضحاك: هذا خاص به صلى الله عليه وسلم، ومباح ذلك لأمته، لكنه لا أجر لهم. وعن ابن عباس أيضاً: لا تقل دعوت فلم أجب. وعن قتادة: لا تدل بعملك. وعن ابن زيد: لا تمنن بنبوتك، تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم. وقال الحسن: تمنن على الله بجدك، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب، وهذه الأقوال كلها من المنّ تعداد اليد وذكرها. وقال مجاهد: {ولا تمنن تستكثر} ما حملناك من أعباء الرسالة، أو تستكثر من الخير، من قولهم: حبل متين: أي ضعيف. وقيل: ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه. وقرأ الجمهور: تستكثر برفع الراء، والجملة حالية، أي مستكثراً. قال الزمخشري: ويجوز في الرفع أن تحذف أن ويبطل عملها، كما روي: أحضر الوغى بالرفع.
انتهى، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه، لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال، أي مستكثراً. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: بجزم الراء، ووجهه أنه بدل من تمنن، أي لا تستكثر، كقوله: {يضاعف له العذاب} في قراءة من جزم، بدلاً من قوله: {يلق} وكقوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطباً جزًلا وناراً تأججا

ويكون من المن الذي في قوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى} لأن من شأن المان أن يستكثر ما يعطي أن يراه كثيراً ويعتد به؛ وأجاز الزمخشري فيه وجهين، أحدهما: أن تشبه ثرو بعضد فتسكن تخفيفاً؛ والثاني: أن يعتبر حال الوقف، يعني فيجري الوصل مجرى الوقف، وهذان لا يجوز أن يحمل القرآن عليهما مع وجود ما هو راجح عليهما، وهو المبدل. وقرأ الحسن أيضاً والأعمش: تستكثر بنصب الراء، أي لن تحقرها. وقرأ ابن مسعود: أن تستكثر، بإظهار أن. {ولربك فاصبر}: أي لوجه ربك أمره بالصبر، فيتناول الصبر على تكاليف النبوة، وعلى أداء طاعة الله، وعلى أذى الكفار. قال ابن زيد: على حرب الأحمر والأسود، فكل مصبور عليه ومصبور عنه يندرج في الصبر. وقال الزمخشري: والفاء في قوله: {فإذا نقر} للتسبب، كأنه قيل: فاصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه. وقال الزمخشري: والفاء في {فذلك} للجزاء. فإن قلت: بم انتصب إذا، وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دل عليه الجزاء، لأن المعنى: {فإذا نقر في الناقور}، عسر الأمر على الكافرين؛ والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أن المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور. ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل بدلاً من ذلك، ويوم عسير خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير. فإن قلت: فما فائدة قوله: {غير يسير}، وعسير مغن عنه؟ قلت: لما قال {على الكافرين} فقصر العسر عليهم، قال {غير يسير} ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً، فيجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم. ويجوز أن يراد به عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً، كما يرجى بيسير العسير من أمور الدنيا. انتهى. وقال الحوفي: {فإذا}، إذا متعلقة بأنذر، أي فأنذرهم إذا نقر في الناقورة، قال أبو البقاء: يجري على القول الأخفش أن تكون إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة. فأما يومئذ فظرف لذلك، وأجاز أبو البقاء أن يتعلق على الكافرين بيسير، أي غير يسير، أي غير سهل على الكافرين؛ وينبغي أن لا يجوز، لأن فيه تقديم معمول العامل المضاف إليه غير على العامل، وهو ممنوع على الصحيح؛ وقد أجازه بعضهم فيقول: أنا بزيد غير راض.
{ذرني ومن خلقت وحيداً}: لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب بالوحيد، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته. والظاهر انتصاب وحيداً على الحال من الضمير المحذوف العائد على من، أي خلقته منفرداً ذليلاً قليلاً لا مال له ولا ولد، فآتاه الله تعالى المال والولد، فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ بدينه. وقيل: حال من ضمير النصب في ذرني، قاله مجاهد، أي ذرني وحدي معه، فأنا أجزيك في الانتقام منه؛ أو حال من التاء في خلقت، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقي أحد، فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه. وقيل: وحيداً لا يتبين أبوه. وكان الوليد معروفاً بأنه دعي، كما تقدم في قوله تعالى: {عتل بعد ذلك زنيم} وإذا كان يدعى وحيداً، فلا يجوز أن ينتصب على الذم، لأنه لا يجوز أن يصدقه الله تعالى في أنه وحيداً لا نظير له. ورد ذلك بأنه لما لقب بذلك صار علماً، والعلم لا يفيد في المسمى صفة، وأيضاً فيمكن حمله على أنه وحيد في الكفر والخبث والدناءة.
{وجعلت له مالاً ممدوداً}، قال ابن عباس: كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار. وقيل: كان صاحب زرع وضرع وتجارة. وقال النعمان بن بشير: المال المدود هو الأرض لأنها مدت. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو الريع المستغل مشاهرة، فهو مد في الزمان لا ينقطع. وقيل: هو مقدار معين واضطربوا في تعيينه. فما قيل: ألف دينار، وقيل: ألف ألف دينار، وكل هذا تحكم. {وبنين شهوداً}: أي حضوراً معه بمكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم، أو شهوداً: أي رجالاً يشهدون معه المجامع والمحافل، أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه؛ واختلف في عددهم، فذكر منهم: خالد وهشام وعمارة، وقد أسلموا؛ والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس. قال مقاتل: فما زال الوليد بعد هذه الآية وبعد نزولها في نقص في ماله وولده حتى هلك.
{ومهدت له تمهيداً}: أي وطأت وهيأت وبسطت له بساطاً حتى أقام ببلدته مطمئناً يرجع إلى رأيه. وقال ابن عباس: وسعت له ما بين اليمن إلى الشام. وقال مجاهد: مهدت له المال بعضه فوق بعض، كما يمهد الفراش. {ثم يطمع أن أزيد}: أي على ما أعطيته من المال والولد. {كلا}: أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم. وقال الحسن وغيره: ثم يطمع أن أدخله الجنة، لأنه كان يقول: إن كان محمداً صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي. {ثم يطمع}، قال الزمخشري: استبعاد لطمعه واستنكار، أي لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة، {كلا}: قطع لرجائه وردع.
انتهى. وطمعه في الزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا. {إنه كان لآياتنا عنيداً}: تعليل للرّدع على وجه الاستئناف، كأن قائلاً قال: لم لا يزاد؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك، والكافر لا يستحق المزيد؛ وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعام لمناسبة قوله: {وجعلت له مالاً ممدوداً} إلى آخر ما آتاه الله، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن لحديثه في القرآن وزعمه أنه سحر. {سأرهقه}: أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر، {صعوداً}: عقبة في جهنم، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود، والصعود في اللغة: العقبة الشاقة، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام.
{إنه فكر وقدر}: روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال: إن له لحلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى، ونحو هذا من الكلام، فخالفوه وقالوا: هو شعر، فقال: والله ما هو بشعر، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه، قالوا: فهو كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، قالوا: هو مجنون، قال: والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وخنقه، قالوا: هو سحر، قال: أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه. وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى، وفيه: وتزعمون أنه كذب، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا: في كل ذلك اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر ثم قال: ما هو إلا ساحر. أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعن أهل بابل، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه. وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام. ودخل إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً، فجاءه أبو جهل فقال: يا وليد، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال: أفعل. {إنه فكر}: تعليل للوعيد في قوله: {سأرهقه صعوداً}. قيل: ويجوز أن يكون {إنه فكر} بدلاً من قوله: {إنه كان لآياتنا عنيداً}، بياناً لكنه عناده وفكر، أي في القرآن ومن أتى به، {وقدر}: أي في نفسه ما يقول فيه. {فقتل كيف قدر}، قتل: لعن، وقيل: غلب وقهر، وذلك من قوله:
لسهميك في أعسار قلب مقتل

أي مذلل مقهور بالحب، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب، وذلك إخبار بقهره وذلته، و{كيف قدر} معناه: كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل؟ وقيل: دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب.
فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان: قاتل الله كثيراً، كأنه رآنا حين قال كذا. وقيل: ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه. وقيل: ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء. وقيل: ذلك حكاية لما كرروه من قولهم: قتل كيف قدّر، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله، وهذا فيه بعد. وقولهم: قاتلهم الله، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه، ومعناه: أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليه من حساده، والاستفهام في {كيف قدر} في معنى: ما أعجب تقديره وما أغربه، كقولهم: أي رجل زيد؟ أي ما أعظمه.
وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى للتراخى الذي بينهما، كأنه دعى عليه أولاً ورجى أن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل، فدعى عليه ثانياً، {ثم نظر}: أي فكر ثانياً. وقيل: نظر إلى وجوه الناس، {ثم عبس وبسر}: أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول. وقيل: قطب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. {ثم أدبر}: رجع مدبراً، وقيل: أدبر عن الحق، {واستكبر}، قيل: تشارس مستكبراً، وقيل: استكبر عن الحق، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول: ما قال كل ذلك على سبيل الاستهزاء، وأن ما يقوله كذب وافتراء، إذ لو كان ممكناً، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السرور والجذل والبشر في وجهه، ولو كان حقاً لم يحتج إلى هذا الفكر لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكداد فكر ولا إبطاء تأمّل. ألا ترى إلى ذلك الرجل وقوله حين رأي رسول صلى الله عليه وسلم، فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وأسلم من فوره. وقيل: ثم نظر فيما يحتج به للقرآن، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودام نظره في ذلك. {ثم عبس وبسر}، دلالة على تأنيه وتمهله في تأمّله، إذ بين ذلك تراخ وتباعد. وكان العطف في {وبسر} وفي {واستكبر}، لأن البسور قريب من العبوس، فهو كأنه على سبيل التوكيد والاستكبار يظهر أنه سبب للادبار، إذ الاستكبار معنى في القلب، والإدبار حقيقة من فعل الجسم، فهما سبب ومسبب، فلا يعطف بثم؛ وقدّم المسبب على السبب لأنه الظاهر للعين، وناسب العطف بالواو؛ وكان العطف في فقال بالفاء دلالة على التعقيب، لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه، لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل. ومعنى {يؤثر}: يروي وينقل، قال الشاعر:
لقلت من القول ما لا يزا ** ل يؤثر عني به المسند

وقيل: {يؤثر} أي يختار ويرجح على غيره من السحر فيكون من الإيثار، ومعنى {إلا سحر}: أي شبيه بالسحر. {إن هذا إلا قول البشر}: تأكيد لما قبله، أي يلتقط من أقوال الناس، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد. ألا ترى ثناءه على القرآن، ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون، وقصته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه أوائل سورة فصلت إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} وكيف ناشده الله بالرحم أن يسكت؟ {سأصليه سقر}، قال الزمخشري: بدل من {سأرهقه صعوداً}. انتهى. ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة، منهما فتوعد على سبيل التوعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما، فتوعد على كونه عنيداً لآيات الله بإرهاق صعود، وعلى قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر، وتقدّم الكلام على سقر في أواخر سورة القمر. {وما أدراك ما سقر}: تعظيم لهولها وشدتها، {لا تبقي ولا تذر}: أي لا تبقي على من ألقي فيها، ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه.
{لوّاحة للبشر}، قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور: معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسوّدة لها، والبشر جمع بشرة، وتقول العرب: لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته. وقال الحسن وابن كيسان: لوّاحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر، والمعنى أنها تظهر للناس، وهم البشر، من مسيرة خمسمائة عام، وذلك لعظمها وهولها وزجرها، كقوله تعالى: {لترون الجحيم} وقوله: {وبرزت الجحيم لمن يرى} وقرأ الجمهور: {لواحة} بالرفع، أي هي لوّاحة. وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة: لواحة بالنصب على الحال المؤكدة، لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلا مغيرة للأبشار. وقال الزمخشري: نصباً على الاختصاص للتهويل.
{عليها تسعة عشر}: التمييز محذوف، والمتبادر إلى الذهن أنه ملك. ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك؟ فقال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي، وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون، وأنزل الله تعالى في أبي جهل {أولى لك فأولى} وقيل: التمييز المحذوف صنفاً من الملائكة، وقيل: نقيباً، ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو}، وقوله عليه الصلاة والسلام:
«يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها»؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم، وما أقدرهم الله تعالى عليه من الأفعال ما الله أعلم بصحته، وكذلك ذكر أبو عبد الله الرازي حكماً على زعمه في كون هؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف عليها في تفسيره.
وقرأ الجمهور: {تسعة عشر} مبنيين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد. وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان: بإسكان العين، كراهة توالي الحركات. وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة: بضم التاء، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات، ولا يتوهم أنها حركة إعراب، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر. وقرأ أنس أيضاً: تسعة بالضم، أعشر بالفتح. وقال صاحب اللوامح: فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر، وعنه أيضاً تسعة وعشر بالضم، وقلب الهمزة من أعشر واواً خالصة تخفيفاً، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء لأنها معاقبة للفتحة، فراراً من الجمع بين خمس حركات على جهة واحدة. وعن سليمان بن قنة، وهو أخو إبراهيم: أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر، وأعشر مجرور منون وذلك على فك التركيب. قال صاحب اللوامح: ويجيء على هذه القراءة، وهي قراءة من قرأ أعشر مبنياً أو معرباً من حيث هو جمع، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكاً. انتهى، وفيه بعض تلخيص. قال الزمخشري: وقرئ تسعة أعشر جمع عشير، مثل يمين وأيمن. انتهى. وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل:
مررت على أبيات آل محمد ** فلم أر أمثالاً لها يوم حلت

وكانوا ثمالاً ثم عادوا رزية ** لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

{وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}: أي جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم، {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا}: أي سبب فتنة، وفتنة مفعول ثان لجعلنا، أي جعلنا تلك العدّة، وهي تسعة عشر، سبباً لفتنة الكفار، فليس فتنة مفعولاً من أجله، وفتنهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبتهم، وذلك على سبيل الاستهزاء. فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها. {ليستيقن}: هذا مفعول من أجله، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة. فليست الفتنة معلولة للاستيقان، بل المعلول جعل العدّة سبباً لفتنة {الذين أوتوا الكتاب}، وهم اليهود والنصارى. إنّ هذا القرآن هو من عند الله، إذ هم يجدون هذه العدّة في كتبهم المنزلة، ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد، ولكن كتابة يصدّق كتب الأنبياء، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله تعالى. قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد، وبورود الحقائق من عند الله يزداد كل ذي إيمان إيماناً، ويزول الريب عن المصدّقين من أهل الكتاب وعن المؤمنين.
وقيل: إنما صار جعلها فتنة لأنهم يستهزئون ويقولون: لم لم يكونوا عشرين؟ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود؟ ويقولون هذا العدد القليل، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: قد جعل افتتان الكافرين بعدّة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين، فما وجه صحة ذلك؟ قلت: ما جعل افتتانهم بالعدّة سبباً لذلك، وإنما العدّة نفسها هي التي جعلت سبباً، وذلك أن المراد بقوله: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا}: وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر؛ فوضع {فتنة للذين كفروا} موضع {تسعة عشر}، لأن حال هذه العدّة الناقصة واحداً من عقد العشرين، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزئ ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة، كأنه قيل: ولقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين. انتهى، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب الله تعالى، إذ زعم أن معنى {إلا فتنة للذين كفروا}: إلا تسعة عشر، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء؛ وكفى ردّاً عليه تحريف كتاب الله ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى. وقيل: {ليستيقن} متعلق بفعل مضمر، أي فعلنا ذلك ليستيقن. {ولا يرتاب}: توكيد لقوله {ليستيقن}، إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام.
و{الذين في قلوبهم مرض}، قال الحسين بن الفضل: السورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما المرض في الآية: الاضطراب وضعف الإيمان. وقيل: هو إخبار بالغيب، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة: {ماذا أراد الله بهذا مثلاً}. لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا، فاستفهم بعضهم بعضاً عن ذلك استبعاداً أن يكون هذا من عند الله، وسموه مثلاً استعارة من المثل المضروب استغراباً منهم لهذا العدد، والمعنى: أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟ ومرادهم إنكار أصله وأنه ليس من عند الله، وتقدّم إعراب مثل هذه الجملة في أوائل البقرة.
الكاف في محل نصب، وذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى، أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى، يضل الكافرين فيشكون فيزيدهم كفراً وضلالاً، ويهدي المؤمنين فيزيدهم إيماناً. {وما يعلم جنود ربك إلا هو}: إعلام بأن الأمر فوق ما يتوهم، وأن الجزاء إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها، والسماء عامرة بأنواع من الملائكة. وفي الحديث: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً» {وما هي}: أي النار، قاله مجاهد، أو المخاطبة والنذارة، أو نار الدنيا، أو الآيات التي ذكرت، أو العدّة التسعة عشر، أو الجنود، أقوال راجحها الأول وهي سقر، ذكر بها البشر ليخافوا ويطيعوا. وقد جرى ذكر النار أيضاً في قوله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}. {إلا ذكرى للبشر}: أي الذين أهلوا للتذكر والاعتبار.