فصل: تفسير الآيات رقم (32- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ذا اسم الإشارة، واللام لبعد المشار، وكن خطاب لتلك النسوة‏.‏ واحتمل أن يكون لما رأى دهشهن وتقطيع أيديهن بالسكاكين وقولهن‏:‏ ما هذا بشراً، بعد عنهن إبقاء عليهن في أنْ لا تزداد فتنتهن، وفي أنْ يرجعن إلى حسنهن، فأشارت إليه باسم الإشارة الذي للبعيد، ويحتمل أن تكون أشارت إليه وهو للبعد قريب بلفظ البعيد رفعاً لمنزلته في الحسن، واستبعاداً لمحله فيه، وأنه لغرابته بعيد أن يوجد منه‏.‏ واسم الإشارة تضمن الأوصاف السابقة فيه كأنه قيل‏:‏ الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه وقلتن فيه ما قلتن من نفي البشرية عنه وإثبات الملكية له، هو الذي لمتنني فيه أي‏:‏ في محبته وشغفي به، قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن‏:‏ عشقت عبدها الكنعاني تقول‏:‏ هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه، يعني‏:‏ إنكن لو تصورنه بحق صورته، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتننان به انتهى‏.‏ والضمير في فيه عائد على يوسف‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف، والضمير عائد على الحب، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه انتهى‏.‏ ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة، واستنامت إليهن في ذلك، إذ علمت أنهن قد عذرنها‏.‏

فاستعصم قال ابن عطية‏:‏ معناه طلب العصمة، وتمسك بها وعصاني‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، ونحو‏:‏ استمسك، واستوسع،، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب‏.‏ وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان انتهى‏.‏ والذي ذكر التصريفيون في استعصم أنه موافق لاعتصم، فاستفعل فيه موافق لافتعل، وهذا أجود من جعل استفعل فيه للطلب، لأن اعتصم يدل على وجود اعتصامه، وطلب العصمة لا يدل على حصولها‏.‏ وأما أنه بناء مبالغة يدل على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لاستفعل‏.‏ وأما استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه موافقة لافتعل، والمعنى‏:‏ امتسك واتسع واجتمع الرأي، وأما استفحل الخطب فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي‏:‏ تفحل الخطب نحو‏:‏ استكبر وتكبر‏.‏ ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها بقولها‏:‏ ولئن لم يفعل ما آمره‏.‏ والضمير في آمره عائد على الموصول أي‏:‏ ما آمر به، فحذف الجار، كما حذف في أمرتك الخير‏.‏ ومفعول آمر الأول محذوف، وكان التقدير ما آمره به‏.‏ وإن جعلت ما مصدرية جاز، فيعود الضمير على يوسف أي‏:‏ أمري إياه، ومعناه‏:‏ موجب أمري‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ وليكونن بالنون المشددة، وكتبها في المصحف بالألف مراعاة لقراءة الجمهور بالنون الخفيفة، ويوقف عليها بالألف كقول الأعشى‏:‏

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا *** ومن الصاغرين‏:‏ من الأذلاء، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة‏.‏ وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وأقامت عذرها عند النسوة، فرقت عليه، فتوعدته بالسجن‏.‏ وقال له النسوة‏:‏ أطع وافعل ما أمرتك به، فقال‏:‏ رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه‏.‏ فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها، ونهينه عن الفاء نفسه في السجن والصغار، فالتجأ إلى الله تعالى‏.‏ والتقدير‏:‏ دخول السجن‏.‏ وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والزهري، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب‏:‏ السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي‏:‏ حبسهم إياي في السجن أحب إليّ وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شران، فآثر أحد الشرّين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة، ولم يخطر له ببال‏.‏ ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله، والصبر على النوائب، وانتظار الفرج، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعياً له في تخليصه‏.‏ آثره ثم ناط العصمة بالله، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو‏.‏ فقال‏:‏ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي‏:‏ أمل إلى ما يدعونني إليه‏.‏ وجعل جواب الشرط قوله‏:‏ أصب، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط، لا بمباشرة المعصية‏.‏ وقرئ أصب إليهن من صببت صبابة فأنا صب، والصبابة إفراط الشوق، كأنه ينصب فيما يهوي‏.‏ وقراءة الجمهور‏:‏ أصب من صبا إلى اللهو يصبو صباً وصبوّا، ويقال‏:‏ صبا يصبا صباً، والصبا بالكسر اللهو واللعب‏.‏ وأكن من الجاهلين من الذين لا يعلمون بما، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء لأنّ الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إحدى بليلي وما هام الفؤاد بها *** إلا السفاه وإلا ذكرة حلما

وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله‏:‏ وإلا تصرف عني، فيه معنى طلب الصرف والدعاء، وكأنه قال‏:‏ رب اصرف عني كيدهن، فصرف عنه كيدهن أي‏:‏ حال بينه وبين المعصية‏.‏ إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم‏.‏ ثم بدا لهم أي‏:‏ ظهر لهم، والفاعل لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي‏:‏ بدا لهم هو أي رأى أو بدا‏.‏ كما قال‏:‏

بدا لك من تلك القلوص بداء *** هكذا قاله النحاة والمفسرون، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة، فإنه زعم أن قوله‏:‏ ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي‏:‏ سجنه حتى حين، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو‏.‏

والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله‏:‏ ليسجنن، أو من قوله‏:‏ السجن على قراءة الجمهور، أو على السجن على قراءة من فتح السين‏.‏ والضمير في لهم للعزيز وأهله، والآيات هي‏:‏ الشواهد الدالة على براءة يوسف‏.‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ قد القميص، فإن كان الشاهد طفلاً فهي آية عظيمة، وإن كان رجلاً فيكون استدلالاً بالعادة‏.‏ والذي يظهر أنّ الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن، بل رأوا قول الشاهد‏.‏ وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره‏.‏ وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش وجهها، والسدي من حز أيديهن، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية‏.‏ وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ لتسجننه بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ عتى بإبدال حاء حتى عينا، وهي لغة هذيل‏.‏ وأقرأ بذلك فكتب إليه يأمره أن يقرئ بلغة قريش حتى لا بلغة هذيل، والمعنى‏:‏ إلى زمان‏.‏ والحين يدل على مطلق الوقت، ومن عين له هنا زماناً فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف، لا أنه موضوع في اللغة كذلك، وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه‏.‏ وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء، واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها، وعشقه لها، وجعله زمام أمره بيدها، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف‏.‏ روي أنه لما امتنع يوسف من المعصية، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها‏:‏ إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته، وإلا حبسته كما أنا محبوسة، فحينئذ بدا لهم سجنه، قال ابن عباس‏:‏ فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أنّ يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاؤه أن يسجن‏.‏ قال أبو صالح‏:‏ ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة‏.‏ الخبر‏:‏ معروف، وجمعه اخباز، ومعانيه خباز‏.‏

‏{‏ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين‏}‏‏:‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ فسجنوه، فدخل معه السجن غلامان‏.‏ وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان، أحدهما خبازه، والآخر ساقيه‏.‏ وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما قاله‏:‏ السدي‏.‏ ومع تدل على الصحبة واستحداثها، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة‏.‏ ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسال لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان ولزماه، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له‏:‏ كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف‏:‏ لا تحبني يرحمك الله، فلقد أدخلت على المحبة مضرات، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى‏.‏ وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن‏:‏ إني أعبر الرؤيا وأجيد‏.‏ وروي أن الفتيين قالا له‏:‏ إنا لنحبك من حين رأيناك فقال‏:‏ أنشدكما الله أنْ لا تحباني، وذكر ما تقدم‏.‏ وعن قتادة‏:‏ كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول‏:‏ اصبروا وابشروا تؤجروا إن لهذا لأجراً فقالوا‏:‏ بارك الله عليك، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك‏!‏ لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى‏؟‏ قال يوسف‏:‏ ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله ابراهيم‏.‏ فقال له عامل السجن‏:‏ لو استطعت خليت سبيلك‏.‏

وهذه الرؤيا التي للفتيين قال مجاهد‏:‏ رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله‏.‏ وقال ابن مسعود والشعبي‏:‏ استعملاها ليجرباه‏.‏ والذي رأى عصر الخمر اسمه بنو قال‏:‏ رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان، فيها عناقيد عنب حسان، فكنت أعصرها وأسقي الملك‏.‏ والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال‏:‏ كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل، وكلاهما لمدلول واحد‏.‏ ولا يجوز أن يقول‏:‏ اضربني ولا أكرمني‏.‏ وسمى العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه‏.‏ وقيل‏:‏ الخمر بلغة غسان اسم العنب‏.‏ وقيل‏:‏ في لغة ازد عمان‏.‏ وقال المعتمر‏:‏ لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت‏:‏ ما تحمل‏؟‏ قال‏:‏ خمراً، أراد العنب‏.‏ وقرأ أبي وعبد الله‏:‏ أعصر عنباً، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمراً‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة، إذ العصر لها ومن أجلها‏.‏ وفي مصحف عبد الله‏:‏ فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه، وهو أيضاً تفسير لا قراءة‏.‏ والضمير في تأويله عائداً إلى ما قصا عليه، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل‏:‏ بتأويل ذلك‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ من المحسنين أي في العلم، لأنهما رأيا منه ما علما به أنه عالم‏.‏ وقال الضحاك وقتادة‏:‏ من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ أرادا إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً، إذا تأول لهما ما رأياه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قال الزمخشري‏:‏ لما استعداه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك، فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما، ويصفه لهما ويقول‏:‏ اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، ويجعل ذلك تخليصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح لهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه، ثم يفتيه بعد ذلك‏.‏ وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده، وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين، لم يكن من باب التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته، لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معاينة انتهى‏.‏ وهذا الذي قاله الزمخشري يدل على أن إتيان الطعام يكون في اليقظة، وهو قول ابن جريج قال‏:‏ أراد يوسف لا يأتيكما في اليقظة ترزقانه إلا نبأتكما منه بعلم، وبما يؤول إليه أمركما أن يأتيكما، فعلى هذا أراد أن يعلمهم أنه يعلم مغيبات لا تتعلق بالرؤيا، وهذا على ما روي أنه نبئ في السجن‏.‏ وقال السدي وابن إسحاق، لما علم من تعبير منامه رأى الخبز أنها تؤذن بقتله، أخذ في غير ذلك الحديث تنسية لهما أمر المنام، وطماعية في أيمانهما، ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان، وتسلم له آخرته فقال لهما معلناً بعظيم علمه للتعبير‏:‏ إنه لا يجيئكما طعام في يومكما تريان أنكما رزقتماه ألا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام أي‏:‏ بما يؤول إليه أمره في اليقظة، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به‏.‏ فروى أنهما قالا له‏:‏ ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم‏؟‏ فقال لهما‏:‏ ذلك مما علمني ربي‏.‏ والظاهر أن قوله لا يأتيكما إلى آخره، أنه في اليقظة، وأن قوله‏:‏ مما علمني ربي دليل على أني إذ ذاك كان نبياً يوحى إليه‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ إني تركت، استئناف إخبار بما هو عليه، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه، ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط، إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة، واستجلاباً لهما لأن يتركا تلك الملة التي كانا فيها‏.‏ ويجوز أن يكون إني تركت تعليلاً لما قبله أي‏:‏ علمني ذلك، وأوحي إلي لأني رفضت ملة أولئك، واتبعت ملة الأنبياء، وهي الملة الحنيفية‏.‏

وهؤلاء الذين لا يؤمنون هم أهل مصر، ومن كان الفتيان على دينهم‏.‏ ونبه على أصلين عظيمين وهما‏:‏ الإيمان بالله، والإيمان بدار الجزاء، وكررهم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأن غيرهم مؤمنون بها‏.‏ ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء انتهى‏.‏ وليست عندنا هم تدل على الخصوص، وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة‏.‏ ولما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة، بعد أن عرفهما أنه نبي، بما ذكر من إخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون‏:‏ آبائي بإسكان الياء، وهي مروية عن أبي عمرو‏.‏ ما كان لنا ما صح ولا استقام لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله من شيء عموم في الملك والجني والإنسيّ، فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر‏؟‏ فشيء يراد به المشرك‏.‏ ويجوز أن يراد به المصدر أي‏:‏ من شيء من الإشراك، فيعم الإشراك، ويلزم عموم متعلقاته‏.‏ ومن زائدة لأنها في حيز النفي، إذ المعنى‏:‏ ما نشرك بالله شيئاً، والإشارة بذلك إلى شركهم وملتهم أي‏:‏ ذلك الدين والشرع الحنيفي الذي انتفى فيه الإشراك بالله، ومن فضل الله علينا أي‏:‏ على الرسل، إذ خصوا بأن كانوا وسائط بين الله وعباده‏.‏ وعلى الناس أي‏:‏ على المرسل إليهم، إذ يساقون به إلى النجاة حيث أرشدوهم اليه‏.‏ وقوله‏:‏ لا يشكرون أي‏:‏ لا يشكرون فضل الله فيشركون ولا ينتبهون‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك من فضل الله علينا، لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها، وقد نصب مثل ذلك لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يشكرون اتباعاً لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام، فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة‏.‏ واحتمل قوله‏:‏ يا صاحبي السجن، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف، والمعنى‏:‏ يا صاحبيّ في السجن، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل‏:‏ يا ساكني السجن، كقوله ‏{‏أصحاب النار‏}‏ ‏{‏وأصحاب الجنة‏}‏ ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله‏:‏ أأرباب، فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام‏.‏ وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك إلى أن يصل إلى الإذعان بالحق‏.‏ وقابل تفرق أربابهم بالواحد، وجاء بصفة القهار تنبيهاً على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة، وإعلاماً بعروّ أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به، وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد‏.‏ والمعنى‏:‏ أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو الله‏؟‏ فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادته، ثم استطرد بعد الاستفهام إلى إخبار عن حقيقة ما يعبدون‏.‏ والخطاب بقوله‏:‏ ما تعبدون، لهما ولقومهما من أهل‏.‏ ومعنى إلا أسماء‏:‏ أي ألفاظاً أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة لا مسميات تحتها، وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة في الأعراف‏.‏ إنْ الحكم إلا لله أي‏:‏ ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه‏.‏ ومعنى القيم‏:‏ الثابت الذي دلت عليه البراهين‏.‏ لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

البضع‏:‏ ما بين الثلاث إلى التسع قاله قتادة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من الثلاثة إلى السبعة، وقال أبو عبيدة‏:‏ البضع لا يبلغ العقد ولا نصف العقد، وإنما هو من الواحد إلى العشرة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ولا يذكر البضع إلا مع العشرات، ولا يذكر مع مائة ولا ألف‏.‏

‏{‏يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضيَ الأمر الذي فيه تستفتيان‏.‏ وقال للذي ظنّ أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين‏}‏‏:‏ لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهما، ناداهما ثانياً لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب، فروي أنه قال‏:‏ لبنوّ‏:‏ أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك، وما رأيت من الكرامة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه‏.‏ وقال لملحب‏:‏ أما أنت فما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب، فروي أنهما قالا‏:‏ ما رأينا شيئاً، وإنما تحالمنا لنجرّبك‏.‏ وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب‏.‏ وروي أنهما رأيا ثم أنكرا‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ فيسقي ربه من سقى، وفرقة‏:‏ فيسقي من أسقى، وهما لغتان بمعنى واحد‏.‏ وقرئ في السبعة‏:‏ نسقيكم ونسقيكم‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ سقى وأسقى بمعنى واحد في اللغة، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب، وأسقاه جعل له سقياً‏.‏ ونسب ضم الفاء لعكرمة والجحدري، ومعنى ربه‏.‏ سيده‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقرأ عكرمة والجحدري‏:‏ فيسقي ربه خمراً بضم الياء وفتح القاف، أي ما يرويه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرأ عكرمة فيسقى ربه، فيسقى ما يروى به على البناء للمفعول، ثم أخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله أنّ الأمر قد قضى ووافق القدر، وسواء كان ذلك منكما حلم، أو تحالم‏.‏ وأفرد الأمر وإن كان أمر هذا، لأنّ المقصود إنما هو عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن، هو اتهام الملك إياهما بسمه، فرأيا ما رأيا، أو تحالما بذلك، فقضيت وأمضيت تلك العاقبة من نجاة أحدهما، وهلاك الآخر‏.‏ وقال أي‏:‏ يوسف للذي ظن‏:‏ أي أيقن هو أي يوسف‏:‏ إنه ناج وهو الساقي‏.‏ ويحتمل أن يكون ظن على بابه، والضمير عائد على الذي وهو الساقي أي‏:‏ لما أخبره يوسف بما أخبره، ترجح عنده أنه ينجو، ويبعد أن يكون الظن على بابه، ويكون مسنداً إلى يوسف على ما ذهب إليه قتادة والزمخشري‏.‏ قال قتادة‏:‏ الظن هنا على بابه، لأن عبارة الرؤيا ظن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الظان هو يوسف عليه السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد فيبعد، لأنه قوله‏:‏ قضي الأمر، فيه تحتم ما جرى به القدر وإمضاؤه، فيظهر أن ذلك بطريق الوحي، إلا أن حمل قضي الأمر على قضى كلامي، وقلت ما عندي، فيجوز أن يعود على يوسف‏.‏

فالمعنى أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك‏:‏ اذكرني عند الملك أي‏:‏ بعلمي ومكانتي وما أنا عليه مما آتاني الله، أو اذكرني بمظلمتي وما امتحنت به بغير حق‏.‏ وهذا من يوسف على سبيل الاستعانة والتعاون في تفريج كربه، وجعله بإذن الله وتقديره سبباً للخلاص كما جاء عن عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏ وكما كان الرسول يطلب من يحرسه‏.‏ والذي أختاره أن يوسف إنما قال لساقي الملك‏:‏ اذكرني عند ربك ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله، كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه‏.‏ والضمير في فأنساه عائد على الساقي، ومعنى ذكر ربه‏:‏ ذكر يوسف لربه، والإضافة تكون بأدنى ملابسة‏.‏ وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف، لما أراد الله بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن‏.‏ وبضع سنين مجمل، فقيل‏:‏ سبع، وقيل‏:‏ اثنا عشر‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ فلبث في السجن، إخبار عن مدّة مقامه في السجن، منذ سجن إلى أن أخرج‏.‏ وقيل‏:‏ هذا اللبث هو ما بعد خروج الفتيين وذلك سبع‏.‏ وقيل‏:‏ سنتان‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في أنساه عائد على يوسف‏.‏ ورتبوا على ذلك أخباراً لا تليق نسبتها إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

السمن‏:‏ معروف وهو مصدر سمن يسمن، واسم الفاعل سمين، والمصدر واسم الفاعل على غير قياس‏.‏ العجفاء‏:‏ المهذولة جداً قال‏:‏

ورجال مكة مستنون عجاف *** الضغث أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب من جنس واحد أو، من أخلاط النبات والعشب فمن جنس واحد ما روي في قوله‏:‏ ‏{‏وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به‏}‏ إنه أخذ عثكالاً من النخل‏.‏ وروي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم فعل نحو هذا في إقامة حد على رجل‏.‏ وقال ابن مقبل‏:‏

خود كأن راشها وضعت به *** أضغاث ريحان غداة شمال

ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها‏:‏ ضغث على إمالة‏.‏

‏{‏وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون‏.‏ قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين‏}‏‏:‏ لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الرّيان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته، فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان‏.‏ ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها‏.‏ أرى‏:‏ يعني في منامه، ودل على ذلك‏:‏ أفتوني في رؤياي‏.‏ وأرى حكاية حال، فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت‏.‏ وسمان صفة لقوله‏:‏ بقرات، ميز العدد بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا يحسنهن‏.‏ ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع، ويلزم من وصف البقرات بالسمن وصف السبع به، ولا يلزم من وصف السبع به وصف الجنس به، لأنه يصير المعنى سبعاً من البقرات سماناً‏.‏ وفرق بين قولك‏:‏ عندي ثلاث رجال كرام، وثلاثة رجال كرام، لأن المعنى في الأول ثلاثة من الرجال الكرام، فيلزم كرم الثلاثة لأنهم بعض من الرجال الكرام‏.‏ والمعنى في الثاني‏:‏ ثلاثة من الرجال كرام، فلا يدل على وصف الرجال بالكرم‏.‏ ولم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا يضاف إلى الصفة إلا في الشعر، إنما تتبعه الصفة‏.‏ وثلاثة فرسان، وخمسة أصحاب من الصفات التي أجريت مجرى الأسماء‏.‏ ودل قوله‏:‏ سبع بقرات على أن السبع العجاف بقرات، كأنه قيل‏:‏ سبع بقرات عجاف، أو بقرات سبع عجاف‏.‏ وجاء جمع عجفاء على عجاف، وقياسه عجف كخضراء أو خضر، حملاً على سمان لأنه نقيضه‏.‏ وقد يحمل النقيض على النقيض، كما يحمل النظير على النظير‏.‏ والتقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات، فيكون قد حذف اسم العدد من قوله‏:‏ وأخر يابسات، لدلالة قسميه وما قبله عليه، فيكون التقدير‏:‏ وسبعاً أخر يابسات‏.‏

ولا يصح أن يكون وأخر مجروراً عطفاً على سنبلات خضر، لأنه من حيث العطف عليه كان من جملة مميز سبع، ومن جهة كونه أخر كان مبايناً لسبع، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات، فإنه كان يصح العطف، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات‏.‏ والملأ‏:‏ أشراف دولته وأعيانهم الذين يحضرون عند الملك‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ بالإدغام في الرؤيا، وبابه بعد قلب الهمزة واواً، ثم قلبها ياء، لاجتماع الواو والياء، وقد سبقت إحداهما بالسكون‏.‏ ونصوا على شذوذه، لأن الواو هي بدل غير لازم، واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول‏:‏ زيد ضارب لعمر وفصيحاً‏.‏ والظاهر أن خبر كنتم هو قوله‏:‏ تعبرون‏.‏ وأجاز الزمخشري فيه وجوهاً متكلفة أحدها‏:‏ أن تكون الرؤيا للبيان قال‏:‏ كقوله‏:‏ وكانوا فيه من الزاهدين، فتتعلق بمحذوف تقديره أعني فيه، وكذلك تقدير هذا إن كنتم أعني الرؤيا تعبرون، ويكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها‏.‏ والثاني‏:‏ أن تكون الرؤيا خبر كان قال‏:‏ كما تقول‏:‏ كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه، وتعبرون خبراً آخر أو حالاً‏.‏ والثالث‏:‏ أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل‏:‏ إن كنتم تنتدبون لعبارة الرّؤيا، وعبارة الرّؤيا مأخوذة من عبر النهر إذا جازه من شط إلى شط، فكان عابر الرّؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها‏.‏ وعبر الرّؤيا بتخفيف الباء ثلاثياً وهو المشهور، وأنكر بعضهم التشديد، وأنشد المبرد في الكامل قول الشاعر‏:‏

رأيت رؤياً ثم عبرتها *** وكنت للأحلام عباراً

وأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام، وهي ما يكون من حديث النفس، أو وسوسة الشيطان، أو مزاج الإنسان‏.‏ وأصله أخلاط النبات، استعير للأحلام، وجمعوا الأحلام‏.‏ وأن رؤياه واحدة إما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء، وإما باعتبار جواز ذلك كما تقول‏:‏ فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً واحداً، تعليقاً بالجنس‏.‏ وإما بكونه قص عليهم مع هذه الرّؤيا غيرها‏.‏ والأحلام جمع حلم، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هي أضغاث أحلام‏.‏ والظاهر أنهم نفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي‏:‏ لسنا من أهل تعبيير الرؤيا‏.‏ ويجوز أن تكون الأحلام المنفي علمها أرادوا بها الموصوفة بالتخليط والأباطيل أي‏:‏ وما نحن بتأويل الأحلام التي هي أضغاث بعالمين أي‏:‏ لا يتعلق علم لنا بتأويل تلك، لأنه لا تأويل لها إنما التأويل للمنام الصحيح، فلا يكون في ذلك نفي للعلم بتأويل المنام الصحيح، ولا تصور علمهم‏.‏ والباء في بتأويل متعلقة بقوله بعالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

أمة يأمه أمها وأمها نسي‏.‏ يغاث‏:‏ يحتمل أن يكون من الغوث وهو الفرج، يقال‏:‏ أغاثهم الله فرج عنهم، ويحتمل أن يكون من الغيث تقول‏:‏ غيثت البلاد إذا أمطرت، ومنه قول الأعرابية‏:‏ غثنا ما شئنا‏.‏

‏{‏وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون‏.‏ قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون‏.‏ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون‏.‏ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون‏}‏‏:‏ لما استثنى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي من القتل وهو ساقي الملك يوسف، وتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه ليذكره عند الملك‏.‏ وادكر أي تذكر ما سبق له مع يوسف بعد أمة أي‏:‏ مدة طويلة‏.‏ والجملة من قوله وادكر حاليه، وأصله‏:‏ واذتكر أبدلت التاء دالاً وأدغمت الذال فيها فصار ادّكر، وهي قراءة الجمهور‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ واذكر بإبدال التاء ذالاً، وإدغام الذال فيها‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي‏:‏ بعد إمّة بكسر الهمزة أي‏:‏ بعد نعمة أنعم عليه بالنجاة من القتل‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ بعد نعمة أنعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه، والأمة النعمة قال‏:‏

ألا لا أرى ذا إمة أصبحت به *** فتتركه الأيام وهي كما هيا

قال الأعلم‏:‏ الأمة النعمة، والحال الحسنة‏.‏ وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وشبيل بن عزرة الضبعي، وربيعة بن عمرو‏:‏ بعد أمه بفتح الهمزة، والميم مخففة، وهاء، وكذلك قرأ ابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، واختلف عنهم‏.‏ وقرأ عكرمة وأيضاً مجاهد، وشبيل بن عزرة‏:‏ بعد أمه بسكون الميم، مصدر أمه على غير قياس، وقال الزمخشري‏:‏ ومن قرأ بسكون الميم فقد أخطأ انتهى‏.‏ وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى القراء‏.‏ أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به عمن عنده علمه لا من جهتي‏.‏ وقرأ الحسن أنا أتيكم مضارع أتى من الإتيان، وكذا في الإمام‏.‏ وفي مصحف أبي‏:‏ فأرسلون، أي ابعثوني إليه لأسأله، ومروني باستعباره، استأذن في المضي إلى يوسف‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ كان في السجن في غير مدينة الملك، وقيل‏:‏ كان فيها، ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال‏.‏ وفي الكلام حذف التقدير‏:‏ فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال‏:‏ والصديق بناء مبالغة كالشريب والسكير، وكان قد صحبه زماناً وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وقوله‏:‏ لعلي أرجع إلى الناس أي‏:‏ بتفسير هذه الرؤيا‏.‏

واحترز بلفظة لعلي، لأنه ليس على يقين من الرجوع إليهم، إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم‏.‏ وقوله‏:‏ لعلهم يعلمون، كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا‏.‏ وقيل‏:‏ لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك، فتكون لعل كالتعليل لقوله‏:‏ أفتنا‏.‏ قال‏:‏ تزرعون إلى آخره، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول‏:‏ أحدها‏:‏ تعبير بالمعنى لا باللفظ‏.‏ والثاني‏:‏ عرض رأي وأمر به، وهو قوله‏:‏ فذروه في سنبله‏.‏ والثالث‏:‏ الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل هذا أن لا يكون غيباً، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع، ومعلوم أنه الأخصب انتهى‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ تزرعون سبع سنين دأباً خبر، أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ تزرعون خبر في معنى الأمر كقوله‏:‏ ‏{‏تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون‏}‏ وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه‏.‏ والدليل على كونه في معنى الأمن قوله‏:‏ فذروه في سنبله انتهى‏.‏ ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أنّ تزرعون في معنى ازرعوا، بل تزرعون إخبار غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين‏.‏ وأما قوله‏:‏ فذروه فهو أمر إشارة بما ينبغي أن يفعلوه‏.‏ ومعنى دأباً‏:‏ ملازمة، كعادتكم في المزارعة‏.‏ وقرأ حفص‏:‏ دأباً بفتح الهمزة، والجمهور بإسكانها، وهما مصدران لدأب، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي‏:‏ تدأبون داباً، فهو منصوب على المصدر‏.‏ وعند المبرد بتزرعون بمعنى تدأبون، وهي عنده مثل قعد القرفصاء‏.‏ وقيل‏:‏ مصدر في موضع الحال أي‏:‏ دائبين، أو ذوي دأب حالاً من ضمير تزرعون‏.‏ وما في قوله‏:‏ فما حصدتم شرطية أو موصولة، بذروه في سنبله إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإذا بقيت فيها انحفظت، والمعنى‏:‏ اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم، فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر‏.‏ وقرأ السلمي‏:‏ مما يأكلون بالياء على الغيبة أي‏:‏ يأكل الناس، وحذف المميز في قوله‏:‏ سبع شداد أي‏:‏ سبع سنين شداد، لدلالة قوله‏:‏ سبع سنين عليه‏.‏ وأسند الأكل الذي في قوله‏:‏ أكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال‏:‏ ‏{‏والنهار مبصراً‏}‏ ومعنى تحصنون تحرزون وتخبؤون، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور‏:‏ يغاث من الغيث، وقيل‏:‏ من الغوث، وهو الفرج‏.‏ ففي الأول بني من ثلاثي، وفي الثاني من رباعي، تقول‏:‏ غاثنا الله من الغيث، وأغاثنا من الغوث‏.‏ وقرأ الأخوان‏:‏ تعصرون بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالياء على الغيبة، والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه، لأنه عصر للضروع‏.‏

وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب‏.‏ وقال أبو عبيدة وغيره‏:‏ مأخوذ من العصرة، والعصر وهو المنجي، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه‏:‏

صادياً يستغيث غير مغاث *** ولقد كان عصرة المنجود

فالمعنى‏:‏ ينجون بالعصرة‏.‏ وقرأ جعفر بن محمد، والأعرج، وعيسى البصرة يعصرون بضم الياء وفتح الصاد مبنياً للمفعول، وعن عيسى أيضاً‏:‏ تعصرون بالتاء على الخطاب مبنياً للمفعول، ومعناه‏:‏ ينجون من عصره إذا أنجاه، وهو مناسب لقوله‏:‏ يغاث الناس‏.‏ وقال ابن المستنير‏:‏ معناه يمطرون، من أعصرت السحابة ماءها عليهم فجعلوا معصرين مجازاً بإسناد ذلك إليهم، وهو للماء الذي يمطرون به‏.‏ وحكى النقاش أنه قرئ يعصرون بضم الياء وكسر الصاد وشدّها، من عصر مشدّداً للتكثير‏.‏ وقرأ زيد ابن علي‏:‏ وفيه تعصرون، بكسر التاء والعين والصاد وشدها، وأصله تعتصرون، فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين، واتبع حركة التاء لحركة العين‏.‏ واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه‏.‏ ومن اعتصر بمعنى نجا قال الشاعر‏:‏

لو بغير الماء حلقي شرق *** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

أي نجاتي‏.‏ تأول يوسف عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بمجيء العام الثامن مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحي‏.‏ وعن قتادة‏:‏ زاده الله علم سنة، والذي من جهة الوحي هو التفضيل بحال العام بأنه فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون، وإلا فمعلوم بانتهاء السبع الشداد مجيء الخصب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

الخطب‏:‏ الشان والأمر الذي فيه خطر، ويجمع على خطوب قال‏:‏

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه *** بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

حصحص تبين بعد الخفاء، قاله الخليل‏.‏ وقيل‏:‏ مأخود من الحصة حصحص الحق بانت حصته من حصة الباطل‏.‏ وقيل‏:‏ ثبت واستقر، ويكون متعدياً من حصحص البعير ألقى ثفناته للإناخة قال‏:‏ حصحص في صم الصفا ثفناته‏.‏

‏{‏وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم‏.‏ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين‏}‏‏:‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ فحفظ الرسول ما أول به يوسف الرؤيا، وجاء إلى الملك ومن أرسله وأخبرهم بذلك، وقال الملك‏:‏ وقال ابن عطية‏:‏ في تضاعيف هذه الآيات محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدلّ عليها، والمعنى‏:‏ فرجع الرسول إلى الملك ومن مع الملك فنص عليهم مقالة يوسف، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير، وحسن الرأي، وتضمن الغيب في أمر العام الثامن مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنام المتقدم، فعظم يوسف في نفس الملك وقال‏:‏ ائتوني به، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه وقال‏:‏ إنّ الملك قد أمر بأن تخرج إليه، قال له‏:‏ ارجع إلى ربك أي‏:‏ إلى الملك وقل له‏:‏ ما بال النسوة‏؟‏ ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان وقل له يستقصي عن ذنبي، وينظر في أمري، هل سجنت بحق أو بظلم‏؟‏ وكان هذا الفعل من يوسف إناءة وصبراً وطلباً لبراءة الساحة، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة، ويسكت عن أمر دينه صفحاً، فيراه الناس بتلك العين أبداً ويقولون‏:‏ هذا الذي راود امرأة مولاه، فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ويتحقق منزلته من العفة والخير، وحينئذ يخرج للإحظاء والمنزلة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إنما تأتي وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة لتظهر براءة ساحته عما فرق به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا‏:‏ ما خلد في السجن سبع سنين إلا أمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب، ويكشف سره، وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجبة وجوب ابقاء الوقوف في مواقفها‏.‏ قال عليه السلام‏:‏ «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم» انتهى‏.‏ ولأجل هذا كان الزمخشري، وكان مقطوع الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في خيانة ولا فساد، وكان يظهر ذلك المكتوب في كل بلد دخله خوفاً من تهمة السوء‏.‏

وإنما قال‏:‏ سل الملك عن شأن النسوة، ولم يقل سله أن يفتش عنهن، لأن السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عنما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجري التفتيش عن حقيقة القصة، وقص الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل‏.‏ ومن كرم يوسف عليه السلام أنه لم يذكر زوج العزيز مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات الأيدي‏.‏ وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية النسوة بضم النون، وقرأت فرقة اللاي بالياء، وكلاهما جمع التي‏.‏ إن ربي أي‏:‏ إن الله بكيدهنّ عليم‏.‏ أراد أن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد عوده، واستشهد بعلم الله على أنهن كدنه، وأنه بريء مما قذف به‏.‏ أو أراد الوعيد لهن، أو هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه، ففي ذلك استشهاد به وتقريع‏.‏ وما ذكره ابن عطية من هذا الاحتمال لا يسوغ، والضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس، لأنها حالة توقيف على ذنب‏.‏ قال‏:‏ ما خطبكن في الكلام حذف تقديره‏:‏ فرجع الرسول فأخبره بما قال يوسف، فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز وقال لهن‏:‏ ما خطبكن‏؟‏ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة، ونزه جانب يوسف بقوله‏:‏ إذ راودتن يوسف عن نفسه، ومراودتهن له قولهن ليوسف‏:‏ أطع مولاتك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هل وجدتن منه ميلاً‏؟‏ لكنْ قلن‏:‏ حاش لله تعجباً من عفته، وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة، ومن نزاهته عنها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ أجاب النساء بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة، وأعطين يوسف بعض براءة، وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودته قلن جواباً عن ذلك‏:‏ حاش لله‏.‏ ويحتمل أن يكون قولهن‏:‏ حاش لله، في جهة يوسف عليه السلام‏.‏ وقولهن ما علمنا عليه من سوء ليس بإبراء تام، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي قالت‏:‏ الآن حصحص الحق‏.‏ وقرئ حصحص على البناء للمفعول، أقرت على نفسها بالمراودة، والتزمت الذنب، وأبرأت يوسف البراءة التامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله‏:‏ قالت‏.‏ والمعنى‏:‏ ذلك الإقرار والاعتراف بالحق، ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته والذب عنه، وأرميه بذنب هو منه بريء‏.‏ ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها‏:‏ وما أبرئ نفسي، والنفوس مائلة إلى الشهوات أمارة بالسوء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت‏:‏ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن، وأودعته السجن تريد الاعتذار لما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعمصة إن ربي غفور رحيم، استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت‏.‏ ومن ذهب إلى أن قوله‏:‏ ذلك ليعلم إلى آخره، من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله، ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف‏.‏ فقال ابن جريج‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، وهذا الكلام متصل بقول يوسف‏:‏ إن ربي بكيدهن عليم، وعلى هذا فالإشارة بقوله ذلك إلى إلقائه في السجن والتماسه البراءة أي‏:‏ هذا ليعلم سيدي أني لم أخنه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها إلى قولها‏:‏ وإنه لمن الصادقين، فالإشارة على هذا إلى قولها وصنع الله فيه، وهذا يضعف، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك‏.‏ فكيف يقول الملك بعد ذلك‏:‏ ائتوني به‏؟‏ وفسر الزمخشري الآية أولاً على أنها من كلام يوسف فقال‏:‏ أي ذلك التنبت والتشمر لظهور البراءة، ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في حرمته، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها في أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه‏.‏ ويجوز أن يكون توكيداً لأمانته، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده، ولا سدّده، ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكياً، ولحالها في الأمانة معجباً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته‏.‏ فقال‏:‏ وما أبرئ نفسي من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، إن النفس لأمارة بالسوء‏.‏ أراد الجنس أي‏:‏ هذا الجنس يأمر بالسوء، ويحمل على ما فيه من الشهوات انتهى‏.‏ وفيه تكثير وتحميل للفظ ما ليس فيه، ويزيد على عادته في خطابته‏.‏ ولما أحسّ الزمخشري بأشكال قول من قال‏:‏ إنه من كلام يوسف قال‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ كفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلامه، ونحوه قوله‏:‏ قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‏؟‏ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم انتهى‏.‏

وهذا ليس كما ذكر، إذ لا يتعين في هذا التركيب أن يكون من كلام فرعون، بل هو من كلام الملأ تقدمهم فرعون إلى هذه المقالة، فقالوا ذلك بعض لبعض، فيكون في قول فرعون‏:‏ يريد أن يخرجكم خطاباً للملأ من فرعون، ويكون في هذا التركيب خطاباً من بعضهم لبعض، ولا يتنافى اجتماع المقالتين‏.‏ وبالغيب يحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أي‏:‏ غائباً عنه، أو من المفعول أي‏:‏ غائباً عني، أو ظرفاً أي بمكان الغيب‏.‏ والظاهر أنّ إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله‏:‏ لأمارة بالسوء، لأنه أراد الجنس بقوله‏:‏ إن النفس، فكأنه قال‏:‏ إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء، فيكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة‏.‏ ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير‏:‏ لأمارة بالسوء صاحبها، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء‏.‏ وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء، وما ظرفية إذ التقدير‏:‏ لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي‏.‏ وجوزوا أن يكون استثناء منقطعاً، وما مصدرية‏.‏ وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي‏:‏ ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 57‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

روي أن الرسول جاءه فقال‏:‏ أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات‏.‏ وكتب على باب السجن‏:‏ هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك قال‏:‏ اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال‏:‏ ما هذا اللسان‏؟‏ فقال‏:‏ لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال‏:‏ أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال‏:‏ رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن، وما كان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً، وقال له‏:‏ من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك‏.‏ وكان يوسف قصد أولاً بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فكان استدعاء الملك إياه أولاً بسبب علم الرؤيا، فلذلك قال‏:‏ ائتوني به فقط، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجودة نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده، فطلبه ثانياً ومقصوده‏:‏ استخلاصه لنفسه‏.‏ ومعنى أستخلصه‏:‏ أجعله خالصاً لنفسي وخاصاً بي، وسمى الله فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، فلو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكاً ولا أميراً، لأن ذلك حكم‏.‏ والجواب مسلم وتسلموا‏.‏ وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما تقلب‏.‏ وفي الكلام حذف التقدير‏:‏ فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به، فأراد رؤيته وقال‏:‏ ائتوني به فأتاه، فلما كلمه‏.‏ والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي‏:‏ فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته‏.‏ ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي‏:‏ فلما كلم يوسف الملك، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر، والمرء مخبوء تحت لسانه، قال‏:‏ إنك اليوم لدينا مكين أي‏:‏ ذو مكانة ومنزلة، أمين مؤتمن على كل شيء‏.‏ وقيل‏:‏ أمين آمين، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام، وبالأمن يحط من إكرام يوسف‏.‏ ولما وصفه الملك بالتمكن عنده، والأمانة، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال‏:‏ اجعلني على خزائن الأرض أي‏:‏ ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه، عليم بوجوه التصرف‏.‏ وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة، ولا خلل معهما لقائل‏.‏

وقيل‏:‏ حفيظ للحساب، عليم بالألسن‏.‏ وقيل‏:‏ حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجوع‏.‏ وهذا التخصيص لا وجه له، ودلّ إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها‏.‏ وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم الله، وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك‏.‏ فإنْ كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام، وإن كان كافراً ولا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكينه، فللمتولي أن يستظهر به‏.‏ وقيل‏:‏ كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع‏.‏ وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا‏.‏ وكذلك أي‏:‏ مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكناً ليوسف في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء أي‏:‏ يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد، فاستولى على جميعها، ودخلت تحت سلطانه‏.‏ روي أن الملك توجه بتاجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه، ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت، فجلس على السرير، ودانت له الملوك، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد، فزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال‏:‏ أليس هذا خيراً مما طلبت‏؟‏ فوجدها عذراء، لأنّ العزيز كان لا يطأ، فولدت له ولدين‏:‏ افراثيم، ومنشا‏.‏ وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم، ثم استرقهم جميعاً فقالوا‏:‏ والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك‏:‏ كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى‏؟‏ قال‏:‏ الرأي رأيك قال‏:‏ فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم‏.‏ وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا، واحتبس بنيامين‏.‏ وقرأ الحسن وابن كثير‏:‏ بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع‏:‏ حيث نشاء بالنون، والجمهور بالياء‏.‏ والظاهر أنّ قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميراً يعود على يوسف، ومشيئته معذوقة بمشيئة الله، إذ هو نبيه ورسوله‏.‏ وإما أن يكون الضمير عائداً على الله أي‏:‏ حيث يشاء الله، فيكون التفاتاً‏.‏ نصيب برحمتنا أي‏:‏ بنعمتنا من الملك والغنى وغيرهما، ولا نضيع في الدنيا أجر من أحسن‏.‏ ثم ذكر أن أجر الآخرة خير، لأنه الدائم الذي لا يفنى‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية‏.‏ وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 62‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

الجهاز‏:‏ ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع، وكل ما يحمل، وجهاز العروس ما يكون معها من الأثاث والشورة، وجهاز الميت ما يحتاج إليه في دفنه‏.‏ الرحل‏:‏ ما على ظهر المركوب من متاع الراكب أو غيره، وجمعه رحال في الكثرة، وأرحل في القلة‏.‏

‏{‏وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون‏.‏ ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين‏.‏ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون‏.‏ قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون‏.‏ وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون‏}‏‏:‏ أي جاؤوا من القريات من أرض فلسطين بأرض الشام‏.‏ وقيل‏:‏ من الأولاج من ناحية الشعب إلى مصر ليمتاروا منها، فتوصلوا إلى يوسف للميرة، فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال، ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك، ولأنّ همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمل ويتفطن‏.‏ وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم، وأمر بإنزالهم‏.‏ ولذلك قال الحسن‏:‏ ما عرفهم حتى تعرفوا له، وإنكارهم إياه كان‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحاً في البئر مشريّاً بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم‏.‏ ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف‏.‏ وقيل‏:‏ رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج، فما خطر لهم أنه هو‏.‏ وقيل‏:‏ ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج‏.‏

ولما جهزهم بجهازهم، وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه‏.‏ وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ وقد كان استوضح منهم أنهم لهم أخ قعد عند أبيهم‏.‏ روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه‏:‏ أظنكم جواسيس، فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا‏:‏ نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثنى عشر، ذهب منا واحد في البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة ولهم أحد عشر بعيراً‏.‏ فقال لهم يوسف‏:‏ ولم تخلف أحدكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لمحبة أبينا فيه قال‏:‏ فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم، وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين‏؟‏ وأورد الزمخشري هذا القصص بألفاظ أخر تقارب هذه في المعنى، وفي آخره قال‏:‏ فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون، وإن الذي تقولون حق‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد يشهد لنا‏.‏

قال‏:‏ فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يوسف، فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم‏.‏ وقيل‏:‏ لم يرتهن أحداً، وروي غير هذا في طلب الأخ من أبيهم‏.‏ قيل‏:‏ كان يوسف ملثماً أبداً ستراً لجماله، وكان ينقر في الصواع فيفهم من طنينه صدق الحديث أو كذبه، فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم‏:‏ صدقتم، فلما قالوا‏:‏ وكان لنا أخ أكله الذئب أطن يوسف الصواع وقال‏:‏ كذبتم، ثم تغير لهم وقال‏:‏ أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم‏.‏ وقرئ‏:‏ بجهازهم بكسر الجيم، وتنكر أخ، ولم يقل بأخيكم وإن كان قد عرفه وعرفهم مبالغة في كونه لا يريد أن يتعرف لهم، ولا أنه يدري من هو‏.‏ ألا ترى فرقاً بين مررت بغلامك، ومررت بغلام لك‏؟‏ إنك في التعريف تكون عارفاً بالغلام، وفي التنكير أنت جاهل به‏.‏ فالتعريف يفيد فرع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب، والتنكير لا عهد فيه البتة‏.‏ وجائز أن نخبر عمن تعرفه إخبار النكرة فتقول‏:‏ قال رجل لنا وأنت تعرفه لصدق إطلاق النكرة على المعرفة، ثم ذكر ما يحرضهم به على الإتيان بأخيهم بقوله‏:‏ ألا ترون إني أوف الكيل وأنا خير المنزلين أي المضيفين‏؟‏ يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم، ثم توعدهم إن لم يأتوا به إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل‏.‏ واحتمل قوله‏:‏ ولا تقربون، أن يكون نهياً، وأن يكون نفياً مستقلاً ومعناه النهي‏.‏ وحذفت النون وهو مرفوع، كما حذفت في فبم تبشرون أن يكون نفياً داخلاً في الجزاء معطوفاً على محل فلا كيل لكم عندي، فيكون مجزوماً والمعنى‏:‏ أنهم لا يقربون له بكذا ولا طاعة‏.‏ وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي، وإلا فإنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه، لكن الله تعالى أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته‏:‏ ولتتفسر الرؤيا الأولى قالوا‏:‏ سنراود عنه أباه أي‏:‏ سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك، ثم أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلو ذلك لا محالة، لا نفرط فيه ولا نتوانى‏.‏ وقرأ الأخوان وحفص‏:‏ لفتيانه، وباقي السبعة لفتيته، فالكثرة على مراعاة المأمورين، والقلة على مراعاة المتأوّلين‏.‏ فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم لعلهم يعرفونها أي‏:‏ يعرفون حق ردها، وحق التكرم بإعطاء البدلين فيرغبون فينا إذا انقلبوا إلى أهلهم، وفرغوا ظروفهم‏.‏ ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل، ولعلهم يرجعون تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف‏.‏ قيل‏:‏ وكانت بضاعتهم النعال والأدم‏.‏ وقيل‏:‏ يرجعون متعد، فالمعنى لعلهم يردون البضاعة‏.‏ وقيل‏:‏ تخوف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به‏.‏ وقيل‏:‏ علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة، لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها‏.‏ وقيل‏:‏ جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك، ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان واجباً عليه، إذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

مار يمير، وأمار يمير، إذا جلب الخير وهي الميرة قال‏:‏

بعثتك مائراً فمكثت حولاً *** متى يأتي غياثك من تغيث

‏{‏فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون‏.‏ قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين‏}‏‏:‏ أي‏:‏ رجعوا من مصر ممتارين، بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم، وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم بإحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم‏.‏ وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر، وأنهم استدعى منهم العزيز أن يأتوا بأخيهم حتى يتبين صدقهم أنهم ليسوا جواسيس، وقولهم‏:‏ منع منا الكيل، إشارة إلى قول يوسف‏:‏ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي‏.‏ ويكون منع يراد به في المستأنف، وإلا فقد كيل لهم‏.‏ وجاؤوا أباهم بالميرة، لكنْ لما أنذروا بمنع الكيل قالوا‏:‏ منع‏.‏ وقيل‏:‏ أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة، وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة، ولقولهم‏:‏ فأرسل معنا أخانا نكتل، ويقويه قراءة يكتل بالياء أي‏:‏ يكتل أخونا، فإنما منع كيل بعيره لغيبته، أو يكن سبباً للاكتيال‏.‏ فإن امتناعه في المستقبل تشبيه، وهي قراءة الأخوين‏.‏ وقرأ باقي السبعة بالنون أي‏:‏ نرفع المانع من الكيل، أو نكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وضمنوا له حفظه وحياطته‏.‏ قال‏:‏ هل آمنكم، هذا توقيف وتقرير‏.‏ وتألم من فراقه بنيامين، ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة‏.‏ وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف‏.‏ قلتم فيه‏:‏ وإنا له لحافظون، كما قلتم في هذا، فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك، لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف، واستسلم لله وقال‏:‏ فالله خير حفظاً، وقرأ الأخوان وحفص‏:‏ حافظاً اسم فاعل، وانتصب حفظاً وحافظاً على التمييز، والمنسوب له الخير هو حفظ الله، والحافظ الذي من جهة الله‏.‏ وأجاز الزمخشري أن يكون حافظاً حالاً، وليس بجيد، لأن فيه تقييد خير بهذه الحال‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ خير حافظ على الإضافة، فالله تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ‏.‏ وقرأ أبو هريرة‏:‏ خير الحافظين، كذا نقل الزمخشري‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقرأ ابن مسعود، فالله خير حافظاً وهو خير الحافظين‏.‏ وينبغي أن تجعل هذه الجملة تفسيراً لقوله‏:‏ فالله خير حافظاً، لا أنها قرآن‏.‏ وهو أرحم الراحمين اعتراف بأن الله هو ذو الرحمة الواسعة، فأرجو منه حفظه، وأن لا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 68‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

البعير في الأشهر الجمل مقابل الناقة، وقد يطلق على الناقة، كما يطلق على الجمل فيقول‏:‏ على هذا نعم البعير، الجمل لعمومه، ويمتنع على الأشهر لترادفه‏.‏ وفي لغة تكسر باؤه، ويجمع في القلة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران‏.‏

‏{‏ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏

قرأ علقمة، ويحيى بن وثاب، والأعمش، ردت بكسر الراء، نقل حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة، وهي لغة لبني ضبة، كما نقلت العرب في قيل وبيع‏.‏ وحكى قطرب‏:‏ النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو‏:‏ ضرب زيد، سموا المشدود المربوط بجملته متاعاً، فلذلك حسن الفتح فيه وما نبغي، ما فيه استفهامية أي‏:‏ أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا قاله قتادة‏.‏ وكانوا قالوا لأبيهم‏:‏ قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة، لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يحتمل أن تكون ما نافية أي‏:‏ ما بقي لنا ما نطلب‏.‏ ويحتمل أيضاً أن تكون نافية من البغي أي‏:‏ ما افترينا فكذبنا على هذا الملك، ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة، وهذا معنى قول الزمخشري ما نبغي في القول ما تتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك والكرامة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ما نريد منك بضاعة أخرى‏.‏ وقرأ عبد الله وأبو حيوة‏:‏ ما تبغي بالتاء على خطاب يعقوب، وروتها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل ما في هذه القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ ونميز بضم النون، والجملة من قولهم هذه بضاعتنا ردت إلينا موضحة لقولهم‏:‏ ما نبغي، والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير‏:‏ فنستظهر بها ونستعين بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك، ونحفظ أخانا فلا يصيبه شيء مما تخافه‏.‏ وإذا كان ما نبغي ما نتزيد وما نكذب، جاز أن يكون ونمير معطوفاً على ما نبغي أي‏:‏ لا نبغي فيما نقول، ونمير أهلنا ونفعل كيت وكيت‏.‏

وجاز أن يكون كلاماً مبتدأ، وكرروا حفظ الأخ مبالغة في الحض على إرساله، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير على أوساق بعيرنا، لأنه إنما كان حمل لهم عشرة أبعرة، ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه‏.‏ والظاهر أنّ البعير هو من الإبل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كيل حمار، قال‏:‏ وبعض العرب تقول للحمار‏:‏ بعير، وهذا شاذ‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ ذلك كيل يسير، من كلامهم لا من كلام يعقوب، والإشارة بذلك الظاهر أنها إلى كيل بعير أي‏:‏ يسير، بمعنى قليل، يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو يسير بمعنى سهل متيسر لا يتعاظمه‏.‏ وقيل‏:‏ يسير عليه أن يعطيه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ وقد كان يوسف عليه السلام وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا يعني‏:‏ ما يكال لهم، فازدادوا إليه ما يكال لأخيه‏.‏ ويجوز أن يكون من كلام يعقوب أي‏:‏ حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله‏:‏ ذلك ليعلم انتهى‏.‏ ويعني أن ظاهر الكلام أنه من كلامهم، وهو من كلام يعقوب، كما أن قوله‏:‏ ذلك ليعلم، ظاهره أنه من كلام امرأة العزيز، وهو من كلام يوسف‏.‏ وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله، وفيه مخالفة الظاهر لغير دليل‏.‏ ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه، وألحوا عليه في ذلك، علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله، إذ به تؤكد العهود وتشدد، ولتأتنني به جواب للحلف، لأن معنى حتى تؤتون موثقاً‏:‏ حتى تحلفوا لي لتأتنني به‏.‏ وقوله‏:‏ إلا أن يحاط بكم، لفظ عام لجميع وجوه الغلبة، والمعنى‏:‏ تعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا يكون لكم حيلة ولا وجه تخلص‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إلا أن تهلكوا‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ إلا أن لا تطيقوا ذلك‏.‏ وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله‏:‏ لتأتنني، وإن كان مثبتاً معنى النفي، لأن المعنى‏:‏ لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم‏.‏ ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم‏:‏ أنشدك الله إلا فعلت أي‏:‏ ما أنشدك إلا الفعل‏.‏ ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدراً بالمصدر الواقع حالاً، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالاً، فيكون التقدير‏:‏ لتأتنني به على كل حال إلا إحاط بكم أي‏:‏ محاطاً بكم، لأنهم نصوا على أنّ أنْ الناصبة للفعل لا تقع حالاً وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالاً‏.‏ فإن جعلت أنْ والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان، ويكون التقدير‏:‏ لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي‏:‏ إلا وقت إحاطة بكم‏.‏ قلت‏:‏ منع ذلك ابن الأنباري فقال‏:‏ ما معناه‏:‏ يجوز خروجنا صياح الديك أي‏:‏ وقت صياح الديك، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك، ولا ما يصيح الديك‏.‏

وإن كانت أنْ وما مصدريتين، وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه‏.‏ وأجاز ابن جني أن تقع أنْ ظرفاً، كما يقع صريح المصدر، فأجاز في قول تأبط شراً‏:‏

وقالوا لها لا تنكحيه فإنه *** لأول فصل أن يلاقي مجمعا

وقول أبي ذؤيب الهذلي‏:‏

وتالله ما أن شهلة أم واحد *** بأوجد مني أن يهان صغيرها

أنْ يكون أنْ يلاقي تقديره‏:‏ وقت لقائه الجمع، وأن يكون أنْ يهان تقديره‏:‏ وقت إهانة صغيرها‏.‏ فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات، ولا يقدر فيه معنى النفي‏.‏ وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ فأجابوه إلى ما طلبه، فلما آتوه موثقهم قال يعقوب‏:‏ الله على ما نقول من طلب الموثق وإعطائه وكيل رقيب مطلع‏.‏

ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد هو خشية العين، وكانوا أحد عشر لرجل واحد أهل جمال وبسطة قاله‏:‏ ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، والعين حق‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وفي التعوذ ومن كل عين لامة» وخطب الزمخشري فقال‏:‏ لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة، وقد أشهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والكرامة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع، ويقال‏:‏ هؤلاء أضياف الملك انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم وفضلهم على الوافدين عليه‏.‏ فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، ويصيبهم ما يسوءهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين معمورين بين الناس انتهى‏.‏ ويظهر أنّ خوفه عليهم من العين في هذه الكرة بحسب أنّ محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه يوسف، ولم يكن فيهم في الكرة الأولى، فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف‏.‏ وقيل‏:‏ نهاهم خشية أن يستراب بهم لقول يوسف‏:‏ أنتم جواسيس‏.‏ وقيل‏:‏ طمع فافتراقهم أن يتسمعوا خبر يوسف، ثم نفى عن نفسه أنْ يغني عنهم شيئاً يعني‏:‏ بوصاته، إنْ الحكم إلا لله أي‏:‏ هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد، فعليه وحده توكلت‏.‏ ومن حيث أمرهم أبوهم أي‏:‏ من أبواب متفرقة‏.‏ روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم‏:‏ بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له‏:‏ إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك، ويشكر صنيعك معنا‏.‏ وفي كتاب أبي منصور المهراني‏:‏ أنه خاطبة بكتاب قرئ على يوسف فبكى‏.‏ وجواب لما قوله‏:‏ ما كان يغني عنهم من الله من شيء، وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا، ظرف زمان بمعنى حين، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد ما النافية‏.‏

لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو، ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو، فدل ذلك على أنّ لما حرف يترتب جوابه على ما بعده‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويجوز أنْ يكون جواب لما محذوفاً مقدراً، ثم يخبر عن دخولهم أنه ما كان يغني‏.‏ ومعنى الجملة‏:‏ لم يكن في دخولهم متفرقين دفع قدر الله الذي قضاه عليهم من تشريفهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصاع في رحله، وتزايد مصيبته على أبيهم، بل كان إرباً ليعقوب قضاه وتطييباً لنفسه‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ما كان يغني عنهم من الله من شيء، ما يرد عنهم قدراً لأنه لو قضى أنْ يصيبهم عين لإصابتهم متفرقين أو مجتمعين، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة، فوصى وقضى بذلك حاجة نفسه في أن بقي يتنعم برجائه أن يصادف وصيته القدر في سلامتهم‏.‏ وإنه لذو علم يعني لقوله‏:‏ إن الحكم إلا لله، وما بعده وعلمه بأنّ القدر لا يدفعه الحذر‏.‏ وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السلام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لعامل بما علمناه‏.‏ وقال سفيان‏:‏ من لا يعمل لا يكون عالماً، ولفظة ذو علم لا تساعده على هذا التفسير وإن كان صحيحاً في نفسه‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ مما علمناه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 75‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

العير الإبل التي عليها الأحمال، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء‏.‏ وقيل‏:‏ هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير‏.‏ وأصلها فعل كسقف، وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد، والعير مؤنث‏.‏ وقالوا في الجمع‏:‏ عيرات، فشذوا في جمعه بالألف والتاء، وفي فتح يائه وقال الشاعر‏:‏

غشيت ديار الحي بالبكرات *** فعارمة فبرقة العيرات

قال الأعلم‏:‏ هنا مواضع الأعيار، وهي الحمير‏.‏ الصواع الصاع، وفيه لغات تأتي في القرآن، ويؤنث ويذكر‏.‏

‏{‏ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون‏.‏ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون‏.‏ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون‏.‏ قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم‏.‏ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين‏.‏ قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين‏.‏ قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين‏}‏‏:‏ روي أنهم قالوا له‏:‏ هذا أخونا قد جئناك به، فقال‏:‏ أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم، وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال‏:‏ لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه‏.‏ فقال يوسف‏:‏ بقي أخوكم وحيداً، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يؤاكلهم وقال‏:‏ أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتاً، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال‏:‏ لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له‏:‏ أتحب أنْ أكون أخاك بدل أخيك الهالك‏؟‏ قال‏:‏ من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له‏:‏ أنا أخوك يوسف فلا تبتئس، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ تعرف إليه أنه أخوه، وهو الظاهر‏.‏ وهو قول ابن إسحاق وغيره، أعلمه أنه أخوه حقيقة واستكتمه، وقال له‏:‏ لا تبالي بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله‏:‏ بما كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك انتهى‏.‏ ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا، لأمكن على بعده، لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف‏.‏ وأما ذكر فتيانه فبعيد جداً، لأنهم لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله‏:‏ وقال لفتيانه، وقد حال بينهما قصص‏.‏

واتسق الكلام مع الأخوة اتساقاً لا ينبغي أن يعدل عن الضمير عائد إليهم، وأن ذلك إشارة إلى ما كان يلقى منهم قديماً من الأذى، إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف‏.‏ وقال وهب‏:‏ إنما أخبر أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب، ولم يكشف إليه الأمر، بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته‏.‏

والظاهر أنّ الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف، ويظهر من حيث كونه ملكاً أنه لم يباشر ذلك بنفسه، بل جعل غيره من فتيانه، أو غيرهم أن يجعلها‏.‏ وتقدم قول وهب‏:‏ إنه لم يكشف له أنه أخوه، وأنه تركه تجوز عليه الحيلة‏.‏ وروي أنه قال ليوسف‏:‏ أنا لا أفارقك قال‏:‏ قد علمت اغتمام والدي، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يحمل‏.‏ قال‏:‏ لا أبالي، فافعل ما بدا لك‏.‏ قال‏:‏ فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم، قال‏:‏ فافعل‏.‏ وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري‏:‏ وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن‏.‏ وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله‏:‏ في رحل أخيه، فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره‏:‏ فقدها حافظها كما قيل‏:‏ إنما أوحى إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى برأيه على ما ظهر له، ورجحه الطبري‏.‏ وتفتيش الأوعية يرد هذا القول، والذي يظهر أنّ تأذين المؤذن كان عن أمر يوسف‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين، وما تقدم يدل على أنه كان بعلم منه‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد‏:‏ السقاية إناء يشرب به الملك، وبه كان يكال الطعام للناس‏.‏ وقيل‏:‏ كان يسقى بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به، وقيل‏:‏ كانت الدواب تسقى بها ويكال بها‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ الصواع هو مثل المكوك الفارسي، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه، وكان إلى الطول ماهر‏.‏ قال‏:‏ وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية‏.‏ وقال ابن جبير أيضاً‏:‏ الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه‏.‏ كانت تشرب به الأعاجم‏.‏ والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب، أو نحاس، أو مسك، أو كانت مرصعة بالجواهر أقوال أولها للجمهور، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء‏.‏

ثم أذن مؤذن أي‏:‏ نادى مناد، أذن‏:‏ أعلم‏.‏ وآذن أكثر الإعلام، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه‏.‏ وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين، فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ قبل الخروج من مصر أمر بهم فحبسوا، وأذن مؤذن‏.‏ والظاهر وقول الجمهور‏:‏ إن العير الإبل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كانت دوابهم حميراً، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله‏:‏ يا خيل الله اركبي، ولذلك جاء الخطاب‏:‏ إنكم لسارقون، فروعي المحذوف، ولم يراع العير كما روعي في اركبي‏.‏ وفي قوله‏:‏ والعير التي أقبلنا فيها‏.‏ ويجوز أن تطلق العير على القافلة، أو الرفقة، فلا يكون من مجاز الحذف‏:‏ والذي يظهر أن هذا التحيل، ورمى أبرياء السرقة، وإدخال الهم على يعقوب، بوحي من الله‏.‏ لما علم تعالى في ذلك من الصلاح، ولما أراد من محنتهم بذلك‏.‏ ويقويه قوله‏:‏ كذلك كدنا ليوسف‏.‏ وقيل‏:‏ لما كانوا باعوا يوسف استجيز أن يقال لهم هذا، ونسبة السرقة إليهم جميعاً‏:‏ وإن كان الصواع إنما وجد في رحل واحد منهم كما تقول‏:‏ بنو فلان فتلوا فلاناً، والقاتل واحد منهم‏.‏ قالوا‏:‏ أي إخوة يوسف، وأقبلوا جملة حالية أي‏:‏ وقد أقبلوا عليهم، أي‏:‏ على طالبي السقاية، أو على المؤذن إنْ كان أريد به جمع‏.‏ كأنه جعل مؤذنين ينادون، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا‏:‏ ماذا تفقدون‏؟‏ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا كمال الدعوى رجاء أن يكون فيها ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام‏.‏ واحتمل أن يكون ماذا استفهاماً في موضع نصب بتفقدون، ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهاماً مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما، وتفقدون صلة لذا، والعائد محذوف أي‏:‏ تفقدونه‏.‏ وقرأ السلمي تفقدون بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيداً نحو‏:‏ أحمدته إذا أصبته محموداً‏.‏ وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وجهها ما ذكرناه‏.‏

وصواع الملك هو المكيال، وهو السقاية سماه أولاً بإحدى جهتيه، وآخراً بالثانية‏.‏ وقرأ الجمهور صواع بضم الصاد، بعدها واو مفتوحة، بعدها ألف، بعدها عين مهملة‏.‏ وقرأ أبو حيوة، والحسن، وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك، إلا أنه كسر الصاد‏.‏ وقرأ أبو هريرة، ومجاهد‏:‏ صاع بغير واو على وزن فعل، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة‏.‏ وقرأ أبو رجاء‏:‏ صوع على وزن قوس‏.‏ وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطيان‏:‏ صوع بضم الصاد، وكلها لغات في الصاع‏.‏ وقرأ الحسن، وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح‏:‏ صواغ بالغين المعجمة على وزن غراب‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه يحذف الألف ويسكن الواو‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ صوغ مصدر صاغ، وصواغ صوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ، أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك‏.‏ ولمن جاء به أي‏:‏ ولمن دل على سارقه وفضحه، وهذا جعل وأنا به زعيم من كلام المؤذن‏.‏ وأنا بحمل البعير كفيل أؤديه إلى ما جاء به، وأراد به وسق بعير من طعام جعلاً لمن حصله‏.‏

قالوا‏:‏ تالله أقسموا بالتاء من حروف القسم، لأنها تكون فيها التعجب غالباً كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر‏.‏ وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الطعام وتحرجوا من أكل الطعام بلا ثمن، وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس، فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم، وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد، ثم استأنفوا الإخبار عن نفي صفة السرقة عنهم، وأن ذلك لم يوجد منهم قط‏.‏ ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم، فيكون معطوفاً على قوله‏:‏ لقد علمتم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والتاء في تالله بدل من واو، كما أبدلت في تراث، وفي التوراة، والتخمة، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول‏:‏ تالرحمن، ولا تالرحيم انتهى‏.‏ أما قوله‏:‏ والتاء في تالله بدل من واو، فهو قول أكثر النحويين‏.‏ وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها وليست بدلاً من واو، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو‏.‏ وأما قوله‏:‏ وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أنّ الأصل ورواة من ورى الزند‏.‏ ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة، وذلك مذكور في النحو‏.‏ وأما قوله‏:‏ ولا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب، وعلى الرحمن، وعلى حياتك، قالوا‏:‏ ترب الكعبة، وتالرحمن، وتحياتك‏.‏ والخطاب في لقد علمتم لطالبي الصواع، والضمير في جزاؤه عائد على السارق‏.‏ فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم‏:‏ وما كنا سارقين له‏؟‏ قاله ابن عطية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فما جزاؤه الضمير للصواع أي‏:‏ فما جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة منه انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ هو الظاهر لاتحاد الضمائر في قوله‏:‏ قالوا جزاؤه من وجد في رحله، إذ التقدير إذ ذاك قال‏:‏ جزاء الصاع، أي‏:‏ سرقته من وجد الصاع في رحله‏.‏ وقولهم‏:‏ جزاؤه من وجد في رحله، كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته، فكأنهم يقولون‏:‏ لا يمكن أن نسرق، ألا يمكن أن يوجد الصاع في رحالنا‏.‏ وكان في دين يعقوب استعباد السارق‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ سنة، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، ولذلك أجابوا على شريعتهم، وجوزوا في إعراب هذا الكلام وجوهاً‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون جزاؤه مبتدأ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان، فهو جزاؤه جواب الشرط، أو خبر ما الموصولة، والجملة من قوله‏:‏ من وجد إلى آخره خبر المبتدأ الأول، والضمير في قالوا‏:‏ جزاؤه للسارق قاله ابن عطية‏:‏ وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط‏.‏ الثاني‏:‏ أنّ المعنى قالوا‏:‏ جزاء سرقته، ويكون جزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر‏.‏

والأصل جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو‏.‏ فموضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك‏:‏ من أخو زيد‏؟‏ فتقول‏:‏ أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من، والثاني إلى الأخ‏.‏ ثم تقول‏:‏ فهو أخوه مقيماً للمظهر مقام المضمر قاله الزمخشري‏.‏ ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو‏:‏ زيد قام زيد‏.‏ وينزه القرآن عنه‏.‏ قال سيبويه‏:‏ لو قلت كان زيد منطلقاً زيد، لم يكن ضد الكلام، وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك‏:‏ ما زيد منطلقاً هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمره‏.‏ الثالث‏:‏ أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول‏:‏ من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم، ثم تقول‏:‏ ‏{‏ومن قتله منكم متعمداً فجزآء مثل ما قتل من النعم‏}‏ قاله الزمخشري‏.‏ وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله‏:‏ المسؤول عنه جزاؤه، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة، إذ قد علم من قوله‏:‏ فما جزاؤه أنّ الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته، فأي فائدة في نطقهم بذلك‏؟‏ وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي‏.‏ الرابع‏:‏ أن يكون جزاؤه مبتدأ أي‏:‏ جزاء سرقة الصاع، والخبر من وجد في رحله أي‏:‏ أخذ من وجد في رحله‏.‏ وقولهم‏:‏ فهو جزاؤه، تقرير لحكم أي‏:‏ فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك‏:‏ حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤه، أو فهو حقه، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه قاله الزمخشري، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال‏:‏ ويصح أن يكون من خبراً على أنّ على أنّ المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من، ويكون قوله‏:‏ فهو جزاؤه، زيادة بيان وتأكيد‏.‏ ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله‏:‏ فهو جزاؤه‏.‏ وهذا القول هذا الذي قبله، غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله‏:‏ استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بد من تقديره، لأنّ الذات لا تكون خبراً عن المصدر، فالتقدير في القول قبله جزاؤه أخذ من وجد في رحله، أو استرقاق هذا لا بد منه على هذا الإعراب‏.‏ وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف‏.‏ كذلك أي‏:‏ مثل الجزاء، وهو الاسترقاق‏.‏ نجزي الظالمين أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أهل السرقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 79‏]‏

‏{‏فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

الوعاء‏:‏ الظرف الذي يحفظ فيه الشيء، وتضم واوه، ويجوز أن تبدل واوه همزة‏.‏

‏{‏فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم‏.‏ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون‏}‏ قيل‏:‏ قال لهم من وكل بهم‏:‏ لا بد من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة، وتمكين الحيلة، وإبقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه، فقال‏:‏ ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا‏:‏ والله ما تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه‏.‏

وقرأ الحسن من وعاء بضم الواو، وجاء كذلك عن نافع‏.‏ وقرأ ابن جبير‏:‏ من إعاء بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا‏:‏ إشاح وإسادة في وشاح ووسادة، وذلك مطرد في لغة هذيل، يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولاً همزة، وأنث في قوله ثم استخرجها على معنى السقاية، أو لكون الصواغ يذكر ويؤنث‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ يؤنث الصواع من حيث سمى سقاية، ويذكر من حيث هو صاع، وكان أبا عبيد لم يحفظ تأنيث الصواع‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في قوله‏:‏ ثم استخرجها عائد على السرقة، كذلك أي مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف يعني‏:‏ علمناه إياه، وأوحينا به إليه‏.‏ وقال الضحاك، والسدي‏:‏ كدنا صنعنا‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وأضاف الله تعالى الكيد إلى ضميره، لما أخرج القدر الذي أباح ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد‏.‏ وفسر ابن عباس في دين الملك بسلطانه، وفسره قتادة بالقضاء والحكم انتهى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ إلا أن يلزم ويستعبد، إلا أن يشاء الله، إلا بمشيئته وإذنه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والاستثناء حكاية حال التقدير‏:‏ إلا أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة انتهى‏.‏ والذي يظهر أنه استثناء منقطع أي‏:‏ لكن بمشيئة الله أخذه في دين غير الملك، وهو دين آل يعقوب‏:‏ أنّ الاسترقاق جزاء السارق‏.‏

وقرأ الكوفيون، وابن محيصن‏:‏ نرفع بنون درجات منوناً من نشاء بالنون، وباقي السبعة كذلك، إلا أنهم أضافوا درجات‏.‏ وقرأ يعقوب بالياء في يرفع، ويشاء أي‏:‏ يرفع الله درجات من يشاء رفع درجاته‏.‏ وقرأ عيسى البصرة‏:‏ نرفع بالنون درجات منوناً من يشاء بالياء‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة، وإن لم يمكن إنكارها‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ وقرأ الجمهور نرفع على ضمير المعظم وكذلك نشاء‏.‏ وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب‏:‏ بالياء أي‏:‏ الله تعالى انتهى‏.‏ ومعناه في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه‏.‏ وعليم صفة مبالغة‏.‏ وقوله‏:‏ ذي علم أي‏:‏ عالم‏.‏ فالمعنى أن فوقه أرفع منه درجة في علمه، وهذا معنى قول الحسن وقتادة وابن عباس‏.‏ وعن أن العليم هو الله عز وجل‏.‏ قيل‏:‏ روى عنه أنه حدث بحديث عجيب، فتعجب منه رجل ممن حضر فقال‏:‏ الحمد لله، وفوق كل ذي علم عليم، فقال له ابن عباس‏:‏ بئس ما قلت، إنما العليم الله، وهو فوق كل ذي علم‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ وفوق كل ذي عالم، فخرجت على زيادة ذي، أو على أن قوله عالم مصدر بمعنى علم كالباطل، أو على أن التقدير‏:‏ وفوق كل ذي شخص عالم‏.‏

روي أن أخوة يوسف عليه السلام لما رأوا إخراج الصواع من رحل أخيهم بنيامين قالوا‏:‏ يا بنيامين ابن راحيل قبحك الله، ولدت أمك أخوين لصين، كيف سرقت هذه السقاية‏؟‏ فرفع يديه إلى السماء وقال‏:‏ والله ما فعلت، فقالوا‏:‏ فمن وضعها في رحلك‏؟‏ قال‏:‏ الذي وضع البضاعة في رحالكم‏.‏ وقال الزمخشري ما معناه‏:‏ رموا بالسرقة تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف‏.‏ وإن كنتم كاذبين، فرض لانتفاء براءتهم، وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً على أنه لو صرح به كما صرح بالتسريق لكان له وجه، لأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب‏}‏ والكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله‏:‏ وخذ بيدك ضغثاً فيتخلص من جلدها ولا يحنث‏.‏ وقول ابراهيم عليه السلام‏:‏ هي أختي لتسلم من يد الكافر‏.‏ وعلم الله في هذه الحيلة التي لقنها ليوسف مصالح عظيمة، فجعلها سلماً وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة انتهى‏.‏ وقولهم‏:‏ إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل، لا يدل على الجزم بأنه سرق، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي‏:‏ إن كان وقعت منه سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله، فقد سرق أخ له من قبل‏.‏ والتعليق على الشرط على أنّ السرقة في حق بنيامين وأخيه ليس مجزوماً بها، كأنهم قالوا‏:‏ إنْ كان هذا الذي رمى به بنيامين حقاً فالذي رمى به يوسف من قبل حق، لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين، ولذلك قالوا‏:‏ إن ابنك سرق‏.‏ وقيل‏:‏ حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر، فكأنهم قالوا‏:‏ إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل، لأن أخاه يوسف قد كان سرق، فعلى هذا القول يكون قولهم إنحاء على يوسف وبنيامين‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير فقد قيل عن يوسف إنه سرق، وقولهم هذا هو بحسب الظاهر والإخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم، وتختص بالشقيقين‏.‏

وتنكير أخ في قوله‏:‏ فقد سرق أخ له من قبل، لأنّ الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له‏:‏ لأنه كان شقيقه‏.‏ والجمهور على أن السرقة التي نسبت هي أن عمته ربته وشب، وأراد يعقوب أخذه، فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق، وكانت متوارثة عندهم، فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت‏:‏ فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف، فاسترقته حسبما كان في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت، فصار عند أبيه‏.‏ وقال قتادة وابن جبير‏:‏ أمرت أمه أن يسرق صنماً‏.‏ وفي كتاب الزجاج‏:‏ من ذهب لأبيها فسرقه وكسره، وكان ذلك منها تغييراً للمنكر‏.‏ وقال ابن إدريس عن أبيه‏:‏ إنما أكل بنو يعقوب طعاماً، فأخذ يوسف عرقاً فنحاه‏.‏ وقيل‏:‏ كان في البيت غاق أو دجاجة، فأعطاها السائل‏.‏ وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي، وابن أبي شريح عن الكسائي، والوليد بن حسان عن يعقوب وغيرهم‏:‏ فقد سرق بالتشديد مبنياً للفعول بمعنى نسب إلى السرقة، بمعنى جعل سارقاً ولم يكن كذلك حقيقة‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ فأسرها يفسره سياق الكلام أي‏:‏ الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم كما فسره في قول حاتم‏:‏

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر

وقيل‏:‏ أسر المجازاة، وقيل‏:‏ الحجة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ اختار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً، وإنما أنث لأن قوله‏:‏ أنتم شر مكاناً جملة أو كلمة على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل‏:‏ فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله‏.‏ وقرأ عبد الله، وابن أبي عبلة‏:‏ فأسره بضمير تذكير‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ يريد القول أو الكلام انتهى‏.‏ والظاهر من قوله‏:‏ أنتم شر مكاناً، خطابهم بهذا القول في الوجه، فكأنه أسر كراهية مقالتهم، ثم وبخهم بقوله‏:‏ أنتم شر مكاناً، وفيه إشارة إلى تكذيبهم وتقوية أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيه الشيخ يعقوب عليه السلام‏.‏ وقال قوم‏:‏ لم يقل يوسف هذا الكلام لهم مواجهة، إنما قاله في نفسه، وهو تفسير قوله‏:‏ الذي أسر في نفسه، وهو قول الزمخشري المتقدم‏.‏ ومعنى شر مكاناً أي منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة لسرقتكم أخاكم من أبيكم‏.‏ ومعنى أعلم بما تصفون يعني‏:‏ هو أعلم بما تصفون منكم، لأنه عالم بحقائق الأمور، وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه‏.‏ وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه، فأمر يوسف ابناً له يمسه فسكن غضبه فقال روبيل‏:‏ لقد مسني أحد من ولد يعقوب، ثم أنهم تشاوروا في محاربة يوسف وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك، فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه، فرأوا من قوته ما استعظموه وعند ذلك‏.‏

‏{‏قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين‏.‏ قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون‏}‏‏:‏ استعطفوا يوسف إذ كان قد أخذ عليهم الميثاق‏.‏ ومعنى كبيراً في السن، أو القدر‏.‏ وكانوا قد أعلموا يوسف بأنه كان له ابن قد هلك، وهذا شقيقه يستأنس به، وخاطبوه بالعزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل قطفير، أو موته على ما سبق‏.‏ ومعنى مكانه أي‏:‏ بدله على جهة الاسترهان أو الاستعباد، قاله الزمخشري‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل قولهم أن يكون مجازاً، وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حرّ بسارق بدل من قد أحكمت السنة رقه، وإنما هذا كمن يقول لمن يكره فعله‏:‏ اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله، وعلى هذا يتجه قول يوسف‏:‏ معاذ الله لأنه تعوذ من غير جائز‏.‏ ويحتمل أن يكون قولهم حقيقة، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الجمالة، أي‏:‏ خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك‏.‏ ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر‏.‏ وقوله‏:‏ من المحسنين، وصفوه بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد إنْ أسديتها إلينا، وهذا تأويل ابن إسحاق ومعاذ الله تقدم الكلام فيه في قوله‏:‏ معاذ الله إنه ربي، والمعنى‏:‏ وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده‏.‏ فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، وباطنه أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة، أو مصالح جمة علمها في ذلك‏.‏ فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي‏.‏ وأن نأخذ تقديره‏:‏ من أن نأخذ، وإذن جواب وجزاء أي‏:‏ إن أخذنا بدله ظلمنا‏.‏ وروي أنه قال لما أيأسهم من حمله معهم‏:‏ إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له‏:‏ إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف، ليعلم أنّ في أرض مصر صديقين مثله‏.‏