فصل: تفسير الآيات (102- 112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (102- 112):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}
أصبح: من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح. وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضاً، وتأتي أيضاً لازمة تقول: أصبحت أي دخلت في الصباح. وتقول: أصبح زيد، أي أقام في الصباح ومنه. إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح، أي مقيم في الصباح.
شفا الشيء طرفه وحرفه، وهو من ذوات الواو، وتثنيته: شفوان، وهو حرف كل جرم له مهوى كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار. ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى نحو: شفا جرف. وإلى الأسف نحو: شفا حفرة. ويقال: أشفى على كذا أي أشرف. ومنه أشفى المريض على الموت. قال يعقوب: يقال للرجل عند موته وللقمر عند محاقه وللشمس عند غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي قليل..
الحفرة: معروفة وهي واحدة الحفر، فعلة بمعنى مفعوله، كغرفة من الماء. أنقذ خلص.
الابيضاض والاسوداد معروفان، ويقال: بيض فهو أبيض. وسود: فهو أسود، ويقال: هما أصل الألوان. ذاق الشيء استطعمه، وأصله بالفم ثم استعير لكل ما يحس ويدرك على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم. تقول العرب: قد ذقتُ من إكرام فلان ما يرغبني في قصده. ويقولون: ذقِ الفرقَ واعرف ما عنده. وقال تميم بن مقبل:
أو كاهتزاز رديني تذاوقه ** أيدي التجار فزادوا متنه لينا

وقال آخر:
وإن الله ذاق حلوم قيس ** فلما راء حفتها قلاها

يعنون بالذوق العلم، إما بالحاسة، وإما بغيرها. ثققت الرجل غلبته وظفرت به.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}. لما حذرهم تعالى من إضلال مَنْ يريدُ إضلالهم، أمرهم بمجامع الطاعات، فرهبهم أولاً بقوله: اتقوا الله، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله، ثم جعلها سبباً للأمر بالاعتصام بدين الله، ثم أردف الرهبة بالرغبة، وهي قوله: {واذكروا نعمة الله عليكم} وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر هو من تمام الاعتصام. قال ابن مسعود، والربيع، وقتادة، والحسن: حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وروي مرفوعاً. وقيل: حق تقاته اتقاء جميع معاصيه. وقال قتادة، والسدي، وابن زيد، والربيع: هي منسوخة بقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} أمروا أولاً بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم نسخ. وقال ابن عباس، وطاوس: هي محكمة. {واتقوا الله ما استطعتم} بيان لقوله: اتقوا الله حق تقاته. وقيل: هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه. وقيل: لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقال ابن عباس: المعنى جاهدوا في الله حق جهاده. وقال الماتريدي: وفي حرف حفصة اعبدوا الله حق عبادته. وتقاة هنا مصدر، وتقدم الكلام عليه في
{إلا أن تتقوا منهم تقاة} قال ابن عطية: ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ كان لم يتصرف منه، فيكون: كرماة ورام، أو يكون جمع تقي، إحد فعيل وفاعل بمنزلة. والمعنى على هذا: اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى انتهى كلامه. وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ، إذ الظاهر أنّ قوله: حقّ تقاته من باب إضافة إلى موصوفها، كما تقول: ضربت زيداً شديد الضرب، أي الضرب الشديد. فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق، أي الواجب الثابت. أما إذا جعلت التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل: اضرب زيداً حق ضرابه، فلا يدل هذا التركيب على معنى: اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه. بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى، والتقدير: اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه. ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ.
{ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا وهم متلبسون بالإسلام. والمعنى: دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه. ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم: لا أرينك ههنا، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك. وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله: {إن الله اصطفى لكم الدّين} الآية والجملة من قوله: وأنتم مسلمون حالية، والاستثناء مفرع من الأحوال. التقدير: ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام. ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر الضمير، وللمواجهة فيها بالخطاب. وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل، ومستصحبة. وأمّا لو قيل: مسلمين، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً.
{واعتصموا بحبل الله جميعاً} أي استمسكوا وتحصّنوا. وحبل الله: العهْد، أو القرآن، أو الدين، أو الطاعة، أو إخلاص التوبة، أو الجماعة، أو إخلاص التوحيد، أو الإسلام. أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض. وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا تخلق على كثرة الردّ من قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم» وقولهم: اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه. ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد، وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير في {واعتصموا} {ولا تفرقوا} نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى.
وقيل: عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية. وقيل: عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع. وقد تعلق بهذه الآية فريقان: نفاةُ القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة، ومثبتو القياس والاجتهاد. قال الأولون، غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف ديناً لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه. وقال الآخرون: التفرق المنهى عنه هو في أصول الدين والإسلام. {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} الخطاب لمشركي العرب قاله: الحسن وقتادة يعني مَن آمن منهم، إذ كان القويُّ يستبيح الضعيف. وقيل: للأوس والخزرج. ورجح هذا بأن العرب وقت نزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام، ولا مؤتلفة القلوب عليه، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي، بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأنَّ ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك. إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية. أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحواً من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف الله بينهم بالإسلام. وكان أعني الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم. وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها. وبدأ أولاً بذكر النعمة الدنيوية لأنّها أسبق بالفعل، ولاتصالها بقوله: {ولا تفرقوا} وصار نظير {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت} ومعنى فأصبحتم، أي صرتم. وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح، وتستعمل بمعنى صار، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال. وعليه قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير أن نفرا

قال ابن عطية: فأصبحتم عبارة عن الاستمرار، وإنْ كانت اللفظة مخصوصة بوقت مّا، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال. فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرا

وهذا الذي ذكره: من أن أصبح للاستمرار، وعلله بما ذكره لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما.
وجوز الحوفي في «إذ» أن ينتصب باذكروا، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة. أي إنعام الله، وبالعامل في عليكم. إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة، وجوزا أيضاً تعلق عليكم بنعمة، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال يعمل فيها أصبح، أو ما تعلق به الجاروالمجرور. وأن يكون إخواناً خبر أصبح والجار حال يعمل فيه أصبح، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته. وأن يكون أصبحتم تامة، وبنعمته متعلق به، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخواناً، وإخواناً حال. والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخواناً خبر، وبنعمته متعلق بأصبحتم، والباء للسبب لا ظرفية.
وقال بعض الناس: الأخ في الدين يجمع إخواناً، ومن النسب إخوة، هكذا كثر استعمالهم. وفي كتاب الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} والصحيح أنهما يقالان من النسب. وفي الدين: وجمع أخ على إخوة لا يراه سيبويه، بل أخوة عنده اسم جمع، لأن فعلاً لا يجمع على فعلة. وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع، لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء. والضمير في منها عائد على النار، وهو أقرب مذكور، أو على الحفرة. وحكى الطبري أن بعض الناس قال: يعود على الشفا، وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث. كما قال جرير:
أرى مر السنين أخذن مني ** كما أخذ السرار من الهلال

قال ابن عطية: وليس الأمر كما ذكروا، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معاداً للضمير إلا الشفا. وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، ويعضده المعنى المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى. وأقول: لا يحسن عوده إلا على الشفا، لأنّ كينونتهم على الشفا هو أحد جزئي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه. وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا قلت: كان زيد غلام جعفر، لم يكن جعفر محدثاً عنه، وليس أحد جزئي الإسناد. وكذلك لو قلت: ضرب زيد غلام هند، لم تحدث عن هند بشيء، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً مخصصاً للمحدث عنه. أمّا ذكر النار. فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة، وليست أيضاً أحد جزئي الإسناد، لا محدثاً عنها. وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار، لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا. فعودُهُ على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها. وقيل: شبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً، فأنقذهم الله بالإسلام.
وقال السدي: بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية: والله ما أنقذهم منها، وهو يريد أن يوقعهم فيها. فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه. وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام الأنصار وما شجر بينهم بعد الإسلام، وزوال ذلك ببركات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}: تقدم الكلام على مثل هذه الجملة، إلا أنَّ آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها. وقال الزمخشري: «لعلكم تهتدون» إرادة أن تزدادوا هدىً. وقال ابن عطية: وقوله لعلكم تهتدون في حق البشر، أي مَنْ تأمل منكم الحال رجاء الإهتداء. فالزمخشري جعل الترجي مجازاً عن إرادة الله زيادة الهدى، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى، إذ يستحيل الترجي من الله تعالى، وفي كلا القولين المجاز. أما في قول الزمخشري فحيثُ جعل الترجي بمعنى إرادة الله، وأمّا في قول ابن عطية فحيثُ أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر.
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} الأمر متوجه لمن بتوجه الخطاب عليهم. قيل: وهم الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور. وأمرُه لهم بذلك أمرٌ لجميع المؤمنين، ومن تابعهم إلى يوم القيامة، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم. ويحتمل أن يكونَ الخطاب عاماً فيدخل فيه الأوس والخزرج. والظاهرُ أنَّ قوله {منكم} يدل على التبعيض، وقاله: الضحاك والطبري. لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر، وكيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشر؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر، ونهى عن معروف، وربما عرف حكماً في مذهبه مخالفاً لمذهب غيره، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس. فعلى هذا تكون مِنْ للتبعيض، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة، وهم الذين يصلحون لذلك. وذهب الزجاج إلى أن مِنْ لبيان الجنس، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة. وظاهر هذا الأمر الفرضية، فالجمهور على أنه فرض كفاية، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين. وذهب جماعة، من العلماء إلى أنه فرض عين، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر على ذلك وتمكّن منه. واختلفوا في الذي يسقط الوجوب. فقال قوم: الخشية على النفس، وما عدا ذلك لا يسقطه. وقال قوم: إذا تحقق ضرباً أو حبساً أو إهانة سقط عنه الفرض، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيّد ذلك بالسنَّة بقولِه صلى الله عليه وسلم:
«من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» ولم يدفع أحد من علماء الأمة سَلَفها وخلَفها وجوب ذلك إلا قوم من الحشوية وجهَّال أهل الحديث، فإنّهم أنكروا فعال الفئة الباغية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، مع ما سمعوا من قوله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} وزعموا أنّ السلطان لا يُنكرُ عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح. وقد ذكر أبو بكر الرازي في أحكامه فصلاً مشبعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر فيه أنّ دماء أصحابِ الضرائب والمكوس مباحة، وأنه يجب على المسلمين قتلهم، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول.
يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل، أو العمل بطاعة الله قاله أبو سليمان الدمشقي، أو الجهاد والإسلام. وقرأ الجمهور: ولْتكن بسكون اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، والزهري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة: بكسرها، وعلَّةُ بنائها على الكسر مذكورة في النحو. وجوزوا في «ولتكن» أن تكون تامة، فيكون منكم متعلقاً بها، أو بمحذوف على أنه حال، إذ لو تأخر لكان صفة لأمّة. وأن تكون ناقصة، ويدعون الخبر، وتعلق من على الوجهين السابقين. وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ منكم الخبر، ويدعون صفة. ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر.
و{يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ذكر أولاً الدعاء إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك، ثم جيء بالخاص إعلاماً بفضله وشرفه لقوله: {وجبريل وميكال} و{والصلاة الوسطى} وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد، والمنكر بالكفر. ولا شك أن التوحيد رأس المعروف، والكفر رأس المنكر. ولكنَّ الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع. وذكر المفسرون أحاديث مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي إثم من ترك ذلك، وآثاراً عن الصحابة وغيرهم في ذلك، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم؟ أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي؟ وهذا على آراء المعتزلة. وأما شرائط النهي والوجوب، ومن يباشر، وكيفية المباشرة، وهل ينهى عما يرتكبه، لم تتعرض الآية لشيء من ذلك، وموضوع هذا كله علم الفقه.
وقرأ عثمان، وعبد الله، وابن الزبير: وينهون عن المنكر، ويستعينون الله على ما أصابهم. ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف، فلا يكون قرآناً. وفيها إشارة إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما قال تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} وأولئك هم المفلحون: تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة. وهو تبشير عظيم، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة.
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} هذه والآية قبلها كالشرح لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} فشرح الاعتصام بحبل الله بقوله: {ولتكن منكم أمة} ولاسيما على قول الزجاج. وشرح {ولا تفرقوا} بقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} قال ابن عباس: هم الأمم السالفة التي افترقت في الدين. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى اختلفوا وصاروا فرقاً. وقال: قتادة هم أصحاب البدع من هذه الأمة. زاد الزمخشري: وهم المشبهة، والمجبرة، والحشوية، وأشباههم. وقال أبو أمامة: هم الحرورية، وروي في ذلك حديث: قال بعض معاصرينا: في قول قتادة وأبي أمامة نظر، فإنّ مبتدعة هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بزمان، وكيف نهى الله المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد انقطاع الوحي وموت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإنّك لا تنهى زيداً أنْ يكونَ مثلَ عمرو إلا بعد تقدّم أمر مكروه جرى من عمرو، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون تفرقوا واختلفوا من الماضي الذي أُريد به المستقبل، فيكون المعنى: ولا تكونوا كالذين يتفرقون ويختلفون، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع. انتهى كلامه. والبيِّناتُ على قول ابن عباس: آياتُ الله التي أنزلت على أهل كل ملة. وعلى قول الحسن: التوراة. وعلى قول قتادة وأبي أمامة: القرآن {وأولئك لهم عذاب عظيم} يتّصفُ عذابُ الله بالعظيم، إذ هو أمر نسبي يتفاوت فيه رتب المعذَّبين، كعذاب أبي طالب وعذاب العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
{يوم تبيضُّ وجوه وتسودّ وجوه} الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون. والبياض من النور، والسواد من الظلمة. قال الزمخشري: فمن كان من أهل نور الدين وُسمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسمَ بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. انتهى كلامه. وقال ابن عطية: وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله قاله الزجاج وغيره. ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم: «أأنتم الغر المحجلون» من آثار الوضوء. وأما سوادُ الوجوه فقال المفسرون: هو عبارة عن ارتدادها وإظلامها بغمم العذاب. ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم، على نحو حشرهم زرقاً، وهذه أقبح طلعة.
ومن ذلك قول بشار:
وللبخيل على أمواله علل ** زرق العيون عليها أوجه سود

انتهى كلامه. وقال قوم: البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله تعالى: {ظل وجهه مسوداً} وكقول العرب لمن نال أمنيته: ابيض وجهه. ولمن جاء خائباً: جاء مسودّ الوجه. وقال أبو طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ** وقال امرؤ القيس:

وأوجههم عند المشاهد غران ** وقال زهير:

وأبيض فياض يداه غمامة

وبدأ بالبياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى. وأسند الابيضاضَ والاسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه، وهو أشرف أعضائه. والمراد: وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبيُّ بن كعب. وقيل: وجوه المهاجرين والأنصار، ووجوه بني قريظة والنضير. وقيل: وجوه السنة، ووجوه أهل البدعة. وقال عطاء: وجوه المخلصين، ووجوه المنافقين. وقيل: وجوه المؤمنين، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين. وقيل: وجوه المجاهدين، ووجوه الفرار من الزحف. وقيل: تبيضّ بالقناعة، وتسودّ بالطمع. وقال الكلبي: تسفر وجوه من قدر على السجود إذا دعوا إليه، وتسودّ وجوه مَنْ لم يقدر.
واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها، فقيل: وقت البعث من القبور. وقيل: وقت قراءة الصحف. وقيل: وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان. وقيل: عند قوله: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون}
وقيل: وقت أنْ يُؤمَرَ كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في {يوم تبيض} ما يتعلق به. ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه. وقال الحوفي: العامل، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة، أي: يعذبون يوم تبيض وجوه. وقال الزمخشري: بإضمار اذكروا، أو بالظرف وهو لهم. وقال قوم: العامل عظيم، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم، ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب، لأنه مصدر قد وصف. وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو رزين العقيلي، وأبو نهيك: تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما، وهي لغة تميم: وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء: تبياض وتسواد بألف فيهما. ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد، ولم ينقل أنه قرئ بذلك.
{فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ. وابتدئ بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم، ولمجاورة قوله: وتسودّ وجوه، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم. فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع، ويشرح الصدر. وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها، والخبر هنا محذوف للعلم به. والتقدير: فيقال لهم: أكفرتم؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} أي يقولون: سلام عليكم. ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله:
فأمّا القتال لا قتال لديكم ** ولكنّ سيرا في عرض المواكب

يريد فلا قتال، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل: قد اعترض على النحاة في قولهم: لما حذف. يقال: حذفت الفاء بقوله تعالى: {وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} تقديره فيقال لهم: أفلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف فيقال، ولم تحذف الفاء. فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، فوقع ذلك جواباً له. ولقوله: أكفرتم، ومن نظم العرب: إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً، كما في قوله تعالى: {فإمّا يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فقوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين، وليس أفلم جواب أمّا، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير: أأهملتكم، فلم أتل عليكم آياتي. انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي. أمّا قوله: قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى الخطاب، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه، فالقول بخلافه مخالف للإجماع، فلا التفات إليه. وأمّا ما اعترض به من قوله: {وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي} وأنهم قدروه فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فحذف فيقال: ولم تحذف الفاء، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف، فيقال: وبقيت الفاء، بل الفاء التي هي جواب أمّا، ويقال بعدها محذوف. وفاء أفلم تحتمل وجهين، أحدهما أن تكون زائدة. وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر:
يموت أناس أو يشيب فتاهم ** ويحدث ناس والصغير فيكبر

يريد: يكبر وقول الآخر:
لما اتقى بيد عظيم جرمها ** فتركت ضاحي جلدها بتذبذب

يريد: تركت. وقال زهير:
أراني إذا ما بت بتّ على هوى ** فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا

يريد ثم. وقول الأخفش: وزعموا أنهم يقولون أخوك، فوجد يريدون أخوك وجد. والوجه الثاني: أن تكون الفاء تفسيرية، وتقدم الكلام فيقال لهم: ما يسوؤهم، فإلم تكن آياتي، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله: {أفلم يسيروا في الأرض} وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو: توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء. فالفاء هنا ليست مرتبة، وإنما هي مفسرة للوضوء.
كذلك تكون في {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل. فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل، وأنه سواء في الآيتين. وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو، فيقال في الموضعين، ومعنى الكلام عليه. وأمّا تقديره: أأهملتكم، فلم تكن آياتي، فهذه نزعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة، لكنْ اعتنى بالاستفهام، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين. وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو. وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك. وعلى تقدير قول هذا الرجل: أأهملتكم، فلابد من إضمار القول وتقديره، فيقال: أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ، والفاء جواب أما. وهو الذي يدل عليه الكلام، ويقتضيه ضرورة. وقول هذا الرّجل: فوقع ذلك جواباً له، ولقوله: أكفرتم، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا، ولقوله: أكفرتم؟ والاستفهام هنا لا جواب له، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم. وأمّا قول هذا الرّجل: ومن نظم العرب إلى آخره، فليس كلام العرب على ما زعم، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: {فإما يأتينكم} الآية. وزعمه أن قوله تعالى: {فلا خوف عليهم} جواب للشرطين. فقولٌ روي عن الكسائي. وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره: فاتبعوه. والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول. وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله: {فإما يأتينكم} الآية. والهمزة في {أكفرتم} للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم. والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم، فإنْ كانوا الكفار فالتقدير: بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم كالذرّّ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان. وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه، وكفرهم به بعده، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم. وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله: {أكفرتم}. قالوا: تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات، لأن قوله: فأما الذين اسودت غيبة، وأكفرتم مواجهة بما كنتم، الباء سببية وما مصدرية.
{وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم.
ولما أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة الله بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم، وأن العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. وقال ابن عباس: المراد بالرحمة هنا الجنة، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ جانب الرحمة أغلب. وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه، بل قال: {فذوقوا العذاب} ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة. وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر: فأما الذين اسوادت، وأما الذين ابياضت بألف. وأصل افعلّ هذا افعلل يدل، على ذلك اسوددت واحمررت، وأن يكون للون أو عيب حسي، كأسود، وأعوج، واعور. وأن لا يكون من مضعف كاحم، ولا معتل لام كألمى، وأنْ لا يكون للمطاوعة. وندر نحو: انقضّ الحائط، وابهار الليل، وإشعار الرجل بفرق شعره، وشذا رعوى، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعاً لرعوته بمعنى كففته. وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها، ولزومه إذا لم يجأ بهما. وقد يكون العكس. فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى: {مدهامتان} ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى: {تزاور عن كهفهم} واحمرّ خجلاً. وجواب أما ففي الجنة، والمجرور خبر المبتدأ، أي فمستقرون في الجنة. وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لم تدخل في حيز أما، ولا في إعراب ما بعده. دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود. وقال الزمخشري: (فإن قلت) كيف موقع قوله: هم فيها خالدون بعد قوله: ففي رحمة الله؟ (قلت): موقع الاستئناف. كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى. وهو حسن. وقيل: جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون، وهم فيها خالدون ابتداء. وخبر وخالدون العامل في الظرفين، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم.
{تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين} الإشارة بتلك قيل: إلى القرآن كله. وقيل: إلى ما أنزل من الآيات في أمر الأوس والخزرج واليهود الذين مكروا بهم، والتقدم إليهم بتجنب الافتراق. وكشف تعالى للمؤمنين عن حالهم وحال أعدائهم بقوله: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} وقيل: تلك بمعنى هذه لما انقصت صارت كأنها بعدت. وقال الزمخشري: تلك آيات الله الواردة في الوعد والوعيد، وكذا قال ابن عطية. قال الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفارة وتنعيم المؤمنين.
وقرأ الجمهور نتلوها بالنون على سبيل الالتفات، لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف. وقرأ أبو نهيك بالياء. والأحسن أنْ يكون الضمير المرفوع في نتلوها في هذه القراءة عائد على الله، ليتحد الضمير. وليس فيه التفات، لأنه ضمير غائب عاد على اسم غائب. ومعنى التلاوة: القراءة شيئاً بعد شيء، وإسناد ذلك إلى الله على سبيل المجاز، إذ التالي هو جبريلٌ لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو التالي تعالى. وقيل: يجوز أن يكون معنى يتلوها ينزلها متوالية شيئاً بعد شيء. وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائداً على جبريل وإنْ لم يجر له ذكر للعلم به.
ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق. وقيل: المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من كرامة قوم وتعذيب آخرين. وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره، ونتلوها جملة حالية. قالوا: والعامل فيها اسم الإشارة. وجوزوا أن يكون آيات الله بدلاً، والخبر نتلوها. وقال الزجاج: في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله انتهى. فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف، لأنّه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية. ولا حاجة إلى تقدير هذا المحذوف، إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه. والباء في بالحق باء المصاحبة، فهي في الموضع الحال من ضمير المفعول أي: ملتبسة بالحق. وقال الزمخشري: ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه انتهى. فدسّ في قوله بما يستوجبانه دسيسة اعتزالية. ثم أخبر تعالى أنه لا يريد الظلم، وإذا لم يرده لم يقع منه لأحد. فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه. روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا» وفي الحديث الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدّنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدّنيا ما عمل لله بها، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها» وقيل: المعنى لا يزيد في إساءة المسيء ولا ينقص من إحسان المحسن، وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل انتهى.
وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم، والفاعل محذوف مع المصدر التقدير: ظلمه، والعائد هو ضمير الله تعالى أي: ليس الله مريداً أن يظلم أحداً من العالمين. ونكر ظلماً لأنّه في سياق النفي، فهو يعم. وقيل: المعنى أنه تعالى لا يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض. واللفظ ينبو عن هذا المعنى، إذ لو كان هذا المعنى مراداً لكان من أحق به من الكلام، فكان يكون التركيب: وما الله يريد ظلماً من العالمين.
وقال الزمخشري: وما الله يريد ظلماً فيأخذ أحداً بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن، ثم قال: فسبحان من يحلم عن من يصفه بإرادة القبائح والرّضا بها، انتهى كلامه جارياً على مذهبه الاعتزالي. ونقول له: فسبحان من يحلم عمن يصفه بأن يكون في ملكه ما لا يريد، وإن إرادة العبد تغلب إرادة الرب تعالى الله عن ذلك.
{ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور} لما ذكر أحوال الكافرين والمؤمنين، وأنه يختص بعمل من آمن فيرحمهم به، ويختص بعمل من كفر فيعذبهم، نبه على أنَّ هذا التصرف هو فيما يملكه، فلا اعتراض عليه تعالى. ودلت الآية على اتساع ملكه ومرجع الأمور كلها إليه، فهو غني عن الظلم، لأن الظلم إنما يكون فيما كان مختصاً به عن الظالم. وتقدم شرح هاتين الجملتين فأغنى ذلك عن إعادته.
قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق: في تبيضّ وتسودّ، وفي اسودّت وابيضّت، وفي أكفرتم بعد إيمانكم، وفي بالحق وظلماً. والتفصيل: في فأمّا وأمّا. والتجنيس: المماثل في أكفرتم وتكفرون. وتأكيد المظهر بالمضمر في: ففي رحمة الله هم فيها خالدون. والتكرار: في لفظ الله. ومحسنه: أنه في جمل متغايرة المعنى، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر، لأن في ذكره دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه، وليس ذلك نظير:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء

لاتحاد الجملة. لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً للتفخيم. والإشارة في قوله: تلك، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع.
{كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وقد قال لهم بعض اليهود: ديننا خير مما تدعوننا إليه، ونحن خير وأفضل. وقيل: نزلت في المهاجرين. والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواهٍ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ، وشيء من أحوالهم في الآخرة، ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى: كنتم خير أمّة تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية. والظاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون الإشارة بقوله: أمة إلى أمةٍ معينة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالصحابة هم خيرها.
وقال الحسن ومجاهد وجماعة: الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم، ويؤيد هذا التأويل كونهم {شهداء على الناس} وقوله: «نحن الآخرون السابقون» الحديث وقوله: «نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها».
وظاهر كان هنا أنها الناقصة، وخير أمة هو الخبر. ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك: كان زيد قائماً، بل المراد دوام النسبة كقوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولاً مرجوحاً، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع. وقيل: كان هنا بمعنى صار، أيْ صرتم خير أمة. وقيل: كان هنا تامة، وخير أمة حال. وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة، لأن الزائدة لا تكون أول كلام، ولا عمل لها. وقال الزمخشري: كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ. ومنه قوله تعالى: {وكان الله غفوراً}.
ومنه قوله: كنتم خير أمة، كأنه قيل: وجدتم خير أمة انتهى كلامه. فقوله: أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق. فإذا قلت: كان زيد عالماً بمعنى صار، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم. وقوله: ولا على انقطاع طارئ قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع. وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال، ألا ترى أنك تقول: هذا اللفظ يدل على العموم؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم، بل المراد الخصوص. وقوله: كأنه قال وجدتم خير أمة، هذا يعارض أنها مثل قوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة، وأن خير أمة حال. وقوله: وكان الله غفوراً لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا. وقيل: المعنى: كنتم في علم الله. وقيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم. وقيل: هو على الحكاية، وهو متصل بقوله: {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} أي فيقال لهم في القيامة: كنتم في الدنيا خير أمة، وهذا قول بعيد من سياق الكلام. وخير مضاف للنكرة، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها، وإن كانت جارية على جمع. والمعنى: أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها. وحكم عليهم بأنهم خيرُ أمة، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي: سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدارهم إلى نصرته، ونقلهم عنه علم الشريعة، وافتتاحهم البلاد. وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل.
وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها، لأنّهم سببٌ في إيجادها، إذْ هم الذين سنوها، وأوضحوا طريقها «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً».
ومعنى أخرجت: أظهرت وأبرزت، ومخرجها هو الله تعالى، وحذف للعلم به. وقال ابن عباس: أخرجت من مكة إلى المدينة، وهي جملة في موضع الصفة لأمة، أي خير أمة مخرجة، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة، فتكون في موضع نصب أي مخرجة. وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة، ولم يراع لفظ الخطاب. وهما طريقان للعرب، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب، ثم جاء بعده خبره إسماً، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول: أنا رجل آمر بالمعروف، وأنت رجل تأمر بالمعروف. ومنه {بل أنتم قوم تفتنون} وأنك امرؤ فيك جاهلية:
وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية ** كأنك منها قاعد في جوالق

وتارةً يراعى حال ذلك الاسم، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة. فتقول: أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف. ومنه: {كنتم خير أمة أخرجت} ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً. والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده. وظاهر قوله: للناس أنه متعلق بأخرجت. وقيل: متعلق بخير. ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ، بل من موضع آخر. وقيل: بتأمرون، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف. فلما قدم المفعول جر باللام كقوله: {إن كنتم للرؤيا تعبرون} أي تعبرون الرؤيا، وهذا فيه بعد. تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من الله قاله: الربيع. أو مخرج الشرط في الخيرية، روي هذا المعنى عن: عمرو، ومجاهد، والزجاج. فقيل: هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. وقال ابن عطية: تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى. وقاله الراغب: والاستئناف أمكن وأمدح. وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر، وأن كون نعتاً لخير أمة. قيل: وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر والنهي. وإنا الإيمان شرط للتأثير، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير. وإنما اكتفى بذكر الإيمان بالله عن الإيمان بالنبوّة لأنه مستلزم له انتهى. وهو من كلام محمد بن عمر الرازي.
وقال الزمخشري: جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله، لأن مَن آمن ببعض، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله. ويقولون: نؤمن ببعض الآية انتهى. وقيل: هو على حذف مضاف، أي وتؤمنون برسول الله. والظاهر في المعروف، والمنكر العموم. وقال ابن عباس: المعروف الرسول، والمنكر عبادة الأصنام. وقال أبو العالية: المعروف التوحيد، والمنكر الشرك.
{ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم} أي ولو آمن عامّتهم وسائرهم. ويعني الإيمان التام النافع. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول: من صدق كان خيراً له، أي لكان هو، أي الإيمان. وعلّق كينونة الإيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم أنْ لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله. وخبر هنا أفعل التفضيل، والمعنى: لكان خيراً لهم مما هم عليه، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً في الرئاسة واستتباع العوام، فلهم في هذا خط دنيوي. وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين. وقال ابن عطية: ولفظة خير صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه. وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة.
{منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل، فأخبر تعالى أنَّ من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد الله بن سلام، وأخيه، وثعلبة بن سعيد، ومن أسلم من اليهود. وكالنجاشي، وبحيرا، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده. وهذا يدل على أنّ المراد بقوله: {ولو آمن أهل الكتاب} الخصوص، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان. وقيل: المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال. أي منهم من يؤمن، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم، ويكون قوله: منهم المؤمنون إخباراً بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان، ولا يستمرون كلهم على الكفر. وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون، فدل على أن المؤمنين منهم قليل. والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول الله، وكذب بالقرآن فهو أيضاً كامل في فسقه متمرد في كفره.
{لن يضرّوكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} هاتان الجملتان تضمنتا الإخبار بمعنيين مستقبلين وهو: إنّ ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى، أي شيئاً تتأذون به، لا ضرراً يكون فيه غلبة واستئصال.
ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضرراً يبالون به، ولا قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم.
والظاهر أن قوله: إلا أذى استثناء متصل، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير: لن يضرُّوكم ضرراً إلا ضرراً لا نكاية فيه، ولا إجحاف لكم. وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم: هو استثناء منقطع، والتقدير: لن يضروكم لكنْ أذى باللسان، فقيل: هو سماع كلمة الكفر. وقيل: هو بهتهم وتحريفهم. وقيل: موعد وطعن. وقيل: كذب يتقوّلونه على الله قاله: الحسن، وقتادة.
ودلّت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه، وعلى تحقير شأن الكفار، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلاّ ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء.
{وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار}، هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه. وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه، أو النصر المستمد من الله، وكلاهما ليس لهم. وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب. ولذلك ورد في القرآن مستعملاً دون لفظ الظهور لقوله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} {ومن يولهم يومئذ دبره} ثم لا ينصرون: هذا استئنافُ إخبار أنّهم لا ينصرون أبداً. ولم يشرك في الجزاء فيجزم، لأنه ليس مرتباً على الشرط، بل التولية مترتبة على المقاتلة. والنصر منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، إذ منع النصر سببه الكفر. فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى. وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط. قال:
وثم للتراخي، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط. والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام. قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط. وثمَّ هنا ليست للمهلة في الزمان، وإنما هي للتراخي في الإخبار. فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرّ للنفس.
ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقاً. وقال الزمخشري: التراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار. (فإن قلت): ما موقع الجملتين، أعني منهم: المؤمنون ولن يضروكم؟ (قلت): هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاء من غير عاطف.
{ضربت عليهم الذلة} تقدم شرح هذه الجملة، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام. قال الحسن: جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية، وما كانت لهم غيرة ومنعه إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض.
{أينما ثقفوا} عام في الأمكنة. وهي شرط، وما مزيدة بعدها، وثقفوا في موضع جزم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال: ضربت هو الجواب، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلاً. وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل، أي ضربت عليهم الذلة، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم، ودل ذكر الماضي على المستقبل، كما دل في قول الشاعر:
وندمان يزيد الكأس طيبا ** سقيت إذا تغوّرت النجوم

التقدير: سقيت، وأسقية إذا تغوّرت النجوم.
{إلا بحبل من الله وحبل من الناس} هذا استثناء ظاهره الانقطاع، وهو قول: الفراء، والزجاج. واختيار ابن عطية، لأن الذلة لا تفارقهم. وقدره الفراء: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال: حميد بن نور الهلالي:
رأتني بحبليها فصدت مخافة

ونظره ابن عطية بقوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ} قال: لأن بادئ الرأي يعطى أن له أن يقتل خطأ. وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك. وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر وتقديره: في أمتنا، فلا نجاة من الموت إلا بحبل. نتهى كلامه. وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً، لأنه مستثنى من جملة مقدّرة وهي قوله: فلا نجاة من الموت، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً. والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمين منه: ما يمكن أن يتسلط عليه العامل، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك، ومنه هذه الآية. على تقدير الانقطاع، إذ التقدير: لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم. ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله} فلم يستثن هناك. وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال: وهو استثناء من أعم عام الأحوال، والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس، يعني: ذمة الله وذمة المسلمين.
أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية انتهى كلامه. وهو متجه وشبَّه العهد بالحبل لأنه يصل قوماً بقوم، كما يفعل الحبل في الإجرام. والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان، وفسر حبل الله بالإسلام، وحبل الناس بالعهد والذمة. وقيل: حبل الله هو الذي نص الله عليه من أخذ الجزية. والثاني: هو الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد. وقيل: المراد حبل واحد، إذ حبل المؤمنين هو حبل الله وهو العهد.
{وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} تقدم تفسير نظائر هذه الجمل فأغنى ذلك عن إعادته هنا.