فصل: سورة يوسف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


سورة يوسف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية كلها‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ إلا ثلاث آيات من أولها‏.‏ وسبب نزولها أن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ سببه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يفعل به قومه بما فعل إخوة يوسف به‏.‏ وقيل‏:‏ سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحدثهم أمر يعقوب وولده، وشأن يوسف‏.‏ وقال سعد بن أبي وقاص‏:‏ أنزل القرآن فتلاه عليهم زماناً فقالوا‏:‏ يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت‏.‏

ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها أن في آخر السورة التي قبلها‏:‏ ‏{‏وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك‏}‏ وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقى الأنبياء من قومهم، فاتبع ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من أخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصل للرسول صلى الله عليه وسلم التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب‏.‏ وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة، فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر‏.‏ والإشارة بتلك آيات إلى الر وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن، أو إلى التوراة والإنجيل، أو الآيات التي ذكرت في سورة هود، أو إلى آيات السورة‏.‏ والكتاب المبين السورة أي‏:‏ تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة أقوال‏.‏ والظاهر أنّ المراد بالكتاب القرآن‏.‏ والمبين إما البين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم، وإما المبين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من أمر الدين، قاله‏:‏ ابن عباس ومجاهد، أو المبين الهدى والرشد والبركة قاله قتادة، أو المبين ما سألت عنه اليهود، أو ما أمرت أن يسأل من حال انتقال يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف، أو المبين من جهة بيان اللسان العربي وجودته، إذ فيه ستة أحرف لم تجمع في لسان، روي هذا عن معاذ بن جبل‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وهي الطاء، والظاء، والضاد، والصاد، والعين، والخاء انتهى‏.‏ والضمير في إنا أنزلناه، عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف، وقيل‏:‏ على القرآن، وقيل‏:‏ على نبأ يوسف، قاله الزجاج وابن الأنباري‏.‏ وقيل‏:‏ هو ضمير الإنزال‏.‏ وقرآناً هو المطعوف به، وهذان ضعيفان‏.‏ وانتصب قرآناً، قيل‏:‏ على البدل من الضمير، وقيل على الحال الموطئة‏.‏ وسمي القرآن قرآناً لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير، وعربياً منسوب إلى العرب‏.‏ والعرب جمع عربي، كروم ورومي، وعربة ناحية دار إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وعربة أرض ما يحل حرامها *** من الناس إلا اللوذعي الحلاحل

ويعني النبي صلى الله عليه وسلم أحلت له مكة‏.‏ وسكن راء عربة الشاعر ضرورة‏.‏ قيل‏:‏ وإن شئت نسبت القرآن إليها ابتداء أي‏:‏ على لغة أهل هذه الناحية‏.‏ لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني، واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون، إذ لو كان بغير العربية لقيل‏:‏ ‏{‏لولا فصلت آياته‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

القصص‏:‏ مصدر قص، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر، وأما لكون الفعل يكون للمفعول، كالقبض والنقص‏.‏ والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة‏.‏ فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة، وأحسن أسلوب‏.‏ ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين، وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليس في غيره‏.‏ والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل‏:‏ هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه‏.‏

وقيل‏:‏ كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والجن، والإنس، والأنعام، والطير، وسير الملوك، والممالك، والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء وكيدهن ومكرهن، مع ما فيها من ذكر التوحيد، والفقه، والسير، والسياسة، وحسن الملكة، والعفو عند المقدرة، وحسن المعاشرة، والحيل، وتدبير المعاش، والمعاد، وحسن العاقبة، في العفة، والجهاد، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب، وذكر الحبيب والمحبوب، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ كانت أحسن القصص لأنّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة‏.‏ انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز والملك أسلم بيوسف وحسن إسلامه‏.‏ ومعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فيما يقال‏.‏ وقيل‏:‏ أحسن هنا ليست أفعل التفضيل، بل هي بمعنى حسن، كأنه قيل‏:‏ حسن القصص، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي‏:‏ القصص الحسن‏.‏ وما في بما أوحينا مصدرية أي‏:‏ بإيحائنا‏.‏ وإذا كان القصص مصدراً فمفعول نقص من حيث المعنى هو هذا القرآن، إلا أنه من باب الإعمال، إذ تنازعه نقص‏.‏ وأوحينا فاعمل الثاني على الأكثر، والضمير في من قبله يعود على الإيحاء‏.‏ وتقدمت مذاهب النحاة في أن المخففة ومجيء اللام في ثاني الجزءين‏.‏ ومعنى من الغافلين‏:‏ لم يكن لك شعور بهذه القصة، ولا سبق لك علم فيها، ولا طرق سمعك طرف منها‏.‏ والعامل في إذ قال الزمخشري وابن عطية‏:‏ اذكر‏.‏ وأجاز الزمخشري أن تكون بدلاً من أحسن القصص قال‏:‏ وهو بدل اشتمال، لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قص وقته فقد قص‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويجوز أن يعمل فيه نقص كان المعنى‏:‏ نقص عليك الحال، إذ وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع إذ من دلالتها على الوقت الماضي، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية‏.‏

وحكى مكي أنّ العامل في إذ الغافلين، والذي يظهر أن العامل فيه قال‏:‏ يا بني، كما تقول‏:‏ إذ قام زيد قام عمر، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفاً لما مضى‏.‏

ويوسف اسم عبراني، وتقدمت ست لغات فيه‏.‏ ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب، لامتناع أن يكون أعجمياً غير أعجمي‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز وفتح السين‏.‏ وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والأعرج‏:‏ يا أبت بفتح التاء، وباقي السبعة والجمهور بكسرها، ووقف الابنان عليها بالهاء، وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء قال‏:‏ يا أبتا علك أو عساكا‏.‏ ووجه الاقتصار على التاء مفتوحة أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف، أو رخم بحذف التاء، ثم أقحمت قاله أبو علي‏.‏ أو الألف في أبتا للندبة، فحذفها قاله‏:‏ الفراء، وأبو عبيد، وأبو حاتم، وقطرب‏.‏ ورد بأنه ليس موضع ندبة أو الأصل يا أبة بالتنوين، فحذف والنداء ناد حذف قاله قطرب، ورد بأنّ التنوين لا يحذف من المنادي المنصوب نحو‏:‏ يا ضارباً رجلاً، وفتح أبو جعفر ياء إني‏.‏

وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وطلحة بن سليمان‏:‏ أحد عشر بسكون العين لتوالي الحركات، وليظهر جعل الاسمين اسماً واحداً‏.‏ ورأيت هي حلمية لدلالة متعلقها على أنه منام، والظاهر أنه رأى في منامه كواكب الشمس والقمر‏.‏ وقيل‏:‏ رأى إخوته وأبويه، فعبر عنهم بذلك، وعبر عن الشمس عن أمه‏.‏ وقيل‏:‏ عن خالته راحيل، لأنّ أمه كانت ماتت‏.‏ ومن حديث جابر بن عبد الله‏:‏ أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف، فسكت عنه، ونزل جبريل فأخبره بأسمائها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي فقال‏:‏ هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ جريان، والطارق، والذيال، وذو الكتفين، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ، والضياء، والنور‏.‏ فقال اليهودي‏:‏ إي والله إنها لأسماؤها‏.‏ وذكر السهيلي مسنداً إلى الحرث بن أبي أسامة فذكر الحديث، وفيه بعض اختلاف، وذكر النطح عوضاً عن المصبح‏.‏ وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال‏:‏ إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب سجوداً له فقصها على أبيه فقال له‏:‏ لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل، وكان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة، وقيل‏:‏ ثمانون‏.‏ وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة‏.‏ والظاهر أنّ الشمس والقمر ليسا مندرجين في الأحد عشر كوكباً، ولذلك حين عدهما الرسول لليهودي ذكر أحد عشر كوكباً غير الشمس والقمر، ويظهر من كلام الزمخشري أنهما مندرجان في الأحد عشر‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ لم أخر الشمس والقمر‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتاً لفضلهما، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما‏.‏ لذلك ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي‏:‏ رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى‏.‏ والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جرياً على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الشمس والقمر بحسبان‏}‏ وقال‏:‏ وجمع الشمس والقمر ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً‏}‏ وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها وغرابة سيرها، واستمداده منها، وعلو مكانها‏.‏ والظاهر أنّ رأيتهم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل، كما كرر إنكم في قوله ‏{‏إنكم مخرجون‏}‏ لطول الفصل بالظرف وما تعلق به‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ ما معنى تكرار رأيتهم‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له، كان يعقوب عليه السلام قال له عند قوله‏:‏ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر، كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها‏؟‏ فقال‏:‏ رأيتهم لي ساجدين انتهى‏.‏ وجمعهم جمع من يعقل، لصدور السجود له، وهو صفة من يعقل، وهذا سائغ في كلام العرب، وهو أنْ يعطى الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما‏.‏ والسجود‏:‏ سجود كرامة، كما سجدت الملائكة لآدم‏.‏ وقيل‏:‏ كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض‏.‏ ولما خاطب يوسف أباه بقوله‏:‏ يا أبت، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله‏:‏ يا بني، تصغير التحبيب والتقريب والشفقة‏.‏ وقرأ حفص هنا وفي لقمان، والصافات‏:‏ يا بني بفتح الياء‏.‏ وابن كثير في لقمان ‏{‏يا بني لا تشرك‏}‏ وقنبل يا بنيْ أقمْ بإسكانها، وباقي السبعة بالكسر‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ لا تقص مدغماً، وهي لغة تميم، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز‏.‏ والرؤيا مصدر كالبقيا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة، فرق بينهما بحر في التأنيث كما قيل‏:‏ القربة والقربى انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ رؤياك والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ بالإمالة وبغير الهمز، وهي لغة أهل الحجاز‏.‏

وإخوة يوسف‏:‏ هم كاذ، وبنيامين، ويهوذا، ونفتالي، وزبولون، وشمعون، وروبين، ويقال باللام كجبريل، وجبرين، ويساخا، ولاوي، وذان، وياشير، فيكيدوا لك‏:‏ منصوب بإضمار أنْ على جواب النهي، وعدي فيكيدوا باللام، وفي ‏{‏فكيدوني‏}‏ بنفسه، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيداً وشكرت لزيد، واحتمل أن يكون من باب التضمين، ضمّن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، فكأنه قال‏:‏ فيحتالوا لك بالكيد، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين، وللمبالغة أكد بالمصدر‏.‏

ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو‏:‏ ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له، وذلك للعداوة التي بينهما، فهو يجتهد دائماً أنْ يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليهما السلام على أنّ الله تعالى يبلغه مبلغاً من الحكمة، ويصطفه للنبوة، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه، فخاف عليه من حسد إخوته، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم‏.‏ وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهيه عن أن يقص على إخوته مخافة كيدهم، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، والتنبيه على بعض ما لا يليق، ولا يكون ذلك داخلاً في باب الغيبة‏.‏ وكذلك يجتبيك ربك أي‏:‏ مثل ذلك الاجتباء، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره، وشريف منصبه، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك‏.‏ ويجتبيك‏:‏ يختارك ربك للنبوة والملك‏.‏ قال الحسن‏:‏ للنبوة، وقال مقاتل‏:‏ للسجود لك، وقال الزمخشري‏:‏ لأمور عظام‏.‏ ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلاً في التشبيه، كأنه قال‏:‏ وهو يعلمك‏.‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ عواقب الأمور، وقيل‏:‏ عامة لذلك ولغيره من المغيبات، وقال مقاتل‏:‏ غرائب الرؤيا، وقال ابن زيد‏:‏ العلم والحكمة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ الأحاديث الرؤى، لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان، وتأويلها عبارتها وتفسيرها، فكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة‏.‏ ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسير الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها، ويدلهم على مودعات حكمها‏.‏ وسميت أحاديث لأنها تحدث بها عن الله ورسله فيقال‏:‏ قال الله‏:‏ وقال الرسول‏:‏ كذا وكذا‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ ‏{‏الله نزل أحسن الحديث‏}‏ كتاباً وهي اسم جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة انتهى‏.‏ وليس باسم جمع كما ذكر، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس، كما قالوا‏:‏ أباطل وأباطيل، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن‏.‏ وإذا كانوا يقولون في عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد، فكيف لا يكون أحاديث وأباطيل جمعي تكسير‏؟‏‏.‏

ويتم نعمته عليك، وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكاً، بنعمة الآخرة بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك، وقال الحسن‏:‏ هذا شيء أعلمه الله يعقوب من أنه سيعطي يوسف النبوّة‏.‏ وقيل‏:‏ بأن يحوج إخوتك إليك، فتقابل الذنب بالغفران، والإساءة بالإحسان‏.‏ وقيل‏:‏ بإنجائك من كل مكروه‏.‏ وآل يعقوب الظاهر أنه أولاده ونسلهم أي‏:‏ نجعل النبوة فيهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هم نسلهم وغيرهم‏.‏ وقيل أهل دينه وأتباعهم، كما جاء في الحديث‏:‏ من آلك‏؟‏ فقال‏:‏ «كل تقي» وقيل‏:‏ امرأته وأولاده الأحد عشر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد يعقوب نفسه خاصة‏.‏ وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، وإهلاك عدوه نمروذ‏.‏ وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه‏.‏ وسمي الجد وأبا الجد أبوين، لأنهما في عمود النسب كما قال‏:‏ ‏{‏وإله آبائك‏}‏ ولهذا يقولون‏:‏ ابن فلان، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب‏.‏ إن ربك عليم بمن يستحق الاجتباء، حكيم يضع الأشياء مواضعها‏.‏ وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام في قوله‏:‏ وكذلك يجتبيك ربك قيل‏:‏ وعلم يعقوب عليه السلام ذلك من دعوة إسحاق عليه السلام حين تشبه له بعيصو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

الطرح للشيء رميه وإلقاؤه، وطرح عليه الثوب ألقاه، وطرحت الشيء أبعدته ومنه قول عروة بن الورد‏:‏

ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا *** من المال يطرح نفسه كل مطرح

والنوى‏:‏ الطروح البعيدة‏.‏ الجب‏:‏ الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر‏.‏ قال الأعشى‏:‏

لئن كنت في جب ثمانين قامة *** ورقيت أسباب السماء بسلم

ويجمع على جبب وجباب وأجباب، وسمى جباً لأنه قطع في الأرض، من جببت أي قطعت‏.‏ الالتقاط‏:‏ تناول الشيء من الطريق، يقال‏:‏ لقطه والتقطه‏.‏ وقال‏:‏ ومنهل لقطته التقاطاً‏.‏ ومنه‏:‏ اللقطة واللقيط‏.‏

‏{‏لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين‏}‏‏:‏ آيات أي‏:‏ علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء للسائلين من سأل عنهم وعرف قصتهم‏.‏ وقيل‏:‏ آيات على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد، ولا قراءة كتاب‏.‏ والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صدق الرسول وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه، وصدق رؤياه، وصحة تأويله، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق الأمانة، وحدوث السرور بعد اليأس‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله‏:‏ ‏{‏سواء للسائلين‏}‏ أي سواء لمن سأل ولمن لم يسأل‏.‏ وحسن الحذف لدلالة قوة الكلام عليه لقوله‏:‏ ‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏ أي والبرد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقوله للسائلين، يقتضي تحضيضاً للناس على تعلم هذه الأنباء لأنه إنما المراد آيات للناس، فوصفهم بالسؤال، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ‏.‏ وتقدم لنا ذكر أسماء إخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبى البركات محمد بن أسعد الحسيني الجوّاني محرّرة بالنقط، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة، وكان روبيل أكبرهم، وهو ويهوذا، وشمعون، ولاوي، وزبولون، ويساخا، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي‏:‏ بنت خال يعقوب، وذان ونفتالي، وكاذ وياشير، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها راحيل، فوهبتا هما ليعقوب، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده‏.‏ وأسماء السريتين فيما قيل‏:‏ ليا، وتلتا، وتوقيت أم السبعة فتزوج بعدها يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وماتت من نفاسه‏.‏

وقرأ مجاهد، وشبل وأهل مكة، وابن كثير‏:‏ آية على الإفراد‏.‏

والجمهور آيات، وفي مصحف أبي عبرة للسائلين مكان آية‏.‏ والضمير في قالوا عائد على أخوة يوسف وأخوه هو بنيامين، ولما كانا شقيقين أضافوه إلى يوسف‏.‏ واللام في ليوسف لام الابتداء، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي‏:‏ كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه‏.‏ وأحب أفعل تفضيل، وهي مبني من المفعول شذوذاً، ولذلك عدى بإلى، لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدى إليه بإلى، وإذا كان مفعولاً عدى إليه بفي، تقول‏:‏ زيد أحب إلى عمرو من خالد، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى، وعمرو هو المحب‏.‏ وإذا قلت‏:‏ زيد أحب إلى عمرو من خالد، كان الضمير فاعلاً، وعمرو هو المحبوب‏.‏ ومن خالد في المثال الأول محبوب، وفي الثاني فاعل، ولم يبن أحب لتعدّيه بمن‏.‏ وكان بنيامين أصغر من يوسف، فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر‏.‏ وقيل لابنة الحسن‏:‏ أي بنيك أحب إليك‏؟‏ قالت‏:‏ الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يفيق‏.‏ وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديماً وحديثاً، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بعث بها إلى أولاده وهو في السجن‏:‏

وصغيركم عبد العزيز فإنني *** أطوي لفرقته جوى لم يصغر

ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا *** كفؤاً لكم في المنتمى والعنصر

إن البنان الخمس أكفاء معاً *** والحلى دون جميعها للخنصر

وإذا الفتى بعد الشباب سما له *** حب البنين ولا كحب الأصغر

ونحن عصبة جملة حالية أي‏:‏ تفضلهما علينا في المحبة، وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقة، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما‏.‏ وروى النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ونحن عصبة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ونحن نجتمع عصبة، فيكون الخبر محذوفاً وهو عامل في عصبة، وانتصب عصبة على الحال، وهذا كقول العرب‏:‏ حكمك مسمطاً حذف الخبر‏.‏ قال المبرد‏:‏ قال الفرزدق‏:‏

يا لهذم حكمك مسمطا *** أراد لك حكمك مسمطاً، واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفا، فالعلم السامع ما يريد القائل كقولك‏:‏ الهلال والله أي‏:‏ هذا الهلال، والمسمط المرسل غير المردود‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ هذا كما تقول العرب‏:‏ إنما العامري عمته، أي يتعمم عمته انتهى‏.‏ وليس مثله، لأنّ عصبة ليس مصدراً ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطاً‏.‏ وقدره بعضهم‏:‏ حكمك ثبت مسمطاً‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ العصبة ما زاد على العشرة، وعنه‏:‏ ما بين العشرة إلى الأربعين، وعن قتادة‏:‏ ما فوق العشرة إلى الأربعين، وعن مجاهد‏:‏ من عشرة إلى خمسة عشر، وعن مقاتل‏:‏ عشرة، وعن ابن جبير‏:‏ ستة أو سبعة، وقيل‏:‏ ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل‏:‏ إلى خمسة عشر، وعن الفراء‏:‏ عشرة فما زاد، وعن ابن زيد، والزجاج، وابن قتيبة‏:‏ العصبة ثلاثة نفر، فإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة، فإذا زادوا فهم عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة عصبة‏.‏

والضلال هنا هو الهوى قاله ابن عباس، أو الخطأ من الرأي قاله ابن زيد، أو الجور في الفعل قاله ابن كامل، أو الغلط في أمر الدنيا‏.‏ روي أنه بعد إخباره لأبيه بالرؤيا كان يضمه كل ساعة إلى صدره، وكأن قلبه أيقن بالفراق فلا يكاد يصبر عنه، والظاهر أنّ اقتلوا يوسف من جملة قولهم، وقيل‏:‏ هو من قول قوم استشارهم أخوة يوسف فيما يفعل به فقالوا ذلك‏.‏ والظاهر أو اطرحوه هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين، ويجوز أن تكون أو للتنويع أي‏:‏ قال بعض‏:‏ اقتلوا يوسف، وبعض اطرحوه، وانتصب أرضاً على إسقاط حرف الجر قاله الحوفي وابن عطية، أي‏:‏ في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها، قريب من أرض يعقوب‏.‏ وقيل‏:‏ مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه، كما تقول‏:‏ أنزلت زيداً الدار‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ ظرف، واختاره الزمخشري، وتبعه أبو البقاء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وذلك خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف قال‏:‏ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك، فزال بذلك إبهامها‏.‏ ومعلوم أنّ يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه انتهى‏.‏ وهذا الردّ صحيح، لو قلت‏:‏ جلست داراً بعيدة، أو قعدت مكاناً بعيداً لم يصح إلا بوساطة في، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أو متعدية‏.‏ والوجه هنا قيل‏:‏ الذات، أي يخل لكم أبوكم‏.‏ وقيل‏:‏ هو استعارة عن شغله بهم، وصرف مودته إليهم، لأنّ من أقبل عليك صرف وجهه إليك وهذا كقول نعامة حين أحبته أمه لما قتل أخوته وكانت قبل لا تحبه‏.‏ قال‏:‏ الثكل أرامها أي‏:‏ عطفها، والضمير في بعده عائد على يوسف، أو قتله، أو طرحه‏.‏ وصلاحهم إما صلاح حالهم عند أبيهم وهو قول مقاتل، أو صلاحهم بالتوبة والتنصل من هذا الفعل وهذا أظهر، وهو قول الجمهور منهم الكلبي‏.‏ واحتمل تكونوا أن يكون مجزوماً عطفاً على مجزوم، أو منصوباً على إضمار أنْ‏.‏ والقائل‏:‏ لا تقتلوا يوسف، روبيل قاله قتادة وابن إسحاق، أو شمعون قاله مجاهد، أو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأياً وهو الذي قال‏:‏ فلن أبرح الأرض قال لهم‏:‏ القتل عظيم، قاله السدي، أوذان‏:‏ أربعة أقوال، وهذا عطف منهم على أخيهم‏.‏

لما أراد الله من إنفاذ قضائه وإبقاء على نفسه، وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل‏.‏ قال الهروي‏:‏ الغيابة في الجب شبه لحف، أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الغيابة كمون في قعر الجب، لأن أسفله واسع ورأيه ضيق، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ غوره وهو ما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله انتهى‏.‏ منه قيل للقبر‏:‏ غيابة، قال المتنحل السعدي‏:‏

فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي *** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل

وقرأ الجمهور‏:‏ غيابة على الإفراد، ونافع‏:‏ غيابات على الجمع، جعل كل جزء مما يغيب فيه غيابة‏.‏ وقرأ ابن هرمز‏:‏ غيابات بالتشديد والجمع، والذي يظهر أنه سمى باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه أبو علي بالاسم الجائي على فعال نحو ما ذكر سيبويه من الغياد‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ ووجدت من ذلك المبار المبرح والفخار الخزف‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ يجوز أن يكون على فعالات كحمامات، ويجوز أن يكون على فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة، وكل للمبالغة‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ في غيبة، فاحتمل أن يكون في الأصل مصدراً كالغلبة، واحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة‏.‏ وفي حرف أبي في غيبة بسكون الياء، وهي ظلمة الركية‏.‏ وقال قتادة في جماعة‏:‏ الجب بئر بيت المقدس، وقال وهب‏:‏ بأرض الأردن، وقال مقاتل‏:‏ على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب، وقيل‏:‏ بين مدين ومصر‏.‏ وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء‏:‏ تلتقطه بتاء التأنيث، أنث على المعنى كما قال‏:‏

إذا بعض السنين تعرفتنا *** كفى الأيتام فقد أبى اليتيم

والسيارة جمع سيار، وهو الكثير السير في الأرض‏.‏ والظاهر أن الجب كان فيه ماء، ولذلك قالوا‏:‏ يلتقطه بعض السيارة‏.‏ وقيل‏:‏ كان فيه ماء كثير يغرق يوسف، فنشز حجر من أسفل الجب حتى ثبت يوسف عليه‏.‏ وقيل‏:‏ لم يكن ماء فأخرجه الله فيه حتى قصده الناس‏.‏ وروي‏:‏ أنهم رموه بحبل في الجب، فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه، حينئذ وهموا بعد برضخه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك‏.‏ ومفعول فاعلين محذوف أي‏:‏ فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

ارتعى افتعل من الرعي بمعنى المراعاة وهي الحفظ للشيء، أو من الرعي وهو أكل الحشيش والنبات، يقال‏:‏ رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً أكلته، والرعي بالكسر الكلأ، ومثله ارتعى‏.‏ قال الأعشى‏:‏

ترتعي السفح فالكثيب فذا ق *** ر فروض القطا فذات الرمال

رتع أقام في خصب وتنعم، ومنه قول الغضبان بن القبعثري‏:‏ القيد، والمتعة، وقلة الرتعة‏.‏ وقول الشاعر‏:‏

أكفراً بعد رد الموت عني *** وبعد عطائك المائة الرتاعا

الذئب‏:‏ سبع معروف، وليس في صقعنا الأندلسي، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان قال‏:‏

وأزور يمطو في بلاد بعيدة *** تعاوى به ذؤبانه وثعالبه

وأرض مذأبة كثيرة الذئاب، وتذاءبت الريح جاءت من هنا ومن هنا، فعل الذئب ومنه الذؤابة من الشعر لكونها تنوس إلى هنا وإلى هنا‏.‏

‏{‏قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون‏.‏ أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون‏.‏ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون‏}‏‏:‏ لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف وأبيه، أعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم، وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم من انشراح صدره بالارتعاء واللعب، إذ هو مما يشرح الصبيان، وذكروا حفظهم له مما يسوؤه‏.‏ وفي قولهم‏:‏ ما لك لا تأمنا، دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أنْ يخرج معهم، وذكروا سبب الأمن وهو النصح أي‏:‏ لم لا تأمنا عليه وحالتنا هذا‏؟‏ والنصح دليل على الأمانة، ولهذا قرنا في قوله‏:‏ ناصح أمين، وكان قد أحس منهم قبل ما أوجب أنْ لا يأمنهم عليه‏.‏ ولا تأمنا جملة حالية، وهذا الاستفهام صحبة التعجب‏.‏

وقرأ زيد بن علي، وأبو جعفر، والزهري، وعمرو بن عبيد‏:‏ بإدغام نون تأمن في نون الضمير من غير إشمام ومجيئه بعد مالك، والمعنى‏:‏ يرشد إلى أنه نفي لا نهي، وليس كقولهم‏:‏ ما أحسننا في التعجب، لأنه لو أدغم لالتبس بالنفي‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بالإدغام والإشمام للضم، وعنهم إخفاء الحركة، فلا يكون إدغاماً محضاً‏.‏ وقرأ ابن هرمز‏:‏ بضم الميم، فتكون الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب الميم حركتها، وإدغام النون في النون‏.‏ وقرأ أبي، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش‏:‏ لا تأمننا بالإظهار، وضم النون على الأصل، وخط المصحف بنون واحدة‏.‏ وقرأ ابن وثاب، وأبو رزين‏:‏ لا يتمنا على لغة تميم، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب‏.‏ وفي لفظة‏:‏ أرسله، دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائماً‏.‏ وانتصب غداً على الظرف، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك‏.‏

وأصله‏:‏ غدو، فحذفت لامه وقد جاء تاماً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ يرتع ويلعب بالياء والجزم، والإبنان وأبو عمر وبالنون والجزم وكسر العين الحرميان، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها‏.‏ وروي عن ابن كثير‏:‏ ويلعب بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد‏.‏ وقرأ العلاء بن سيابة‏:‏ يرتع بالياء وكسر العين مجزوماً محذوف اللام، ويلعب بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ وهو يلعب‏.‏ وقرأ مجاهد، وقتادة، وابن محيصن‏:‏ بنون مضمومة من ارتعنا ونلعب بالنون، وكذلك أبو رجاء، إلا أنه بالياء فيهما يرتع ويلعب، والقراءتان على حذف المفعول أي‏:‏ يرتع المواشي أو غيرها‏.‏ وقرأ النخعي‏:‏ نرتع بنون، ويلعب بياء، بإسناد اللعب إلى يوسف وحده لصباه، وجاء كذلك عن أبي إسحاق، ويعقوب‏.‏ وكل هذه القراآت الفعلان فيها مبنيان للفاعل‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ يرتع ويلعب بضم الياءين مبنياً للمفعول، ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد، وكان أصله يرتع فيه ويلعب فيه، ثم حذف واتسع، فعدى الفعل للضمير، فكان التقدير‏:‏ يرتعه ويلعبه، ثم بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوباً لكونه ناب عن الفاعل‏.‏ واللعب هنا هو الاستباق والانتضال، فيدربون بذلك لقتال العدو، سموه لعباً لأنه بصورة اللعب، ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم‏:‏ إننا ذهبنا نستبق، ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه يعقوب‏.‏ ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي من المراعاة أي‏:‏ يراعي بعضنا بعضاً ويحرسه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ من رعى الإبل أي يتدرب في الرعي، وحفظ المال، أو من رعى النبات والكلأ، أي‏:‏ يرتع على حذف مضاف أي‏:‏ مواشينا‏.‏ ومن أثبت الياء‏.‏ فقال ابن عطية‏:‏ هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كقول الشاعر‏:‏

ألم يأتيك والأنباء تنمى *** بما لاقت لبون بني زياد

انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ تقدير حذف الحركة في الياء لغة، فعلى هذا لا يكون ضرورة‏.‏ ومن قرأ بسكون العين فالمعنى‏:‏ نقم في خصب وسعة، ويعنون من الأكل والشرب‏.‏ وإنا له لحافظون جملة حالية، والعامل فيه الأمر أو الجواب، ولا يكون ذلك من باب الإعمال، لأن الحال لا تضمر، وبأنّ الإعمال لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول، ثم اعتذر لهم يعقوب بشيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ عاجل في الحال، وهو ما يلحقه من الحزن لمفارقته وكان لا يصبر عنه‏.‏ والثاني‏:‏ خوفه عليه من الذئب إن غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو بقلة اهتمامهم بحفظه وعنايتهم، فيأكله ويحزن عليه الحزن المؤبد‏.‏ وخص الذئب لأنه كان السبع الغالب على قطره، أو لصغر يوسف فخاف عليه هذا السبع الحقير، وكان تنبيهاً على خوفه عليه ما هو أعظم افتراساً‏.‏ ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن في قوله‏:‏

والذئب أخشاه إن مررت به *** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وكان يعقوب بقوله‏:‏ وأخاف أن يأكله الذئب لقنهم ما يقولون من العذر إذا جاؤوا وليس معهم يوسف، فلقنوا ذلك وجعلوه عدة للجواب، وتقدّم خلاف القراء في يحزن‏.‏ وقرأ زيد بن علي، وابن هرمز، وابن محيصن‏:‏ ليحزني بتشديد النون، والجمهور بالفك‏.‏ وليحزنني مضارع مستقبل لا حال، لأن المضارع إذا أسند إلى متوقع تخلص للاستقبال، لأنّ ذلك المتوقع مستقبل وهو المسبب لأثره، فمحال أنْ يتقدم الأثر عليه، فالذهاب لم يقع، فالحزن لم يقع‏.‏ كما قال‏:‏

يهولك أن تموت وأنت ملغ *** لما فيه النجاة من العذاب

وقرأ زيد بن علي‏:‏ تذهبوا به من أذهب رباعياً، ويخرج على زيادة الباء في به، كما خرج بعضهم تنبت بالدهن‏.‏ في قراءة من ضم التاء وكسر الباء أي‏:‏ تنبت الدهن وتذهبوه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ والذئب بالهمز، وهي لغة الحجز‏.‏ وقرأ الكسائي، وورش، وحمزة‏:‏ إذا وقف بغير همز‏.‏ وقال نصر‏:‏ سمعت أبا عمر ولا يهمز‏.‏ وعدل إخوة يوسف عن أحد الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن، وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه عن قريب، وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن تذهبوا به، فحلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم، وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب‏.‏ إنهم إذاً لقوم خاسرون أي‏:‏ هالكون ضعفاء وجوراً وعجزاً، أو مستحقون أن يهلكوا، لأنهم لا غنى عندهم ولا جدوى في حياتهم، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسار والدمار، وأن يقال‏:‏ خسرهم الله ودمرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون‏.‏ وقيل‏:‏ إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا، إذاً وخسرنا‏.‏ وروي أن يعقوب رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكان يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته يردن أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

الكذب بالدال المهملة الكدر، وقيل‏:‏ الطري‏.‏ سول من السول، ومعناه سهل، وقيل‏:‏ زين‏.‏ أدلى الدلو أرسلها ليملأها، ولادها يدلوها جذبها وأخرجها من البئر‏.‏ قال‏:‏ لا تعقلوها وادلوها دلواً‏.‏ والدلو معروف، وهي مؤنثة فتصغر على دليته، وتجمع على أدل ودلاء ودلى‏.‏ البضاعة‏:‏ القطعة من المال تجعل للتجارة، من بضعته إذا قطعته، ومنه المبضع‏.‏

‏{‏فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون‏.‏ وجاؤوا أباهم عشاء يبكون‏.‏ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين‏.‏ وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون‏.‏ وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون‏}‏‏:‏ حكي أنهم قالوا ليوسف‏:‏ اطلب من أبيك أن يبعثك معنا، فأقبل على يوسف فقال‏:‏ أتحب ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال يعقوب‏:‏ إذا كان غداً أذنت لك، فلما أصبح يوسف لبس ثيابه وشد عليه منطقته، وخرج مع أخوته فشيعهم يعقوب وقال‏:‏ يا بني أوصيكم بتقوى الله وبحبيبي يوسف، ثم أقبل على يوسف وضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ثم قال‏:‏ استودعتك الله رب العالمين، وانصرف‏.‏ فحملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدوا معهم إضراراً به‏.‏ وذكر المفسرون أشياء كثيرة تتضمن كيفية إلقائه في غيابة الجب ومجاورته لهم بما يلين الصخر، وهم لا يزدادون إلا قساوة‏.‏ ولم يتعرض القرآن ولا الحديث الصحيح لشيء منها، فيوقف عليها في كتب التفسير‏.‏ وبين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره‏:‏ فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف، فلما ذهبوا به وأجمعوا أي‏:‏ عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب، وأن يجعلوه مفعول أجمعوا، يقال‏:‏ أجمع الأمر وأزمعه بمعنى العزم عليه، واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء، وبمعنى التصيير‏.‏ واختلفوا في جواب لمّا أهو مثبت‏؟‏ أو محذوف‏؟‏ فمن قال‏:‏ مثبت، قال‏:‏ هو قولهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي‏:‏ لما كان كيت وكيت، قالوا وهو تخريج حسن‏.‏ وقيل‏:‏ هو أوحينا، والواو زائدة، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما، وحتى إذا‏.‏ وعلى ذلك خرجوا قوله‏:‏ فلما أسلما وتله للجيين وناديناه أي‏:‏ ناديناه وقوله‏:‏ حتى إذا جاؤوها وفتحت أي‏:‏ فتحت‏.‏ وقول امرئ القيس‏:‏

فلما أحربا ساحة الحي وانتحى *** أي‏:‏ انتحى‏.‏ ومن قال‏:‏ هو محذوف، وهو رأي البصريين، فقدره الزمخشري‏:‏ فعلوا به ما فعلوا من الأذى، وحكى الحكاية الطويلة فيما فعلوا به، وما حاوروه وحاورهم به‏.‏

قدره بعضهم‏:‏ فلما ذهبوا به وأجمعوا أنْ يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم، وقدّره بعضهم جعلوه فيها، وهذا أولى إذ يدل عليه قوله‏:‏ وأجمعوا أن يجعلوه والظاهر أنّ الضمير في وأوحينا إليه عائد على يوسف، وهو وحي إلهام قاله مجاهد‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أو منام‏.‏ وقال الضحاك وقتادة‏:‏ نزل عليه جبريل في البئر‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أعطاه الله النبوة في الجب وكان صغيراً، كما أوحى إلي يحيى وعيسى عليهما السلام، وهو ظاهر أوحينا، ويدل على أنّ الضمير عائد على يوسف قوله لهم قال‏:‏ هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في إليه عائد على يعقوب، وإنما أوحي إليه ليأنس في الظلمة من الوحدة، وليبشر بما يؤول إليه أمره، ومعناه‏:‏ للتخلص مما أنت فيه، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك‏.‏ وهم لا يشعرون جملة حالية من قوله‏:‏ لتنبئنهم بهذا أي‏:‏ غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله ابن جريج، وذلك لعلو شأنك وعظمة سلطانك، وبعد حالك عن أذهانهم، ولطول العمر المبدل للهيئات والأشكال‏.‏ وذكر أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواغ فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال‏:‏ إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له‏:‏ يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم‏:‏ أكله الذئب‏.‏ وبيع بثمن بخس، ويجوز أن يكون وهم لا يشعرون حالاً من قوله‏:‏ وأوحينا أي‏:‏ وهم لا يشعرون، قاله قتادة‏.‏ أي‏:‏ بإيحائنا إليك وما أخبرناك به من نجاتك وطول عمرك، إلى أن تنبئهم بما فعلوا بك‏.‏ وقرأ الجمهور لتنبئنهم بتاء الخطاب، وابن عمر بياء الغيبة، وكذا في بعض مصاحف البصرة‏.‏ وقرأ سلام بالنون‏.‏

والذي يظهر من سياق الأخبار والقصص أن يوسف كان صغيراً، فقيل‏:‏ كان عمره إذ ذاك سبع سنين‏.‏ وقيل‏:‏ ست، قاله الضحاك‏.‏ وأبعد من ذهب إلى أنه اثنتا عشرة سنة، وثمان عشرة سنة، وكلاهما عن الحسن، أو سبع عشرة سنة قاله ابن السائب‏.‏ ويدل على أنه كان صغيراً بحيث لا يدفع نفسه قوله‏:‏ وأخاف أن يأكله الذئب ويرتع ويلعب وإنا له لحافظون، وأخذ السيارة له، وقول الوارد‏:‏ هذا غلام، وقول العزيز‏:‏ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، وما حكى من حملهم إياه واحداً بعد واحد، ومن كلامه لأخيه يهوذا‏:‏ ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب‏.‏ ومن هو ابن ثمان عشرة سنة لا يخاف عليه من الذئب ولا سيما إن كان في رفقة، ولا يقال فيه‏:‏ وإنا له لحافظون، لأنه إذ ذاك قادر على التحيل في نجاة نفسه، ولا يسمى غلاماً إلا بمجاز، ولا يقال فيه‏:‏ أو نتخذه ولداً‏.‏ وعشاء نصب على الظرف، أو من العشوة‏.‏

والعشوة‏:‏ الظلام، فجمع على فعال مثل راع ورعاء، ويكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن عشا على وزن دجى، جمع عاش، حذف منه الهاء كما حذفت في مالك، وأصله مالكة‏.‏ وعن الحسن عشياً على التصغير‏.‏ قيل‏:‏ وإنما جاؤوا عشاء ليكون أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل‏:‏ لا تطلب الحاجة بالليل فإنّ الحياء في العينين، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار‏.‏ وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ وجاؤوا أباهم دون يوسف عشاء يبكون، فقال‏:‏ أين يوسف‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا ذهبنا‏.‏ وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال‏:‏ ما لكم، أجرى في الغنم شيء‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فأين يوسف‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى، وصاح، وخر مغشياً عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفسه ولا تحرك له عرق فقال‏:‏ ويل لنا من ديان يوم الدين الذي ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا، فلم يفق لا ببرد السحر‏.‏ قال الأعمش‏:‏ لا يصدق باك بعد أخوة يوسف‏.‏ ونستبق‏.‏ أي‏:‏ نترامى بالسهام، أو نتجارى على الأقدام أينا أشد عدواً، أو نستبق في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب، أو نتصيد‏.‏ أربعة أقوال‏.‏ عند متاعنا أي‏:‏ عند ثيابنا، وما تجردنا له حالة الاستباق، وهذا أيضاً يدل على صغر يوسف، إذ لو كان ابن ثمان عشرة سنة أو سبع عشرة لكان يستبق معهم، فأكله الذئب قد ذكرنا أنهم تلقنوا هذا الجواب من قول أبيهم، وأخاف أن يأكله الذئب، لأن أكل الذئب إياه كان أغلب ما كان خاف عليه‏.‏ وما أنت بمؤمن لنا أي‏:‏ بمصدق لنا الآن ولو كنا صادقين‏.‏ أو لست مصدقاً لنا على كل حال حتى في حالة الصدق، لما غلب عليك من تهمتنا وكراهتنا في يوسف، وإنا نرتاد له الغوائل، ونكيد له المكائد، وأوهموا بقولهم‏:‏ ولو كنا صادقين أنهم صادقون في أكل الذئب يوسف، فيكون صدقهم مقيداً بهذه النازلة‏.‏ أو من أهل الصدق والثقة عند يعقوب قبل هذه النازلة، لشدّة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا في هذه النازلة، غير واثق بقولنا فيه‏؟‏‏.‏

روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه، ولطخوا قميص يوسف بدمه، وقالوا‏:‏ ليعقوب هذا قميص يوسف فأخذه، ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا ارتاب، فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم‏:‏ متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه‏؟‏ قيل‏:‏ كان في قميص يوسف ثلاث آيات، كان دليلاً ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب، وألقاه على وجهه فارتد بصيراً، ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ من دبر‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ على قميصه ما محله‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ محله النصب على الظرف، كأنه قيل‏:‏ وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول‏:‏ جاء على جماله بأحمال‏.‏

‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ هل يجوز أن يكون حالاً مقدمة‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى‏.‏ ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا، وليس الفوق ظرفاً لهم، بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ على متعلق بجاؤوا، ولا يصح أيضاً‏.‏ وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفاً للجائي، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل، ويكون بأحمال في موضع الحال أي‏:‏ مصحوباً بأحمال‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم، لأن التقدير‏:‏ جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى‏.‏ وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو، والمعنى‏:‏ يرشد إلى ما قاله أبو البقاء‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ كذب وصف لدم على سبيل المبالغة، أو على حذف مضاف أي‏:‏ ذي كذب، لما كان دالاً على الكذب وصف به، وإن كان الكذب صادراً من غيره‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ كذباً بالنصب، فاحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال، وأن يكون مفعولاً من أجله‏.‏ وقرأت عائشة، والحسن‏:‏ كدب بالدال غير معجمة، وفسر بالكدر، وقيل‏:‏ الطري، وقيل‏:‏ اليابس، وقال صاحب اللوامح‏:‏ ومعناه ذي كذب أي‏:‏ أثر لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها، كالنقش، ويسمى ذلك البياض الفوف، فيكون هذا استعارة لتأثيره في القميص، كتأثير ذلك في الأظافير‏.‏ قال‏:‏ بل سولت هنا محذوف تقديره‏:‏ لم يأكله الذئب، بل سولت‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أمرتكم أمراً، وقال قتادة‏:‏ زينت، وقيل‏:‏ رضيت أمراً أي‏:‏ صينعاً قبيحاً‏.‏ وقيل‏:‏ سهلت‏.‏ فصبر جميل أي‏:‏ فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل‏.‏ وقرأ أبي، والأشهب، وعيسى بن عمر‏:‏ فصبراً جميلاً بنصبهما، وكذا هي في مصحف أبيّ، ومصحف أنس بن مالك‏.‏ وروي كذلك عن الكسائي‏.‏ ونصبه على المصدر الخبري أي‏:‏ فاصبر صبراً جميلاً‏.‏ قيل‏:‏ وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، وكذلك يحسن النصب في قوله‏:‏

شكا إلي جملي طول السرى *** صبراً جميلاً فكلانا مبتلي

ويروى صبر جميل في البيت‏.‏ وإنما تصح قراءة النصب على أنْ يقدر أنّ يعقوب رجع إلى مخاطبة نفسه فكأنه قال‏:‏ فاصبري يا نفسُ صبراً جميلاً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أن الصبر الجميل أنه الذي لا شكوى فيه» أي‏:‏ إلى الخلق‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنما أشكو بثي وحزني إلى الله‏}‏ وقيل‏:‏ أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه، وعبوس الجبين، بل على ما كنت عليه معكم‏.‏

وقال الثوري‏:‏ من الصبر أنْ لا تحدث بما يوجعك ولا بمصيبتك ولا تبكي نفسك‏.‏ والله المستعان أي‏:‏ المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف، والصبر على الرزية‏.‏ وجاءت سيارة قيل‏:‏ كانوا من مدين قاصدين إلى مصر، وقيل‏:‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، وكان أخوه يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته‏.‏ وقيل‏:‏ جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب‏.‏ وقيل‏:‏ كان التسبيح غذاءه في الجب‏.‏ قيل‏:‏ وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض، وقيل‏:‏ سيارة في الطريق أخطؤوه فنزلوا قريباً من الجب، وكان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة، وفيهم مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء‏.‏ والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله‏:‏ ألقيت كاسبهم‏.‏ ليست إضافة إلى المفعول، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم‏.‏ والظاهر أن الوارد واحد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة انتهى‏.‏ وحمل على معنى السيارة في قوله‏:‏ فأرسلوا، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها‏.‏ فأدلى دلوه أي‏:‏ أرسلها ليستقي الماء قال‏:‏ يا بشراي‏.‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ فتعلق يوسف بحبل الدلو، فلما بصر به المدلي قال‏:‏ يا بشراي‏.‏ وتعلقه بالحبل يدل على صغره، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً، ولفظه غلام ترجح ذلك، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة، وقد يطلق على الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في الحجاج بو يوسف‏:‏

غلام إذا هز القناة سقاها *** وقوله‏:‏ يا بشراي هو على سبيل السرور والفرح بيوسف، هذ رأى أحسن ما خلق‏.‏ وأبعد السدّي في زعمه أنّ بشرى اسم رجل، وأضاف البشرى إلى نفسه فكأنه قال تعالى‏:‏ فهذا من آونتك‏.‏ وقرأ يا بشرى بغير إضافة الكوفيون، وروى ورش عن نافع‏:‏ يا بشراي‏:‏ بسكون ياء الإضافة، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة وتقدم تقرير مثله في ‏{‏ومحياي‏}‏ وقرأ أبو الطفيل، والحسن، وابن أبي إسحاق، والجحدري‏:‏ يا بشرى بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة، وهي لغة لهذيل‏.‏ ولناس غيرهم تقدم الكلام عليها في البقرة، في ‏{‏فمن تبع هداي‏}‏ قيل‏:‏ ذهب به الوارد، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك، فبشرهم به وأسروه‏.‏ الظاهر أنّ الضمير للسيارة التي الوارد منهم أي‏:‏ أخفوه من الرفقة، أو كتموا أمره من وجدانهم له في الجب وقالوا‏:‏ دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الضمير في وأسروه وشروه لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة‏:‏ هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، وذلك أنه روي أن بعضهم رجع إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ويقفوا على الحقيقة من فقده، فلما علموا أن الوارد قد أخذوه، جاؤوهم وقالوا تلك المقالة‏.‏

وانتصب بضاعة على الحال أي‏:‏ متجراً لهم ومكسباً‏.‏ والله عليم بما يعملون أي‏:‏ لم تخف عليه أسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضغوا ما ليس لهم، أو والله عليم بعمل أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع، وفي ذلك أعظم تذكار بما فعلوا بيوسف‏.‏ قيل‏:‏ أوحى الله إليه في الجب أن لا يطلع أباه ولا غيره على حاله، لحكمة أراد مضاءها، وظهر بعد ذلك ما جرى له من جعله على خزائن الأرض، وإحواج أخواته إليه، ورفع أبويه على العرش، وما جرى مجرى ذلك مما كان مكنوناً في القدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

شرى بمعنى باع، وبمعنى اشترى قال يزيد بن مفرع الحميري‏:‏

وشريت برداً ليتني *** من بعد برد كنت هامه

أي بعت برداً، وبرد غلامه‏.‏ وقال الآخر‏:‏

ولو أن هذا الموت يقبل فدية *** شريت أبا زيد بما ملكت يدي

أي اشتريت أبا زيد‏.‏ والظاهر أن الضمير في وشروه عائد على السيارة، أي‏:‏ وباعوا يوسف‏.‏ ومن قال‏:‏ إن الضمير في وأسروه عائد على إخوة يوسف جعله عائداً عليهم أي‏:‏ باعوا أخاهم يوسف بثمن بخس‏.‏ وبخس مصدر وصف به بمعنى مبخوس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ زيف ناقص العيار‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ والشعبي‏:‏ قليل‏.‏ وهو معنى لزمخشري‏:‏ ناقص عن القيمة نقصاً ظاهراً‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ البخس الخسيس الذي بخس به البائع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بخس ظلم، لأنهم ظلموه في بيعه‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة أيضاً في آخرين‏:‏ بخس حرام‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ إنما جعله بخساً لأنه عوض نفس شريفة لا تقابل بعوض وإن جل انتهى‏.‏ وذلك أن الذين باعوه إن كانوا الواردة فإنهم لم يعطوا به ثمناً، فما أخذوا فيه ربح كله وإن كانوا إخوته، فالمقصود خلو وجه أبيهم منه لا ثمنه‏.‏ ودراهم بدل من ثمن، فلم يبيعوه بدنانير‏.‏ ومعدودة إشارة إلى القلة، وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهماً، لأنّ الكثيرة يعسر فيها العد، بخلاف القليلة‏.‏ قال عكرمة في رواية عن ابن عباس وابن إسحاق‏:‏ أربعون درهماً‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثون درهماً، ونعلام وحلة‏.‏ وقال السدي‏:‏ كانت اثنين وعشرين درهماً، كذا نقله الزمخشري عنه، ونقله ابن عطية عن مجاهد‏:‏ أخذها إخوته درهمين درهمين، وصاحب التحرير عنه، وعن ابن عباس‏.‏ وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية، وعكرمة في رواية، ونوف الشامي، ووهب، والشعبي، وعطية، والسدي، ومقاتل في آخرين‏:‏ عشرون درهماً‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ عشرون، وحلة، ونعلان‏.‏ وقيل‏:‏ ثمانية عشر درهماً اشتروا بها أخفافاً ونعالاً‏.‏ وقيل‏:‏ عشرة دراهم، والظاهر عود الضمير في فيه إلى يوسف أي‏:‏ لم يعلموا مكانه من الله تعالى قاله‏:‏ الضحاك، وابن جريج‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الثمن، وزهدهم فيه لرداءة الثمن، أو لقصد إبعاد يوسف لا الثمن‏.‏ وهذا إذا كان الضمير في وشروه وكانوا عائداً على إخوة يوسف، فأما إذا كان عائداً على السيارة فزهدهم فيه لكونهم ارتابوا فيه، أو لوصف إخوته له بالخيانة والإباق، أو لعلمهم أنه حر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ من الزاهدين، ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن، لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق فينزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن‏.‏ ويجوز أن يكون معنى وشروه اشتروه، يعني الرفقة من أخوته‏.‏

وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق، فخافوا أن يخاطروا بمالهم فيه‏.‏ ويروى أنّ أخوته اتبعوهم يقولون‏:‏ استوثقوا منه لا يأبق انتهى‏.‏ وفيه تقدم نظيره في ‏{‏إني لكما لمن الناصحين‏}‏ وأنه خرج تعلق الجار إما باعني مضمره، أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين‏.‏ أي‏:‏ وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين، أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والظرف‏.‏ فجوز فيهما ما لا يجوز في غيرهما‏.‏

وقال الذي اشتراه من مصر‏:‏ ذكروا أقوالاً متعارضة فيمن اشتراه، وفي الثمن الذي اشتراه به، ولا يتوقف تفسير كتاب الله على تلك الأقوال المتعارضة‏.‏ فقيل‏:‏ اشتراه رجل من العماليق وقد آمن بيوسف، ومات في حياة يوسف‏.‏ قيل‏:‏ وهو إذ ذاك الملك بمصر، واسمه الريان بن الوليد بن بروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، فملك بعده قابوس بن مصعب بن تمر بن السلواس بن فاران بن عمرو المذكور في نسب الريان، فدعاه يوسف إلى الإيمان فأبى، فاشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم موسى من قبل بالبينات‏}‏ وقيل‏:‏ فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل‏:‏ عرض في السوق وكان أجمل الناس، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمناً عظيماً‏.‏ فقيل‏:‏ وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير، فاشتراه العزيز وهو كان صاحب الملك وخازنه، واسم الملك الريان بن الوليد‏.‏ وقيل‏:‏ مصعب بن الريان، وهو أحد الفراعنة، واسم العزيز قطفير، قاله ابن عباس، وقيل‏:‏ اطفير، وقيل‏:‏ قنطور، واسم امرأته راعيل، وقيل‏:‏ زليخا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وظاهر أمر العزيز أنه كان كافراً، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته حسبما يذكر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كان مسلماً، واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل‏.‏ وقال السدي‏:‏ العزيز هو الملك، واسم امرأته زليخا بنت تمليخا، ومثواه مكان إقامته وهو كناية عن الإحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس‏.‏ ولام لامرأته تتعلق بقال فهي للتبليغ، نحو قلت لك‏:‏ لا باشتراه عسى أن ينفعنا، لعله إذا تدرب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده، فينفعنا بكفايته، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيماً لا يولد له، فتفرس فيه الرشد فقال ذلك‏.‏ وكذلك أي‏:‏ مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه، وأمر امرأته بإكرام مثواه‏.‏ مكنا ليوسف في الأرض أي‏:‏ أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه، أي‏:‏ حكمناه فيها‏.‏ ولام ولنعلمه متعلقة بمحذوف، إما قبله لتملكه ولنعلمه، وإما بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإنجاء والتمكين، أو الواو مقحمة أي‏:‏ مكنا ليوسف في الأرض لنعلمه وكل مقول‏.‏

والأحاديث‏:‏ الرّؤيا، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ أحاديث الأنبياء والأمم‏.‏ والضمير في على أمره الظاهر عوده على الله قاله ابن جبير، لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد، ويقضي‏.‏ أو على يوسف قاله الطبري، أي‏:‏ يديره ولا يكله إلى غيره‏.‏ قد أراد إخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره، وأكثر الناس المنفى عنهم العلم هم الكفار قاله ابن عطية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لا يعملون أن الأمر بيد الله، وقيل‏:‏ المراد بالأكثر الجميع أي‏:‏ لا يطلعون على غيبه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بأكثر الناس أهل مصر، وقيل‏:‏ أهل مكة‏.‏ والأشد عند سيبويه جمع واحد شدة، وأشد كنعمة وأنعم‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ شد وأشد نحو صك وأصك، وقال الشاعر‏:‏

عهدي به شد النهار كأنما *** خضب البنان ورأسه بالعظلم

وزعم أبو عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب والأشد بلوغ الحلم قاله‏:‏ الشعبي، وربيعة، وزيد بن أسلم، أو سبعة عشر عاماً إلى نحو الأربعين قاله الزجاج، أو ثمانية عشر إلى ستين أو ثمانية عشر قاله عكرمة، ورواه أبو صالح عن ابن عباس، أو عشرون قاله الضحاك، أو إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون قاله مجاهد وقتادة‏.‏ ورواه ابن جبير عن ابن عباس، أو ثمان وثلاثون حكاه ابن قتيبة، أو أربعون قاله الحسن‏.‏ وسئل الفاضل النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الخيمي عن الأشد فقال‏:‏ هو خمس وثلاثون، وتمامه أربعون‏.‏ وقيل‏:‏ أقصاه اثنان وستون‏.‏ والحلم الحكم، والعلم النبوّة‏.‏ وقيل‏:‏ الحكم بين الناس، والعلم‏:‏ الفقه في الدين‏.‏ وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة بعد هذه القصة، وكذلك أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير نجزي المحسنين‏.‏ وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسناً في عنفوان شبابه فآتاه الله الحكم والعلم جزاء على إحسانه‏.‏ وعن الحسن‏:‏ من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المحسنين المهتدين، وقال الضحاك‏:‏ الصابرين على النوائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

المراودة الطلب برفق ولين القول، والرود التأني يقال‏:‏ أرودني أمهلني، والريادة طلب النكاح‏.‏ ومشى رويداً أي برفق أغلق الباب وأصفده وأقفله بمعنى‏.‏ وقال الفرزدق‏:‏

ما زلت أغلق أبواباً وأفتحها *** حتى أتيت أبا عمرو بن عمار

هيت اسم فعل بمعنى أسرع‏.‏

‏{‏وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون‏.‏ ولقد همت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين‏}‏‏:‏ المراودة‏:‏ المطالبة برفق، من راد يرود إذا ذهب وجاء، وهي مفاعلة من واحد نحو‏:‏ داويت المريض، وكنى به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله‏.‏ كان المعنى وخادعته عن نفسه، ولذلك عداه بعن‏.‏ وقال التي هو في بيتها، ولم يصرح باسمها، ولا بامرأة العزيز، ستراً على الحرم‏.‏ والعرب تضيف البيوت إلى النساء فتقول‏:‏ ربة البيت، وصاحبة البيت قال الشاعر‏:‏

يا ربة البيت قومي غير صاغرة *** وغلقت الأبواب هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب باب‏.‏ قيل‏:‏ وكانت سبعة أبواب هيت اسم فعل بمعنى أسرع‏.‏ ولك للتبيين أي‏:‏ لك أقول، أمرته بأن يسرع إليها‏.‏ وزعم الكسائي والفراء أنها لغة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها‏:‏ تعال، وقاله عكرمة‏.‏ وقال أبو زيد‏:‏ هي عبرانية‏.‏ هيتلخ أي تعاله فأعربه القرآن، وقال ابن عباس والحسن‏:‏ بالسريانية، وقال السدي‏:‏ بالقبطية هلمّ لك، وقال مجاهد وغيره‏:‏ عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال انتهى‏.‏ ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظ، فقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ هوت وهيت به صاح به فدعاه، ولا يبعد أن يكون مشتقاً من اسم الفعل، كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدك‏.‏ ولما كان اسم فعل لم يبرز فيه الضمير، بل يدل على رتبة الضمير بما يتصل باللام من الخطاب نحو‏:‏ هيت لك، وهيت لك، وهيت لكما، وهيت لكم، وهيت لكن‏.‏ وقرأ نافع، وابن ذكوان، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر‏:‏ هيت بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفتح التاء، والحلواني عن هشام كذلك إلا أنه همز وعلى، وأبو وائل، وأبو رجاء، ويحيى، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وطلحة، والمقري، وابن عباس، وأبو عامر في رواية عنهما، وأبو عمرو في رواية وهشام في رواية كذلك، إلا أنهم ضموا التاء‏.‏ وزيد بن عليّ وابن أبي إسحاق كذلك، إلا أنهما سهلا الهمزة‏.‏ وذكر النحاس‏:‏ أنه قرئ بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة، وكسر التاء‏.‏ وقرأ ابن كثير وأهل مكة‏:‏ بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء، وباقي السبعة أبو عمرو، والكوفيون، وابن مسعود، والحسن، والبصريون، كذلك، إلا أنهم فتحوا التاء‏.‏

وابن عباس وأبو الأسود، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وعيسى البصرة كذلك‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ هييت مثل حييت، فهذه تسع قراءات هي فيها اسم فعل، إلا قراءة ابن عباس الأخيرة فإنها فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء، وإلا من ضم التاء وكسر الهاء سواء همز أم لم يهمز، فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند فتح التاء أو كسرها، ويحتمل أن يكون فعلاً واقعاً ضمير المتكلم من هاء الرجل يهيئ إذا أحسن هيئته على مثال‏:‏ جاء يجيء، أو بمعنى تهيأت‏.‏ يقال‏:‏ هيت وتهيأت بمعنى واحد‏.‏ فإذا كان فعلاً تعلقت اللام به، وفي هذه الكلمة لغات أخر‏.‏ وانتصب معاذ الله على المصدر أي‏:‏ عياذاً بالله من فعل السوء، والضمير في إنه الأصح أنه يعود على الله تعالى أي‏:‏ إن الله ربي أحسن مثواي إذ نجاني من الجب، وأقامني في أحسن مقام‏.‏ وإما أن يكون ضمير الشأن وغني بربه سيده العزيز فلا يصلح لي أن أخونه، وقد أكرم مثواي وائتمنني قاله‏:‏ مجاهد، والسدي، وابن إسحاق‏.‏ ويبعد جداً، إذ لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه، ولا بمعنى السيد، لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكاً له‏.‏ إنه لا يفلح الظالمون أي المجازون الإحسان بالسوء‏.‏ وقيل‏:‏ الزناة، وقيل‏:‏ الخائنون‏.‏ وقرأ أبو الطفيل والجحدري مثويّ، كما قرأ يا بشريّ، وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء‏.‏ استعاذ أولاً بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شيء، ثم نبه على أنّ إحسان الله أو إحسان العزيز الذي سبق منه لا يناسب أن يجازى بالإساءة، ثم نفى الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالماً أضع الشيء غير موضعه، وأتعدى ما حده الله تعالى لي‏.‏

ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه طول المفسرون في تفسير هذين الهمين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق‏.‏ والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول‏:‏ لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا تقول‏:‏ إنّ جواب لولا متقدم عليها وإنْ كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد‏.‏ بل نقول‏:‏ إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب‏:‏ أنت ظالم إن فعلت، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله‏:‏ أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل‏.‏ وكذلك هنا التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان موجداً الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفي الهم‏.‏

ولا التفات إلى قول الزجاج‏.‏ ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيداً فكيف مع سقوط اللام‏؟‏ لأنه يوهم أن قوله‏:‏ وهمّ بها هو جواب لولا، ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب‏.‏ وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة لجواز أن ما يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي باللام، وبغير لام تقول‏:‏ لولا زيد لأكرمتك، ولولا زيد أكرمتك‏.‏ فمن ذهب إلى أن قوله‏:‏ وهم بها هو نفس الجواب لم يبعد، ولا التفات لقول ابن عطية إنّ قول من قال‏:‏ إن الكلام قد تم في قوله‏:‏ ولقد همت به، وإن جواب لولا في قوله وهم بها، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهمّ بها فلم يهم يوسف عليه السلام قال، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف انتهى‏.‏ أما قوله‏:‏ يرده لسان العرب فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين‏}‏ فقوله‏:‏ إنْ كادت لتبدي به، إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير‏:‏ لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدى به‏.‏ وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة‏.‏ والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب لولا محذوفاً، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا لهم بها‏.‏ ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأنّ ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه‏.‏ وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين‏.‏ ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري، وابن عطية، وغيرهما‏.‏

والبرهان الذي رآه يوسف هو ما آتاه الله تعالى من العلم الدال على تحريم ما حرمه الله، والله لا يمكن الهم به فضلاً عن الوقوع فيه‏.‏ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ الكاف منصوب المحل أي‏:‏ مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو مرفوعة أي‏:‏ الأمر مثل ذلك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والكاف من قوله‏:‏ كذلك، متعلقة بمضمر تقديره‏:‏ جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف‏.‏

ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمته، كذلك لنصرف‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير تقديره‏:‏ همت به وهم بها كذلك، ثم قال‏:‏ لولا أن رأى برهان ربه، لنصرف عنه ما هم به انتهى‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب أي‏:‏ أريناه البراهين كذلك‏.‏ وقيل‏:‏ في موضع رفع أي‏:‏ أمر البراهين كذلك، والنصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ كذلك في موضع رفع أي الأمر كذلك‏.‏ وقيل‏:‏ في موضع نصب أي‏:‏ نراعيه كذلك، انتهى‏.‏ وأقول‏:‏ إن التقدير مثل تلك الرؤية، أو مثل ذلك الرأي، نرى براهيننا لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية، والناصب للكاف ما دل عليه قوله‏:‏ لولا أن رأى برهان ربه‏.‏ ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف‏.‏ ومصدر رأى رؤية ورأي قال‏:‏

ورأى عيني الفتى أباكا *** يعطي الجزيل فعليك ذاكا

وقرأ الأعمش‏:‏ ليصرف، بياء الغيبة عائداً على ربه‏.‏ وقرأ العربيان، وابن كثير‏:‏ المخلصين إذا كان فيه إلى حيث وقع بكسر اللام، وباقي السبعة بفتحها‏.‏ وفي صرف السوء والفحشاء عنه وكونه من المخلصين دليل على عصمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قد الثوب‏:‏ شقه‏.‏ السيد فيعل من ساد يسود، يطلق على المالك، وعلى رئيس القوم‏.‏ وفيعل بناء مختص بالمعتل، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة‏.‏ السجن‏:‏ الحبس‏.‏

‏{‏واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم‏.‏ قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين‏.‏ وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين‏.‏ فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم‏.‏ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين‏}‏‏:‏ أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها، وهذه لمنعه ومراودته‏.‏ وأصل استبق أن يتعدى بإلى، فحذف اتساعاً‏.‏ وتقدم أنّ الأبواب سبعة، فكان تنفتح له الأبواب باباً باباً من غير مفتاح، على ما نقل عن كعب أن فراش القفل كان يتناثر ويسقط، حتى خرج من الأبواب‏.‏ ويحتمل أن تكون الأبواب المغلقة ليست على الترتيب باباً فباباً، بل تكون في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه، فاستبقا إلى باب يخرج منه‏.‏ ولا يكون السابع على الترتيب، بل أحدها‏.‏ وقدت يحتمل أن يكون معطوفاً على واستبقا، ويحتمل أن يكون حالاً أي‏:‏ وقد قدّت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه، فانخرق إلى أسفله‏.‏ والقدّ‏:‏ القطع والشق، وأكثر استعماله فيما كان طولاً قال‏:‏

تقدّ السلوقي المضاعف نسجه *** وتوقد بالصفاح نار الحباحب

والقط‏:‏ يستعمل فيما كان عرضاً، وقال المفضل بن حرب‏:‏ رأيت في مصحف قط من دبر أي شق‏.‏ قال يعقوب‏:‏ الشق في الجلد في الصحيح، والثوب الصحيح‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقرأت فرقة قط‏.‏ وألفيا سيدها أي‏:‏ وجد أو صادفا زوجها وهو قطفير‏.‏ والمرأة تقول لبعلها‏:‏ سيدي، ولم يضف إليهما، لأن قطفير ليس سيد يوسف على الحقيقة‏.‏ ويقال‏:‏ ألفاه ووارطه وصادفه ووالطه ولاظه، كله بمعنى واحد‏.‏ قيل‏:‏ ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل، وقيل‏:‏ مع ابن عم المرأة‏.‏ وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ فرابه أمرهما وقال‏:‏ ما لكما‏؟‏ فلما سأل وقد خافت لومه، أو سبق يوسف بالقول، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين تبرئة ساحتها من الريبة، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعاً في مواقعتها خيفة من مكرها، كرهاً لما آيست أن يواقعها طوعاً ألا ترى إلى قولها‏:‏ ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن‏؟‏ ولم تصرح باسم يوسف، بل أتت بلفظ عام وهو قولها‏:‏ ما جزاء من أراد، وهو أبلغ في التخويف‏.‏ وما الظاهر أنها نافية، ويجوز أن تكون استفهامية أي‏:‏ أيّ شيء جزاؤه إلا السجن‏؟‏ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها، ثم ترقت إلى العذاب الأليم، قيل‏:‏ وهو الضرب بالسوط‏.‏

وقولها‏:‏ ما جزاء أي‏:‏ إن الذنب ثابت متقرر في حقه، وأتت بلفظ بسوء أي‏:‏ بما يسوء، وليس نصاً في معصية كبرى، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها، أو ضربه إياها‏.‏ وقوله‏:‏ إلا أن يسجن أو عذاب، يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم‏.‏

وقرأ زيد بن علي‏:‏ أو عذاباً أليماً، وقدره الكسائي أو يعذب عذاباً أليماً‏.‏ ولما أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال‏:‏ هي راودتني عن نفسي، ولم يسبق إلى القول أولاً ستراً عليها، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال‏:‏ هي، وأتى بضمير الغيبة، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعينها بالإشارة فيقول‏:‏ هذه راودتني، أو تلك راودتني، لأن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة‏.‏ ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلاً فيه إناءة ونصفة، طلب الشاهد من كل منهما، فشهد شاهد من أهلها‏.‏ فقال أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وهلال بن يساف، والضحاك‏:‏ كان ابن خالتها طفلاً في المهد أنطقه الله تعالى ليكون أدل على الحجة‏.‏ وروي في الحديث‏:‏ «أنه من الصغار الذين تكلموا في المهد» وأسنده الطبري‏.‏ وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم‏:‏ ‏"‏ لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة‏:‏ عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء ‏"‏ وقيل‏:‏ كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب، ولا ينافي هذا قول قتادة، كان رجلاً حليماً من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره‏.‏ وقيل‏:‏ كان حكماً حكمه زوجها فحكم بينهما، وكان الشاهد من أهلها ليكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة‏.‏ ويحتمل أن يكون معهما في الدار بحيث لا يشعر به، فبصر بما جرى بينهما، فأغضبه الله ليوسف، وشهد بالحق‏.‏ ويبعد قول مجاهد وابن حبيب أنّ الشاهد هو القميص المقدود لقوله‏:‏ شاهد من أهلها، ولا يوصف القميص بكونه شاهداً من أهل المرأة‏.‏ وسمى الرجل شاهداً من حيث دل على الشاهد، وهو تخريق القميص‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ سمى قوله شهادة لأنه أدى تأديتها في ثبت قول يوسف وبطل قولها، وإن كان قميصه محكي إما بقال مضمرة على مذهب البصريين، وإما بشهد، لأنّ الشهادة قول من الأقوال على مذهب الكوفيين‏.‏ وكان هنا دخلت عليها أداة الشرط، وتقدم خلاف المبرد والجمهور فيها، هل هي باقية على مضيها ولم تقلها أداة الشرط‏؟‏ أو المعنى‏:‏ أن يتبين كونه‏.‏ فأداة الشرط في الحقيقة إنما دخلت على هذا المقدر‏.‏ وجواب الشرط فصدقت وفكذبت، وهو على إضمار قد أي‏:‏ فقد صدقت، وفقد كذبت‏.‏ ولو كان فعلاً جامداً أو دعاء لم يحتج إلى تقدير قد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ من قبل، ومن دبر، بضم الباء فيهما والتنوين‏.‏ وقرأ الحسن وأبو عمر، وفي رواية‏:‏ بتسكينها وبالتنوين، وهي لغة الحجاز وأسد‏.‏ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، ونوح القارئ، والجارود بن أبي سبرة بخلاف عنه‏:‏ من قبل، ومن دبر، بثلاث ضمات‏.‏ وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجارود أيضاً في رواية عنهم‏:‏ بإسكان الباء مع بنائهما على الضم، جعلوها غاية نحو‏:‏ من قبل‏.‏ ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما لأنهما إسمان متمكنان، وليسا بظرفين‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ وهذا رديء في العربية، وإنما يقع هذا البناء في الظروف‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والمعنى من قبل القميص ومن دبره، وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها‏:‏ قبل، ومن جهة يقال لها‏:‏ دبر‏.‏ وعن ابن أبي إسحاق‏:‏ أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح، كان جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ إن دل قد قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه إذا كان تابعها وهي دافعة عن نفسها فقدت قميصه من قدامه بالدفع‏.‏ والثاني‏:‏ أن يسرع خلفها ليلحقها، فيتعثر في قدام قميصه فيشقه انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ وهو من الكاذبين، وهو من الصادقين، جملتان مؤكدتان لأنّ من قوله‏:‏ فصدقت، يعلم كذبه‏.‏ ومن قوله‏:‏ فكذبت، يعلم صدقه‏.‏ وفي بناء قد للمفعول ستر على من قده، ولما كان الشاهد من أهلها راعي جهة المرأة فبدأ بتعليق صدقها على تبين كون القميص قد من قبل، ولما كانت كل جملة مستقلة بنفسها أبرز إسم كان بلفظ المظهر، ولم يضمر ليدل على الاستقلال، ولكون التصريح به أوضح‏.‏ وهو نظير قوله‏:‏ «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى» فلما رأى العزيز، وقيل‏:‏ الشاهد قميصه قد من دبر قال‏:‏ إنه أي إن قولك‏:‏ ما جزاء إلى آخره قاله الزجاج، أو أن هذا الأمر وهو طمعها في يوسف ذكره الماوردي والزمخشري، أو إلى تمزيق القميص قاله‏:‏ مقاتل والخطاب في من كيدكن لها ولجواريها، أولها وللنساء‏.‏ ووصف كيد النساء بالعظم، وإن كان قد يوجد في الرجال، لأنهن ألطف كيداً بما جبلن عليه وبما تفرغن له، واكتسب بعضهن من بعض، وهن أنفذ حيلة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الشر النفاثات في العقد‏}‏ وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك ما لا يوجد لغيرهن، لكونهن أكثر تفرغاً من غيرهن، وأكثر تأنساً بأمثالهن‏.‏

يوسف أعرض عن هذا أي‏:‏ عن هذا الأمر واكتمه، ولا تتحدث به‏.‏ وفي ندائه باسمه تقريب له وتلطيف، ثم أقبل عليها وقال‏:‏ واستغفري لذنبك، والظاهر أنّ المتكلم بهذا هو العزيز‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ناداه الشاهد وهو الرجل الذي كان مع العزيز وقال‏:‏ استغفري لذنبك، أي لزوجك وسيدك انتهى‏.‏ ثم ذكر سبب الاستغفار وهو قوله‏:‏ لذنبك، ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ إنك كنت من الخاطئين، ولم يقل من الخاطئات، لأن الخاطئين أعم، لأنه ينطلق على الذكور والإناث بالتغليب‏.‏ يقال‏:‏ خطئ إذا أذنب متعمداً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وما كان العزيز إلا حليماً، روي أنه كان قليل الغيرة انتهى‏.‏ وتربة إقليم قطفير اقتضت هذا، وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجارية تغنيهم من وراء ستر، فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعاً في طست وقال له الملك‏:‏ استعد البيتين من هذا الرأس، فسقط في يد ذلك المستعيد، ومرض مدة حياة ذلك الملك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

النسوة بكسر النون فعلة، وهو جمع تكسير للقلة لا واحد له من لفظه‏.‏ وزعم ابن السراج أنه اسم جمع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ النسوة اسم مفرد لجمع المرأة، وتأنيثه غير حقيقي، ولذا لم تلحق فعله تاء التأنيث انتهى‏.‏ وعلى أنه جمع تكسير لا يلحق التاء لأنه يجوز‏:‏ قامت الهنود، وقام الهنود‏.‏ وقد تضم نونه فتكون إذ ذاك اسم جمع، وتكسيره للكثرة على نسوان، والنساء جمع تكسير للكثرة أيضاً، ولا واحد له من لفظه‏.‏

شغف‏:‏ خرق الشغاف، وهو حجاب القلب‏.‏ وقيل‏:‏ سويداؤه، وقيل‏:‏ داء يصل إلى القلب فينفذ إلى القلب‏.‏ وكسر الغين لغة تميم‏.‏ وقيل‏:‏ الشغاف جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب، شغف وصلت الحدة إلى القلب فكان يحترق من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران، والمشغوف الذي أحرق الحب قلبه‏.‏ ومنه قول الأعشى‏:‏

يعصي الوشاة وكان الحب آونة *** مما يزين للمشفوف ما صنعا

وقد تكسر غينه‏.‏

‏{‏وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين‏}‏‏:‏ لم تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث، ويجوز فيه الوجهان‏.‏ ونسوة كما ذكرنا جمع قلة‏.‏ وكن على ما نقل خمساً‏:‏ امرأة خبازة، وامرأة ساقية، وامرأة بوابة، وامرأة سجانة، وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر‏.‏ ومعنى في المدينة‏:‏ أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف، وصرحوا بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع، لأن النفوس أقبل لسماع ذوي الأخطار وما يجري لهم‏.‏ وعبرت بتراود وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها، تخادعه دائماً عن نفسه كما تقول‏:‏ زيد يعطي ويمنع‏.‏ ولم يقلن‏:‏ راودت فتاها، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونه قد شغفها حباً أي‏:‏ بلغ حبه شغاف قلبها‏.‏ وانتصب حباً على التمييز المنقول من الفاعل كقوله‏:‏ ملأت الإناء ماء، أصله ملأ الماء الإناء‏.‏ وأصل هذا شغفها حبه، والفتى الغلام وعرفه في المملوك‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي»، وقد قيل في غير المملوك‏.‏ وأصل الفتى في اللغة الشاب، ولكنه لما كان جل الخدمة شباناً استعير لهم اسم الفتى‏.‏ وقرأ ثابت البناتي‏:‏ شغفها بكسر الغين المعجمة، والجمهور بالفتح‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد، والشعبي، وعوف الأعرابي‏:‏ بفتح العين المهملة، وكذلك قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري بخلاف عنهم، وروي عن ثابت البناني وابن رجاء كسر العين المهملة‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ الشغف في يالحب، والشغف في البغض‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب، والشغف الجنون، والمشغوف المجنون‏.‏ وأدغم النحويان، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دال قد في شين شغفها‏.‏ ثم نقمن عليها ذلك فقلن‏:‏ إنا لنراها في ضلال مبين أي‏:‏ في تحير واضح للناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

المتكأ‏:‏ الوسادة، والنمرقة‏.‏ المتك‏:‏ الأترج، والواحد متكة قال الشاعر‏:‏

فاهدت متكة لهي أبيها *** وقيل‏:‏ اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين الأترج وغيره من الفواكه‏.‏ قال‏:‏

يشرب الإثم بالصواع جهاراً *** ونرى المتك بيننا مستعارا

وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي قطعه‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ المتك بالضم عند الخليل العسل، وعند الأصمعي الأترج‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ والشراب الخالص‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ وفيه ثلاث لغات، المتك بالحركات الثلاث، وقيل‏:‏ بالكسر الخلال، وقيل‏:‏ بل المسك‏.‏ وقال الكسائي أيضاً‏:‏ فيه اللغات الثلاث، وقد يكون بالفتح المجمر عند قضاعة‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ قد يكون في اللغات الثلاث الفالوذ المعقد‏.‏ وقال الفضل‏:‏ في اللغات الثلاث هو البزماورد، وكل ملفوف بلحم ورقاق‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ المتك بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كندة‏.‏ السكين‏:‏ تذكر وتؤنث، قاله الفراء والكسائي‏.‏ ولم يعرف الأصمعي فيه إلا التذكير‏.‏ حاش‏:‏ قال الفراء من العرب من يتمها، وفي لغة الحجاز‏:‏ حاش لك، وبعض العرب‏:‏ حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد، وهي في أهل الحجاز انتهى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ حاشى كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء، تقول‏:‏ أساء القوم حاشى زيد‏.‏ قال‏:‏

حاشى أبي ثوبان أن لنا *** ضنا عن الملحاة والشتم

وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى حاش الله‏:‏ براءة الله، وتنزيه الله انتهى‏.‏ وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرق بين قولك‏:‏ قام القوم إلا زيداً، وقام القوم حاشى زيد‏.‏ ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة، جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع‏.‏ وأما ما أنشده من قوله‏:‏ حاشى أبي ثوبان، فكذا ينشده ابن عطية، وأكثر النحاة‏.‏ وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر، وهما من بيتين وهما‏:‏

حاشى أبي ثوبان أن أبا *** ثوبان ليس ببُكْمَة فدْمِ

عمرو بن عبد الله إن به *** ضنًّا عن الملحاة والشتَم

‏{‏فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهنّ متكئاً وآتت كل واحدة منهنّ سكيناً وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم‏}‏‏:‏ روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها، أو يحق لومها ومكرهن هو اغتيابهن إياها، وسوء مقالتهن فيها أنها عشقت يوسف‏.‏ وسمي الاغتياب مكراً، لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره‏.‏ وقيل‏:‏ كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها، أرسلت إليهن ليحضرن‏.‏ قيل‏:‏ دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات‏.‏ والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها‏.‏

وأعتدت لهن متكئاً أي‏:‏ يسرت وهيئأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخادّ والوسائد، وغير ذلك مما يكون في مجلس أعد للكرامة‏.‏ ومن المعلوم أن هذا النوع من الإكرام لا يخلو من طعام وشراب، وهنا محذوف تقديره‏:‏ فجئن واتكأن‏.‏ ومتكئاً إما أن يراد به الجنس، وإما أن يكون المراد وأعتدت لكل واحدة منهن متكئاً، كما جاءت وآتت كل واحدة منهن سكيناً‏.‏ قال ابن عباس متكئاً مجلساً، ذكره الزهراوي، ويكون متكئاً ظرف مكان أي‏:‏ مكاناً يتكئن فيه‏.‏ وعلى ما تقدم تكون الآلات التي يتكأ عليها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المتكأ الطعام يحز حزاً‏.‏ قال القتبي‏:‏ يقال اتكأنا عند فلان أي أكلنا، ويكون هذا من المجاز عبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف بالمتكأ وهي عادة المترفين، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أما أنا فلا آكل متكئاً» أو كما قال‏:‏ وإذا كان المتكأ ليس معبراً به عما يؤكل، فمعلوم أنّ مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب، فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين‏.‏ فقيل‏:‏ كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين‏.‏ وقيل‏:‏ كان أترجاً، وقيل‏:‏ كان بزماورد وهو شبيه بالأترج موجود في تلك البلاد‏.‏ وقيل‏:‏ هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط، ومضمونه‏:‏ أنه يحتاج إلى أن يقطع بالسكين، وعادة من يقطع شيئاً أن يعتمد عليه، فيكون متكئاً عليه‏.‏ قيل‏:‏ وكان قصدها في بروزهن على هذه الهيئات متكئات في أيديهن سكاكين يحززن بها شيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ دهشهن عند رؤيته وشغلهن بأنفسهن، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فتبكتهن، ويكون ذلك مكراً بهن إذ ذهلن عما أصابهنّ من تقطيع أيديهن، وما أحسسن به مع الألم الشديد لفرط ما غلب عليهن من استحسان يوسف وسلبه عقولهن‏.‏ والثاني‏:‏ التهويل على يوسف بمكرها إذا خرج على نساء مجتمعات في أيديهن الخناجر، توهمه أنهن يثبن عليه، فيكون يحذر مكرها دائماً‏.‏ ولعله يجيبها إلى مرادها على زعمها ذلك، ويوسف قد عصمه الله من كل ما تريده به من السوء‏.‏

وقرأ الزهري، وأبو جعفر، وشيبة‏:‏ متكي مشدد التاء من غير همز بوزن متقي، فاحتمل ذلك وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون من الاتكاء، وفيه تخفيف الهمز كما قالوا في توضأت توضئة‏.‏ والثاني‏:‏ يكون مفتعلاً من أوكيت السقاء إذا شددته أي‏:‏ ما يشتددن عليه، إما بالاتكاء، وإما بالقطع بالسكين‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ متكئاً مفعلاً من تكأ يتكأ إذا اتكأ‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ وابن هرمز‏:‏ متكاء بالمد والهمز، وهو مفتعل من الاتكاء، إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا‏:‏ ومن ذم الرجال بمنتزاح‏.‏ وقالوا‏:‏

أعوذ بالله من العقراب *** الشائلات عقد الاذناب

وقرأ ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والجحدري، والكلبي، وابان بن تغلب‏:‏ متكئاً بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء كذلك عن ابن هرمز‏.‏

وقرأ عبد الله ومعاذ، وكذلك إلا أنهما فتحا الميم، وتقدم تفسير متك، ومتك في المفردات‏.‏ وقالت‏:‏ اخرج عليهن، هذا الخطاب ليوسف عليه السلام‏.‏ وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه، وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ فخرج عليهن‏.‏ ومعنى أكبرنه‏:‏ أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع‏.‏ قيل‏:‏ كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء‏.‏ ‏"‏ وفي حديث الإسراء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بلقيا يوسف قيل‏:‏ يا رسول الله كيف رأيته‏؟‏ قال‏:‏ «كالقمر ليلة البدر» ‏"‏ وقيل‏:‏ كان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ كان يشبه آدم يوم خلقه ربه‏.‏ وقيل‏:‏ ورث الجمال عن جدته سارة‏.‏ وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي، عن أبيه، عن جده‏:‏ معناه حضن، وأنشد بعض النساء حجة لهذا التأويل‏:‏

تأتي النساء على أطهارهن ولا *** تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول ضعيف، والبيت مصنوع مختلق، كذلك قال الطبري وغيره من المحققين، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمة الله‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقيل أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت يقال‏:‏ أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته من الكبر لأنها بالحيض تخرج عن حد الصغر إلى حد الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله‏:‏

خف الله واستر ذا الجمال ببرقع *** فإن لحت حاضت في الخدور العواتق

انتهى‏.‏ وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل على أنها ليست هاء السكت، إذ لو كانت هاء السكت، وكان من أجرى الوصل مجرى الوقف، لم يضم الهاء‏.‏ والظاهر أن الضمير يعود في أكبرنه على يوسف إن ثبت أن أكبر بمعنى حاض، فتكون الهاء عائدة على المصدر أي‏:‏ أكبرن الإكبار‏.‏ وقطعن أيديهن أي جرحنها، كما تقول‏:‏ كنت أقطع اللحم فقطعت يدي‏.‏ والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن‏.‏ فالجرح كأنه وقع مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف، فكأنها غابت عن حسها‏.‏ والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ الأيدي هنا الأكمام، ولما فعلن هذا الفعل الصعب من جرح أيديهن، وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه قلن‏:‏ حاش لله‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ حاش لله بغير ألف بعد الشين، ولله بلام الجر‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ حاشا لله بغير ألف، ولام الجر‏.‏ وقرأت فرقة منهم الأعمش‏:‏ حشى على وزن رمى لله بلام الجر‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ حاش بسكون الشين وصلاً، ووقفاً بلام الجر‏.‏

وقرأ أبيّ وعبد الله‏:‏ حاشى الله بالإضافة، وعنهما كقراءة أبي عمر، قاله صاحب اللوامح‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ حاش الإله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ محذوفاً من حاشى‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ بحذف الألف، وهذه تدل على كونه حرف جر يجر ما بعده‏.‏ فأما الإله فإنه فكه عن الإدغام، وهو مصدر أقيم مقام المفعول، ومعناه المألوه بمعنى المعبود‏.‏ قال‏:‏ وحذفت الألف من حاش للتخفيف انتهى‏.‏ وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحب اللوامح‏:‏ من أن الألف في حاشى في قراءة الحسن محذوفة لا تتعين، إلا أن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين، فإن لم ينقل عنه في ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين، إذ الأصل حاشى الإله، ثم نقل فحذف الهمزة وحرّك اللام بحركتها، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في يخشى الإله‏.‏ ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف‏.‏ وقرأ أبو السمال‏:‏ حاشا لله بالتنوين كرعياً لله، فأما القراآت لله بلام الجر في غير قراءة أبي السمال فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى، أو حاش، أو حشى، أو حاش حرف جر، لأنّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرف فيهما بالحذف، وأصل التصرف بالحذف أن لا يكون في الحروف‏.‏ وزعم المبرد وغيره كابن عطية‏:‏ أنه يتعين فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يوسف أي‏:‏ حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به‏.‏ ومعنى لله‏:‏ لطاعة الله، أو لمكانة من الله، أو لترفيع الله أن يرمي بما رمته به، أو يذعن إلى مثله، لأنّ ذلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك‏.‏ وعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي‏:‏ جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله، أو لما ذهب قبل‏.‏ وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل كأنه قال‏:‏ تنزيهاً لله‏.‏ ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا منوناً، وعلى هذا القول يتعلق لله بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا، ولم ينون في القراآت المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف‏.‏ ألا تراهم قالوا‏:‏ من عن يمينه، فجعلوا عن اسماً ولم يعربوه وقالوا‏:‏ من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر، بل أبقوا عن على بنائه، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها‏؟‏ وأما قراءة الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا‏:‏ سبحان الله، وهذا اختيار الزمخشري‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي‏:‏ إن حاشى حرف استثناء، كما قال الشاعر‏:‏

حاشى أبي ثوبان *** انتهى‏.‏

وأما قراءة الحسن حاش بالتسكين ففيها جمع بين ساكنين، وقد ضعفوا ذلك‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والمعنى تنزيه الله من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله‏.‏

وأما قوله‏:‏ حاشى لله، ما علمنا عليه من سوء، فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله‏.‏ ما هذا بشراً لما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإنسان، نفين عنه البشرية، وأثبتن له الملكية، لما كان مركوزاً في الطباع حسن الملك، وإن كان لا يرى‏.‏ وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب‏:‏

فلست لأنسى ولكن لملاك *** تنزل من جو السماء يصوب

وقال بعض المحدثين‏:‏

قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة *** حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا

وانتصاب بشراً على لغة الحجاز، ولذا جاء ‏{‏ما هن أمهاتهم إنْ أمهاتهم‏}‏ وما منكم من أحد عنه حاجزين، ولغة تميم الرفع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولم يقرأ به‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع، وهي قراءة ابن مسعود انتهى‏.‏ وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي‏:‏ ما هذا بشرى، قال صاحب اللوامح‏:‏ فيحتمل أن يكون معناه بمبيع أو بمشرى أي‏:‏ ليس هذا مما يشترى ويباع‏.‏ ويجوز أن يكون ليس بثمن كأنه قال‏:‏ هو أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء، فالشراء هو مصدر أقيم مقام المفعول به‏.‏ وتابعهما عبد الوارث عن أبي عمرو على ذلك، وزاد عليهما‏:‏ إلا ملك بكسر اللام واحد الملوك، فهم نفوا بذلك عنه ذل المماليك وجعلوه في حيز الملوك، والله أعلم انتهى‏.‏ ونسب ابن عطية كسر اللام للحسن وأبي الحويرث اللذين قرآ بشرى قال‏:‏ لما استعظمن حسن صورته قلن هذا ما يصلح أن يكون عبداً بشرى، إنْ هذا إلا يصلح أن يكون ملكاً كريماً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ ما هذا بشرى أي‏:‏ بعبد مملوك لئيم، إنْ هذا إلا ملك كريم‏.‏ تقول‏:‏ هذا بشرى أي حاصل بشرى، بمعنى هذا مشتري‏.‏ وتقول‏:‏ هذا لك بشرى، أي بكراً‏.‏ وقال‏:‏ وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية، وبها ورد القرآن انتهى‏.‏ وإنما قال القدمي، لأنّ الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء، فتقول‏:‏ ما زيد بقائم، وعليه أكثر ما جاء في القرآن‏.‏ وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة، حتى أنّ النحويين لم يجدوا شاهداً على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر‏:‏

وأنا النذير بحرة مسودة *** تصل الجيوش إليكم أقوادها

أبناؤها متكنفون أباهم *** حنقو الصدور وما هم أولادها

وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة‏:‏ لا يكاد أهل الحجاز، ينطقون إلا بالباء، فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري‏:‏ اللغة القدمى الحجازية، فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها‏.‏