فصل: سورة الماعون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة الماعون:

.تفسير الآيات (1- 7):

{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)}
الظاهر أن {أرأيت} هي التي بمعنى أخبرني، فتتعدى لاثنين، أحدهما الذي، والآخر محذوف، فقدره الحوفي: أليس مستحقاً عذاب الله، وقدره الزمخشري: من هو، ويدل على أنها بمعنى أخبرني. قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية. قال الحوفي: ويجوز أن تكون من رؤية البصر، فلا يكون في الكلام حذف، وهمزة الاستفهام تدل على التقرير والتفهيم ليتذكر السامع من يعرفه بهذه الصفة. والدين: الجزاء بالثواب والعقاب. وقال الزمخشري: والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء؟ هو الذي {يدع اليتيم}: أي يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوة أو أذى، {ولا يحض}: أي ولا يبعث أهله على بذل الطعام للمسكين. جعل علم التكذيب بالجزاء، منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، انتهى. وقرأ الجمهور: {يدع} بضم الدال وشد العين؛ وعليّ والحسن وأبو رجاء واليماني: بفتح الدال وخف العين، أي يتركه بمعنى لا يحسن إليه ويجفوه. وقرأ الجمهور: {ولا يحض} مضارع حض؛ وزيد بن علي: يحاض مضارع حاضضت. وقال ابن عباس: {بالدين}: بحكم الله. وقال مجاهد: بالحساب، وقيل: بالجزاء، وقيل: بالقرآن. وقال إبراهيم ابن عرفة: {يدع اليتيم}: يدفعه عن حقه. وقال مجاهد: يدفعه عن حقه ولا يطعمه، وفي قوله: {ولا يحض} إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدره، وهذا من باب الأولى، لأنه إذا لم يحض غيره بخلاً، فلان يترك هو ذلك فعلاً أولى وأحرى، وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه يستحقه.
ولما ذكر أولاً عمود الكفر، وهو التكذيب بالدين، ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق، وهو عبادته بالصلاة، فقال: {فويل للمصلين}. والظاهر أن المصلين هم غير المذكور. وقيل: هو داع اليتيم غير الحاض، وأن كلاً من الأوصاف الذميمة ناشئ عن التكذيب بالدين، فالمصلون هنا، والله أعلم، هم المنافقون، ثبت لهم الصلاة، وهي الهيئات التي يفعلونها. ثم قال: {الذين هم عن صلاتهم ساهون}، نظراً إلى أنهم لا يوقعونها، كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى. وفي الحديث عن صلاتهم ساهون: «يؤخرونها عن وقتها تهاوناً بها» قال مجاهد: تأخير ترك وإهمال. وقال إبراهيم: هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ملتفتاً. وقال قتادة: هو الترك لها، أو هم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم أصلى أم لم يصل. وقال قطرب: هو الذي لا يقر ولا يذكر الله تعالى. وقال ابن عباس: المنافقون يتركون الصلاة سراً ويفعلونها علانية، {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} ويدل على أنها في المنافقين قوله تعالى: {الذين هم يراءون}، وقاله ابن وهب عن مالك. قال ابن عباس: ولو قال في صلاتهم لكانت في المؤمنين. وقال عطاء: الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم.
وقال الزمخشري: بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن {فذلك الذي يدع} في موضع رفع، قال: وطريقة أخرى أن يكون {فذلك} عطفاً على {الذي يكذب}، إما عطف ذات على ذات، أو عطف صفة على صفة، ويكون جواب {أرأيت} محذوفاً لدلالة ما بعده عليه، كأن قال: أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء، وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين، أنعم ما يصنع؟ ثم قال: {فويل للمصلين}: أي إذا علم أنه مسيء، {فويل للمصلين} على معنى: فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم لأنهم كانوا مع التكذيب، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم. فإن قلت: كيف جعلت المصلين قائماً مقام ضمير {الذي يكذب}، وهو واحد؟ قلت: معناه الجمع، لأن المراد به الجنس، انتهى. فجعل فذلك في موضع نصب عطفاً على المفعول، وهو تركيب غريب، كقولك: أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا، فالمتبادر إلى الذهن أن فذلك مرفوع بالابتداء، وعلى تقدير النصب يكون التقدير: أكرمت الذي يزورنا فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا. فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى الذي يزورنا، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا. وأما قوله: إما عطف ذات على ذات فلا يصح، لأن فذلك إشارة إلى الذي يكذب، فليسا بذاتين، لأن المشار إليه بقوله: {فذلك} هو واحد. وأما قوله: ويكون جواب {أرأيت} محذوفاً، فلا يسمى جواباً، بل هو في موضع المفعول الثاني لأرأيت. وأما قوله: أنعم ما يصنع، فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس، لأنهما إنشاء، والاستفهام لا يدخل إلى على الخبر. وأما وضعه المصلين موضع الضمير، وأن المصلين جمع، لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع، فتكلف واضح ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة. وتقدّم الكلام في الرياء في سورة البقرة.
وقرأ الجمهور: يراءون مضارع راأى، على وزن فاعل؛ وابن أبي إسحاق والأشهب: مهموزة مقصورة مشدّدة الهمزة؛ وعن ابن أبي إسحاق: بغير شد في الهمزة. فتوجيه الأولى إلى أنه ضعف الهمزة تعدية، كما عدوا بالهمزة فقالوا في رأى: أرى، فقالوا: راأى، فجاء المضارع بأرى كيصلى، وجاء الجمع يروّون كيصلون، وتوجيه الثانية أن استثقل التضعيف في الهمزة فخففها، أو حذف الألف من يراءون حذفاً لا لسبب. {ويمنعون الماعون}، قال ابن المسيب وابن شهاب: الماعون، بلغة قريش: المال. وقال الفرّاء عن بعض العرب: الماعون: الماء. وقال ابن مسعود وابن عباس وابن الحنفية والحسن والضحاك وابن زيد: ما يتعاطاه الناس بينهم، كالفأس والدلو والآنية.
وفي الحديث: «سئل صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي لا يحل منعه فقال: الماء والملح والنار» وفي بعض الطرق: الإبرة والخمير. وقال عليّ وابن عمر وابن عباس أيضاً: الماعون: الزكاة، ومنه قول الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر ** حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله من أموالنا ** حق الزكاة منزلاً تنزيلا

قوم على الإسلام لما يمنعوا ** ما عونهم ويضيعوا التهليلا

يعني بالماعون: الزكاة، وهذا القول يناسبه ما ذكره قطرب من أن أصله من المعن، وهو الشيء القليل، فسميت الزكاة ماعوناً لأنها قليل من كثير، وكذلك الصدقة غيرها. وقال ابن عباس: هو العارية. وقال محمد بن كعب والكلبي: هو المعروف كله. وقال عبد الله بن عمر: منع الحق. وقيل: الماء والكلأ.

.سورة الكوثر:

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}
وقرأ الجمهور: {أعطيناك} بالعين؛ والحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني: أنطيناك بالنون، وهي قراءة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال التبريزي: هي لغة للعرب العاربة من أولي قريش. ومن كلامه صلى الله عليه وسلم: «اليد العلياء المنطية واليد السفلى المنطاة» ومن كلامه أيضاً، عليه الصلاة والسلام: «وأنطوا النيحة» وقال الأعشى:
جيادك خير جياد الملوك ** تصان الحلال وتنطى السعيرا

قال أبو الفضل الرازي وأبو زكريا التبرزي: أبدل من العين نوناً؛ فإن عنيا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن، وإن عنيا البدل الصناعي فليس كذلك، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرّف من كل واحدة، فلا يقول الأصل العين، ثم أبدلت النون منها.
وذكر في التحرير: في الكوثر ستة وعشرين قولاً، والصحيح هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «هو نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم، واقتطعنا منه، قال: «أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم» انتهى. قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها.
وقال ابن عباس: الكوثر: الخير الكثير. وقيل لابن جبير: إن ناساً يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير. وقال الحسن: الكوثر: القرآن. وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب: كثرة الأصحاب والأتباع. وقال هلال بن يساف: هو التوحيد. وقال جعفر الصادق: نور قلبه دله على الله تعالى وقطعه عما سواه. وقال عكرمة: النبوّة. وقال الحسن بن الفضل: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع. وقال ابن كيسان: الإيثار. وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل، لا أن الكوثر منحصر في واحد منها. والكوثر فوعل من الكثرة، وهو المفرط الكثرة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر. وقال الشاعر:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ** وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

{فصل لربك وانحر}: الظاهر أن فصل أمر بالصلاة يدخل فيها المكتوبات والنوافل. والنحر: نحر الهدى والنسك والضحايا، قاله الجمهور؛ ولم يكن في ذلك الوقت جهاد فأمر بهذين. قال أنس: كان ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة، فأمر أن يصلي وينحر، وقاله قتادة. وقال ابن جبير: نزلت وقت صلح الحديبية. قيل له: صل وانحر الهدى، فعلى هذا الآية من المدني. وفي قوله: {لربك}، تنذير بالكفار حيث كانت صلاتهم مكاء وتصدية، ونحرهم للأصنام.
وعن علي، رضي الله تعالىعنه: صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة. وقيل: ارفع يديك في استفتاح صلاتك عند نحرك. وعن عطية وعكرمة: هي صلاة الفجر بجمع، والنحر بمنى. وقال الضحاك: استو بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحرك. وقال أبو الأحوص: استقبل القبلة بنحرك.
{إن شانئك}: أي مبغضك، تقدم أنه العاصي بن وائل. وقيل: أبو جهل. وقال ابن عباس: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر محمد، فأنزل الله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر}. وقال شمر بن عطية: هو عقبة بن أبي معيط. وقال قتادة: الأبتر هنا يراد به الحقير الذليل. وقرأ الجمهور: {شانئك} بالألف؛ وابن عباس: شينك بغير ألف. فقيل: مقصور من شاني، كما قالوا: برر وبر في بارر وبار. ويجوز أن يكون بناء على فعل، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين. وقد قالوا: حذر أموراً ومزقون عرضي، فلا يستوحش من كونه مضافاً للمفعول، وهو مبتدأ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون فصلاً، أي هو المنفرد بالبتر المخصوص به، لا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجميع المؤمنين أولاده، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر. يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكره صلى الله عليه وسلم، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف صلى الله عليه وسلم وعلى آله وشرف وكرم.

.سورة الكافرون:

.تفسير الآيات (1- 6):

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}
وفي قوله: {قل} دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم، ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الأرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم. والكافرون ناس مخصوصون، وهم الذين قالوا له تلك المقالة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية وأبيّ ابنا خلف، وأبو جهل، وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم، ووافى على الكفر تصديقاً للإخبار في قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد}. وللمفسرين في هذه الجمل أقوال:
أحدها: أنها للتوكيد. فقوله: {ولا أنا عابد ما عبدتم} توكيداً لقوله: {لا أعبد ما تعبدون}، وقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ثانياً تأكيد لقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أولاً. والتوكيد في لسان العرب كثير جداً، وحكوا من ذلك نظماً ونثراً ما لا يكاد يحصر. وفائدة هذا التوكيد قطع أطماع الكفار، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبداً.
والثاني: أنه ليس للتوكيد، واختلفوا. فقال الأخفش: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، فزال التوكيد، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير.
وقال أبو مسلم: ما في الأوليين بمعنى الذي، والمقصود المعبود. وما في الأخريين مصدرية، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين. وقال ابن عطية: لما كان قوله: {لا أعبد} محتملاً أن يراد به الآن، ويبقى المستأنف منتظراً ما يكون فيه، جاء البيان بقوله: {ولا أنا عابد ما عبدتم} أبداً وما حييت. ثم جاء قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون به أبداً، كالذي كشف الغيب. فهذا كما قيل لنوح عليه السلام: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} أما أن هذا في معينين، وقوم نوح عموا بذلك، فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة، وليس بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، انتهى.
وقال الزمخشري: {لا أعبد}، أريدت به العبادة فيما يستقبل، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
{ولا أنا عابد ما عبدتم}: أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني: لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام؟ {ولا أنتم عابدون ما أعبد}: أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
فإن قلت: فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم؟ قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت، انتهى. أما حصره في قوله: لأن لا لا تدخل، وفي قوله: ما لا تدخل، فليس بصيح، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم. وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر، إنما قال: وتكون لا نفياً لقوله يفعل ولم يقع الفعل. وقال: وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل، فذكر الغالب فيهما.
وأما قوله: في قوله {ولا أنا عابد ما عبدتم}: أي وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، فلا يستقيم، لأن عابداً اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم، فلا يفسر بالماضي، إنما يفسر بالحال أو الاستقبال؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضياً.
وأما قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد}: أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته، فعابدون قد أعمله فيما أعبد، فلا يفسر بالماضي. وأما قوله، وهو لم يكن إلى آخره، فسوء أدب منه على منصب النبوة، وهو أيضاً غير صحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل موحداً لله عز وجل منزهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله، مجتنباً لأصنامهم بحج بيت الله، ويقف بمشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وهذه عبادة لله تعالى، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم! والمعرفة بالله تعالى من أعظم العبادات، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قال المفسرون: معناه ليعرفون. فسمى الله تعالى المعرفة به عباده.
والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولاً: نفى عبادته في المستقبل، لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل، قيل: ثم عطف عليه {ولا أنتم عابدون ما أعبد} نفياً للمستقبل على سبيل المقابلة؛ ثم قال: {ولا أنا عابد ما عبدتم} نفياً للحال، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال؛ ثم عطف عليه {ولا أنتم عابدون ما أعبد} نفياً للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد ما يعبدون، لا حالاً ولا مستقبلاً، وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر. ولما قال: {لا أعبد ما تعبدون}، فأطلق ما على الأصنام، قابل الكلام بما في قوله: {ما أعبد}، وإن كانت يراد بها الله تعالى، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد، وهذا على مذهب من يقول: إن ما لا تقع على آحاد من يعلم.
أما من جوّز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل. وقيل: ما مصدرية في قوله: {ما أعبد}. وقيل: فيها جميعها. وقال الزمخشري: المراد الصفة، كأنه قيل: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق.
{لكم دينكم ولي دين}: أي لكم شرككم ولي توحيدي، وهذا غاية في التبرؤ. ولما كان الأهم انتفاءه عليه الصلاة والسلام من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه. ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله: {لكم دينكم} على سبيل المهادنة، وهي منسوخة بآية السيف. وقرأ سلام: ديني بياء وصلاً ووقفاً، وحذفها القراء السبعة، والله تعالى أعلم.