فصل: تفسير الآيات رقم (38- 40)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ويصنع الفلك حكاية حال ماضية، والفلك السفينة‏.‏ ولما أمره تعالى بأن يصنع الفلك قال‏:‏ يا رب ما أنا بنجار، قال‏:‏ بلى، ذلك بعيني‏.‏ فأخذ القدوم، وجعلت يده لا تخطئ، فكانوا يمرون به ويقولون‏:‏ هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً‏؟‏ وقيل‏:‏ كانت الملائكة تعلمه، واستأجر أجراء كانوا ينحتون معه، وأوحى الله إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني، وكان سام وحام ويافث ينحتون معه، والخشب من الساج قاله‏:‏ قتادة، وعكرمة، والكلبي‏.‏ قيل‏:‏ وغرسه عشرين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثمائة سنة يغرس ويقطع وييبس‏.‏ وقال عمرو بن الحرث‏:‏ لم يغرسها بل قطعها من جبل لبنان‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من خشب الشمشار، وهو البقص قطعة من جبل لبنان‏.‏ واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول، وفي مقدار مدة عملها، وفي المكان الذي عملت فيه، ومقدار طولها وعرضها، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء‏.‏ وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت، قالوا‏:‏ يا نوح ما تصنع‏؟‏ قال‏:‏ ابني بيتاً يمشي على الماء، فعجبوا من قوله وسخروا منه قاله‏:‏ مقاتل‏.‏ وقيل‏:‏ لكونه يبني في قرية لا قرب لها من البحر، فكانوا يتضاحكون ويقولون‏:‏ يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً‏.‏ وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه، وقال‏:‏ مستأنف على تقدير سؤال سائل‏.‏ وجوزوا أن يكون العامل قال‏:‏ وسخروا صفة لملا، أو بدل من مرّ، ويبعد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا نوعاً منه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وسخروا منه استجهلوه، فإن كان الأمر كما روي أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط، ولا كانت، فوجه الاستجهال واضح، وبذلك تظاهرت التفاسير، وإن كانت السفائن جينئذ معروفة فاستجهلوه في أنّ صنعها في قرية لا قرب لها من البحر انتهى، فأنا نسخر منكم في المستقبل كما تسخرون منا الآن أي‏:‏ مثل سخريتكم إذا أغرقتم في الدنيا، وأحرقتم في الآخرة، أو إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعريض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا قال‏:‏ قريباً من معناه الزجاج‏.‏ أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ إن يسخروا منا في الدنيا فإنا نسخر منكم في الآخرة‏.‏ والسخرية استجهال مع استهزاء‏.‏ وفي قوله‏:‏ فسوف تعلمون، تهديد بالغ، والعذاب المخزي الغرق، والعذاب المقيم عذاب الآخرة، لأنه دائم عليهم سرمد‏.‏ ومن يأتيه مفعول بتعلمون، وما موصولة، وتعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحد انتهى‏.‏ ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً، لأنّ أصله خبر مبتدأ، ولا اختصاراً هنا، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله‏:‏ من يأتيه‏.‏ وقيل‏:‏ مَن استفهام في موضع رفع على الابتداء، ويأتيه الخبر، والجملة في موضع نصب، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد المفعولين‏.‏ وحكى الزهراوي أنه يقرأ ويحل بضم الحاء، ويحل بكسرها بمعنى ويجب‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه، ومعنى يخزيه‏:‏ يفضحه، أو يهلكه، أو يذله، وهو الغرق‏.‏ أقوال متقاربة حتى إذا جاء أمرنا تقدم الكلام على دخول حتى على إذا في أوائل سورة الأنعام، وهي هنا غاية لقوله‏:‏ ويصنع الفلك‏.‏ ويصنع كما قلنا حكاية حال أي‏:‏ وكان يصنع الفلك إلى أن جاء وقت الوعد الموعود‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ وكلما مرّ عليه حال، كأنه قيل‏:‏ ويصنعها، والحال أنه كلما مر، وأمرنا واحد الأمور، أو مصدر أي‏:‏ أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإرسال، وللملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة‏.‏ وفار‏:‏ معناه انبعث بقوة، والتنور وجه الأرض، والعرب تسميه تنوراً قاله‏:‏ ابن عباس، وعكرمة، والزهري، وابن عيينة، أو التنور الذي يخبز فيه، وكان من حجارة، وكان لحواء حتى صار لنوح قاله‏:‏ الحسن، ومجاهد، وروي أيضاً عن ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ كان لآدم، وقيل‏:‏ كان تنور، نوح، أو أعلى الأرض والمواضع المرتفعة قاله‏:‏ قتادة، أو العين التي بالجزيرة عين الوردة رواه عكرمة، أو من أقصى دار نوح قاله‏:‏ مقاتل، أو موضع اجتماع الماء في السفينة، روي عن الحسن، أو طلوع الشمس وروي عن علي، أو نور الصبح من قولهم‏:‏ نور الفجر تنويراً قاله‏:‏ علي ومجاهد، أو هو مجاز والمراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب‏:‏ «حمي الوطيس» والوطيس أيضاً مستوقد النار، فلا فرق بين حمى وفار، إذ يستعملان في النار‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سمعوا لها شهيقاً وهي تفور‏}‏ ولا فرق بين الوطيس والتنور‏.‏ والظاهر من هذه الأقوال حمله على التنور الذي هو مستوقد النار، ويحتمل أن تكون أل فيه للعهد لتنور مخصوص، ويحتمل أن تكون للجنس‏.‏ ففار النار من التنانير، وكان ذلك من أعجب الأشياء أن يفور الماء من مستوقد النيران‏.‏ ولا تنافي بين هذا وبين قوله‏:‏ ‏{‏وفجرنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ إذ يمكن أن يراد بالأرض أماكن التنانير، والتفجير غير الفوران، فحصل الفوران للتنور، والتفجير للأرض‏.‏ والضمير في فيها عائد على الفلك، وهو مذكر أنث على معنى السفينة، وكذلك قوله‏:‏ وقال اركبوا فيها‏.‏

وقرأ حفص‏:‏ من كل زوجين بتنوين، كل أي من كل حيوان وزوجين مفعول، واثنين نعت توكيد، وباقي السبعة بالإضافة، واثنين مفعول احمل، وزوجين بمعنى العموم أي‏:‏ من كل ما له ازدواج، هذا معنى من كل زوجين قاله أبو علي وغيره‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ولو كان المعنى احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين، لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال‏:‏ هذا زوج، هذا وهما زوجان، وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ ثم فسرها وفي قوله ‏{‏وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ وقال الأخفش‏:‏ وقد يقال في كلام العرب للاثنين زووج، هكذا تأخذه العدديون‏.‏ والزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها‏}‏ انتهى‏.‏

ولما جعل المطر ينزل كأفواه القرب جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هرباً من الماء، حتى اجتمعن عند السفينة فأمره الله أن يحمل من الزوجين اثنين، يعني‏:‏ ذكراً وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان‏.‏ فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى، وكانت السفينة ثلاث طبقات‏:‏ السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن‏.‏ وأهلك معطوف على زوجين إن نوِّن كل، وعلى اثنين إن أضيف، واستثنى من أهله من سبق عليه القول بالهلاك وأنه من أهل النار‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ سبق عليه القول أنه يختار الكفر لا لتقديره عليه وإرادته تعالى غير ذلك انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال، والذي سبق عليه القول امرأته واعلة بالعين المهملة، وابنه كنعان‏.‏ ومن آمن عطف على وأهلك، قيل‏:‏ كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة، وقيل‏:‏ كانوا ثلاثة وثمانين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ آمن معه ثمانون رجلاً، وعنه ثمانون إنساناً، ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ثمانية وسبعين، نصفهم رجال، ونصفهم نساء‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ كانوا عشرة سوى نسائهم‏:‏ نوح، وبنوه سام وحام ويافث، وستة ناس من كان آمن به وأزواجهم جميعاً‏.‏ وعن ابن إسحاق‏:‏ كانوا عشرة‏:‏ خمسة رجال، وخمس نسوة‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا تسعة ونوح، وثمانية أبناء له وزوجته‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ثمانية ونوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم، وهو قول‏:‏ قتادة، والحكم، وابن عيينة، وابن جريج، ومحمد بن كعب‏.‏ وقال الأعمش‏:‏ كانوا سبعة‏:‏ نوح، وثلاث كنائن، وثلاث بنين‏.‏ وهذه أقوال متعارضة، والذي أخبر الله تعالى به أنه ما آمن معه إلا قليل، ولا يمكن التنصيص على عدد هذا النفر القليل الذي أبهم الله عددهم إلا بنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

رسا الشيء يرسو، ثبت واستقر‏.‏ قال‏:‏

فصبرت نفساً عند ذلك حرة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع

‏{‏وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين‏}‏‏:‏ الضمير في‏:‏ وقال، عائد على نوح أي‏:‏ وقال نوح حين أمر بالحمل في السفينة لمن آمن معه ومن أمر بحمله‏:‏ اركبوا فيها‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على الله، والتقدير‏:‏ وقال الله لنوح ومن معه، ويبعد ذلك قوله‏:‏ إن ربي لغفور رحيم‏.‏ قيل‏:‏ وغلب من يعقل في قوله‏:‏ اركبوا، وإنْ كانوا قليلاً بالنسبة لما لا يعقل ممن حمل فيها، والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة، لأنه لا يليق بما لا يعقل‏.‏ وعدى اركبوا بفي لتضمينه معنى صيروا فيها، أو معنى ادخلوا فيها‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير اركبوا الماء فيها‏.‏ وقيل‏:‏ في زائدة للتوكيد أي‏:‏ اركبوها‏.‏ والباء في بسم الله في موضع الحال، أو متبركين بسم الله‏.‏ ومجراها ومرساها منصوبان إما على أنهما ظرفا زمان أو مكان، لأنهما يجيئان لذلك‏.‏ أو ظرفا زمان على جهة الحذف، كما حذف من جئتك مقدّم إلحاج، أي‏:‏ وقت قدوم الحاج، فيكون مجراها ومرساها مصدران في الأصل حذف منهما المضاف، وانتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل‏.‏ ويجوز أن يكون باسم الله حالاً من ضمير فيها، ومجراها ومرساها مصدران مرفوعان على الفاعلية، أي‏:‏ اركبوا فيها ملتبساً باسم الله إجراؤها وإرساؤها أي‏:‏ ببركة اسم الله‏.‏ أو يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء، وباسم الله الخبر، والجملة حال من الضمير في فيها‏.‏ وعلى هذه التوجيهات الثلاثة فالكلام جملة واحدة، والحال مقدرة‏.‏ ولا يجوز مع رفع مجراها ومرساها على الفاعلية أو الابتداء أن يكون حالاً من ضمير اركبوا، لأنه لا عائد عليه فيما وقع حالاً‏.‏ ويجوز أن يكون باسم الله مجراها ومرساها جملة ثانية من مبتدإ وخبر، لا تعلق لها بالجملة الأولى من حيث الإعراب أمرهم أولاً بالركوب، ثم أخبر أنّ مجراها ومرساها بذكر الله أو بأمره وقدرته، فالجملتان كلامان محكيان‏.‏ يقال‏:‏ كما أن الجملة الثانية محكية أيضاً بقال‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إذا أراد جري السفينة قال بسم الله مجراها فتجري، وإذا أراد وقوفها قال بسم الله مرساها فتقف‏.‏

وقرأ مجاهد، والحسن، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، والجمهور من السبعة الحرميان، والعربيان، وأبو بكر‏:‏ مجراها بضم الميم‏.‏ وقرأ الأخوان، وحفص‏:‏ بفتحها، وكلهم ضم ميم مرساها‏.‏

وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفي، وزيد بن عليّ، والأعمش، مجراها ومرساها بفتح الميمين، ظرفي زمان أو مكان، أو مصدرين على التقارير السابقة‏.‏ وقرأ الضحاك، والنخعي، وابن وثاب، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن جند، والكلبي، والجحدري، مجريها ومرسيها اسمي فاعل من أجرى وأرسى على البدل من اسم الله، فهما في موضع خبر، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وهما على هذه القراءة صفتان عائدتان على ذكره في قولهم بسم الله انتهى‏.‏ ولا يكونان صفتين إلا على تقدير أنْ يكونا معرفتين‏.‏ وقد ذهب الخليل إلى أن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة، فتعرّف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرّف‏.‏ إن ربي لغفور ستور عليكم ذنوبكم بتوبتكم وإيمانكم، رحيم لكم إذا نجاكم من الغرق‏.‏ وروي في الحديث‏:‏ «أن نوحاً ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع» وعن عكرمة‏:‏ لعشر خلون من رجب‏.‏ وهي تجري بهم إخبار من الله تعالى بما جرى للسفينة، وبهم حال أي‏:‏ ملتبسة بهم، والمعنى‏:‏ تجري وهم فيها في موج كالجبال، أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها‏.‏ روي أن السماء أمطرت جميعها حتى لم يكن في الهواء جانب إلا أمطر، وتفجرت الأرض كلها بالنبع، وهذا معنى التقاء الماء‏.‏ وروي أن الماء علا على الجبال وأعالي الأرض أربعين ذراعاً، وقيل‏:‏ خمسة عشر‏.‏ وكون السفينة تجري في موجٍ دليل على أنه كان في الماء موج، وأنه لم يطبق الماء ما بين السماء والأرض، وأنّ السفينة لم تكن تجري في جوف الماء والماء أعلاها وأسفلها، فكانت تسبح في الماء كما تسبح السمكة، كما أشار إليه الزجاج والزمخشري وغيرهما‏.‏ وقد استبعد ابن عطية هذا قال‏:‏ وأين كان الموج كالجبال على هذا‏؟‏ ثم كيف استقامت حياة من في السفينة‏؟‏ وأجاب الزمخشري‏:‏ بأن الجريان في الموج كان قبل التطبيق، وقيل أنْ يعم الماء الجبال‏.‏ ألا ترى إلى قول ابنه‏:‏ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء‏.‏ ونادى نوح ابنه، الواو لا ترتب‏.‏ وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله‏:‏ وهي تجري بهم في موج، وفي إضافته إليه هنا وفي قوله‏:‏ إن ابني من أهلي، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه، وهو قول‏:‏ ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، والضحاك، وابن جبير، وميمون بن مهران، والجمهور، واسمه كنعان‏.‏ وقيل‏:‏ يام، وقيل‏:‏ كان ابن قريب له ودعاه بالبنوّة حناناً منه وتلطفاً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بكسر تنوين نوح، وقرأ وكيع بن الجراح‏:‏ بضمه، أتبع حركته حركة الإعراب في الحاء‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ هي لغة سوء لا تعرف‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بوصل هاء الكناية بواو، وقرأ ابن عباس‏:‏ أنه بسكون الهاء، قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي‏:‏ وهذا على لغة الازد الشراة، يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قول الشاعر‏:‏

ونضواي مشتاقان له أرقان *** وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشدون‏:‏

وأشرب الماء ما بي نحوه عطش *** إلا لأن عيونه سيل واديها

وقرأ السدّيّ ابناه بألف وهاء السكت‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ ذلك على النداء‏.‏ وذهبت فرقة إلى أنه على الندبة والرثاء‏.‏ وقرأ عليّ، وعروة، وعليّ بن الحسين، وابنه أبو جعفر، وابنه جعفر‏:‏ ابنه بفتح الهاء من غير ألف أي‏:‏ ابنها مضافاً لضمير امرأته، فاكتفى بالفتحة عن الألف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهي لغة، ومنه قول الشاعر‏:‏

إما تقود بها شاة فتأكلها *** أو أن تبيعه في بعض الأراكيب

وأنشد ابن الأعرابي على هذا‏:‏

فلست بمدرك ما فات مني *** بلهف ولا بليت ولا لواني

انتهى‏.‏ يريد تبيعها وتلهفاً، وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف، قال ابن عطية‏:‏ وليس كما قال انتهى‏.‏ وهذا أعنى مثل تلهف بحذف الألف عند أصحابنا ضرورة، ولذلك لا يجيزون يا غلام بحذف الألف، والاجتزاء بالفتحة عنها كما اجتزؤوا بالكسرة في يا غلام عن الياء، وأجاز ذلك الأخفش‏.‏ وقرأ أيضاً عليّ وعروة ابنها بفتح الهاء وألف أي‏:‏ ابن امرأته‏.‏ وكونه ليس ابنه لصلبه، وإنما كان ابن امرأته قول‏:‏ علي، والحسن، وابن سيرين، وعبيد بن عمير‏.‏ وكان الحسن يحلف أنه ليس ابنه لصلبه، قال قتادة‏:‏ فقلت له‏:‏ إن الله حكى عنه أن ابني من أهلي، وأنت تقول‏:‏ لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه فقال‏:‏ ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب‏؟‏ واستدل بقوله من أهلي ولم يقل مني، فعلى هذا يكون ربيباً‏.‏ وكان عكرمة، والضحاك، يحلفان على أنه ابنه، ولا يتوهم أنه كان لغير رشدة، لأن ذلك غضاضة عصمت منه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وروي ذلك عن الحسن وابن جريج، ولعله لا يصح عنها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما بغت امرأة نبي قط، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه ابنه، وأما قراءة من قرأ ابنه أو ابنها فشاذة، ويمكن أن نسب إلى أمه وأضيف إليها، ولم يضف إلى أبيه لأنه كان كافراً مثلها، يلحظ فيه هذا المعنى ولم يضف إليه استبعاداً له، ورعياً أن لا يضاف إليه كافر، وإنما ناداه ظناً منه أنه مؤمن، ولولا ذلك ما أحب نجاته‏.‏ أو ظناً منه أنه يؤمن إنْ كان كافراً لما شاهد من الأهوال العظيمة، وأنه يقبل الإيمان‏.‏ ويكون قوله‏:‏ اركب معنا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان، وتأكد بقوله‏:‏ ولا تكن مع الكافرين، أي اركب مع المؤمنين، إذ لا يركب معهم إلا مؤمن لقوله‏:‏ ومن آمن‏.‏

وفي معزل أي‏:‏ في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين‏.‏

وقيل‏:‏ في معزل عن دين أبيه، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة، والمعنى‏:‏ اركب معنا في السفينة فتنجو ولا تكن مع الكافرين فتهلك‏.‏ وقرأ عاصم يا بني بفتح الياء، ووجه على أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف، وأصله يا بنيا كقولك‏:‏ يا غلاماً، كما اجتزأ باقي السبعة بالكسرة عن الياء في قراءتهم يا بني بكسر الياء، أو أن الألف انحذفت لالتقائها مع راء اركب‏.‏ وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجير على العادة، فلذلك قال‏:‏ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي‏:‏ من وصول الماء إليّ فلا أغرق، وهذا يدل على عادته في الكفر، وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر به‏.‏

قيل‏:‏ والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه، والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وأنه نفي كل عاصم من أمر الله في ذلك الوقت، وأنّ من رحم يقع فيه من على المعصوم‏.‏ والضمير الفاعل يعود على الله تعالى، وضمير الموصول محذوف، ويكون الاستثناء منقطعاً أي‏:‏ لكنْ من رحمة الله معصوم، وجوزوا أن يكون من الله تعالى أي لا عاصم إلا الراحم، وأن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة، كما قالوا لابن أي‏:‏ ذو لبن، وذو عصمة، مطلق على عاصم وعلى معصوم، والمراد به هنا المعصوم‏.‏ أو فاعل بمعنى مفعول، فيكون عاصم بمعنى معصوم، كماء دافق بمعنى مدفوق‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

بطيء الكلام رخيم الكلام *** أمسى فؤادي به فاتنا

أي مفتوناً‏.‏ ومن للمعصوم أي‏:‏ لا ذا عصمة، أو لا معصوم إلا المرحوم‏.‏ وعلى هذين التجويزين يكون استثناء متصلاً، وجعله الزمخشري متصلاً بطريق أخرى‏:‏ وهو حذف مضاف وقدره‏:‏ لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة انتهى‏.‏ والظاهر أن خبر لا عاصم محذوف، لأنه إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، لأنه لما قال‏:‏ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال له نوح‏:‏ لا عاصم، أي لا عاصم موجود‏.‏ ويكون اليوم منصوباً على إضمار فعل يدل عليه عاصم، أي‏:‏ لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله، ومن أمر متعلق بذلك الفعل المحذوف‏.‏ ولا يجوز أن يكون اليوم منصوباً بقوله‏:‏ لا عاصم، ولا أن يكون من أمر الله متعلقاً به، لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولاً، وإذا كان مطولاً لزم تنوينه وإعرابه، ولا يبنى وهو مبنى، فبطل ذلك‏.‏ وأجاز الحوفي وابن عطية أن يكون اليوم خبراً لقوله‏:‏ لا عاصم‏.‏ قال الحوفي‏:‏ ويجوز أن يكون اليوم خبراً ويتعلق بمعنى الاستقرار، وتكون من متعلقة بما تعلق به اليوم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ واليوم ظرف وهو متعلق بقوله‏:‏ من أمر الله، أو بالخبر الذي تقديره‏:‏ كائن اليوم انتهى‏.‏

وردّ ذلك أبو البقاء فقال‏:‏ فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم، لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة، بل الخبر من أمر الله، واليوم معمول من أمر الله‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ ويجوز أن يكون اليوم نعتاً لعاصم ومن الخبر انتهى‏.‏ ويردّ بما ردّ به أبو البقاء من أن ظرف الزمان لا يكون نعتاً للجثث، كما لا يكون خبراً‏.‏ وقرئ إلا من رحم بضم الراء مبنياً للمفعول، وهذا يدل على أنّ المراد بمن في قراءة الجمهور الذين فتحوا الراء هو المرحوم لا الراحم، وحال بينهما أي بين نوح وابنه‏.‏ قيل‏:‏ كانا يتراجعان الكلام، فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة، وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق‏.‏ وقال الفراء‏:‏ بينهما أي بين ابن نوح والجبل الذي ظن أنه يعصمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 47‏]‏

‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

البلع‏:‏ معروف، والفعل منه بلع بكسر اللام وبفتحها لغتان حكاهما الكسائي والفراء، يبلع بلعاً، والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء‏.‏ الإقلاع‏:‏ الإمساك، يقال‏:‏ أقلع المطر، وأقلعت الحمى، أي أمسكت عن المحموم‏.‏ وقيل‏:‏ أقلع عن الشيء تركه، وهو قريب من الإمساك‏.‏ غاض الماء نقص في نفسه، وغضته نقصته، جاء لازماً ومتعدياً‏.‏ الجودي‏:‏ علم لجبل بالموصل، ومن قال بالجزيرة أو بآمد، فلأنهما قريبان من الموصل‏.‏ وقيل الجودي‏:‏ اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

سبحانه ثم سبحانا نعوذ له *** وقبلنا سبح الجودي والجمد

‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين‏.‏ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين‏.‏ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين‏}‏‏:‏ قال الزمخشري‏:‏ نادى الأرض والسماء بما ينادي به الإنسان المميز على لفظ التخصيص، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله‏:‏ يا أرض ويا سماء، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله‏:‏ ابلعي ماءك وأقلعي، من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأنّ السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوا عظمته وجلاله وثوابه وعقابه، وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفرعون من التوقف دون الامتثال له والنزول عن مشيئته على الفور من غير ريب‏.‏ فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا بطء‏.‏ وبسط الزمخشري وذيل في هذا الكلام الحسن، قال الحسن‏:‏ يدل على عظمة هذه الأجسام، والحق تعالى مستول عليها متصرف فيها كيف يشاء، وأراد فصار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلوّ قدرته وهيبته انتهى‏.‏ وبناء الفعل في وقيل وما بعدها للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت وأخصر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا يكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأن فاعل هذه الأفعال فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة عل الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره‏.‏

ولما ذكرنا من المعاني والنكت واستفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم، لا لتجانس الكلمتين وهما قوله‏:‏ ابلعي واقلعي، وذلك وان كان الكلام لا يخلو من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب، وما عداها قشور انتهى‏.‏ وأكثره خطابة، وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية، وعلى هذا جمهور الحذاق‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكاً وفهماً لمعاني الخطاب‏.‏ وروي أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال‏:‏ هذا كلام القادرين، وعارض ابن المقفع القرآن فلما وصل إلى هذه الآية أمسك عن المعارضة وقال‏:‏ هذا كلام لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله‏.‏ وقال ابن عباس في قوله‏:‏ وقضي الأمر، غرق من غرق، ونجا من نجا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قضي الأمر بهلاكهم، وقال ابن قتيبة، قضي الأمر فرغ منه، وقال ابن الأنباري‏:‏ أحكمت هلكة قوم نوح، وقال الزمخشري‏:‏ أنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه‏.‏ واستوت أي استقرت السفينة على الجودي، واستقرارها يوم عاشوراء من المحرّم قاله‏:‏ ابن عباس، والضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ يوم الجمعة، وقيل‏:‏ في ذي الحجة‏.‏ وأقامت على الجودي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء‏.‏ وذكروا أن الجبال تطاولت وتخاشع الجودي‏.‏ وحديث بعث نوح عليه السلام الغراب والحمامة ليأتياه بخبر كمال الغرق الله أعلم بما كان من ذلك‏.‏

وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة على الجودي بسكون الياء مخففة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهما لغتان، وقال صاحب اللوامح‏:‏ هو تخفيف ياءي النسب، وهذا التخفيف بابه الشعر لشذوذه، والظاهر أن قوله‏:‏ وقيل بعداً من قول الله تعالى كالأفعال السابقة، وبنى الجميع للمفعول للعلم بالفاعل، وقيل‏:‏ من قول نوح والمؤمنين، قيل‏:‏ ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، قيل‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن بلوغ الأمر ذلك المبلغ وإن لم يكن، ثم قول محسوس‏.‏ ومعنى بعد هلاكاً يقال‏:‏ بعد يبعد بعداً وبعداً إذا هلك، واللام في للقوم من صلة المصدر‏.‏ وقيل‏:‏ تتعلق بقوله‏:‏ وقيل، والتقدير وقيل لأجل الظالمين، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز‏.‏ ومعنى ونادى نوح ربه أي‏:‏ أراد أن يناديه، ولذلك أدخل الفاء، إذ لو كان أراد حقيقة النداء والإخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال‏:‏ ولسقطت كما لم تدخل في قوله‏:‏ ‏{‏إذ نادى ربه نداء خفياً قال رب‏}‏ والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً، وذلك أن هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة، ويظهر من كلام الطبري أن ذلك من بعد غرق الابن‏.‏ وفي قوله‏:‏ إن ابني من أهلي، ظهور أنه ولده لصلبه‏.‏ ومعنى من أهلي أي‏:‏ الذي أمرت أن أحملهم في السفينة لقوله‏:‏ ‏{‏احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك‏}‏ ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله بقوله‏:‏ إلا من سبق عليه القول منهم لظنه أنه مؤمن وعموم قوله‏:‏ ومن آمن يشمل من آمن من أهله ومن غير أهله، وحسن الخطاب بقوله‏:‏ وإن وعدك الحق، أي الوعد الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلي، وأنت أعلم الحكام وأعدلهم‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن تكون من الحكمة حاكم بمعنى النسبة، كما يقال‏:‏ دارع من الدرع، وحائض وطالق على مذهب الخليل انتهى‏.‏ ومعنى ليس من أهلك على قول من قال‏:‏ إنه ابنه لصلبه أي الناجين، أو الذين عمهم الوعد‏.‏ ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة، إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة، فعلى هذا نفي ما قدّر أنه داخل في قوله‏:‏ وأهلك، ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله بأنه عمل غير صالح‏.‏ والظاهر أنّ الضمير في أنه عائد على ابن نوح لا على النداء المفهوم من قوله‏:‏ ونادى المتضمن سؤال ربه، وجعله نفس العمل مبالغة في ذمه كما قال‏:‏ فإنما هي إقبال وإدبار، هذا على قراءة جمهور السبعة‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ عمل غير صالح جعله فعلاً ناصباً غير صالح، وهي قراءة‏:‏ علي، وأنس، وابن عباس، وعائشة، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجح أن الضمير يعود على ابن نوح‏.‏ قيل‏:‏ ويرجح كون الضمير في أنه عائد على نداء نوح المتضمن السؤال أنّ في مصحف ابن مسعود أنه عمل غير صالح إن تسألني ما ليس لك به علم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الضمير في هذه القراءة على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمنه سؤال نوح المعنى‏:‏ أن كونه مع الكافرين وتركه الركوب مع المؤمنين عمل غير صالح، وكون الضمير في إنه عائداً على غير ابن نوح عليه السلام تكلف وتعسف لا يليق بالقرآن‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فهلا قيل إنه عمل فاسد‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لما نفاه من أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك، وإن هذا لما انتفي عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك‏.‏ وقرأ الصاحبان‏:‏ تسألنّ بتشديد النون مكسورة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي كذلك، إلا أنهم أثبتوا الباء بعد النون، وابن كثير بتشديدها مفتوحة وهي قراءة ابن عباس‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي مليكة‏:‏ تسألني من غير همز، من سال يسال، وهما يتساولان، وهي لغة سائرة‏.‏ وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها، وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو، وحذفها الباقون‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فلا تلتمس ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه، وذكر المسألة دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه‏.‏

‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ لم سمى نداءه سؤالاً ولا سؤال فيه‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة الغرق فقد استنجز، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلاً وغباوة ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين‏.‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏ قد وعد الله أن ينجيَ أهله، وما كان عنده أنّ ابنه ليس منهم ديناً، فلما أشفي على الغرق تشابه عليه الأمر، لأنّ العدة قد سبقت له، وقد عرف الله حكيماً لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وجعل سؤاله جهلاً‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ إن الله عز وجل قدم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب العذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأنْ لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب بما يجب أن لا يشتبه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ معنى قوله‏:‏ فلا تسألن ما ليس لك به علم، أي إذ وعدتك فاعلم يقيناً أنه لا خلف في الوعد، فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أنّ ذلك لحق واجب عند الله، ولكنّ نوحاً عليه السلام حملته شفقة البنوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عقابه، ولذلك جاء بتلطف وترج في قوله‏:‏ إني أعظك أن تكون من الجاهلين‏.‏ ويحتمل قوله‏:‏ فلا تسألن ما ليس لك به علم، أي‏:‏ لا تطلب مني أمراً لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وقال‏:‏ إن به يجوز أن يتعلق بلفظ عام كما قال الشاعر‏:‏

كأن جزائي بالعصا أن أجلدا *** ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر‏.‏ واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحدة‏.‏ وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلاً في قوله‏:‏ إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية‏.‏ وقيل‏:‏ سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل، وقيل‏:‏ قبل أن عرف هلاكه، وقيل‏:‏ بعد أن عرف هلاكه سأل الله له المغفرة‏.‏ أنْ أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديباً بأدبك، واتعاظاً بموعظتك، وهذه إنابة من نوح عليه السلام وتسليم لأمر الله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه‏.‏ وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا، وظاهر قوله‏:‏ فلا تسألن ما ليس لك به علم، يعم النحوين من السؤال، ولذلك نبهت على أنّ المراد أحدهما دون الآخر، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى، ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدباً مع ربه فقال‏:‏ وإلا تغفر لي، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك، وهذا كما قال آدم عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

بني الفعل للمفعول، فقيل‏:‏ القائل هو الله تعالى، وقيل‏:‏ الملائكة تبليغاً عن الله تعالى‏.‏ والظاهر الأول لقوله‏:‏ منا‏.‏ وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض، والباء للحال أي‏:‏ مصحوباً بسلامة وأمن وبركات، وهي الخيرات النامية في كل الجهات‏.‏ ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي‏:‏ اهبط مسلماً عليك مكرماً‏.‏ وقرئ اهبط بضم الباء، وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذاناً له بمغفرة ربه له ورحمته إياه، وبإقامته في الأرض آمناً من الآفات الدنيوية، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان، فكان ذلك تبشيراً له بعود الأرض إلى أحسن حالها، ولذلك قال‏:‏ وبركات عليك أي دائمة باقية عليك‏.‏ والظاهر أنّ من لابتداء الغاية أي‏:‏ ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات‏.‏ وقيل لهم‏:‏ أمم، لأنّ الأمم تشعبت منهم انتهى‏.‏ وهذا فيه بعد تكلف، إذ يصير التقدير‏:‏ وعلى أمم هم من معك، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه، وعلى أمم معك أو على من معك، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم، وأبعد عن اللبس‏.‏ وارتفع أمم على الابتداء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وسنمتعهم صفة، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأن قوله‏:‏ ممن معك، يدل عليه، والمعنى‏:‏ أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى‏.‏ ويجوز أن يكون أمم مبتدأ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، والتقدير‏:‏ وأمم منهم أي ممن معك، أي ناشئة ممن معك، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا‏:‏ السمن منوان بدرهم، أي منوان منه، فحذف منه وهو صفة لمنوان، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة‏.‏ ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، فكان مثل قول الشاعر‏:‏

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحول

وقال القرطبي‏:‏ ارتفعت وأمم على معنى‏:‏ ويكون أمم انتهى‏.‏ فإنْ كان أراد تفسير معنى فحسن، وإن أراد الإعراب ليس بجيد، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش‏:‏ هذا كما تقول كلمت‏:‏ زيداً وعمرو جالس انتهى‏.‏ فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، واحتمل أنْ تكون الواو للحال، وتكون حالاً مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره‏:‏ اهبط أنت وأمم، وكان الفصل بينهما مغنياً عن التأكيد، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى‏.‏

وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان، لأنّ الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله‏:‏ ومن آمن، ولم يكونوا قسمين كفاراً ومؤمنين، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح، إلا إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أنّ من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة، وذلك من باب الكناية كقولهم‏:‏ فلان طويل النجاد كثير الرماد‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ ممن معك يدل على أنّ المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط، أو معهم نساؤهم، انتظم قول المفسرين أنّ نوحاً عليه السلام هو أبو الخلق كلهم، وسمي آدم الأصغر لذلك‏.‏ وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر، إلا إن أريد بالذين معه أولاده، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص‏.‏ وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين، بل هم عبارة عن الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب، عليهم الصلاة والسلام‏.‏

تلك إشارة إلى قصة نوح، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك‏}‏ في آل عمران، وتلك إشارة للبعيد، لأنّ بين هذه القصة والرسول مدداً لا تحصى‏.‏ وقيل‏:‏ الإشارة بتلك إلى آيات القرآن، ومن أنباء الغيب وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله، ونوحيها إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك، وأعلمناهم بها ليكون مثالاً لهم وتحذيراً أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله‏:‏ فاصبر على أذاهم مجتهداً في التبليغ عن الله، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذا القصة‏.‏ ومعنى ما كنت تعلمها‏:‏ أي مفصلة كما سردناها عليك، وعلم الطوفان كان معلوماً عند العالم على سبيل الإجمال، والمجوس الآن ينكرونه‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ ما كنت في موضع الحال من مفعول نوحيها، أو من مجرور إليك، وقدرها الزمخشري تقدير معنى فقال‏:‏ أي مجهولة عندك وعند قومك ويحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، والإشارة بقوله‏:‏ من قبل هذا إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي احتمالات، وفي مصحف ابن مسعود من قبل هذا القرآن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولا قومك معناه‏:‏ أن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم، ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجل منهم كما تقول‏:‏ لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده‏؟‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله‏:‏ أرسلنا نوحاً إلى قومه، عطف الواو على المجرور، والمنصوب على المنصوب، كما يعطف المرفوع والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو‏:‏ ضرب زيد عمراً، وبكر خالداً، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف نحو‏:‏ ضربت زيداً، وفي البيت عمراً، فيجيء منه الخلاف الذي بين النحويين‏:‏ هل يجوز في الكلام، أو يختص بالشعر‏؟‏ وتقدير الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف، وقراءة الكسائي غيره بالخفض، وقيل‏:‏ ثم فعل محذوف أي‏:‏ وأرسلنا إلى عاد أخاهم، فيكون إذ ذاك من عطف الجمل، والأول من عطف المفردات، وهذا أقرب لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين‏.‏ وهوداً بدل أو عطف بيان‏.‏ وقرأ محيصن‏:‏ يا قوم بضم الميم كقراءة حفص‏:‏ قل رب احكم بالحق بالضم، وهي لغة في المنادى المضاف حكاها سيبويه وغيره، وافتراؤهم قال الحسن‏:‏ في جعلهم الألوهية لغير الله تعالى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ باتخاذكم الأوثان له شركاء‏.‏ والضمير في عليه عائد على الدعاء إلى الله، ونبه بقوله‏:‏ الذي فطرني، على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام، واعتقادهم أنها تفعل، وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة‏.‏ وأفلا تعقلون توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر، ويحتمل أن يكون أفلا تعقلون راجعاً إلى أنه إذا لم أطلب عرضاً منكم، وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم، كأنه قيل‏:‏ أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله تعالى، وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك‏.‏ وتقدّم الكلام في ‏{‏استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‏}‏ أول هذه السورة قصد هود استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة، لأنهم كانوا أصحاب زورع وبساتين وعمارات حراصاً عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء، وكانوا مدلين بما أوتوا من هذه القوة والبطش والبأس مهيئين في كل ناحية‏.‏ وقيل‏:‏ أراد القوة في المال، وقيل‏:‏ في النكاح‏.‏ قيل‏:‏ وحبس عنهم المطر ثلاث سنين، وعقمت أرحام نسائهم‏.‏ وقد انتزع الحسن بن علي رضي الله عنه من هذا ومن قوله‏:‏ ويمددكم بأموال وبنين، أن كثرة الاستغفار قد يجعله الله سبباً لكثرة الولد‏.‏ وأجاب من سأله وأخبره أنه ذو مال ولا يولد له بالاستغفار، فأكثر من ذلك فولد له عشر بنين‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله‏:‏ ويزدكم قوة إلى قوتكم، أنه الولد وولد الولد‏.‏ وقال مجاهد وابن زيد‏:‏ في الجسم والبأس، وقال الضحاك‏:‏ خصباً إلى خصبكم، وقيل‏:‏ نعمة إلى نعمته الأولى عليكم، وقيل‏:‏ قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 57‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

اعتراه بكذا‏:‏ أصابه به، وقيل افتعل من عراه يعروه‏.‏ الناصية‏:‏ منبت الشعر في مقدم الرأس، ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته‏.‏ ونصوت الرجل انصوه نصواً، مددت ناصيته‏.‏

‏{‏قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتهآ إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ‏}‏‏:‏ ببينة أو بحجة واضحة تدل على صدقك، وقد كذبوا في ذلك وبهتوه كما كذبت قريش في قولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ وقد جاءهم بآيات كثيرة، أو لعمائهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات اعتقدوا ما هو آية ليس بآية فقالوا‏:‏ ما جئتنا ببينة تلجئنا إلى الإيمان، وإلا فهود وغيره من الأنبياء لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها‏.‏ ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل‏:‏ صادرين عن قولك، قاله الزمخشري‏.‏ وقيل‏:‏ عن للتعليل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏ فتتعلق بتاركي، كأنه قيل لقولك، وقد أشار إلى التعليل والسبب فيها ابن عطية، فقال‏:‏ أي لا يكون قولك سبباً لتركنا، إذ هو مجرد عن آية، والجملة بعدها تأكيد وتقنيط له من دخولهم في دينه، ثم نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون، وأن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها ودعا إلى ترك عبادتها، فجعلته يتكلم مكافأة بما يتكلم به المجانين، كما قالت قريش‏:‏ معلم مجنون ‏{‏أم يقولون به جنة‏}‏ واعتراك جملة محكية بنقول، فهي في موضع المفعول، ودلت على بله شديد وجهل مفرط، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم‏.‏ وقول هود لهم في جواب ذلك‏:‏ إني أشهد الله إلى آخره، حيث تبرأ من آلهتهم، وحرضهم كلهم مع انفراده وحده على كيده بما يشاؤون، وعدم تأخره من أعظم الآيات على صدقه وثقته بموعود ربه من النصر له، والتأييد والعصمة من أن ينالوه بمكروه، هذا وهم حريصون على قتله يرمونه عن قوس واحدة‏.‏ ومثله قول نوح لقومه‏:‏ ‏{‏ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون‏}‏ وأكد براءته من آلهتهم وشركهم، ووفقها بما جرت عليه عادة الناس من توثيقهم الأمر بشهادة الله وشهادة العباد‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ هلا قيل‏:‏ إني أشهد الله وأشهدكم ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة انتهى‏.‏ وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحاً، لأن يعملا فيه تقول أعطيت زيداً ووهبت لعمرو ديناراً، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو‏:‏ قام وضربت زيداً‏.‏ وما في ما تشركون موصولة، إما مصدرية، وإما بمعنى الذي أي‏:‏ بريء من إشراككم آلهة من دونه، أو من الذين تشركون، وجميعاً حال من ضمير كيدوني الفاعل، والخطاب إنما هو لقومه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أنتم وآلهتكم انتهى‏.‏ قيل‏:‏ ومجاهرة هود عليه السلام لهم بالبراءة من أديانهم، وحضه إياهم على كيده هم وأصنامهم معجزة لهود، أو حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكثرتهم، فلم يقدروا على نيله بسوء، ثم ذكر توكله عل الله معلماً أنه ربه وربهم، ومنبهاً على أنه من حيث هو ربكم يجب عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه، ومفوضاً أمره إليه تعالى ثقة بحفظه وانجاز موعوده، ثم وصف قدرة الله تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه، فأنتم من جملة أولئك المقهورين‏.‏ وقوله‏:‏ آخذ بناصيتها تمثيل، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته، حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنساناً بالذلة والخضوع قالت‏:‏ ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء ثم أخبر أنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام، وعلى طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده من توكل عليه، قوله الصدق، ووعده الحق‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ فإن تولوا أي تتولوا مضارع تولى‏.‏ وقرأ الأعرج وعيسى الثقفي‏:‏ تولوا بضم التاء، واللام مضارع ولّى، وقيل‏:‏ تولوا ماض ويحتاج في الجواب إلى إضمار قول، أي‏:‏ فقل لهم قد أبلغتكم، ولا حاجة تدعو إلى جعله ماضياً وإضمار القول‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون تولوا فعلاً ماضياً، ويكون في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب أي‏:‏ فقد أبلغتكم انتهى‏.‏ فلا يحتاج إلى إضمار، والظاهر أنّ الضمير في تولوا عائد على قوم هود، وخطاب لهم من تمام الجمل المقولة قبل‏.‏ وقال التبريزي‏:‏ هو عائد على كفار قريش، وهو من تلوين الخطاب، انتقل من خطاب قوم هود إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنه قيل‏:‏ أخبرهم عن قصة قوم هود، وادعهم إلى الإيمان بالله لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود، فإن تولوا فقل لهم‏:‏ قد أبلغتكم‏.‏

وجواب الشرط هو قوله‏:‏ فقد أبلغتكم، وصح أن يكون جواباً، لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل، فكأنه قيل‏:‏ فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب‏.‏ ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله‏:‏ ويستخلف ربي قوماً غيركم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ معناه فإن تولوا لم أعاقب على تفريط في الإبلاغ، فإنّ ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ المعنى أنه ما عليّ كبيرهم منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ويستخلف بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف أي‏:‏ يهلككم ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم‏.‏ وقرأ حفص في رواية هبيرة‏:‏ بجزمها عطفاً على موضع الجزاء، وقرأ عبد الله كذلك، وبجزم ولا تضروه، وقرأ الجمهور‏:‏ ولا تضرونه أي شيئاً من الضرر بتوليتكم، لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار والمنافع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ يحتمل من المعنى وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئاً أي‏:‏ لا ينقص ملكه، ولا يختل أمره، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود ولا تنقصونه شيئاً‏.‏ والمعنى الآخر‏:‏ ولا تضرونه أي‏:‏ ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء، ولا على انتصار منه، ولا تقابلون فعله بشيء يضره انتهى‏.‏ وهذا فعل منفي ومدلوله نكرة، فينتفي جميع وجوه الضرر، ولا يتعين واحد منها‏.‏ ومعنى حفيظ رقيب محيط بالأشياء علماً لا يخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم، وهو يحفظني مما تكيدونني به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

الجبار‏:‏ المتكبر‏.‏ العنيد‏:‏ الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يصغي إليه، من عند يعند حاد عن الحق إلى جانب، وقيل‏:‏ ومنه عندي كذا أي‏:‏ في جانبي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ العنيد والعنود والمعاند والعاند المعارض بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم‏:‏ عاند‏.‏

‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ‏.‏ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود‏}‏‏:‏ الأمر واحد الأمور، فيكون كناية عن العذاب، أو عن القضاء بهلاكهم‏.‏ أو مصدر أمر أي أمرنا للريح أو لخزنتها‏.‏ والذين آمنوا معه قيل‏:‏ كانوا أربعة آلاف، قيل‏:‏ ثلاثة آلاف‏.‏ والظاهر تعلق برحمة منا بقوله‏:‏ نجينا أي، نجيناهم بمجرد رحمة من الله لحقتهم، لا بأعمالهم الصالحة‏.‏ أو كنى بالرحمة عن أعمالهم الصالحة، إذ توفيقهم لها إنما هو بسبب رحمته تعالى إياهم‏.‏ ويحتمل أن يكون متعلقاً بآمنوا أي‏:‏ أنّ إيمانهم بالله وبتصديق رسوله إنما هو برحمة الله تعالى إياهم، إذ وفقهم لذلك‏.‏ وتكررت التنجية على سبيل التوكيد، ولقلق من لو لاصقت منا فأعيدت التنجية وهي الأولى، أو تكون هذه التنجية هي من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه، فأعيدت لأجل اختلاف متعلقيها‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فما معنى تكرير التنجية‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى، وكانت التنجية من عذاب غليظ قال‏:‏ وذلك أن الله عز وعلا بعث عليهم السموم، فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضواً عضواً انتهى‏.‏ وهذا قاله الزجاج‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يريد، وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح، فيكون المقصود على هذا تعديد النعمة، والمشهور في عذابهم بالريح أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها، وتحمل الظعينة كما هي، ونحو هذا‏.‏ وتلك عاد إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض‏}‏ فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف الإخبار عنهم فقال‏:‏ جحدوا بآيات ربهم أي‏:‏ أنكروها‏.‏ وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيهاً على أنه مالكهم ومربيهم، فأنكروا آياته، والواجب إقرارهم بها‏.‏ وأصل جحد أن يتعدى بنفسه، لكنه أجرى مجرى كفر فعدى بالباء، كما عدى كفر بنفسه في قوله‏:‏ ألا أن عادا كفروا ربهم، إجراء له مجرى جحد‏.‏ وقيل‏:‏ كفر كشكر يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر‏.‏ وعصوا رسله، قيل‏:‏ عصوا هوداً والرسل الذين كانوا من قبله، وقيل‏:‏ ينزل تكذب الرسول الواحد منزلة تكذيب الرسل، لأنهم كلهم مجمعون على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته كقوله‏:‏

‏{‏لا نفرق بين أحد من رسله‏}‏ وأتبعوا أي‏:‏ اتبع سقاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم، والمعنى‏:‏ أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به‏.‏ قال الكلبي‏:‏ الجبار هو الذي يقتل على الغضب، ويعاقب على المعصية، وقال الزجاج‏:‏ هو الذي يجبر الناس على ما يريد‏.‏ وذكر ابن الأنباري‏:‏ أنه العظيم في نفسه، المتكبر على العباد‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ واتبعوا عام في جميع عاد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لما كانوا تابعين له دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله انتهى‏.‏ فظاهر كلامه يدل على أن اللعنة مختصة بالتابعين للرؤساء، ونبه على علة اتباع اللعنة لهم في الدارين بأنهم كفروا ربهم، فالكفر هو الموجب للعنة‏.‏ ثم كرر التنبيه بقوله‏:‏ ألا في الدعاء عليهم تهويلاً لأمرهم، وتفظيعاً له، وبعثاً على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم‏.‏ وفائدة قوله‏:‏ قوم هود مزيد التأكيد للمبالغة في التنصيص، أو تعيين عاد هذه من عاد ارم، لأنّ عاداً إثنان ولذلك قال تعالى‏:‏ وأنه أهلك، عاداً الأولى، فتحقق أن الدعاء على عاد هذه، ولم تلتبس بغيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قرأ ابن وثاب والأعمش‏:‏ وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي، والجمهور على منع الصرف ذهاباً إلى القبيلة‏.‏ أنشأكم اخترعكم وأوجدكم، وذلك باختراع آدم أصلهم، فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع‏.‏ وقيل‏:‏ من الأرض باعتبار الأصل المتولد منه النبات، المتولد منه الغذاء، المتولد منه المني ودم الطمث، المتولد منهما الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ من بمعنى في واستعمركم جعلكم عماراً‏.‏ وقيل‏:‏ استعمركم من العمر أي‏:‏ استبقاكم فيها قاله الضحاك أي، أطال أعماركم‏.‏ وقيل‏:‏ من العمرى، قاله مجاهد‏:‏ فيكون استعمر في معنى أعمر، كاستهلكه في معنى أهلكه‏.‏ والمعنى‏:‏ أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم‏.‏ أو بمعنى‏:‏ جعلكم معمرين دياركم فيها، لأنّ من ورث داره من بعده فإنه أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ استعمركم أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وغرس أشجار‏.‏ وقيل‏:‏ ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها، إن ربي قريب أي‏:‏ داني الرحمة، مجيب لمن دعاه‏.‏ قد كنت فينا مرجواً‏.‏ قال كعب‏:‏ كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم، لأنه كان ذا حسب وثروة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كانوا يرجعون رجوعه إلى دينهم، إذ كان يبغض أصنامهم، ويعدل عن دينهم، فلما أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه‏.‏ وذكر الماوردي يرجون خيره، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خيره‏.‏ وبسط الزمخشري هذا القول فقال‏:‏ فينا فيما بيننا مرجواً كانت تلوح فيك مخايل الخير وجمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور مسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أنْ لا خير فيك انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ لما كان قوى الخاطر، وكان من قبيلتهم، قوي رجاؤهم في أنْ ينصر دينهم ويقوي مذهبهم‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله‏:‏ مرجواً مشوراً، نؤمل فيك أن تكون سيداً سادًّا مسدّ الأكابر، ثم قرروه على التوبيخ في زعمهم بقولهم‏:‏ أتنهانا‏.‏ وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال‏:‏ معناه حقيراً، فإما أن يكون لفظ مرجو بمعنى حقير، فليس ذلك في كلام العرب، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى، وذلك أنّ القصد بقولهم‏:‏ مرجواً بقول‏:‏ لقد كنت فينا سهلاً مرامك، قريباً رد أمرك ممن لا يظن أنْ يستعجل من أمره مثل هذا‏.‏ فمعنى مرجواً أي‏:‏ مؤخراً اطراحه وغلبته‏.‏ ونحو هذا فيكون ذلك على جهة الاحتقار، ولذلك فسر بحقير، ثم يجيء قولهم‏:‏ أتنهانا، على جهة التوعد والاستبشاع لهذه المقالة منه انتهى‏.‏ وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية، وأنا وإننا لغتان لقريش‏.‏ قال الفراء‏:‏ من قال إننا أخرج الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين ن، فاجتمعت ثلاث نونات‏.‏

ومن قال‏:‏ أنا استثقل، اجتماعها، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى‏.‏ والذي أختاره أن ن ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون الثانية من أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف‏.‏ وأيضاً فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين، ولم يعهد حذف نون ن، فكان حذفها من أن أولى‏.‏ ومريب اسم فاعل من متعد، أرابه أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة‏.‏ أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة، وأسند ذلك إلى الشك إسناداً مجازياً، ووجود مثل هذا الشك كوجود التصميم على الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 65‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏‏}‏

تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح، والمفعول الثاني هنا لأرأيتم محذوف يدل عليه قوله‏:‏ فمن ينصرني من الله إن عصيته، والتقدير‏:‏ أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ أرأيتم هو من رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة، وهي كان على بينة من ربه، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال‏:‏ قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إنْ تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذابه‏؟‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي الكلام محذوف تقديره‏:‏ أيضرني شككم، أو أيمكنني طاعتكم، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى‏.‏ وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله‏:‏ فمن ينصرني من الله إن عصيته، فما تزيدونني غير تخسير‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران، وأقول أنكم خاسرون انتهى‏.‏ يفعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته أي‏:‏ نسبته أي الفسق والفجور‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه ما تزيدونني بعبادتكم إلا بصارة في خسرانكم انتهى‏.‏ فهو على حذف مضاف أي‏:‏ غير بصارة تخسيركم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خساراً، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان سألهم الإيمان‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ فما تعطوني فيما اقتضيته منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم، وهو من الخسارة وليس التخسير إلا لهم، وفي حيزهم، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه‏:‏ أنا أريدك خيراً وأنت تريدني سوءاً، وكان الوجه البين أن يقول‏:‏ وأنت تريد شراً، لكن من حيث كنت مريد خير، ومقتضى ذلك حسن أن يضيف الزيادة إلى نفسك انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير فما تحملونني عليه، غير أني أخسركم أي‏:‏ أرى منكم الخسران‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير تخسروني أعمالكم وتبطلونها‏.‏ قيل وهذا أقرب، لأن قوله‏:‏ فمن ينصرني من الله إن عصيته كالدلالة على أنه أراد إن اتبعتكم فيما أنتم عليه ودعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين، فأصير من الهالكين الخاسرين‏.‏ وانتصب آية على الحال، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقاً، أهو حرف التنبيه‏؟‏ أو اسم الإشارة‏؟‏ أو فعل محذوف‏؟‏ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان نعتاً لآية، فلما تقدم على النكرة كان حالاً، والعامل فيها محذوف‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ فبم يتعلق لكم‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ بآية حالاً منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى‏.‏

وهذا متناقض، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولاً لآية، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف، فتناقض هذا الكلام، لأنه من حيث كونه معمولاً لها كانت هي العاملة، ومن حيث كونه حالاً منها كان العامل غيرها، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ تأكل بالرفع على الاستئناف، أو على الحال‏.‏ وقريب عاجل لا يستأخر عن مسكموها بسوء إلا يسيراً، وذلك ثلاثة أيام، ثم يقع عليكم، وهذا الإخبار بوحي من الله تعالى، فعقروها نسب إلى جميعهم وإن كان العاقر واحداً لأنه كان برضا منهم، وتمالؤ‏.‏ ومعنى تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي‏:‏ يتصرف، يقال‏:‏ ديار بكر لبلادهم قاله الزمخشري‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ في داركم جمع دارة، كساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

له داع بمكة مشمعل *** وآخر فوق دارته ينادي

ويمكن أن يسمي جميع مسكن الحي داراً انتهى‏.‏ ذلك أي‏:‏ الوعد بالعذاب غير مكذوب، أي صدق حق‏.‏ والأصل غيره مكذوب فيه، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 68‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

الصيحة‏:‏ فعلة للمرة الواحدة من الصياح، يقال‏:‏ صاح يصبح إذا صوت بقوة‏.‏

‏{‏فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود‏}‏‏:‏ والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود‏.‏ قيل‏:‏ الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من بمحذوف أي‏:‏ ونجيناهم من خزي، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ‏.‏ وقرأ طلحة وأبان بن تغلب‏:‏ ومن خزي بالتنوين، ونصب يومئذ على الظرف معمولاً لخزي‏.‏ وقرأ الجمهور بالإضافة، وفتح الميم نافع والكسائي، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ، وهو غير متمكن‏.‏ وقرأ باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي‏:‏ ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر وحل بهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة انتهى‏.‏ وهذا ليس بجيد، لأن التنوين في إذ تنوين العوض ولم يتقدم إلا قوله، فلما جاء أمرنا ولم تتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضاً من الجملة التي تكون في يوم القيامة‏.‏ وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز، فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام، والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الأعراف ألا إن ثمود، منع حمزة وحفص صرفه، وصرفه الباقون، لثمود صرفه الكسائي، ومنعه باقي السبعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 73‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

حنذت الشاة أحنذها حنذا شويتها، وجعلت فوقها حجارة لتنضجها فهي حنيذ، وحنذت الفرس أحضرته شوطاً أو شوطين ثم ظاهرت عليه الجلال في الشمس ليعرق‏.‏ أوجس الرجل قال الأخفش‏:‏ خامر قلبه، وقال الفراء‏:‏ استشعر، وقيل‏:‏ أحس‏.‏ والوجيس ما يعتري النفس عند أوائل الفزع، ووجس في نفسه كذا خطر بها يجس وجسا ووجوساً وتوجس تسمع وتحسس‏.‏ قال‏:‏

وصادقتا سمع التوجس للسرى *** لهجس خفي أو لصوت مندد

الضحك معروف، وكان ينبغي أن يذكر في سورة التوبة في قوله‏:‏ ‏{‏فليضحكوا قليلاً‏}‏ ويقال‏:‏ ضحك بفتح الحاء، والضحكة الكثير الضحك، والضحكة المضحوك منه، ويقال‏:‏ ضحكت الأرنب أي حاضت، وأنكر أبو عبيدة والفراء وأبو عبيد‏:‏ ضحك بمعنى حاض، وعرف ذلك غيرهم‏.‏ وقال الشاعر أنشده اللغويون‏:‏

وضحك الأرانب فوق الصفا *** كمثل دم الجوف يوم اللقا

وقال الآخر‏:‏

وعهدي بسلمى ضاحكاً في لبانة *** ولم يعد حقاً ثديها أن يحلما

أي حائضاً في لبانة، واللبانة والعلاقة والشوذر واحد‏.‏ ومنه ضحكت الكافورة إذا انشقت، وضحكت الشجرة سال منها صمغها وهو شبه الدم، وضحك الحوض امتلأ وفاض‏.‏

الشيح‏:‏ معروف، والفعل شاخ يشيخ، وقد يقال للأنثى‏:‏ شيخة‏.‏ قال‏:‏

وتضحك مني شيخة عبشمية *** ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان، ومن أسماء الجموع مشيخة ومشيوخاء‏.‏ المجيد قال ابن الأعرابي‏:‏ الرفيع‏.‏ يقال‏:‏ مجد يمجد مجداً ومجادة ومجد، لغتان أي كرم وشرف، وأصله من قولهم‏:‏ مجدت الإبل تمجد مجداً شبعت‏.‏ وقال‏:‏ أمجدت الدابة أكثرت علفها، وقال أبو حية النميري‏:‏

تزبد على صواحبها وليست *** بماجدة الطعام ولا الشراب

أي‏:‏ ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب‏.‏ وقال الليث‏:‏ أمجد فلان عطاء ومجده إذا كثره، ومن أمثالهم «في كل شجر نار» واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من النار‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ مجد الشيء إذا حسنت أوصافه‏.‏ الروع‏:‏ الفزع قال الشاعر‏:‏

إذا أخذتها هزة الروع أمسكت *** بمنكب مقدام على الهول أروعا

‏{‏ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب قالت يويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت ‏{‏إنه حميد مجيد‏}‏‏:‏ تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف، وإنما أدرج شيئاً من أخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط، لأنّ له مدخلاً في قصة لوط، وكان ابراهيم بن خالة لوط‏.‏ والرسل هنا الملائكة، بشرت إبراهيم بثلاث بشائر‏:‏ بالولد، وبالخلة، وبإنجاء لوط ومن آمن معه‏.‏

قيل‏:‏ كانوا اثنى عشر ملكاً، روى ذلك عن ابن عباس‏.‏ وقال السدي‏:‏ أحد عشر، وحكى صاحب الغنيان عشرة منهم جبريل‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ تسعة، وقال محمد بن كعب‏:‏ ثمانية، وحكى الماوردي‏:‏ أربعة، وقال ابن عباس وابن جبير‏:‏ ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ جبريل، وميكائيل، وملك الموت‏.‏ وروي‏:‏ أن جبريل عليه السلام كان مختصاً بإهلاك قوم لوط، وميكائيل ببشرى إبراهيم بإسحاق عليهما السلام، وإسرافيل بإنجاء لوط ومن آمن معه‏.‏ قيل‏:‏ وكانت الملائكة جرداً مرداً على غاية من الحسن والجمال والبهجة، ولهذا يضرب بهم المثل في الحسن كما قال تعالى حكاية عما قيل في يوسف‏:‏ ‏{‏ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم‏}‏ وقال الغزي‏:‏

قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة *** حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي‏:‏ سلمنا عليك سلاماً، فسلاماً قطعه معمولاً للفعل المضمر المحكى بقالوا، قال ابن عطية‏:‏ ويصح أن يكون سلاماً حكاية لمعنى ما قالوا، لا حكاية للفظهم، قاله‏:‏ مجاهد، والسدي‏.‏ ولذلك عمل فيه القول، كما تقول لرجل قال‏:‏ لا إله إلا الله قلت‏:‏ حقاً وإخلاصاً، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى‏.‏ ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول، يعني في اللفظ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول‏.‏ وسلام خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ أمري أو أمركم سلام، أو مبتدأ محذوف الخبر أي‏:‏ عليكم سلام، والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال‏:‏

إ ذا ذقت فاها قلت طعم مدامة *** أي طعمه طعم مدامة‏.‏

وقرأ الإخوان قال‏:‏ سلم، والسلم السلام كحرم وحرام، ومنه قول الشاعر‏:‏

مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت *** كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح

اكتل اتخذ إكليلاً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول‏:‏ نحن سلم لكم انتهى‏.‏ ونصب سلاماً يدل على التجدد، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية، ولبث معناه تأخر وأبطأ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله‏:‏ الفراء‏.‏ وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن، وبفي، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي‏.‏ وأن تكون ما مصدرية، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء، وأن تكون بمعنى الذي أي‏:‏ فلبثه، أو الذي لبثه، أو الذي لبثه، والخبر أن جاء على حذف أي‏:‏ قدر مجيئه، وهذا من أدب الضيافة، وهو تعجيل القرى‏.‏ وكان مال إبراهيم البقر، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ حنيذ مطبوخ، وقال الحسن‏:‏ نضيج مشوي سمين يقطر ودكا‏.‏ وقال السدي‏:‏ سمين، وقيل‏:‏ سميط لا يصل إليه، أي إلى العجل‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يمدون أيديهم إلى أكله، فلم ينف الوصول الناشئ عن المد بل جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل‏.‏

نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر‏:‏

وأنكرتني وما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشيب والصلعا

وقيل‏:‏ نكر فيما يرى، وأنكر فيما لا يرى من المعاني، فكأنّ الشاعر قال‏:‏ وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر‏.‏ ومنه قول أبي ذؤيب‏:‏

فنكرنه فنفرن وامترست به *** هو جاء هادية وهاد جرشع

وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أو لا ويكون بتلفت ومسارعة، لا بتحديد النظر، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصراً في الأكل‏.‏ قيل‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروهاً‏.‏ وقيل‏:‏ كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه، أو لتعذيب قومه‏.‏ ألا ترى إلى قولهم‏:‏ لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فأوجس وقع في قلبه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ حدث به نفسه، قيل‏:‏ وأصل الوجوس الدخول، فكأن الخوف دخل عليه‏.‏ والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر، وكان مشغوفاً بإكرام الأضياف، فلذلك جاؤوا في صورهم، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم، ولأنّ امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم‏:‏ لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، فنهوه عن شيء وقع في نفسه، وعرفوا خيفته بكون الله جعل لهم من الاطلاع ما لم يجعل لغيرهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون ما تفعلون‏}‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ «قالت الملائكة ربي عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة» الحديث، أو بما يلوح في صفحات وجه الخائف‏.‏ وامرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء‏:‏ في موضع الحال، قال أبو البقاء‏:‏ من ضمير الفاعل في أرسلنا، يعني المفعول الذي لم يسم فاعله، والزمخشري يسميه فاعلاً لقيامه مقام الفاعل‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال قيام امرأته، يعني امرأة ابراهيم‏.‏ والظاهر أنه حال من ضمير قالوا أي‏:‏ قالوا لا إبراهيم لا تخف في حال قيام امرأته وهي سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عمه، قائمة أي‏:‏ لخدمة الأضياف، وكانت نساؤهم لا تحتجب كعادة الأعراب، ونازلة البوادي والصحراء، ولم يكن التبرج مكروهاً، وكانت عجوزاً، وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق قاله‏:‏ مجاهد‏.‏ وجاء في شريعتنا مثل هذا من حديث أبي أسيد الساعدي‏:‏ وكانت امرأته عروساً، فكانت خادمة الرسول ومن حضر معه من أصحابه‏.‏

وقال وهب‏:‏ كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ قائمة تصلي‏.‏ وقال المبرد‏:‏ قائمة عن الولد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وفي مصحف عبد الله وامرأته قائمة وهو قاعد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ وهي قائمة وهو جالس‏.‏ ولم يتقدّم ذكر امرأة ابراهيم فيضمر، لكنه يفسره سياق الكلام‏.‏

قال مجاهد وعكرمة‏:‏ فضحكت حاضت‏.‏ قال الجمهور‏:‏ هو الضحك المعروف‏.‏ فقيل‏:‏ هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه، يقال‏:‏ أتيت على روضة تضحك أي مشرقة‏.‏ وقيل‏:‏ هو حقيقة‏.‏ فقال مقاتل‏:‏ وروي عن ابن عباس ضحكت من شدّة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه‏.‏ والذين جاؤوه ثلاثة، وهي تعهده يغلب الأربعين، وقيل‏:‏ المائة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت‏:‏ عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا، وهم لا يأكلون طعامنا‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ ضحكت من البشارة بإسحاق، وقال‏:‏ هذا مقدم بمعنى التأخير‏.‏ وذكر ابن الأنباري أنّ ضحكها كان سروراً بصدق ظنها، لأنها كانت تقول لابراهيم‏:‏ اضمم إليك ابن أخيك لوطاً وكان أخاها، فإنه سينزل العذاب بقومه‏.‏ وقيل‏:‏ ضحكت لما رأت من المعجز، وهو أنّ الملائكة مسحت العجل الحنيذ فقام حياً يطفر، والذي يظهر والله أعلم أنهم لما لم يأكلوا، وأوجس في نفسه خيفة بعدما نكر حالهم، لحق المرأة من ذلك أعظم ما لحق الرجل‏.‏ فلما قالوا‏:‏ لا تخف، وذكروا سبب مجيئهم زال عنه الخوف وسرّ، فلحقها هي من السرور ان ضحكت، إذ النساء في باب الفرح والسرور أطرب من الرجال وغالب عليهن ذلك‏.‏ وقد أشار الزمخشري إلى طرف من هذا فقال‏:‏ فضحكت سروراً بزوال الخيفة‏.‏ وذكر محمد بن قيس سبباً لضحكها تركنا ذكره لفظاعته، يوقف عليه في تفسير ابن عطية‏:‏ وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من قراء مكة‏:‏ فضحكت بفتح الحاء‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وفتح الحاء غير معروف، فبشرناها هذا موافق لقوله تعالى‏:‏ ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى، والمعنى‏:‏ فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإسحاق، وبأن إسحاق سيلد يعقوب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى، إذ كان ذلك بأمره ووحيه‏.‏ وقال غيره‏:‏ لما ولد لابراهيم اسماعيل عليهما السلام من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبياً ويلد نبياً، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها‏.‏ وإنما بشروها دونه، لأنّ المرأة أعجل فرحاً بالولد، ولأن إبراهيم قد بشروه وأمنوه من خوفه، فأتبعوا بشارته ببشارتها‏.‏ وقيل‏:‏ خصت بالبشارة حيث لم يكن لها ولد، وكان لإبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل‏.‏

والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسماً غير ظرف بدخول من عليه كأنه قيل‏:‏ ومن بعد إسحاق، أو من خلف إسحاق، وبمعنى بعد، روي عن ابن عباس واختاره مقاتل وابن قتيبة، وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ أن الوراء ولد الولد، وبه قال الشعبي‏:‏ واختاره أبو عبيدة‏.‏

وتسميته وراء هي قريبة من معنى وراء الظرف، إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف يكون يعقوب وراء لإسحاق وهو ولده لصلبه، وإنما الوراء ولد الولد‏؟‏ فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال‏:‏ المعنى ومن الوراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب، لأنه قد كان الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق، فلو قال‏:‏ ومن الوراء يعقوب، لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق أم إلى إسماعيل، فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس انتهى‏.‏ وبشرت من بين أولاد إسحاق بيعقوب، لأنها رأته ولم تر غيره، وهذه البشارة لسارة كانت وهي بنت تسع وتسعين سنة، وابراهيم ابن مائة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ كان بينهما غير ذلك، وهي أقوال متناقضة‏.‏

وهذه الآية تدل على أنّ إسماعيل هو الذبيح، لأن سارة حين أخدمها الملك الجبار هاجر أم إسماعيل كانت شابة جميلة، فاتخذ إبراهيم هاجر سرية، فغارت منها سارة، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق، وجاء من يومه مكة، وانصرف إلى الشام من يومه، ثم كانت البشارة بإسحاق وسارة عجوز محالة، وسيأتي الدليل على ذلك أيضاً من سورة والصافات‏.‏ ويجوز أن يكون الله سماها حالة البشارة بهذين الاسمين، ويجوز أن يكون الإسمان حدثا لها وقت الولادة، وتكون البشارة بولد ذكر بعده ولد ذكر، وحالة الإخبار عن البشارة ذكراً باسمها كما يقول المخبر‏:‏ إذا بشر في النوم بولد ذكر فولد له ولد ذكر فسماه مثلاً عبد الله‏:‏ بشرت بعبد الله‏.‏ وقرأ الحرميان، والنحويان، وأبو بكر يعقوب‏:‏ بالرفع على الابتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل‏:‏ ومن وراء إسحاق يعقوب كائن، وقدره الزمخشري مولود أو موجود‏.‏ قال النحاس‏:‏ والجملة حال داخلة في البشارة أي‏:‏ فبشرناها بإسحاق متصلاً به يعقوب‏.‏ وأجاز أبو علي أنْ يرتفع بالجار والمجرور، كما أجازه الأخفش أي‏:‏ واستقرّ لها من وراء إسحاق يعقوب‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ رفعه على القطع بمعنى ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب‏.‏ وقال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره‏:‏ ويحدث من وراء إسحاق يعقوب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وعلى هذا لا تدخل البشارة انتهى‏.‏ ولا حاجة إلى تكلف القطع والعدول عن الظاهر المقتضى للدخول في البشارة‏.‏

وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص، وزيد بن علي‏:‏ يعقوب بالنصب‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله‏:‏ ليسوا مصلحين عشيرة، ولا ناعب، انتهى‏.‏ يعني أنه عطف على التوهم، والعطف على التوهم لا ينقاس، والأظهر أن ينتصب يعقوب بإضمار فعل تقديره‏:‏ ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب، ودل عليه قوله‏:‏ فبشرناها، لأن البشارة في معنى الهبة، ورجح هذا الوجه أبو علي ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بإسحاق، أو على موضعه‏.‏

فقوله ضعيف، لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، لا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو، فإن جاء ففي شعر‏.‏ فإنْ كان المعطوف منصوباً أو مرفوعاً، ففي جواز ذلك خلاف نحو‏:‏ قام زيد واليوم عمرو، وضربت زيداً واليوم عمراً والظهر أن الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإضافة نحو‏:‏ يا لهفا ويا عجباً، وأمال الألف من يا ويلتا عاصم وأبو عمرو والأعشى، إذ هي بدل من الياء‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ يا ويلتي بالياء على الأصل‏.‏ وقيل‏:‏ الألف ألف الندبة، ويوقف عليها بالهاء‏.‏ وأصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفس، ثم استعمل بعد في عجب يدهم النفس‏.‏ ويا ويلتا كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه، واستفهمت بقولها أألد استفهام إنكار وتعجب، وأنا عجوز وما بعده جملتا حال، وانتصب شيخاً على الحال عند البصريين، وخبر التقريب عند الكوفيين‏.‏ ولا يستغنى عن هذه الحال إذا كان الخبر معروفاً عند المخاطب، لأنّ الفائدة إنما تقع بهذه الحال، أما إذا كان مجهولاً عنده فأردت أن تفيد المخاطب ما كان يجهله، فتجيء الحال على بابها مستغنى عنها‏.‏

وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش، شيخ بالرفع‏.‏ وجوزوا فيه‏.‏ وفي بعلي أن يكونا خبرين كقولهم‏:‏ هذا حلو حامض، وأن يكونن بعلى الخبر، وشيخ خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من بعلي، وأن يكون بعلي بدلاً أو عطف بيان، وشيخ الخبر‏.‏ والإشارة بهذا إلى الولادة أو البشارة بها تعجبت من حدوث ولد بين شيخين هرمين، واستغربت ذلك من حيث العادة، لا إنكاراً لقدرة الله تعالى‏.‏ قالوا‏:‏ أي الملائكة أتعجبين‏؟‏ استفهام إنكار لعجبها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادة، فكان عليها أن تتوفر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب‏.‏ وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولهم‏:‏ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، أرادوا أنّ هذه وأمثالها مما يكرمكم رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة‏؟‏ فليست بمكان عجيب، وأمر الله قدرته وحكمته‏.‏ وقوله‏:‏ رحمة الله وبركاته عليكم كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل‏:‏ إياك والتعجب، فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم‏.‏ وقيل‏:‏ الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بني إسرائيل، لأن الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ رحمته تحيته، وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة‏.‏ وروي أن سارة قالت لجبريل عليه السلام‏:‏ ما آية ذلك‏؟‏ فأخذ عوداً بابساً فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فسكن روعها وزال عجبها‏.‏

وهذه الجملة المستأنفة يحتمل أن تكون خبراً وهو الأظهر، لأنه يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، ويحتمل أن يكون دعاء وهو مرجوح، لأن الدعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد‏.‏ وأهل منصوب على النداء، أو على الاختصاص، وبين النصب على المدح والنصب على الاختصاص فرق، ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أنّ المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح، كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم، والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا لمدح أو ذم، لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم كقوله‏:‏ بنا تميماً يكشف الضباب‏.‏ وقوله‏:‏ ولا الحجاج عيني بنت ماء‏.‏ وخطاب الملائكة أياها بقولهم‏:‏ أهل البيت، دليل على اندراج الزوجة في أهل البيت، وقد دل على ذلك أيضاً في سورة الأحزاب خلافاً للشيعة إذ لا يعدون الزوجة من أهل بيت زوجها، والبيت يراد به بيت السكنى‏.‏ إنه حميد‏:‏ وقال أبو الهيثم تحمد أفعاله وهو بمعنى المحمود‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فاعل ما يستوجب من عباده، مجيد كريم كثير الإحسان إليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

والفعل راع يروع قال‏:‏

ما راعني إلا حمولة أهلها *** وسط الديار نسف حب الخمخم

وقال النابغة‏:‏

فارتاع من صوت كلاب فبات له *** طوع الشوامت من خوف ومن صرد

والروع بضم الراء النفس، لأنها موضع الروع‏.‏

‏{‏فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب‏.‏ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود‏}‏‏:‏ الروع الخيفة التي كان أو جسها في نفسه حين نكر أضيافه، والمعنى‏:‏ اطمأن قلبه بعلمه أنّهم ملائكة‏.‏ والبشرى تبشيره بالولد، أو بأنَّ المراد بمجيئهم غيره‏.‏ وجواب لما محذوف كما حذف في قوله‏:‏ ‏{‏فلما ذهبوا به‏}‏ وتقديره‏:‏ اجترأ على الخطاب اذ فطن للمجادلة، أو قال‏:‏ كيت وكيت‏.‏ ودل على ذلك الجملة المستأنفة وهي يجادلنا، قال معناه الزمخشري‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب يجادلنا وضع المضارع موضع الماضي، أي جادلنا‏.‏ وجاز ذلك لوضوح المعنى، وهذا أقرب الأقوال‏.‏ وقيل‏:‏ يجادلنا حال من إبراهيم، وجاءته حال أيضاً، أو من ضمير في جاءته‏.‏ وجواب لما محذوف تقديره‏:‏ قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا، واختار هذا التوجيه أبو علي‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب محذوف تقديره‏:‏ ظل أو أخذ يجادلنا، فحذف اختصاراً لدلالة ظاهر الكلام عليه‏.‏ والمجادلة قيل‏:‏ هي سؤاله العذاب واقع بهم لا محالة، أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة‏.‏ وقيل‏:‏ تكلماً على سبيل الشفاعة، والمعنى‏:‏ تجادل رسلنا‏.‏ وعن حذيفة انهم لما قالوا له‏:‏ إنا مهلكوا أهل هذه القرية قال‏:‏ أرأيتم ان كان فيها خمسون من المسلمين، أتهكلونها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فأربعون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فثلاثون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فعشرون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإن كان فيهم عشرة أو خمسة شك الراوي‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أرأيتم إن كان فيها رجل‏.‏ واحد من المسلمين أتهلكونها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، فعند ذلك قال‏:‏ إنَّ فيها لوطاً، قالوا‏:‏ نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله‏.‏ وكان ذلك من إبراهيم حرصاً على إيمان قوم لوط ونجاتهم، وكان في القرية أربعة آلاف ألف إنسان وتقدم تفسير حليم وأواه ومنيب‏.‏ يا إبراهيم أي‏:‏ قالت الملائكة، والاشارة بهذا إلى الجدال والمحاورة في شيء مفروغ منه، والأمر ما قضاه وحكم به من عذابه الواقع بهم لا محالة‏.‏ ولا مرد له بجدال، ولا دعاء، ولا غير ذلك‏.‏ وقرأ عمرو بن هرم‏:‏ وإنهم أتاهم بلفظ الماضي، وعذاب فاعل به عبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله ‏{‏أتى أمر الله‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 80‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

الذرع مصدر ذرع البعير بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه، مأخوذ من الذراع، ثم وضع موضع الطاقة فقيل‏:‏ ضاق به ذرعاً‏.‏ وقد يجعلون الذراع موضع الذرع قال‏:‏

إليك إليك ضاق بها ذرعاً *** وقيل‏:‏ كنى بذلك عن ضيق الصدر‏.‏ العصيب والعصبصب والعصوصب الشديد اللازم، الشر الملتف بعضه ببعض قال‏:‏

وكنت لزاز خصمك لم أعدد *** وقد سلكوك في يوم عصيب

قال أبو عبيدة‏:‏ سمى عصيباً لأنه يعصب الناس بالشر، والعصبة والعصابة الجماعة المجتمعة كلمتهم، أو المجتمعون في النسب‏.‏ وتعصبت لفلان وفلان معصوب أي‏:‏ مجتمع الخلق‏.‏ الإهراع‏:‏ قال شمر مشي بين الهرولة والجمز‏.‏ وقال الهروي‏:‏ هرع الرجل وأهرع استحث‏.‏ الضيف‏:‏ مصدر، وإذا أخبر به أو وصف لم يطابق في تثنية ولا جمع، هذا المشهور‏.‏ وسمع فيه ضيوف وأضياف وضيفان‏.‏ الركن‏:‏ معروف وهو الناحية من البيت، أو الجبل‏.‏ ويقال‏:‏ ركن بضم الكاف، ويجمع على أركان وأركن‏.‏ وركنت إلى فلان انضويت إليه‏.‏

‏{‏ولما جآءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد‏.‏ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد‏}‏‏:‏ خرجت الملائكة من قرية إبراهيم إلى قرية لوط وبنيهما قيل‏:‏ ثمانية أميال‏.‏ وقيل‏:‏ أربعة فراسخ، فأتوها عشاء‏.‏ وقيل‏:‏ نصف النهار، ووجدوا لوطا في حرث له‏.‏ وقيل‏:‏ وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم، وهي أكبر حواضر قوم لوط، فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط وقالت لهم‏:‏ مكانكم، وذهبت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليهم فقالوا‏:‏ إنّا نريد أنْ تضيفنا الليلة فقال لهم‏:‏ أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم‏؟‏ فقالوا‏:‏ وما عملهم‏؟‏ فقال‏:‏ أشهد بالله انهم شر قوم في الأرض‏.‏ وقد كان الله قال للملائكة‏:‏ لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل‏:‏ هذه واحدة، وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل لوط المدينة فحينئذ سيء بهم أي‏:‏ لحقه سوء بسببهم، وضاق ذرعه بهم، وقال‏:‏ هذا يوم عصيب أي شديد، لما كان يتخوفه من تعدى قومه على أضيافه‏.‏ وجاءه قومه يهرعون إليه، لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيته، فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت‏:‏ إن لوطاً قد أضاف الليلة فتية ما رؤي مثلهم جمالاً وكذا وكذا، فحينئذ جاؤوا يهرعون أي‏:‏ يسرعون، كما يدفعون دفعاً فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ يهرعون مبنياً للمفعول من أهرع أي يهرعهم الطمع‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ يهرعون بفتح الياء من هرع‏.‏ وقال مهلهل‏:‏

فجاؤوا يهرعون وهم أسارى *** يقودهم على رغم الانوف

ومن قبل كانوا يعملون السيآت أي‏:‏ كان ذلك ديدنهم وعادتهم، أصروا على ذلك ومرنوا عليه، فليس ذلك بأول انشاء هذه المعصية، جاؤا يهرعون لا يكفهم حياء لضراوتهم عليها، والتقدير في ومن قبل أي‏:‏ من قبل مجيئهم‏.‏ إلى هؤلاء الاضياف وطلبهم إياهم‏.‏ وقيل‏:‏ ومن قبل بعث لوط رسولاً إليهم‏.‏ وجمعت السيآت وإن كان المراد بها معصية اتيان الذكور، إما باعتبار فاعليها، أو باعتبار تكررها‏.‏ وقيل‏:‏ كانت سيآت كثيرة باختلاف أنواعها، منها اتيان الذكور، واتيان النساء في غير المأتي، وحذف الحصا، والحيق في المجالس والاسواق، والمكاء، والصفير، واللعب بالحمام، والقمار، والاستهزاء بالناس في الطرقات، ووضع درهم على الأرض وهم بعيدون منه فمن أخذه صاحوا عليه وخجلوه، وإنْ أخذه صبي تابعوه وراودوه‏.‏ هؤلاء بناتي‏:‏ الاحسن أنْ تكون الإضافة مجازية، أي‏:‏ بنات قومي، أي البنات أطهر لكم، إذ النبي يتنزل منزلة الاب لقومه‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم‏}‏ وهو أب لهم ويدل عليه أنَّه فيما قيل‏:‏ لم يكن له الابنتان، وهذا بلفظ الجمع‏.‏ وأيضاً فلا يمكن أنْ يزوج ابنتيه من جميع قومه‏.‏ وقيل‏:‏ أشار إلى بنات نفسه وندبهم إلى النكاح، إذْ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر‏.‏ أو على أنَّ في ضمن كلامه أنْ يؤمنوا‏.‏ وقيل‏:‏ كان لهم سيدان مطاعان فاراد أنْ يزوجهما ابنتيه زغورا وزيتا‏.‏ وقيل‏:‏ كنّ ثلاثاً‏.‏

ومعنى أطهر‏:‏ أنظف فعلاً‏.‏ وقيل‏:‏ أحل وأطهر بيتاً ليس أفعل التفضيل، إذ لا طهارة في اتيان الذكور‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ أطهر بالرفع والأحسن في الإعراب أنّ يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر‏.‏ وجوز في بناتي أنْ يكون بدلاً، أو عطف بيان، وهن فصل وأطهر الخبر‏.‏ وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي‏:‏ أطهر بالنصب‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ هو لحن‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ احتبي فيه ابن مروان في لحنه يعني‏:‏ تربع‏.‏ ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخرجت هذه القراءة على أنَّ نصب أطهر على الحال‏.‏ فقيل‏:‏ هؤلاء مبتدا، وبناتي هنّ مبتدأ وخبر في موضع خبر هؤلاء، وروي هذا عن المبرد‏.‏ وقيل‏:‏ هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن مبتدأ ولكم خبره، والعامل قيل‏:‏ المضمر‏.‏ وقيل‏:‏ لكم بما فيه من معنى الاستقرار‏.‏ وقيل‏:‏ هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن فصل، وأطهر حال‏.‏ ورد بأنَّ الفصل لا يقع إلا بين جزءي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال‏.‏ وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه عن العرب، لكنه قليل‏.‏

ثم أمرهم بتقوى الله في أنْ يؤثروا البنات على الاضياف‏.‏ ولا تخزون‏:‏ يحتمل أنْ يكون من الخزي وهو الفضيحة، أو من الخزاية وهو الاستحياء، لأنّه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي هو، وذلك من عراقة الكرم وأصل المروءة‏.‏ أليس منكم رجل يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء‏؟‏ وفي ذلك توبيخ عظيم لهم، حيث لم يكن منهم رشيد البتة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ رشيد مؤمن‏.‏ وقال أبو مالك‏:‏ ناه عن المنكر‏.‏ ورشيد ذو رشد، أو مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والظاهر أنَّ معنى من حق من نصيب، ولا من غرض ولا من شهوة، قالوا له ذلك على وجه الخلاعة‏.‏ وقيل‏:‏ من حق، لأنك لا ترى منا كحتنا، لأنّهم كانوا خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أنَّ من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبداً‏.‏ وقيل‏:‏ لما اتخذوا اتيان الذكران مذهباً كان عندهم أنّه هو الحق، وإن نكاح الاناث من الباطل‏.‏ وقيل‏:‏ لأنّ عادتهم كانت أنْ لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة، وكانوا كلهم متزوجين‏.‏ وإنك لتعلم ما نريد يعني‏:‏ من اتيان الذكور، ومالهم فيه من الشهوة‏.‏ قال‏:‏ لو أنّ لي بكم قوة، قال ذلك على سبيل التفجع‏.‏ وجواب لو محذوف كما حذف في‏:‏ ‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال‏}‏ وتقديره‏:‏ لفعلت بكم وصنعت‏.‏ والمعنى في إلى ركن شديد‏:‏ من يستند إليه ويمتنع به من عشيرته، شبه الذي يمتنع به بالركن من الجبل في شدته ومنعته، وكأنه امتنع عليه أن ينتصر ويمتنع بنفسه أو بغيره مما يمكن أن يستند إليه‏.‏ وقال الحوفي، وأبو البقاء‏:‏ أو آوي عطف على المعنى تقديره‏:‏ أو أني آوي‏.‏ والظاهر أن أو عطف جملة فعلية، على جملة فعلية إن قدرت إني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب إليه المبرد أي‏:‏ لو ثبت أن لي بكم قوة، أو آوي‏.‏ ويكون المضارع المقدر وآوى هذا وقعاً موقع الماضي، ولو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي، وإن قدرت أن وما بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه فهي عطف عليها من حيث أنّ لو تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية إذا كان الذي ينسبك إليها أنّ ومعمولاها‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ويجوز أن يكون أو آوي مستأنفاً انتهى‏.‏ ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل، ويكون قد أضرب عن الجملة السابقة وقال‏:‏ بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد، وكنى به عن جناب الله تعالى‏.‏ وقرأ شيبة، وأبو جعفر‏:‏ أو آوي بنصب الياء بإضمار أن بعد، أو فتتقدر بالمصدر عطفاً على قوله‏:‏ قوة‏.‏ ونظيره من النصب بإضمار أنْ بعد أو قول الشاعر‏:‏

ولولا رجال من رزام أعزة *** وآل سبيع أو يسوؤك علقما

أي أو ومساءتك علقماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

سرى وأسرى بمعنى واحد قاله أبو عبيدة والأزهري، وعن الليث أسرى سار أول الليل، وسرى سار آخره، ولا يقال في النهار إلا سار‏.‏ السجيل والسجين الشديد من الحجر قاله أبو عبيدة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ طين طبخ حتى صار بمنزلة الآجر‏.‏ وقيل‏:‏ هو فارسي، وسنك الحجر، وكل الطين يعرب فقيل‏:‏ سجين‏.‏ المنضود‏:‏ المجعول بعضه فوق بعض‏.‏

‏{‏قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏‏:‏ روي أن لوطاً عليه السلام غلبوه، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قال له الرسل‏:‏ تنح عن الباب فتنحى، وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه، فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون‏:‏ النجاة النجاة، فعند لوط قوم سحرة وتوعدوا لوطاً، فحينئذ قالوا له‏:‏ إنا رسل ربك‏.‏ وروي أن جبريل نقب من خصاص الباب، ورمى في أعينهم فعموا‏.‏ وقيل‏:‏ أخذ قبضة من تراب وأذراها في وجوههم، فأوصل إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب، فطمست أعينهم فلم يعرفوا طريقاً ولم يهتدوا إلى بيوتهم‏.‏ وقيل‏:‏ كسروا بابه وتهجموا عليه، ففعل بهم جبريل ما فعل‏.‏ والجملة من قوله‏:‏ لن يصلوا إليك، موضحة للذي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لن يصلوا إليه، ولم يقدروا على ضرره، ثم أمروه بأنْ يسري بأهله‏.‏ وقرأ الحرميان‏:‏ فاسر، وان أسر بوصل الألف من سرى، وباقي السبعة بقطعها، وأهله ابنتاه، وطائفة يسيرة من المؤمنين بقطع من الليل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ بطائفة من الليل، وقال الضحاك‏:‏ ببقية من آخره، وقال قتادة‏:‏ بعد مضي صدر منه، وقال ابن الأعرابي‏:‏ أي ساعة من الليل، وقيل‏:‏ بظلمة، وقيل‏:‏ إنه نصف، وقيل‏:‏ إنه نصف الليل مأخوذ من قطعه نصفين‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ونائحة تنوح بقطع ليل *** على رجل بقارعة الصعيد

وقال محمد بن زياد‏:‏ السحر، لقوله‏:‏ نجيناهم بسحر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع، ووقعت نجاته بسحر‏.‏ فتجتمع هذه الآية مع قوله ‏{‏إلا آل لوط نجيناهم بسحر‏}‏ انتهى‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ القطع بمعنى القطعة، مختص بالليل، ولا يقال عندي قطع من الثوب‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ إلا امرأتك بالرفع، وباقي السبعة بالنصب، فوجه النصب على أنه استثناء من قوله بأهلك، إذ قبله أمر، والأمر عندهم كالواجب‏.‏ ويتعين النصب على الاستثناء من أهلك في قراءة عبد الله، إذ سقط في قراءته وفي مصحفه‏:‏ ولا يلتفت منكم أحد‏.‏

وجوزوا أن يكون منصوباً على الاستثناء من أحد وإن كان قبله نهى، والنهي كالنفي على أصل الاستثناء، كقراءة ابن عامر‏:‏ ما فعلوه إلا قليلاً منهم بالنصب، وإن كان قبله نفي‏.‏ ووجه الرفع على أنه بدل من أحد، وهو استثناء متصل‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ لو كان الكلام ولا يلتفت برفع الفعل، ولكنه نهى‏.‏ فإذا استثنيت المرأة من أحد وجب أن تكون المرأة أبيح لها الالتفات، فيفيد معنى الآية يعني أنّ التقدير يصير إلا امرأتك، فإنها لم تنه عن الالتفات‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الاعتراض حسن يلزم أنّ الاستثناء من أحد رفعت التاء أو نصبت، والانفصال عنه يترتب بكلام محكي عن المبرد وهو أنّ النهي إنما قصد به لوط وحده، والالتفات منفي عنهم، فالمعنى‏:‏ أن لا تدع أحداً منهم يلتفت‏.‏ وهذا كما تقول لرجل‏:‏ لا يقم من هؤلاء أحد، وأولئك لم يسمعوك، فالمعنى‏:‏ لا تدع من هؤلاء يقوم، والقيام في المعنى منفى عن المشار إليهم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وفي إخراجها مع أهله روايتان‏:‏ روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت‏:‏ واقوماه، فأدركها حجر فقتلها‏.‏ وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، وأن هواها إليهم، ولم يسر بها‏.‏ واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى‏.‏ وهذا وهم فاحش إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سري بها، أو أنه لم يسر بها، وهذا تكاذب في الأخبار يستحيل أن تكون الفراءتان وهما من كلام الله تترتبان على التكاذب‏.‏ وقيل في الاستثناء من الأهل إشكال من جهة المعنى، إذ يلزم أن لا يكون سري بها، ولما التفتت كانت قد سرت معهم قطعاً، وزال هذا الإشكال أن يكون لم يسر بها، ولكنها لما تبعتهم التفتت‏.‏ وقيل‏:‏ الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها، فالمعنى‏:‏ لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا‏.‏ ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناء ألبتة قال تعالى‏:‏ فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون، فم تقع العناية في ذلك إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى‏.‏ فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعاً لا مقصوداً بالإخراج مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، ففيه النصب والرفع‏.‏ فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر، والرفع لبني تميم وعليه اثنان من القرّاء انتهى‏.‏ وهذا الذي طول به لا تحقيق فيه، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهييين عن الالتفات، وجعل استثناء منقطعاً كان الاستثناء المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع من العرب، وليس فيه النصب والرفع باعتبار اللغتين، وإنما هذا في الاستثناء المنقطع، وهو الذي يمكن توجه العامل عليه‏.‏

وفي كلا النوعين يكون ما بعد إلا من غير الجنس المستثنى منه، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنه مما يمكن أن يتوجه عليه العامل، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها عن المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه إذ ذاك النصب قولاً واحداً‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ولا يلتفت، من التفات البصر‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه، فمعناه‏:‏ ولا يتثبط‏.‏ وفي كتاب الزهراوي أنّ المعنى‏:‏ ولا يلتفت أحد إلى ما خلف بل يخرج مسرعاً‏.‏ والضمير في أنه ضمير الشأن، ومصيبها مبتدأ، وما أصابهم الخبر‏.‏ ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مصيبها خبر إن، وما أصابهم فاعل به، لأنهم يجيزون أنه قائم أخواك‏.‏ ومذهب البصريين أنّ ضمير الشان لا يكون خبره إلا جملة مصرحاً بجزءيها، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم‏.‏

وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ الصبح بضم الباء‏.‏ قيل‏:‏ وهي لغة، فلا يكون ذلك اتباعاً وهو على حذف مضاف أي‏:‏ إنّ موعد هلاكهم الصبح‏.‏ ويروى أن لوطاً عليه السلام قال‏:‏ أريد أسرع من ذلك، فقالت له الملائكة‏:‏ أليس الصبح بقريب‏؟‏ وجعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم، لأنّ النفوس فيه أودع، والراحة فيه أجمع‏.‏ ويروى أن لوطاً خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا، ووصل إلى إبراهيم عليهما السلام‏.‏ والضمير في عاليها عائد على مدائن قوم لوط، جعل جبريل جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم، وأتبعوا الحجارة من فوقهم وهي المؤتفكات سبع مدائن‏.‏ وقيل‏:‏ خمس عدّها المفسرون، وفي ضبطها إشكال، فأهملت ذكرها‏.‏ وسدوم في القرية العظمى، وأمطرنا عليها أي على أهلها‏.‏ وروي أن الحجارة أصابت منهم من كان خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين، وأنّ رجلاً كان في الحرم فبقي الحجر معلقاً في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر‏.‏ قال أبو العالية، وابن زيد‏:‏ السجيل اسم لسماء الدنيا، وهذا ضعيف لوصفه بمنضود، وتقدم شرحه في المفردات‏.‏ وقيل‏:‏ من أسجله إذا أرسله، وقيل‏:‏ مما كتب الله أن يعذب به من السجل، وسجل لفلان‏.‏ ومعنى هذه اللفظة‏:‏ ماء وطين، هذا قول‏:‏ ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وعكرمة، والسدّي، وغيرهم‏.‏ وذهبوا إلى أنّ الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ‏.‏ وقيل‏:‏ حجر مخلوط بطين أي حجر وطين، ويمكن أن يعود هذا إلى الآجر‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الشديد من الحجارة الصلب، مسومة عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله‏:‏ ابن جريج‏.‏ وقال عكرمة وقتادة‏:‏ إنه كان فيها بياض‏.‏ وقيل‏:‏ مكتوب على كل حجر اسم من رمى به، قاله الربيع‏.‏ وعن ابن عباس، والحسن‏:‏ بياض في حمرة‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ الحجر أبيض فيه نقطة سوداء، وأسود فيه نقطة بيضاء‏.‏ وعن عكرمة وقتادة أيضاً‏:‏ فيها خطوط حمر على هيئة الجزع‏.‏ وقيل‏:‏ وكانت مثل رؤوس الإبل، ومثل مبارك الإبل‏.‏ وقيل‏:‏ قبضة الرجل‏.‏ قال ابن عباس ومقاتل‏:‏ معنى من عند ربك، جاءت من عند ربك‏.‏ وقيل‏:‏ معدة عند ربك قاله‏:‏ أبو بكر الهذلي‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ المعنى لزم هذا التسويم الحجارة عند الله إيذاناً بنفاذ قدرته وشدة عذابه‏.‏ والظاهر أن ضمير هي عائد على القرى التي جعل الله أعاليها أسافلها، والمعنى‏:‏ أنّ ذوات هذه المدن كانت بين المدينة والشام، يمرّ عليها قريش في مسيرهم، فالنظر إليها وفيها فيه اعتبار واتعاظ‏.‏ وقيل‏:‏ وهي عائدة على الحجارة، وهي أقرب مذكور‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد، والظاهر عموم الظالمين‏.‏ وقيل‏:‏ عنى به قريش‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنه سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة» وقيل‏:‏ مشركو العرب‏.‏ وقيل‏:‏ قوم لوط أي‏:‏ لم تكن الحجارة تخطئهم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «سيكون في أواخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال والنساء بالنساء فإذا كان كذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ثم تلا وما هي من الظالمين ببعيد» وإذا كان الضمير في قوله‏:‏ وما هي، عائد على الحجارة، فيحتمل أن يراد بشيء بعيد، ويحتمل أن يراد بمكان بعيد، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا هويت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى، فكأنها بمكان قريب منه‏.‏