فصل: سورة العاديات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة العاديات:

.تفسير الآيات (1- 11):

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
والجمهور من أهل التفسير واللغة على أن العاديات هنا الخيل، تعدو في سبيل الله وتضبح حالة عدوها، وقال عنترة:
والخيل تكدح حين تضبح ** في حياض الموت ضبحا

وقال أبو عبد الله وعلي وإبراهيم والسدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير: العاديات: الإبل. أقسم بها حين تعدو من عرفة ومن المزدلفة إذا دفع الحاج. وبأهل غزوة بدر لم يكن فيها غير فرسين، فرس للزبير وفرس للمقداد، وبهذا حج عليّ رضي الله عنه ابن عباس حين تماريا، فرجع ابن عباس إلى قول علي رضي الله تعالى عنهما. وقالت صفية بنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع ** بأيديها إذا سطع الغبار

وانتصب ضبحاً على إضمار فعل، أي يضبحن ضبحاً؛ أو على أنه في موضع الحال، أي ضابحات؛ أو على المصدر على قول أبي عبيدة أن معناه العدو الشديد، فهو منصوب بالعاديات. وقال الزمخشري: أو بالعاديات كأنه قيل: والضابحات، لأن الضبح يكون مع العدو، انتهى. وإذا كان الضبح مع العدو، فلا يكون معنى {والعاديات} معنى الضابحات، فلا ينبغي أن يفسر به. {فالموريات قدحاً}، والإيراء: إخراج النار، أي تقدح بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار لصك بعض الحجارة بعضاً. ويقال: قدح فأورى، وقدح فأصلد. وتسمى تلك النار التي تقدحها الحوافر من الخيل أو الإبل: نار الحباحب. قال الشاعر:
تقدّ السلو في المضاعف نسجه ** وتوقد بالصفاح نار الحباحب

وقيل: {فالموريات قدحاً} مجاز، أو استعارة في الخيل تشعل الحرب، قاله قتادة. وقال تعالى: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} ويقال: حمي الوطيس إذا اشتدّ الحرب. وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم: الموريات: الجماعة التي تمكر في الحرب، والعرب تقوله إذا أرادت المكر بالرجل: والله لا يكون ذلك، ولأورين لك. وعن ابن عباس أيضاً: التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها. وعنه أيضاً: جماعة الغزاة تكثر النار إرهاباً. وقال عكرمة: ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، وتظهر من الحجج والدلائل، وإظهار الحق وإبطال الباطل. {فالمغيرات صبحاً}: أي تغير على العدو في الصبح، ومن قال هي الإبل، قال العرب تقول: أغار إذا عدى جرياً، أي من مزدلفة إلى منى، أو في بدر؛ وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة، لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب. والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار، ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر، وإن لم يكن فيها إلا فرسان، لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر، ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أن الإبل جوهد عليها في سبيل الله، بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل الله تعالى إلا على الخيل في شرق البلاد وغربها.
{فأثرن}: معطوف على اسم الفاعل الذي هو صلة أل، لأنه في معنى الفعل، إذ تقديره: فاللاتي عدون فأغرن فأثرن. وقال الزمخشري: معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، انتهى. وتقول أصحابنا: هو معطوف على الاسم، لأنه في معنى الفعل. وقرأ الجمهور: {فأثرن}، {فوسطن}، بتخفيف الثاء والسين؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: بشدّهما؛ وعليّ وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى: بشدّ السين. وقال الزمخشري: وقرأ أبو حيوة: فأثرن بالتشديد، بمعنى: فأظهرن به غباراً، لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن، وقلب الواو همزة. وقرئ: فوسطن بالتشديد للتعدية، والباء مزيدة للتوكيد، كقوله: {فأتوا به} وهي مبالغة في وسطن، انتهى. أما قوله: أو قلب، فتمحل بارد. وأما أن التشديد للتعدية، فقد نقلوا أن وسط مخففاً ومثقلاً بمعنى واحد، وأنهما لغتان، والضمير في به عائد في الأول على الصبح، أي هيجن في ذلك الوقت غباراً، وفي به الثاني على الصبح. قيل: أو على النقع، أي وسطن النقع الجمع، فيكون وسطه بمعنى توسطه. وقال علي وعبد الله: {فوسطن به جمعاً}: أي الإبل، وجمعاً اسم للمزدلفة، وليس بجمع من الناس. وقال بشر بن أبي حازم:
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب ** تحت العجاجة في الغبار الأقتم

وقيل: الضمير في به معاً يعود على العدو الدال عليه {والعاديات} أيضاً. وقيل: يعود على المكان الذي يقتضيه المعنى، وإن لم يجر له ذكر، لدلالة والعاديات وما بعدها عليه. وقيل: المراد بالنقع هنا الصياح، والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات، وليست أل فيه للعهد، والمقسم عليه: {إن الإنسان لربه لكنود}. وفي الحديث: «الكنود يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده» وقال ابن عباس والحسن: هو الجحود لنعمة الله تعالى. وعن الحسن أيضاً: هو اللائم لربه، يعد السيئات وينسى الحسنات. وقال الفضيل: هو الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة، ويعامل الله على عقد عوض. وقال عطاء: هو الذي لا يغطى في النائبات مع قومه. وقيل: البخيل. وقال ابن قتيبة: أرض كنود: لا تنبت شيئاً. والظاهر عود الضمير في {وإنه} على ذلك {لشهيد}، أي يشهد على كنوده، ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره، وقاله الحسن ومحمد بن كعب. وقال ابن عباس وقتادة: هو عائد على الله تعالى، أي وربه شاهد عليه، وهو على سبيل الوعيد. وقال التبريزي: هو عائد على الله تعالى، وربه شاهد عليه هو الأصح، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين، ويكون ذلك كالوعيد والزجر عن المعاصي، انتهى. ولا يترجح بالقرب إلا إذا تساويا من حيث المعنى. والإنسان هنا هو المحدث عنه والمسند إليه الكنود. وأيضاً فتناسق الضمائر لواحد مع صحة المعنى أولى من جعلهما لمختلفين، ولاسيما إذا توسط الضمير بين ضميرين عائدين على واحد.
{وإنه}: أي وإن الإنسان، {لحب الخير}: أي المال، {لشديد}: أي قوي في حبه. وقيل: لبخيل بالمال ضابط له، ويقال للبخيل: شديد ومتشدد. وقال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد

وقال قتادة: الخير من حيث وقع في القرآن هو المال. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عند الملوك ونحوه، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك. فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفور. وقال الفراء: نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير. فلما تقدم الحب قال لشديد، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره، ولرءوس الآي كقوله تعالى: {في يوم عاصف} والعصوف: للريح لا للأيام، كأنه قال: في يوم عاصف الريح، انتهى. وقال غيره ما معناه: لأنه ليس أصله ذلك التركيب، بل اللام في {لحب} لام العلة، أي وإنه لأجل حب المال لبخيل؛ أو وإنه لحب المال وإيثاره قوي مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف متقاعس. تقول: هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقاً له ضابطاً. قال الزمخشري: أو أراد: وإنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنه شديد منقبض.
{أفلا يعلم}: توقيف إلى ما يؤول إليه الإنسان، ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف، أي أفلا يعلم مآ له؟ {إذا بعثر}، وقال الحوفي: إذا ظرف مضاف إلى بعثر والعامل فيه يعلم. انتهى، وليس بمتضح لأن المعنى: أفلا يعلم الآن؟ وقرأ الجمهور: بعثر بالعين مبنياً للمفعول. وقرأ عبد الله: بالحاء. وقرأ الأسود بن زيد: بحث. وقرأ نضر بن عاصم: بحثر على بنائه للفاعل. وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي سعدان: وحصل مبنياً للفاعل؛ والجمهور: مبنياً للمفعول. وقرأ ابن يعمر أيضاً ونصر بن عاصم أيضاً: وحصل مبنياً للفاعل خفيف الصاد، والمعنى جمع ما في المصحف، أي أظهر محصلاً مجموعاً. وقيل: ميز وكشف ليقع الجزاء عليه. وقرأ الجمهور: {إن} {لخبير} باللام: هو استئناف إخبار، والعامل في {بهم}، وفي {يومئذ لخبير}، وهو تعالى خبير دائماً لكنه ضمن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم. وقرأ أبو السمال والحجاج: بفتح الهمزة وإسقاط اللام. ويظهر في هذه القراءة تسلط يعلم على إن، لكنه لا يمكن إعمال خبير في إذا لكونه في صلة أن المصدرية، لكنه لا يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام، فإنه قال: يجزيهم إذا بعثر، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يعلم معلقه عن العمل في قراءة الجمهور، وسدت مسد المعمول في إن، وفي خبرها اللام ظاهر، إذ هي في موضع نصب بيعلم. وإذا العامل فيها من معنى مضمون الجملة تقديره: كما قلنا يجزيهم إذا بعثر.

.سورة القارعة:

.تفسير الآيات (1- 11):

{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}
وقال الجمهور: {القارعة}: القيامة نفسها، لأنها تقرع القلوب بهولها. وقيل: صيحة النفخة في الصور، لأنها تقرع الأسماع وفي ضمن ذلك القلوب. وقال الضحاك: هي النار ذات التغيظ والزفير. وقرأ الجمهور: {القارعة ما القارعة} بالرفع، فما استفهام فيه معنى الاستعظام والتعجب وهو مبتدأ، والقارعة خبره، وتقدم تقرير ذلك في {الحاقة ما الحاقة} وقيل ذلك في قوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} وقال الزجاج: هو تحذير، والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، قال الشاعر:
أخو النجدة السلاح السلاح

وقرأ عيسى: بالنصب، وتخريجه على أنه منصوب بإضمار فعل، أي اذكروا القارعة، وما زائدة للتوكيد؛ والقارعة تأكيد لفظي للأولى. وقرأ الجمهور: {يوم} بالنصب، وهو ظرف، العامل فيه، قال ابن عطية: القارعة. فإن كان عنى بالقارعة اللفظ الأول، فلا يجوز للفصل بين العامل، وهو في صلة أل، والمعمول بالخبر؛ وكذا لو صار القارعة علماً للقيامة لا يجوز أيضاً، وإن كان عنى اللفظ الثاني أو الثالث، فلا يلتئم معنى الظرف معه. وقال الزمخشري: الظرف نصب بمضمر دل عليه القارعة، أي تقرع يوم يكون الناس. وقال الحوفي: تأتي يوم يكون. وقيل: اذكر يوم. وقرأ زيد بن عليّ: يوم يكون مرفوع الميم، أي وقتها. {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث}، قال قتادة: هو الطير الذي يتساقط في النار. وقال الفراء: غوغاء الجراد، وهو صغيره الذي ينتشر في الأرض يركب بعضه بعضاً من الهول. وقيل: الفراش طير دقيق يقصد النار، ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق. شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهاب على غير نظام، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حتى تدعوهم إلى ناحية المحشر، كالفراش المتطاير إلى النار. قال جرير:
إن الفرزدق ما علمت وقومه ** مثل الفراش عشين نار المصطلى

وقرن بين الناس والجبال تنبيهاً على تأثير تلك القارعة في الجبال حتى صارت كالعهن المنفوش؛ فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها؟ وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في الأعراف، وعيشة راضية في الحاقة. {فأمه هاوية}: الهاوية دركة من دركات النار، وأمه معناه مأواه، كما قيل للأرض أم الناس لأنها تؤويهم، وكما قال عتبة بن أبي سفيان في الحرب: فنحن بنوها وهي أمنا. وقال قتادة وأبو صالح وغيره: فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوساً. وقيل: هو تفاؤل بشر، وإذا دعوا بالهلكة قالوا هوت أمه، لأنه إذا هوى، أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلاً وحزناً. قال الشاعر:
هوت أمه ما نبعث الصبح غاديا ** وماذا يرد الليل حين يؤون

وقرأ الجمهور: {فأمه} بضم الهمزة، وطلحة بكسرها. قال ابن خالويه: وحكى ابن دريد أنها لغة. وأما النحويون فإنهم يقولون: لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء، انتهى. {وما أدراك}: هي ضمير يعود على هاوية إن كانت كما قيل دركة من دركات النار معروفة بهذا الاسم، وإن كانت غير ذلك مما قيل فهي ضمير الداهية التي دل عليها قوله: {فأمه هاوية}، والهاء فيما هيه هاء السكت، وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق والأعمش وحمزة، وأثبتها الجمهور: {نار}: خبر مبتدأ محذوف، أي هي نار، أعاذنا الله منها بمنه وكرمه.

.سورة التكاثر:

.تفسير الآيات (1- 8):

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
{ألهاكم}: شغلكم فعلى ما روى الكلبي ومقاتل يكون المعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات. عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكماً بهم، وهذا معنى ينبو عنه لفظ زرتم. قيل: {حتى زرتم}: أي متم وزرتم بأجسادكم مقابرها، أي قطعتم بالتكاثر والمفاخرة بالأموال والأولاد والعدد أعماركم حتى متم. وسمع بعض الأعراب {حتى زرتم} فقال: بعث القوم للقيامة، ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم. وعن عمر بن عبد العزيز نحو من قول الأعرابي. وقيل: هذا تأنيث على الإكثار من زيارة تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور، ثم قال: «فزوروها أمر إباحة للاتعاظ بها لا لمعنى المباهاة والتفاخر» قال ابن عطية: كما يصنع الناس في ملازمتها وتسليمها بالحجارة والرخام، وتلوينها شرفاً، وبيان النواويس عليه. وابن عطية لم ير إلا قبور أهل الأندلس، فكيف لو رأى ما تباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى، والقرافة الصغرى، وباب النصر وغير ذلك، وما يضيع فيها من الأموال، والتعجب من ذلك، ولرأى ما لم يخطر ببال؟
وأما التباهي بالزيارة، ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوف أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور. زرت قبر سيدي فلان بكذا، وقبر فلان بكذا، والشيخ فلاناً بكذا، والشيخ فلاناً بكذا؛ فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد، وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ بحيث لو كتبت لجاءت أسفاراً، وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه، وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل أموالهم لهم. وأما من شذا منهم لأن يتكلم للعامة فيأتي بعجائب، يقولون هذا فتح هذا من العلم اللدني علم الخضر، حتى أن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيراً من حكاياتهم ومزج ذلك بيسير من العلم طلباً للمال والجاه وتقبيل اليد؛ ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته.
وقرأ الجمهور: ألهاكم على الخبر؛ وابن عباس وعائشة ومعاية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة: بالمد على الاستفهام، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب، وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضاً والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية: أألهاكم بهمزتين، ومعنى الاستفهام: التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم؛ والجمهور: على أن التكرير توكيد. قال الزمخشري: والتكرير تأكيد للردع والإنذار؛ وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك لا تفعل، والمعنى: سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: {كلا سوف تعلمون} في القبور {ثم كلا سوف تعلمون} في البعث: غاير بينهما بحسب التعلق، وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان. وقال الضحاك: الزجر الأول ووعيده للكافرين، والثاني للمؤمنين. {كلا لو تعلمون}: أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه، {علم اليقين}: أي كعلم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو {ألهاكم التكاثر}. وقيل: اليقين هنا الموت. وقال قتادة: البعث، لأنه إذا جاء زال الشك. ثم قال: {لترون الجحيم}: والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود، كما قال تعالى: {وإن منكم إلا واردها} ولا تكون رؤية عند الدخول، فيكون الخطاب للكفار لأنه قال بعد ذلك: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}.
{ثم لترونها عين اليقين}: تأكيد للجملة التي قبلها، وزاد التوكيد بقوله: {عين اليقين} نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى. وعن ابن عباس: هو خطاب للمشركين، فالرؤية رؤية دخول. وقرأ ابن عامر والكسائي: لترون بضم التاء؛ وباقي السبعة: بالفتح، وعليّ وابن كثير في رواية، وعاصم في رواية: بفتحها في {لترون}، وضمها في {لترونها}، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة: بضمهما. وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت، وكان القياس أن لا تهمز، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها. لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة، فهمز هذه أولى.
{ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}: الظاهر العموم في النعيم، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب، فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف، والكافر سؤال توبيخ وتقريع. وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد: هو الأمن والصحة. وعن ابن عباس: البدن والحواس فيم استعملها. وعن ابن جبير: كل ما يتلذذ به. وفي الحديث: «بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم».