فصل: تفسير الآيات (32- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (32- 56):

{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
{كلا}، قال الزمخشري: كلا إنكار بعد أن جعلها ذكرى، أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون. انتهى. ولا يسوغ هذا في حق الله تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر، ثم ينكر أن تكون لهم ذكرى، وإنما قوله: {للبشر} عام مخصوص. وقال الزمخشري: أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذير. وقيل: ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم. وقيل: ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة. وقال الفراء: هي صلة للقسم، وقدرها بعضهم بحقاً، وبعضهم بألا الاستفتاحية، وقد تقدم الكلام عليها في آخر سورة مريم عليها السلام.
{والقمر والليل إذ أدبر}: أي ولى، ويقال دبر وأدبر بمعنى واحد. أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها وتنبيهاً على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته، وقوام الوجود بإيجادها. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر: إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال؛ وابن جبير والسلمي والحسن: بخلاف عنهم؛ وابن سيرين والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص: إذ ظرف زمان ماض، أدبر رباعياً؛ والحسن أيضاً وأبو رزين وأبو رجاء وابن يعمر أيضاً والسلمي أيضاً وطلحة أيضاً والأعمش ويونس بن عبيد ومطر: إذا بالألف، أدبر بالهمز، وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ، وهو مناسب لقوله: {إذا أسفر}، ويقال: كأمس الدابر وأمس المدبر بمعنى واحد. وقال يونس بن حبيب: دبر: انقضى، وأدبر: تولى. وقال قتادة: دبر الليل: ولى. وقال الزمخشري: ودبر بمعنى أدبر، كقبل بمعنى أقبل. وقيل: هو من دبر الليل النهار: أخلفه. وقرأ الجمهور: أسفر رباعياً؛ وابن السميفع وعيسى بن الفضل: سفر ثلاثياً، والمعنى: طرح الظلمة عن وجهه.
{إنها لإحدى الكبر}: الظاهر أن الضمير في إنها عائد على النار. قيل: ويحتمل أن يكون للنذارة، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة. وقيل: إن قيام الساعة لإحدى الكبر، فعاد الضمير إلى غير مذكور، ومعنى إحدى الكبر: الدواهي الكبر، أي لا نظير لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء، والكبر: العظائم من العقوبات.
وقال الراجز:
يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر ** داهية الدهر وصماء الغير

والكبر جمع الكبرى، طرحت ألف التأنيث في الجمع، كما طرحت همزته في قاصعاء فقالوا قواصع. وفي كتاب ابن عطية: والكبر جمع كبيرة، ولعله من وهم الناسخ. وقرأ الجمهور: لإحدى بالهمز، وهي منقلبة عن واو أصله لوحدى، وهو بدل لازم. وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير: بحذف الهمزة، وهو حذف لا ينقاس، وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين.
والظاهر أن هذه الجملة جواب للقسم. وقال الزمخشري: أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد. انتهى.
وقرأ الجمهور: {نذيراً}، واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار، كالنكير بمعنى الإنكار، فيكون تمييزاً: أي لإحدى الكبر إنذاراً، كما تقول: هي إحدى النساء عفافاً. كما ضمن إحدى معنى أعظم، جاء عنه التمييز. وقال الفراء: هو مصدر نصب بإضمار فعل، أي أنذر إنذاراً. واحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى منذر. فقال الزجاج: حال من الضمير في إنها. وقيل: حال من الضمير في إحدى، ومن جعله متصلاً بقم في أول السورة، أو بفأنذر في أول السورة، أو حالاً من الكبر، أو حالاً من ضمير الكبر، فهو بمعزل عن الصواب. قال أبو البقاء: والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره: عظمت نذيراً. انتهى، وهو قول لا بأس به. قال النحاس: وحذفت الهاء من نذيراً، وإن كان للنار على معنى النسب، يعني ذات الإنذار. وقال علي بن سليمان: أعني نذيراً. وقال الحسن: لأنذر، إذ هي من النار. قال ابن عطية: وهذا القول يقتضي أن نذيراً حال من الضمير في إنها، أو من قوله: {لإحدى}. قال أبو رزين: نذير هنا هو الله تعالى، فهو منصوب بإضمار فعل، أي ادعوا نذيراً. وقال ابن زيد: نذير هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، فهو منصوب بفعل مضمر، أي ناد، أو بلغ، أو أعلن. وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة: نذير بالرفع. فإن كان من وصف النار، جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف، أي هي نذير. وإن كان من وصف الله أو الرسول، فهو على إضمار هو. والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من. وقيل: الفاعل ضمير يعود على الله تعالى، أي لمن شاء هو، أي الله تعالى. وقال الحسن: هو وعيد، نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} قال ابن عطية: هو بيان في النذارة وإعلام بأن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر، إذ هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره. ثم قوى هذا المعنى بقوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة}.
وقال الزمخشري: {أن يتقدم} في موضع الرفع بالابتداء، و{لمن شاء} خبر مقدم عليه، كقولك لمن توضأ: أن يصلي، ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر. والمراد بالتقدم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو كقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. انتهى، وهو معنى لا يتبادر إلى الذهن وفيه حذف. قيل: والتقدم: الإيمان، والتأخر: الكفر. وقال السدي: أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر عنها إلى الجنة.
وقال الزجاج: أن يتقدم إلى المأمورات، أو يتأخر عن المنهيات، والظاهر العموم في كل نفس. وقال الضحاك: كل نفس حقيق عليها العذاب، ولا يرتهن الله تعالى أحداً من أهل الجنة، ورهينة بمعنى رهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء للمذكر والمؤنث، نحو: رجل قتيل وامرأة قتيل، فالمعنى: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه قول الشاعر:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ** رهينة رمس ذي تراب وجندل

أي: رمس رهن، والمعنى: أن كل نفس رهن عند الله غير مفكوك. وقيل: الهاء في رهينة للمبالغة. وقيل: على تأنيث اللفظ لا على الإنسان، والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء، وإن كان بمعنى مفعول في الأصل كالنطيحة، ويدل على ذلك أنه لما كان خبر عن المذكر كان بغير هاء، قال تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء، وحيث كان خبراً عن المؤنث أتى بالتاء، كما في هذه الآية. فأما الذي في البيت فأنث على معنى النفس. {إلا أصحاب اليمين}، قال ابن عباس: هم الملائكة. وقال عليّ: هم أطفال المسلمين. فعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً، أي لكن أصحاب اليمين في جنات. وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم، وهذا كقول الضحاك الذي تقدم. وقال الزمخشري: {إلا أصحاب اليمين}، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. انتهى. وظاهر هذا أنه استثناء متصل في جنات، أي هم {في جنات يتساءلون}: أي يسأل بعضهم بعضاً، أو يكون يتساءل بمعنى يسأل، أي يسألون عنهم غيرهم، كما يقال: دعوته وتداعوته بمعناه. وعلى هذين التقديرين كيف جاء {ما سلككم في سقر} بالخطاب للمجرمين، وفي الكلام حذف، المعنى: أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً، أو يسألون غيرهم عن من غاب من معارفهم، فإذا عرفوا أنهم مجرمون في النار قالوا لهم، أو قالت لهم الملائكة: هكذا قدره بعضهم، والأقرب أن يكون التقدير: يتساءلون عن المجرمين قائلين لهم بعد التساؤل: {ما سلككم في سقر}.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف طابق قوله: {ما سلككم}؟ وهو سؤال للمجرمين، قوله: {يتساءلون عن المجرمين}؟ وهو سؤال عنهم، وإنما كان يطابق ذلك لو قيل يتساءلون عن المجرمين ما سلككم؟ قلت: {ما سلككم} ليس ببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون: قلنا لهم {ما سلككم في سقر}، {قالوا لم نك من المصلين}، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. انتهى، وفيه تعسف. والأظهر أن السائلين هم المتسائلون، وما سلككم على إضمار القول كما ذكرنا، وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير، وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار.
والجواب أنهم لم يكونوا متصفين بخصائل الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء، كقولهم: {فلا اقتحم العقبة} ثم قال: {ثم كان من الذين آمنوا} واليقين: أي يقيناً على إنكار يوم الجزاء، أي وقت الموت. وقال ابن عطية: واليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخر. وقال المفسرون: اليقين: الموت، وذلك عندي هنا متعقب، لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي. وإنما اليقين الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت، وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}: ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفع شفاعة من يشفع لهم، وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع، أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب:
على لاحب لا يهتدي بمناره

أي: لا منار له فيهتدي به. وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات وينتفع بها، ووردت أحاديث في صحة ذلك. {فما لهم عن التذكرة}: وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة، {معرضين}: أي والحال المنتظرة هذه الموصوفة. ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات الله تعالى. وقرأ الجمهور: {حمر} بضم الميم؛ والأعمش: بإسكانها. قال ابن عباس: المراد الحمر الوحشية، شبههم تعالى بالحمر مذمة وتهجيناً لهم. وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم: {مستنفرة} بفتح الفاء، والمعنى: استنفرها: فزعها من القسورة؛ وباقي السبعة: بكسرها، أي نافرة نفر، واستنفر بمعنى عجب واستعجب وسر واستسخر، ومنه قول الشاعر:
أمسك حمارك إنه مستنفر ** في إصر أحمرة عهدن لعرّب

ويناسب الكسر قوله: {فرّت}. وقال محمد بن سلام: سألت أبا سرار العتوي، وكان أعرابياً فصيحاً، فقلت: كأنهم حمر ماذا مستنفرة طردها قسورة؟ فقلت: إنما هو {فرّت من قسورة}، قال: أفرّت؟ قلت: نعم، قال: فمستنفرة إذن. قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة: القسورة: الرماة. وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: الأسد. وقال ابن جبير: رجال القنص، وهو قريب من القول الأول، وقاله ابن عباس أيضاً. وقال ابن الأعرابي: القسورة أول الليل، والمعنى: فرّت من ظلمة الليل، ولا شيء أشدّ نفاراً من حمر الوحش، ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة سيرها وخفتها.
{بل يريد كل امرئ منهم}: أي من المعرضين عن عظات الله وآياته، {أن يؤتى صحفاً منشرةً}: أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها، أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى يؤتى كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: من رب العالمين إلى فلان بن فلان، يؤمر فيها باتباعك، ونحوه
{لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه} وروي أن بعضهم قال: إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان، فلتعرض تلك الصحف علينا، فنزلت هذه الآية. وقرأ الجمهور: {صحفاً} بضم الصاد والحاء، {منشرةً} مشدّداً؛ وابن جبير: بإسكانها منشرة مخففاً، ونشر وأنشر مثل نزل وأنزل. شبه نشر الصحيفة بإنشار الله الموتى، فعبر عنه بمنشرة من أنشرت، والمحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففاً ثلاثياً، ويقال في الميت: أنشره الله فنشر هو، أي أحياه فحيي.
{كلا}: ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات، {بل لا يخافون الآخرة}، ولذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف. وقرأ الجمهور: {يخافون} بياء الغيبة؛ وأبو حيوة: بتاء الخطاب التفاتاً. {كلا}: ردع عن إعراضهم عن التذكرة، {إنه تذكرة فمن شاء ذكره}: ذكر في إنه وفي ذكره، لأن التذكرة ذكر. وقرأ نافع وسلام ويعقوب: تذكرة بتاء الخطاب ساكنة الذال؛ وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج: بالياء. وروي عن أبي حيوة: يذكرون بياء الغيبة وشد الذال. وروي عن أبي جعفر: تذكرون بالتاء وإدغام التاء في الذال. {هو أهل التقوى}: أي أهل أن يتقي ويخاف، وأهل أن يغفر. وروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال: «يقول لكم ربكم جلت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل يتقى إله غيري، ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له» وقال الزمخشري: في قوله تعالى {وما يذكرون إلا أن يشاء الله}، يعني: إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه، لأنهم مطبوع على قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون إختياراً.

.سورة القيامة:

.تفسير الآيات (1- 40):

{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
تقدّم الكلام في {لا أقسم}. والخلاف في لا، والخلاف في قراآتها في أواخر الواقعة. أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهو له. و{لا أقسم}، قيل: لا نافية، نفى أن يقسم بالنفس اللوّامة وأقسم بيوم القيامة، نص على هذا الحسن؛ والجمهور: على أن الله أقسم بالأمرين. واللوّامة، قال الحسن: هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوها، فهي على هذا ممدوحة، ولذلك أقسم الله بها. وروي نحوه عن ابن عباس وعن مجاهد، تلوم على ما فات وتندم على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لم تستكثر منه. وقيل: النفس المتقية التي تلوم النفوس في يوم القيامة على تقصيرهنّ في التقوى. وقال ابن عباس وقتادة: هي الفاجرة الخشعة اللوّامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها، فهي على هذا ذميمة، ويحسن نفي القسم بها. والنفس اللوّامة: اسم جنس بهذا الوصف. وقيل: هي نفس معينة، وهي نفس آدم عليه السلام، لم تزل لائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة. قال ابن عطية: وكل نفس متوسطة ليست بمطمئنة ولا أمّارة بالسوء فإنها لوّامة في الطرفين، مرّة تلوم على ترك الطاعة، ومرّة تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت. انتهى. والمناسبة بين القسمين من حيث أحوال النفس من سعادتها وشقاوتها وظهور ذلك في يوم القيامة، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله: {أيحسب} الآية، وتقديره لتبعثن. وقال الزمخشري: فإن قلت: قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، وكان قد أنشد قول امرئ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ** لا يدعي القوم إني أفرّ

وقول غوية بن سلمى:
ألا نادت أمامة باحتمالي ** لتحزنني فلا بك ما أبالي

قال: فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف هاهنا منفياً، نحو قولك: {لا أقسم بيوم القيامة}، لا تتركون سدى؟ قلت: لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقسم. ألا ترى كيف لقي {لا أقسم بهذا البلد} بقوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} وكذلك {فلا أقسم بمواقع النجوم} {إنه لقرآن كريم} ثم قال الزمخشري: وجواب القسم ما دل عليه قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه}، وهو لتبعثن. انتهى، وهو تقدير النحاس. وقول من قال جواب القسم هو: {أيحسب الإنسان}. وما روي عن الحسن أن الجواب: {بلى قادرين}، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما، أي لا أقسم على شيء، وأن التقدير: أسألك أيحسب الإنسان؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها، بل تطرح ولا يسود بها الورق، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها.
والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث. روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن به، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها، فنزلت. وقيل: نزلت في أبي جهل، كان يقول: أيزعم محمد صلى الله عليه وسلم أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها فيعيدها خلقاً جديداً؟
وقرأ الجمهور: {نجمع} بنون، {عظامه} نصباً؛ وقتادة: بالتاء مبنياً للمفعول، عظامه رفعاً، والمعنى: بعد تفرّقها واختلاطها بالتراب وتطيير الرياح إياها في أقاصي الأرض. وقوله: {أيحسب} استفهام تقرير وتوبيخ، حيث ينكر قدرة الله تعالى على إعادة المعدوم. {بلى}: جواب للاستفهام المنسخب على النفي، أي بلى نجمهعا. وذكر العظام، وإن كان المعنى إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة، لأن العظام هي قالب الخلق. وقرأ الجمهور: {قادرين} بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع: قادرون، أي نحن قادرون. {على أن نسوي بنانه}: وهي الأصابع، أكثر العظام تفرّقاً وأدقها أجزاء، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها، وهذا عند البعث. وقال ابن عباس والجمهور: المعنى نجعلها في حياته هذه بعضة، أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه، أي في الدنيا فتقل منفعته بها، وهذا القول فيه توعد، والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام. وذكر الزمخشري هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته في حكاية أقوال المتقدمين. وقيل: {قادرين} منصوب على خبر كان، أي بلى كنا قادرين في الابتداء.
{بل يريد الإنسان بل}: إضراب، وهو انتقال من كلام إلى كلام من غير إبطال. والظاهر أن {يريد} إخبار عن ما يريده الإنسان. وقال الزمخشري: {بل يريد} عطف على {أيحسب}، فيجوز أن يكون قبله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب. انتهى. وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر، وهي متكلفة، بل المعنى: الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة، وهي نجمعها قادرين، لنبين ما هو عليه الإنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته؛ ومفعول {يريد} محذوف يدل عليه التعليل في {ليفجر}. قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي: معنى الآية: أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته. قال السدي أيضاً: ليظلم على قدر طاقته، وعلى هذا فالضمير في {أمامه} عائد على الإنسان، وهو الظاهر. وقال ابن عباس: ما يقضي أن الضمير عائد على يوم القيامة أن الإنسان في زمان وجوده أمام يوم القيامة، وبين يديه يوم القيامة خلفه، فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة، وهو لا يعرف القدر الذي هو فيه؛ والأمام ظرف مكان استعير هنا للزمان، أي ليفجر فيما بين يديه ويستقبله من زمان حياته.
{يسأل أيان يوم القيامة}: أي متى يوم القيامة؟ سؤال استهزاء وتكذيب وتعنت. وقرأ الجمهور: {برق} بكسر الراء؛ وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وابن مقسم ونافع وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب، كلاهما عن أبي عمرو، والحسن والجحدري: بخلاف عنهما بفتحها. قال أبو عبيدة: برق بالفتح: شق. وقال ابن إسحاق: خفت عند الموت. قال مجاهد: هذا عند الموت. وقال الحسن: هو يوم القيامة. وقرأ أبو السمال: بلق باللام عوض الراء، أي انفتح وانفرج، يقال: بلق الباب وأبلقته وبلقته: فتحته، هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول: بلقه وأبلقه إذا أغلفه. وقال ثعلب: أخطأ الفراء في ذلك، إنما هو بلق الباب وأبلقه إذا فتحه. انتهى. ويمكن أن تكون اللام بدلاً من الراء، فهما يتعاقبان في بعض الكلام، نحو قولهم: نثرة ونثلة، ووجر ووجل. وقرأ الجمهور: {وخسف} مبنياً للفاعل؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب وزيد بن علي: مبنياً للمفعول. يقال: خسف القمر وخسفه الله، وكذلك الشمس. قال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة: الخسوف والكسوف بمعنى واحد. وقال ابن أبي أويس: الكسوف ذهاب بعض الضوء، والخسوف جميعه.
{وجمع الشمس والقمر}: لم تلحق علامة التأنيث، لأن تأنيث الشمس مجان، أو لتغليب التذكير على التأنيث. وقال الكسائي: حمل على المعنى، والتقدير: جمع النوران أو الضياءآن، ومعنى الجمع بينهما، قال عطاء بن يسار: يجمعان فيلقيان في النار، وعنه يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقيل: يجمع بينهما في الطلوع من المغرب، فيطلعان أسودين مكورين. وقال علي وابن عباس: يجعلان في نور الحجب، وقيل: يجتمعان ولا يتفرقان، ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر، فكأن المعنى: يجمع حرهما. وقيل: يجمع بينهما في ذهابه الضوء، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار. وقرأ الجمهور: {المفر} بفتح الميم والفاء، أي أين الفرار؟ وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب، والحسن بن زيد، وابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وكلثوم بن عياض ومجاهد وابن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزهري: بكسر الفاء، وهو موضع الفرار. وقرأ الحسن: بكسر الميم وفتح الفاء، ونسبها ابن عطية للزهري، أي الجيد الفرار، وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل، نحو قوله:
مكر مفر مقبل مدبر معاً

والظاهر أن قوله: {كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر} من تمام قول الإنسان. وقيل: هو من كلام الله تعالى، لا حكاية عن الإنسان. {كلا}: ردع عن طلب المفر، {لا وزر}: لا ملجأ، وعبر المفسرون عنه بالجبل. قال مطرف بن الشخير: هو كان وزر فرار العرب في بلادهم، فلذلك استعمل؛ والحقيقة أنه الملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غيره. {إلى ربك يومئذ}: أي إلى حكمه يومئذ تقول أين المفر، {المستقر}: أي الاستقرار، أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى، يدخل من شاء الجنة، ويدخل من شاء النار. {بما قدم وأخر}، قال عبد الله وابن عباس: بما قدم في حياته وأخر من سنة يعمل بها بعده. وقال ابن عباس أيضاً: بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات. وقال زيد بن أسلم: بما قدم من ماله لنفسه، وبما أخر منه للوارث. وقال النخعي ومجاهد: بأول عمله وآخره. وقال الضحاك: بما قدم من فرض وأخر من فرض؛ والظاهر حمله على العموم، أي يخبره بكل ما قدم وكل ما أخر مما ذكره المفسرون ومما لم يذكروه. {بصيرة}: خبر عن الإنسان، أي شاهد، قاله قتادة، والهاء للمبالغة. وقال الأخفش: هو كقولك: فلان عبرة وحجة. وقيل: أنث لأنه أراد جوارحه، أي جوارحه على نفسه بصيرة. وقيل: بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف، أي عين بصيرة، وعلى نفسه الخبر. والجملة في موضع خبر عن الإنسان، والتقدير عين بصيرة، وإليه ذهب الفراء وأنشد:
كأن على ذي العقل عيناً بصيرة ** بمقعده أو منظر هو ناظره

يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ** من الخوف لا تخفى عليهم سرائره

وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلاً بالجار والمجرور، وهو الخبر عن الإنسان. ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبراً عن الإنسان؟ وعلى هذا فالتاء للتأنيث. وتأول ابن عباس البصيرة بالجوارح أو الملائكة الحفظة. والمعاذير عند الجمهور الأعذار، فالمعنى: لو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه فإنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها. وقيل: المعاذير جمع معذرة. وقال الزمخشري: قياس معذرة معاذر، فالمعاذير ليس بجمع معذرة، إنما هو اسم جمع لها، ونحو المناكير في المنكر. انتهى. وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع، وإنما هو من أبنية جمع التكسير، فهو كمذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر؛ ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع، بل قيل: هما جمع للمحة وذكر على قياس، أو هما جمع لمفرد لم ينطق به، وهو مذكار وملمحة. وقال السدي والضحاك: المعاذير: الستور بلغة اليمن، واحدها معذار، وهو يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب. وقاله الزجاج أيضاً، أي وإن رمى مستورة يريد أن يخفي عمله، فنفسه شاهدة عليه.
وأنشدوا في أن المعاذير الستور قول الشاعر:
ولكنها ضنت بمنزل ساعة ** علينا وأطت فوقها بالمعاذر

وقيل: البصيرة: الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر، أي وإن تستر بالستور؛ وإذا كانت من العذر، فمعنى {ولو ألقى}: أي نطق بمعاذيره وقالها. وقيل: ولو رمى بأعذاره واستسلم. وقال السدي: ولو أدلى بحجة وعذر. وقيل: ولو أحال بعضهم على بعض، كقوله تعالى: {لولا أنتم لكنا مؤمنين} والعذرة والعذرى: المعذرة، قال الشاعر:
ها إن ذي عذرة إن لا تكن نفعت

وقال فيها: ولا عذر لمجحود. {لا تحرك به لسانك}: الظاهر والمنصوص الصحيح في سبب النزول أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. وقال القفال: هو خطاب للإنسان المذكور في قوله: {ينبأ الإنسان} وذلك حال تنبئه بقبائح أفعاله، يعرض عليه كتابه فيقال له: اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً. فإذا أخذ في القراءة تلجلج من شدّة الخوف وسرعة القراءة، فقيل له: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك. {فإذا قرأناه} عليك، {فاتبع قرآنه} بأنك فعلت تلك الأفعال. {ثم إن علينا بيانه}: أي بيان أمره وشرح عقوبته. وحاصل قول هذا القول أنه تعالى يقرر الكافر على جميع أفعاله على التفصيل، وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج من التنزيل شدّة، وكان بما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه، فنزلت. وقال الضحاك: السبب أنه كان عليه الصلاة والسلام كان يخاف أن ينسى القرآن، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق، فنزلت. وقال الشعبي: كان لحرصه عليه الصلاة والسلام على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة الله ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى. والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية. {إن علينا جمعه}: أي في صدرك، {وقرآنه}: أي قراءتك إياه، والقرآن مصدر كالقراءة، قال الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

وقيل: وقرآنه: وتأليفه في صدرك، فهو مصدر من قرأت: أي جمعت، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد: ما قرأت سلاقط، وقال الشاعر:
ذراعي بكرة أدماء بكر ** هجان اللون لم تقرأ جنينا

{فإذا قرأناه}: أي الملك المبلغ عنا، {فاتبع}: أي بذهنك وفكرك، أي فاستمع قراءته، قاله ابن عباس. وقال أيضاً هو قتادة والضحاك: فاتبع في الأوامر والنواهي. وفي كتاب ابن عطية، وقرأ أبو العالية: فإذا قرته فاتبع قرته، بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر، أي إن علينا جمعه وقراءته، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها فبقي قرته كما ترى.
وأمّا الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته، أي أردت قراءته؛ فسكن الهمزة فصار قرأته، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ، كما حذفت في قول العرب: ولو تر ما الصبيان، يريدون: ولو ترى ما الصبيان، وما زائدة. وأمّا اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول، أي فإذا قرأته، أي أردت قراءته، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل. {ثم إن علينا بيانه}، قال قتادة وجماعة: أن نبينه لك ونحفظكه. وقيل: أن تبنيه أنت. وقال قتادة أيضاً: أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره.
وفي التحرير والتحبير قال ابن عباس: {إن علينا جمعه}: أي حفظه في حياتك، وقراءته: تأليفه على لسانك. وقال الضحاك: نثبته في قلبك بعد جمعه لك. وقيل: جمعه بإعادة جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك. {فإذا قرأناه}، قال ابن عباس: أنزلناه إليك، فاستمع قراءته، وعنه أيضاً: فإذا يتلى عليك فاتبع ما فيه. وقال قتادة: فاتبع حلاله واجتنب حرامه. وقد نمق الزمخشري بحسن إيراده تفسير هذه الآية فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه. والمعنى: لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ. {لتعجل به}: لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك، ثم علل النهي عن العجلة بقوله: {إن علينا جمعه} في صدرك وإثبات قراءته في لسانك. {فإذا قرأناه}: جعل قراءة جبريل قراءته، والقرآن القراءة، فاتبع قراءته: فكن مقفياً له فيه ولا تراسله، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه. {ثم إن علينا بيانه}: إذا أشكل عليك شيء من معانيه، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه. انتهى.
وذكر أبو عبد الله الرازي في تفسيره: أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك. ثم ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضاً عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله ومن يرغب عنها.
وبضدها تتميز الأشياء..... ولما كان عليه الصلاة والسلام، لمثابرته على ذلك، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه. كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة. لما فرغ من خطابه عليه الصلاة والسلام، رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة، إذ هو منكر لذلك. وقرأ الجمهور: {بل تحبون العاجلة وتذرون} بتاء الخطاب، لكفار قريش المنكرين البعث، و{كلا}: رد عليهم وعلى أقوالهم، أي ليس كما زعمتم، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها. وقال الزمخشري: {كلا} ردع، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه. وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو: بياء الغيبة فيهما.
ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة فقال: {وجوه يومئذ ناضرة}، وعبر بالوجه عن الجملة. وقرأ الجمهور: {ناضرة} بألف، وزيد بن علي: نضرة بغير ألف. وقرأ ابن عطية: {وجوه} رفع بالابتداء، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله: {يومئذ} و{ناضرة} خبر {وجوه}. وقوله: {إلى ربها ناظرة} جملة هي في موضع خبر بعد خبر. انتهى. وليس {يومئذ} تخصيصاً للنكرة، فيسوغ الابتداء بها، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة، إنما يكون {يومئذ} معمول لناضرة. وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل، و{ناضرة} الخبر، و{ناضرة} صفة. وقيل: {ناضرة} نعت لوجوه، و{إلى ربها ناظرة} الخبر، وهو قول سائغ. ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين، أهل السنة وأهل الاعتزال، فلا نطيل بذكر ذلك هنا. ولما كان الزمخشري من المعتزلة، ومذهبه أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص، قال هنا: ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع الله فيه الخلائق، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، يريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل:
وإذا نظرت إليك من ملك ** والبحر دونك زدتني نعماء

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون مقائلهم تقول: عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
انتهى. وقال ابن عطية: ذهبوا، يعني المعتزلة، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة، أو إلى ثوابه أو ملكه، فقدروا مضافاً محذوفاً، وهذا وجه سائغ في العربية. كما تقول: فلان ناظر إليك في كذا: أي إلى صنعك في كذا. انتهى. والظاهر أن إلى في قوله: {إلى ربها} حرف جر يتعلق بناظرة. وقال بعض المعتزلة: إلى هنا واحد الآلاء، وهي النعم، وهي مفعول به معمول لناظرة بمعنى منتظرة. {ووجوه يومئذ باسرة}: يجوز أن يكون {وجوه} مبتدأ خبره {باسرة} وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر. والفاقرة قال ابن المسيب قاصمة الظهر، وتظن بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع {أن يفعل بها فاقرة}: فعل هو في شدة داهية تقصم. وقال أبو عبيدة: فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار. {كلا}: ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة، والضمير في {بلغت} عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام، كقول حاتم:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

وتقول العرب: أرسلت، يريدون جاء المطر، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء. وذكرهم تعالى بصعوبة الموت، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها. وقيل: مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون القائل حاضروا المريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي، وغير ذلك مما يتمناه له أهله، قاله ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة، وهو استفهام حقيقة. وقيل: هو استفهام إبعاد وإنكار، أي قد بلغ مبلغاً لا أحد يرقيه، كما عند الناس: من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت قاله عكرمة وابن زيد. واحتمل أن يكون القائل الملائكة، أي من يرقي بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ قاله ابن عباس أيضاً وسليمان التيمي. وقيل: إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها، ويدل عليه قوله بعد: {فلا صدق ولا صلى} الآية. ووقف حفص على {من}، وابتدأ {راق}، وأدغم الجمهور. قال أبو علي: لا أدري ما وجه قراءته. وكذلك قرأ: {بل ران} انتهى. وكان حفصاً قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة، فسكت سكت لطيفاً ليشعر أنهما كلمتان. وقال سيبويه: إن النون تدغم في الراء، وذلك نحو من راشد؛ والإدغام بغنة وبغير غنة، ولم يذكر البيان. ولعل ذلك من نقل غيره من الكوفيين، وعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالماً بالنحو. وأمّا {بل ران} فقد ذكر سيبويه أن اللام البيان فيها، والإدغام مع الراء حسنان، فلما أفرط في شأن البيان في {بل ران}، صار كالوقف القليل. {وظن}، أي المريض، {أنه}: أي ما نزل به، {الفراق}: فراق الدنيا التي هي محبوبته، والظن هنا على بابه.
وقيل: فراق الروح الجسد.
{والتفت الساق بالساق}، قال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد: استعارة لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها، وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها، لأنه بين الحالين قد اختلطا به، كما يقول: شمرت الحرب عن ساق، استعارة لشدتها. وقال ابن المسيب والحسن: هي حقيقة، والمراد ساقا الميت عندما لفا في الكفن. وقال الشعبي وقتادة وأبو مالك: التفافهما لشدّة المرض، لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه. وقال الضحاك: أسوق حاضريه من الإنس والملائكة؛ هؤلاء يجهزونه إلى القبر، وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء. وقيل: التفافهما: موتهما أولاً، إذ هما أول ما تخرج الروح منهما فتبردان قبل سائر الأعضاء. وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر.
{إلى ربك يومئذ المساق}: المرجع والمصير، والمساق مفعل من السوق، فهو اسم مصدر، إمّا إلى جنة، وإمّا إلى نار. {فلا صدق ولا صلى}، الجمهور: إنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله: {يتمطى}. فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم، وكان يكثر منها. وتقدم أيضاً أنه قيل في قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} أنها نزلت في أبي جهل. وقال الزمخشري: يعني الإنسان في قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه}. ألا ترى إلى قوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}، وهو معطوف على قوله: {يسأل أيان يوم القيامة}: أي لا يؤمن بالبعث؟ {فلا صدق} بالرسول والقرآن، {ولا صلى}. ويجوز أن يراد: فلا صدق ماله، يعني فلا زكاة. انتهى. وكون {فلا صدق} معطوفاً على قوله: {يسأل} فيه بعد، ولا هنا نفت الماضي، أي لم يصدق ولم يصل؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه، ومثله قوله:
وأي جميس لا أتانا نهابه ** وأسيافنا يقطرن من كبشه دما

وقال الراجز:
إن تغفر اللهم تغفر جماً ** وأيّ عبد لك لا ألما

وصدق: معناه برسالة الله. وقال يوم: هو من الصدقة، وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب، كقوله: {لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين} وحمل {فلا صدق} على نفي التصديق بالرسالة، فيقتضي أن يكون {ولكن كذب} تكراراً. ولزم أن يكون لكن استدراكاً بعد {ولا صلى} لا بعده {فلا صدق}، لأنه كان يتساوى الحكم في {فلا صدق} وفي {كذب}، ولا يجوز ذلك، إذ لا يقع لكن بعد متوافقين. {وتولى}: أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب بما جاء به. {وتولى ثم ذهب إلى أهله}: أي قومه، {يتمطى}: يبختر في مشيته. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبب أبا جهل يوماً في البطحاء وقال له:
«إن الله يقول لك أولى فأولى لك» فنزل القرآن على نحوها، وقالت الخنساء:
هممت بنفسي كل الهمو ** م فأولى لنفسي أولى لها

وتقدم الكلام على {أولى} شرحاً وإعراباً في قوله تعالى: {فأولى لهم طاعة وقول معروف} في سورة القتال، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد. ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا، قرر له أحواله في بدايته ليتأمّلها، فلا ينكر معها جواز البعث من القبور. وقرأ الجمهور: {ألم يك} بياء الغيبة؛ والحسن: بتاء الخطاب على سبيل الالتفات. وقرأ الجمهور: تمنى، أي النطفة يمنيها الرجل؛ وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب وحفص وأبو عمر: بخلاف عنه بالياء، أي يمنى هو، أي المني، فخلق الله منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة. {فسوى}: أي سواه شخصاً مستقلاً. {فجعل منه الزوجين}: أي النوعين أو المزدوجين من البشر، وفي قراءة زيد بن عليّ: الزّوجان بالألف، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله. وقرأ أيضاً: يقدر مضارعاً، والجمهور: {بقادر} اسم فاعل مجرور بالباء الزائدة.
{أليس ذلك}: أي الخالق المسوي، {بقادر}، وفيه توقيف وتوبيخ لمنكر البعث. وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان: بسكون الياء من قوله: {أن يحيِي}، وهي حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف، وقد جاء في الشعر حذفها. وقرأ الجمهور: بفتحها. وجاء عن بعضهم يحيي بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء. قال ابن خالويه: لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي، قالوا لسكون الياء الثانية، ولا يعتدون بالفتحة في الياء لأنها حركة إعراب غير لازمة. وأما الفراء فاحتج بهذا البيت:
تمشي بسده بينها فتعيى

يريد: فتعيي، والله تعالى أعلم.