فصل: تفسير الآيات رقم (56- 60)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

ويروى‏:‏ يراوح‏.‏ دس الشيء في الشيء أخفاه فيه‏.‏

‏{‏ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم تالله لتسألنّ عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم‏}‏‏:‏ الضمير في‏:‏ ويجعلون، عائد على الكفار‏.‏ والظاهر أنه في يعلمون عائد عليهم‏.‏ وما هي الأصنام أي‏:‏ للأصنام التي لا يعلم الكفار أنها تضر وتنفع، أو لا يعلمون في اتخاذها آلهة حجة ولا برهاناً‏.‏ وحقيقتها أنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تشفع، فهم جاهلون بها‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في لا يعلمون للأصنام أي‏:‏ للأصنام التي لا تعلم شيئاً ولا تشعر به، إذ هي جماد لم يقم بها علم البتة‏.‏ والنصيب‏:‏ هو ما جعلوه لها من الحرث والأنعام، قبح تعالى فعلهم ذلك، وهو أن يفردوا نصيباً مما أنعم به تعالى عليهم لجمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تنتفع هي بجعل ذلك النصيب لها، ثم أقسم تعالى على أنه يسألهم عن افترائهم واختلاقهم في إشراكهم مع الله آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها بجعل النصيب لها، والسؤال في الآخرة، أو عند عذاب القبر، أو عند القرب من الموت أقوال‏.‏ ولما ذكر الله تعالى أنه يسألهم عن افترائهم، ذكر أنهم مع اتخاذهم آلهة نسبوا إلى الله تعالى التوالد وهو مستحيل، ونسبوا ذلك إليه فيما لم يرتضوه، وتربد وجوههم من نسبته إليهم ويكرهونه أشد الكراهة‏.‏ وكانت خزاعة وكنانة تقول‏:‏ الملائكة بنات الله سبحانه وتنزيه له تعالى عن نسبة الولد إليه، ولهم ما يشتهون‏:‏ وهم الذكور، وهذه الجملة مبتدأ وخبر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفاً على البنات أي‏:‏ وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور انتهى‏.‏ وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ وقد حكاه، وفيه نظر‏.‏ وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو‏:‏ وهو أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدّى إلى ضميره المتصل المنصوب، فلا يجوز زيد ضربه زيد، تريد ضرب نفسه إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد، وعدم، فيجوز‏:‏ زيد ظنه قائماً وزيد فقده، وزيد عدمه‏.‏ والضمير المجرور بالحرف المنصوب المتصل، فلا يجوز زيد غضب عليه تريد غضب على نفسه، فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب إحذ يكون التقدير‏:‏ ويجعلون لهم ما يشتهون‏.‏ قالوا‏:‏ وضمير مرفوع، ولهم مجرور باللام، فهو نظير‏:‏ زيد غضب عليه‏.‏

وإذا بشر، المشهور أن البشارة أول خبر يسر، وهنا قد يراد به مطلق الأخبار، أو تغير البشرة، وهو القدر المشترك بين الخبر السار أو المخبرين، وفي هذا تقبيح لنسبتهم إلى الله المنزه عن الولد البنات واحدهم أكره الناس فيهنّ، وأنفرهم طبعاً عنهن‏.‏ وظل تكون بمعنى صار، وبمعنى أقام نهاراً على الصفة التي تسند إلى اسمها تحتمل الوجهين‏.‏ والأظهر أن يكون بمعنى صار، لأنّ التبشير قد يكون في ليل ونهار، وقد تلحظ الحالة الغالبة‏.‏ وأنّ أكثر الولادات تكون بالليل، وتتأخر أخبار المولود له إلى النهار وخصوصاً بالأنثى، فيكون ظلوله على ذلك طول النهار‏.‏ واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والتكره والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى‏.‏ قيل‏:‏ إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف، ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد، فترى الوجه مشرقاً متلألئاً‏.‏ وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه، فيربد الوجه ويصفر ويسود، ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه، ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده، فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة، وعن الغم بالاسوداد‏.‏ وهو كظيم أي‏:‏ ممتلئ القلب حزناً وغمًّا‏.‏ أخبر عما يظهر في وجهه وعن ما يجنه في قلبه‏.‏ وكظيم يحتمل أن يكون للمبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول لقوله‏:‏ ‏{‏وهو مكظوم‏}‏ ويقال‏:‏ سقاء‏.‏ مكظوم، أي مملوء مشدود الفم‏.‏ وروى الأصمعي أنّ امرأة ولدت بنتاً سمتها الذلفاء، فهجرها زوجها فقالت‏:‏

ما لأبي الذلقاء لا يأتينا *** يظل في البيت الذي يلينا

يحردان لا نلد البنينا *** وإنما نأخذ ما يعطينا

يتوارى‏:‏ يختفي من الناس، ومن سوء للتعليل أي‏:‏ الحال له على التواري هو سوء ما أخبر به، وقد كان بعضهم في الجاهلية يتوارى حالة الطلق، فإن أخبر بذكر ابتهج، أو أنثى حزن‏.‏ وتوارى أياماً يدبر فيها ما يصنع‏.‏ أيمسكه قبله حال محذوفة دل عليها المعنى، والتقدير‏:‏ مفكراً أو مدبراً أيمسكه‏؟‏ وذكر الضمير ملاحظة للفظ ما في قوله‏:‏ من سوء ما بشر به‏.‏ وقرأ الجحدري‏:‏ أيمسكها على هوان، أم يدسها بالتأنيث عوداً على قوله‏:‏ بالأنثى، أو على معنى ما بشر به، وافقه عيسى على قراءة هوان على وزن فعال‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ أيمسكه بضمير التذكير، أم يدسها بضمير التأنيث‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ على هون بفتح الهاء‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ على سوء، وهي عندي تفسير لا قراءة، لمخالفتها السواد المجمع عليه‏.‏ ومعنى الإمساك حبسه وتربيته، والهون الهوان كما قال‏:‏ ‏{‏عذاب الهون‏}‏ والهون بالفتح الرفق واللبن، ‏{‏يمشون على الأرض هوناً‏}‏ وفي قوله‏:‏ على هون قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إنه صفة للأب، والمعنى‏:‏ أيمسكها مع رضاه بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه‏؟‏ وقيل‏:‏ حال من المفعول أي‏:‏ أيمسكها مهانة ذليلة، والظاهر من قوله‏:‏ أم يدسه في التراب، إنه يئدها وهو دفنها حية حتى تموت‏.‏

وقيل‏:‏ دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس في التراب‏.‏ والظاهر من قوله‏:‏ ألا ساء ما يحكمون، رجوعه إلى قوله‏:‏ ويجعلون لله البنات الآية أي‏:‏ ساء ما يحكمون في نسبتهم إلى الله ما هو مستكره عندهم، نافر عنهن طبعهم، بحيث لا يحتملون نسبتهن إليهن، ويئدونهن استنكافاً منهن، وينسبون إليهم الذكر كما قال‏:‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتجلد له، أم يئدها فيدفنها حية فهو الدس في التراب‏؟‏ ثم استقبح الله سوء فعلهم وحكمهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله انتهى‏.‏ فعلق ألا ساء ما يحكمون بصنعهم في بناتهم مثل السوء‏.‏ قيل‏:‏ مثل بمعنى صفة أي‏:‏ صفة السوء، وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث، ووأدهن خشية الإملاق وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ‏.‏ ولله المثل الأعلى أي‏:‏ الصفة العليا، وهي الغنى عن العالمين، والنزاهة عن سمات المحدثين‏.‏ وقيل‏:‏ مثل السوء هو وصفهم الله تعالى بأن له البنات، وسماه مثل السوء لنسبتهم الولد إلى الله، وخصوصاً على طريق الأنوثة التي هم يستنكفون منها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ مثل السوء النار‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ قالت فرقة مثل بمعنى صفة أي‏:‏ لهؤلاء صفة السوء، ولله الوصف الأعلى، وهذا لا نضطرّ إليه لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله‏:‏ مثل، على بابه وذلك أنهم إذا قالوا‏:‏ أن البنات لله فقد جعلوا لله مثلاً، فالبنات من البشر وكثرة البنات مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء‏.‏ والذي أخبر الله تعالى أنهم لهم وليس في البنات فقط، بل لما جعلوه هم البنات جعله هو هلم على الإطلاق في كل سوء، ولا غاية أبعد من عذاب النار‏.‏ وقوله‏:‏ ولله المثل الأعلى، على الإطلاق أي‏:‏ الكمال المستغنى‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المثل الأعلى لا إله إلا الله انتهى، وقول قتادة مروي عن ابن عباس‏.‏ ولما تقدم قوله‏:‏ ويجعلون لله البنات الآية تقدم ما نسبوا إلى الله، وأتى ثانياً ما كان منسوباً لأنفسهم، وبدأ هنا بقوله‏:‏ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء، وأتى بعد ذلك بما يقابل قوله‏:‏ سبحانه وتعالى من التنزيه وهو قوله‏:‏ ولله المثل الأعلى، وهو الوصف المنزه عن سمات الحدوث والتوالد، وهو الوصف الأعلى الذي ليس يشركه فيه غيره، وناسب الختم بالعزيز وهو الذي لا يوجد نظيره، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

لما حكى الله تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التولد له، بيَّن تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً لفضله ورحمته‏.‏ ويؤاخذ‏:‏ مضارع آخذ، والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ كان أحد المؤاخذين يأخذ من الآخر، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى، أو بإذاية في جهة المخلوقين، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء انتهى‏.‏ والظاهر‏:‏ عموم الناس‏.‏ وقيل‏:‏ أهل مكة، والباء في بظلمهم للسبب‏.‏ وظلمهم كفرهم ومعاصيهم‏.‏ والضمير في عليها عائد على غير مذكور، ودل على أنه الأرض قوله‏:‏ من دابة، لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏فأثرن به نقعاً‏}‏ أي بالمكان لأن ‏{‏والعاديات‏}‏ معلوم أنها لا تعدو إلا في مكان، وكذلك الإثارة والنقع‏.‏ والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح، فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها قاله‏:‏ ابن مسعود‏.‏ قال قتادة‏:‏ وقد فعل تعالى في زمن نوح عليه السلام‏.‏ وقال السدي ومقاتل‏:‏ إذا قحط المطر لم تبق دابة إلا هلكت‏.‏ وسمع أبو هريرة رجلاً يقول‏:‏ إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال‏:‏ بلى والله حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم‏.‏ وهذا نظير‏:‏ ‏{‏واتقوا فتنة‏}‏ الآية والحديث «أنهلك وفينا الصالحون» وقال ابن السائب، واختاره الزجاج‏:‏ من دابة من الإنس والجن‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ من الناس خاصة‏.‏ وقالت فرقة منهم ابن عباس‏:‏ من دابة من مشرك يدب عليها، ولكن يؤخرهم إلى أجل الآية، تقدّم تفسير ما يشبهه في الأعراف‏.‏ وما في ما يكرهون لمن يعقل، أريد بها النوع كقوله‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب لكم‏}‏ ومعنى‏:‏ ويجعلون، يصفونه بذلك ويحكمون به‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ما يكرهون لأنفسهم من البنات، ومن شركاء في رئاستهم، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم، ويجعلون له أرذل أموالهم، ولأصنامهم أكرمها، وتصف ألسنتهم مع ذلك أنّ لهم الحسنى عند الله كقوله‏:‏ ‏{‏ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى‏}‏ انتهى‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الحسنى قول قريش لنا البنون، يعني قالوا‏:‏ لله البنات ولنا البنون‏.‏ وقيل‏:‏ الحسنى الجنة، ويؤيده‏:‏ لا جرم أن لهم النار، والمعنى على هذا‏:‏ يجعلون لله المكروه، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة كما تقول‏:‏ أنت تعصي الله وتقول مع ذلك‏:‏ أنك تنجو، أي هذا بعيد مع هذا‏.‏ وهذا القول لا يتأتى إلا ممن يقول بالبعث، وكان فيهم من يقول به‏.‏ أو على تقدير أنْ كان ما يقول من البعث صحيحاً، وأنّ لهم الحسنى بدل من الكذب، أو على إسقاط الحرف أي‏:‏ بأن لهم‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم‏:‏ بإسكان التاء، وهي لغة تميم جمع لساناً المذكر نحو‏:‏ حمار وأحمرة، وفي التأنيث‏:‏ ألسن كذراع وأذرع‏.‏

وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام‏:‏ الكذب بضم الكاف والذال والباء صفة للألسن، جمع كذوب كصبور وصبر، وهو مقيس، أو جمع كاذب كشارف وشرف ولا ينقاس، وعلى هذه القراءة أنّ لهم مفعول تصف، وتقدم الكلام في لا جرم أن‏.‏

وقرأ الحسن وعيسى بن عمران‏:‏ لهم بكسر الهمزة، وأن جواب قسم أغنت عنه لا جرم‏.‏ وقرأ ابن عباس، وابن مسعود وأبو رجاء، وشيبة، ونافع، وأكثر أهل المدينة‏:‏ مفرطون بكسر الراء من أفرط حقيقة أي‏:‏ متجاوزون الحد في معاصي الله‏.‏ وباقي السبعة، والحسن، والأعرج، وأصحاب ابن عباس، ونافع في رواية، بفتح الراء من أفرطته إلى كذا قدمته، معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه‏.‏ قال القطامي‏:‏

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا *** كما تعجل فراط لوراد

ومنه «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم‏.‏ وقال ابن جبير، ومجاهد، وابن أبي هند‏:‏ مفرطون مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلاناً خلفى إذا خلفته ونسيته‏.‏ قال أبو البقاء‏:‏ تقول العرب أفرطت منهم ناساً أي خلفتهم ونسيتهم‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ مفرطون مشدداً من فرط أي‏:‏ مقصرون مضيعون‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ فتح الراء وشدها أي، مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى‏:‏ تقدم‏.‏ ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك، مقسماً على ذلك ومؤكداً بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر، فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي‏:‏ لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة‏.‏ وأل في اليوم للعهد، وهو اليوم المشهود، فهو وليهم في ذلك اليوم أي‏:‏ قرينهم وبئس القرين‏.‏ والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم‏.‏ ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي‏:‏ فهو ولي أمثالهم اليوم انتهى‏.‏ وهذا فيه بعد، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا إلى حذف المضاف‏.‏ واللام في لتبين لام التعليل، والكتاب القرآن، والذي اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه، وغير ذلك مما يعتقدون من الأحكام‏:‏ كتحريم البحيرة، وتحليل الميتة والدم، وغير ذلك من الأحكام‏.‏ وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله، وانتصبا لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم‏.‏ ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل، لأن المنزل هو الله، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقول الزمخشري‏:‏ معطوف محل لتبين ليس بصحيح، لأنّ محله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه‏.‏ ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل‏؟‏‏.‏

والله أنزل من السماء ماء قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ المقصود من القرآن أربعة‏:‏ الإلهيات، والنبوات، والمعاد، والقدر، والأعظم منها الإلهيات فابتدأ في ذكر دلائلها بالأجرام الفلكية، ثم بالإنسان ثم بالحيوان، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض، ثم عاد إلى تقدير الإلهيات فبدأ بذكر الفلكيات انتهى ملخصاً‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، ولا يختلف فيها عاقل انتهى‏.‏ ونقول‏:‏ لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله‏:‏ لقوم يؤمنون أي‏:‏ يصدقون‏.‏ والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها‏.‏ ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه‏}‏ فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل‏.‏ وكذلك ختم بقوله‏:‏ يسمعون هذا التشبيه المشار إليه، والمعنى‏:‏ سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بلقوم يبصرون، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقوله يسمعون، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر، وإنما يحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

الفرث‏:‏ كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعى‏.‏ النحل‏:‏ حيوان معروف‏.‏

‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏}‏‏:‏ لما ذكر الله تعالى إحياء الأرض بعد موتها، ذكر ما ينشأ عن ما ينشأ عن المطر وهو حياة الأنعام التي هي مألوف العرب بما يتناوله من النبات الناشئ عن المطر، ونبه على العبرة العظيمة وهو خروج اللبن من بين فرث ودم‏.‏ وقرأ ابن مسعود بخلاف، والحسن، وزيد بن علي، وابن عامر، وأبو بكر، ونافع، وأهل المدينة‏.‏ نسقيكم هنا، وفي قد أفلح المؤمنون‏:‏ بفتح النون مضارع سقى، وباقي السبعة بضمها مضارع أسقى، وتقدم الكلام في سقى وأسقى في قوله ‏{‏فأسقيناكموه‏}‏ وقرأ أبو رجاء‏:‏ يسقيكم بالياء مضمومة، والضمير عائد على الله أي‏:‏ يسقيكم الله‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ويجوز أن يكون مسنداً إلى النعم، وذكر لأنّ النعم مما يذكر ويؤنث ومعناه‏:‏ وأنّ لكم في الأنعام نعماً يسقيكم أي‏:‏ يجعل لكم سقيا انتهى‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ بالتاء مفتوحة منهم أبو جعفر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهي ضعيفة انتهى‏.‏ وضعفها عنده والله أعلم من حيث أنث في تسقيكم، وذكر في قوله مما في بطونه، ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة، لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين، وأعاد الضمير مذكراً مراعاة للجنس، لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكراً كقولهم‏:‏ هو أحسن الفتيان وأنبله، لأنه يصح هو أحسن فتى، وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه، إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب‏.‏ وقيل‏:‏ جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع، فيعود الضمير عليه مفرداً‏.‏ كقوله‏:‏

مثل الفراخ نبقت حواصله *** وقيل‏:‏ أفرد على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كما قال‏:‏

فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق

فقال‏:‏ كأنه وقدر بكان المذكور‏.‏ قال الكسائي‏:‏ أي في بطون ما ذكرنا‏.‏ قال المبرد‏:‏ وهذا سائغ في القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذه تذكرة‏}‏ ‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏ أي ذكر هذا الشيء‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي‏}‏ أي هذا الشيء الطالع‏.‏ ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازى، لا يجوز جاريتك ذهب‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها، فكأنّ العبرة إنما هي في بعض الأنعام‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة على أفعال كقولهم‏:‏ ثواب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون تكسير نعم كالأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله‏:‏

في كل عام نعم تحوونه *** يلقحه قوم وينتجونه

وإذا أنّث ففيه وجهان‏:‏ إنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع انتهى‏.‏ وأما ما ذكره عن سيبويه ففي كتابه في هذا في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه‏:‏ وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها، لأنها ضارعت الواحد‏.‏ ألا ترى أنك تقول‏:‏ أقوال وأقاويل، وإعراب وأعاريب، وأيد وأياد، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل كما يخرج إليه الواحد إذا كسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر، فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا، لأن هذا البناء هو الغاية، فلما ضارعت الواحد صرفت‏.‏ ثم قال‏:‏ وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس لأن تجمع جمعاً لأخرجته إلى فعائل، كما تقول‏:‏ جدود وجدائد، وركوب وركائب، ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء‏.‏ ويقوي ذلك أنّ بعض العرب يقول‏:‏ أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد تقع للواحد من العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه وعز‏:‏ نسقيكم مما في بطونه‏.‏

وقال أبو الخطاب‏:‏ سمعت العرب يقولون‏:‏ هذا ثواب أكياش انتهى‏.‏ والذي ذكره سيبويه هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل، وبين أفعال وفعول، وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث أنّ مفاعل ومفاعيل لا يجمعان، وأفعال وفعول قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل أو مفاعيل لشبه ذينك بالمفرد، من حيث أنه يمكن جمعهما وامتناع هذين من الجمع، ثم قوى شبههما بالمفرد بأنّ بعض العرب قال في أتى‏:‏ أتى بضم الهمزة يعني أنه قد جاء نادراً فعول من غير المصدر للمفرد، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للواحدة من حيث أفرد الضمير فتقول‏:‏ هو الإنعام، وإنما يعني أن ذلك على سبيل المجاز، لأنّ الأنعام في معنى النعم كما قال الشاعر‏:‏

تركنا الخيل والنعم المفدى *** وقلنا للنساء بها أقيمي

ولذلك قال سيبويه‏:‏ وأما أفعال فقد تقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع‏.‏ فقول الزمخشري‏:‏ إنه ذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدل على ما قلناه أنّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنّ أفعالاً ليس من ابنيتها‏.‏ قال سيبويه في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام‏:‏ أفعيل، ولا أفعول، ولا أفعال، ولا أفعيل، ولا أفعال إلا أنْ تكسر عليه اسماً للجميع انتهى‏.‏

فهذا نص منه على أنّ أفعالاً لا يكون في الأبنية المفردة‏.‏ ونسقيكم مما في بطونه تبيين للعبرة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وهو استئناف كأنه قيل‏:‏ كيف العبرة‏؟‏ فقيل‏:‏ نسقيكم من بين فرث ودم، أي‏:‏ يخلق الله اللبن وسطاً بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من كله انتهى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثاً يبقى فيه، وأعلاه دماً يجري في العروق، وأوسطه لبناً يجري في الضرع‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ الفرث في أوسط المصارين، والدم في أعلاها، واللبن بينهما، والكبد يقسم الفرث إلى الكرش، والدم إلى العروق، واللبن إلى الضروع‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ المراد من قوله من بين فرث ودم، هو أنّ هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد، فالفرث يكون في أسفل الكرش، والدم في أعلاه، واللبن في الوسط، وقد دللنا على أنّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة، وكان الرازي قد قدم أن الحيوان يذبح ولا يرى في كرشه دم ولا لبن، بل الحق أنّ الغذاء إذا تناوله الحيوان وصل إلى الكرش وانطبخ وحصل الهضم الأول فيه، فما كان منه كثيفاً نزل إلى الأمعاء، وصافياً انحدر إلى الكبد فينطبخ فيها ويصير دماً، وهو الهضم الثاني مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتذهب الصفراء إلى المرارة، والسوداء إلى الطحال، والماء إلى الكلية، وخالص الدم يذهب إلى الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد فيحصل الهضم الثالث‏.‏ وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة ينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، وهو لحم رخو أبيض فينقلب من صورة الدم إلى صورة اللبن، فهذا هو الصحيح في كيفية توالد اللبن انتهى ملخصاً‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ وأما نحن فنقول‏:‏ المراد من الآية هو أنّ اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهي الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش‏.‏ فاللبن متولد مما كان حاصلاً فيما بين الفرث أولاً، ثم مما كان حاصلاً فيما بين الدم ثانياً انتهى، ملخصاً أيضاً‏.‏

والذي يظهر من لفظ الآية أنّ اللبن يكون وسطاً بين الفرث والدم، والبينية يحتمل أن تكون باعتبار المكانية حقيقة كما قاله المفسرون وادعى الرازي أنه على خلاف الحس والمشاهدة‏.‏ ويحتمل أن تكون البينية مجازية، باعتبار تولده من ما حصل في الفرث أولاً، وتولده من الدم الناشئ من لطيف ما كان في الفرث ثانياً كما قرره الرازي‏.‏ ومِن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، والثانية لابتداء الغاية متعلقة بنسقيكم، وجاز تعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما‏.‏

ويجوز أن يكون من بين في موضع الحال، فتتعلق بمحذوف، لأنه لو تأخر لكان صفة أي‏:‏ كائناً من بين فرث ودم‏.‏ ويجوز أن يكون من بين فرث بدلاً من ما في بطونه‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ سيغاً بتشديد الياء، وعيسى بن عمر‏:‏ سيغاً مخففاً من سيغ كهين المخفف من هين، وليس بفعل لازم كان يكون سوغاً‏.‏ والسائغ‏:‏ السهل في الحلق اللذيذ، وروي في الحديث «أنّ اللبن لم يشرق به أحد قط» ولما ذكر تعالى ما منّ به من بعض منافع الحيوان، ذكر ما منّ به من بعض منافع النبات‏.‏ والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون، وكررت من للتأكيد، وكان الضمير مفرداً راعياً لمحذوف أي‏:‏ ومن عصير ثمرات، أو على معنى الثمرات وهو الثمر، أو بتقدير من المذكور‏.‏ وقيل‏:‏ تتعلق بنسقيكم، فيكون معطوفاً على مما في بطونه، أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة، فيكون من عطف الجمل، والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل‏.‏ وقيل‏:‏ معطوف على الأنعام أي‏:‏ ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة، ثم بين العبرة بقوله‏:‏ تتخذون‏.‏ وقال الطبري‏:‏ التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون‏.‏ فحذف ما هو لا يجوز على مذهب البصريين، وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف كقوله‏:‏ بكفي كان من أرمي البشر‏.‏ تقديره‏:‏ ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه انتهى‏.‏ وهذا الذي أجازه قاله الحوفي قال‏:‏ أي وإن من ثمرات، وإن شئت شيء بالرفع بالابتداء، ومن ثمرات خبره انتهى‏.‏

والسكر في اللغة الخمر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم *** إذا جرى منهم المزّاء والسكر

وقال الزمخشري‏:‏ سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو‏:‏ رشد رشداً ورشداً‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وجاءونا بهم سكر علينا *** فأجلى اليوم والسكران صاحي

وقاله‏:‏ ابن مسعود، وابن عمر، وأبو رزين، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن أبي ليلى، والكلبي، وابن جبير، وأبو ثور، والجمهور‏.‏ وهذه الآية مكية نزلت قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بالمدينة فهي منسوخة‏.‏ قال الحسن‏:‏ ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو الخل بلغة الحبشة‏.‏ وقيل‏:‏ العصير الحلو الحلال، وسمي سكراً باعتبار مآله إذا ترك‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ السكر الطعم، يقال هذا سكر لك أي طعم، واختاره الطبري قال‏:‏ والسكر في كلام العرب ما يطعم‏.‏ وأنشد أبو عبيدة‏:‏

جعلت أعراض الكرام سكراً *** أي‏:‏ تنقلت بأعراضهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الخمر، وأنه إذا ابترك في أعراض الناس فكأنه تخمر بها، قاله الزمخشري، وتبع الزجاج قال‏:‏ يصف أنه يخمر بعيوب الناس، وعلى هذه الأقوال لا نسخ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قول أبي عبيدة لا يصح، وأهل التفسير على خلافه‏.‏ وقيل‏:‏ السكر ما لا يسكر من الأنبذة، وقيل‏:‏ السكر النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر انتهى‏.‏

وإذا أريد بالسكر الخمر فقد تقدم أنّ ذلك منسوخ، وإذا لم نقل بنسخ فقيل‏:‏ جمع بين العتاب والمنة‏.‏ يعني بالعتاب على اتخاذ ما يحرم، وبالمنة على اتخاذ ما يحل، وهو الخل والرب والزبيب والتمر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً كأنه قيل‏:‏ تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن انتهى‏.‏ فيكون من عطف الصفات، وظاهر العطف المغايرة‏.‏ ولما كان مفتتح الكلام‏:‏ وأن لكم في الأنعام لعبرة، ناسب الختم بقوله‏:‏ يعقلون، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب‏}‏ > وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس، أخبر عن نفسه تعالى بقوله‏:‏ نسقيكم‏.‏ ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال‏:‏ تتخذون، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته‏.‏ ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره، أتم النعمة بذكر العسل النحل‏.‏ ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل، قدم اللبن وغيره عليه، وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيراً وهو الدليل على الفطرة‏.‏ ولذلك اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم حين أسري به، وعرض عليه اللبن والخمر والعسل، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنهاراً من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى‏}‏ ففي إخراج اللبن من النعم والسكر، والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، والعسل من النحل، دلائل باهرة على الألوهية والقدرة والاختيار‏.‏ والإيحاء هنا الإلهام والإلقاء في روعها، وتعليمها على وجه هو تعالى أعلم بكنهه لا سبيل إلى الوقوف عليه‏.‏ والنحل‏:‏ جنس واحده نحلة، ويؤنث في لغة الحجاز، ولذلك قال‏:‏ أن اتحذي‏.‏ وقرأ ابن وثاب‏:‏ النحل بفتح الحاء، وأن تفسيرية، لأنه تقدم معنى القول وهو‏:‏ وأوحى‏.‏ أو مصدرية أي‏:‏ باتخاذ، قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ أنْ هي المفسرة لما في الوحي من معنى القول، هذا قول جمهور المفسرين وفيه نظر‏.‏ لأنّ الوحي هنا بإجماع منهم هو الإلهام، وليس في الإلهام معنى القول، وقال‏:‏ قرر تعالى في أنفسها الأعمال العجيبة التي يعجز عنها للعقلاء من البشر منها بناؤها البيوت المسدسة من أضلاع، متساوية بمجرد طباعها، ولا يتم مثل ذلك العقلاء إلا بآلات كالمسطرة والبركان، ولم تبنها بأشكال غير تلك، فتضيق تلك البيوت عنها لبقاء فرج لا تسعها، ولها أمير أكبر جثة منها نافذ الحكم يخدمونه، وإذ نفرت عن وكرها إلى موضع آخر وأرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات المويسيقا، وبوساطة تلك الألحان تعود إلى وكرها، فلما امتازت بهذه الخواص العجيبة وليس إلا على سبيل الإلهام، وهي حالة تشبه الوحي لذلك قال‏:‏ وأوحى ربك إلى النحل‏.‏

انتهى ملخصاً‏.‏ ومِنْ للتبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها‏.‏ والظاهر أن البيوت هنا عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال، وفي متجوف الأشجار‏.‏ وأما من ما يعرش ابن آدم فالخلايا التي يصنها للنحل ابن آدم، والكوى التي تكون في الحيطان‏.‏ ولما كان النحل نوعين‏:‏ منه ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد، ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها، شمل الأمر باتخاذ البيوت النوعين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ما يدل على أنّ البيوت ليست الكوى، وإنما هي ما تبنيه هي، فقال‏:‏ أريد منى البعضية، يعني بمن، وأنْ لا يبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكلّ ما يعرش‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ومما يعرشون الكروم‏.‏ وقال الطبري‏:‏ مما يبنون من السقوف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا منهما تفسير غير متقن انتهى‏.‏ وقرأ السلمي، وعبيد بن نضلة، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ بضم الراء، وباقي السبعة بكسرها، وتقتضي ثم المهلة والتراخي بين الاتخاذ والأكل الذي تدخر منه العسل، فلذلك كان العطف بثم وهو معطوف على اتخذي، وهو أمر معطوف على أمر، وسيأتي الكلام على أمر غير المكلف في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ إن شاء الله وكل الثمرات عام مخصوص أي‏:‏ المعتادة، لا كلها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أي ابني البيوت ثم كلي من كل ثمرة تشتهيها انتهى‏.‏ فدل قوله‏:‏ أي ابني البيوت، أنه لا يريد بقوله بيوتاً الكوى التي في الجبال ومتجوف الأشجار ولا الخلايا، وإنما يراد البيوت المسدسة التي تبينها هي‏.‏ وظاهر مِن في قوله‏:‏ من كل الثمرات أنها للتبعيض، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلاً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ إنما تأكل النوّار من الأشجار‏.‏

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه‏:‏ يحدث الله تعالى في الهواء ظلاً كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة مثل النرنجبين وهو محسوس، وقليلاً لطيف الأجزاء صغيرها، وهو الذي ألهم الله تعالى النحل التقاطه من الأزهار وأوراق الأشجار، وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها شيئاً من تلك الأجزاء، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها، فالمجتمع من ذلك هو العسل‏.‏ وعلى هذا القول تكون من لابتداء الغاية، لا للتبعيض انتهى‏.‏ وظاهر العطف بالفاء في فاسلكي أنه بعقيب الأكل أي‏:‏ فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك، أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة، والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران‏.‏ وربما أخذت مكانها فانتجعت المكان البعيد، ثم عادت إلى مكانها الأول‏.‏ وقيل‏:‏ سبل ربك أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو فاسلكي ما أكلت أي‏:‏ في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً من أجوافك ومنافذ مأكلك‏.‏

وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله ثم كلي، ثم اقصدي الأكل من الثمرات فاسلكي في طلبها سبل ربك، وهذا القول والقول الأول أقرب في المجاز في سبل ربك من القولين اللذين بينهما، إلا أنّ كلي بمعنى اقصدي الأكل، مجاز أضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه تعالى هو خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ذللاً غير متوعرة عليها سبيل تسلكه، فعلى هذا ذللاً حال من سبيل ربك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً‏}‏ وقال قتادة‏:‏ أي مطيعة منقادة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، فعلى هذا ذللاً حال من النحل كقوله‏:‏ ‏{‏وذللناها لهم‏}‏ ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على المنة ثمرة هذا الاتخاذ والأكل والسلوك وهو قوله‏:‏ يخرج من بطونها شراب، وهو العسل‏.‏ وسماه شراباً لأنه مما يشرب، كما ذكر ثمرة الأنعام وهي سقي اللبن، وثمرة النخيل والأعناب وهو اتخاذ السكر والرزق الحسن‏.‏ وذكر تعالى المقر الذي يخرج منه الشراب وهو بطونها، وهو مبدأ الغاية الأولى، والجمهور على أنه يخرج من أفواهها وهو مبدأ الغاية الأخيرة ولذلك قال الحريري‏:‏

تقل هذا مجاج النحل تمدحه *** وإن ذممت تقل قيء الزنابير

والمجاج والقيء لا يكونان إلا من الفم‏.‏ وروي عن عليّ كرم الله وجهه أنه قال في تحقير الدنيا‏:‏ أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ أما العسل فونيم ذباب، فظاهر هذا أن العسل يخرج من غير الفم، وقد خفي من أي المخرجين يخرج، أمن الفم‏؟‏ أم من أسفل‏؟‏ وحكي أن سليمان عليه السلام، والاسكندر، وأرسطاطاليس، صنعوا لها بيوتاً من زجاج لينظروا إلى كيفية صنعها، وهل يخرج العسل من فيها أم من أسفلها‏؟‏ فلم تضع من العسل شيئاً حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، فجعله لعاباً كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم‏.‏ وقيل‏:‏ من بطونها من أفواهها، سمى الفم بطناً لأنه في حكم البطن، ولأنه مما يبطن ولا يظهر‏.‏ واختلاف ألوانه بالبياض والصفرة والحمرة والسواد، وذلك لاختلاف طباع النحل، واختلاف المراعي‏.‏ وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى كما في الحديث «جرست نحلة العرفط» وقيل‏:‏ الأبيض تلقيه شباب النحل، والأصفر كهولها، والأحمر شبيبها‏.‏ والظاهر عود الضمير فيه إلى الشراب وهو العسل، لأنه شفاء من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة‏.‏ وقلَّ معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، والعسل موجود كثير في أكثر البلدان‏.‏

وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأشربة والأدوية إلا العسل‏.‏ وليس المراد بالناس هنا العموم، لأن كثيراً من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل، وإنما المعنى للناس الذي ينجع العسل في أمراضهم‏.‏ ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء أي شفاء، وإما لدلالته على مطلق الشفاء أي‏:‏ فيه بعض الشفاء‏.‏ وروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، والفراء، وابن كيسان‏:‏ أن الضمير في فيه عائد على القرآن، أي‏:‏ في القرآن شفاء للناس‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو قول حسن أي‏:‏ فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء، ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ولما كان أمر النحل عجيباً في بنائها تلك البيوت المسدسة، وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض والمر والضار، وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها في النقلة معه، وكان النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تعالى‏:‏ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 74‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

الحفدة‏:‏ الأعوان والخدم، ومن يسارع في الطاعة حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً، ومنه‏:‏ وإليك نسعى ونحفد أي‏:‏ نسرع في الطاعة‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

حفد الولائد حولهنّ وأسلمت *** بأكفهنّ أزمة الأجمال

وقال الأعشى‏:‏

كلفت مجهودها نوقاً يمانية *** إذا الحداة على أكسائها حفدوا

وتتعدى فيقال‏:‏ حفدني فهو حافدي‏.‏ قال الشاعر‏:‏

يحفدون الضيف في أبياتهم *** كرماً ذلك منهم غير ذل

قال أبو عبيدة‏:‏ وفيه لغة أخرى، أحفد إحفاداً، وقال‏:‏ الحفد العمل والخدمة‏.‏ وقال الخليل‏:‏ الحفدة عند العرب الخدم‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ الحفدة أولاد الأولاد، وقيل‏:‏ الأختان‏.‏ وأنشد‏:‏

فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت *** لها حفد مما يعد كثير ولكنها نفس عليّ أبية

عيوف لأصحاب اللئام قذور *** ‏{‏والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يُرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئاً إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏‏:‏ لما ذكر تعالى تلك الآيات التي في الأنعام والثمرات والنحل، ذكر ما نبهنا به على قدرته التامة في إنشائنا من العدم وإماتتنا، وتنقلنا في حال الحياة من حالة الجهل إلى حالة العلم، وذلك كله دليل على القدرة التامة والعلم الواسع، ولذلك ختم بقوله‏:‏ عليم قدير‏.‏

وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس، ويختل النطق والفكر‏.‏ وخص بالرذيلة لأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد، بخلاف حال الطفولة فإنها حالة تتقدم فيها إلى القوة وإدراك الأشياء ولا يتقيد أرذل العمر بسن مخصوص، كما روي عن علي‏:‏ أنه خمس وسبعون سنة‏.‏ وعن قتادة‏:‏ أنه تسعون، وإنما ذلك بحسب إنسان إنسان فرب ابن خمسين انتهى، إلى أرذل العمر، ورب ابن مائة لم يرد إليه‏.‏ والظاهر أنّ من يرد إلى أرذل العمر عام، فيمن يلحقه الخرف والهرم‏.‏ وقيل‏:‏ هذا في الكافر، لأن المسلم لا يزداد بطول عمره إلا كرامة على الله، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ أي لم يردوا إلى أسفل سافلين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر‏.‏

واللام في لكي قال الحوفي‏:‏ هي لام كي دخلت على كي للتوكيد، وهي متعلقة ببرد انتهى‏.‏ والذي ذهب إليه محققو النحاة في مثل لكي أنّ كي حرف مصدري إذا دخلت عليها اللام وهي الناصبة كأن، واللام جارة، فينسبك من كي والمضارع بعدها مصدر مجرور باللام تقديراً، فاللام على هذا لم تدخل على كي للتوكيد لاختلاف معناهما واختلاف عملهما، لأن اللام مشعرة بالتعليل، وكي حرف مصدري، واللام جارة، وكي ناصبة‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ يشبه أن تكون لام صيرورة والمعنى‏:‏ ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئاً‏.‏ وهذه عبارة عن قلة علمه، لا أنه لا يعلم شيئاً البتة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ليصير إلى حالة شبيهة بحالة في النسيان، وأن يعلم شيئاً ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إنْ سئل عنه‏.‏ وقيل‏:‏ لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً‏.‏ وقيل‏:‏ لئلا يعلم زيادة علم على علمه انتهى‏.‏ وانتصب شيئاً إما بالمصدر على مذهب البصريين في اختيار أعماله ما يلي للقرب، أو بيعلم على مذهب الكوفيين في اختيار أعمال ما سبق للسبق‏.‏

ولما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم، ذكر علمه وقدرته اللذين لا يتبدلان ولا يتغيران ولا يدخلهما الحوادث، ووليت صفة العلم ما جاورها من انتفاء العلم، وتقدم أيضاً ذكر مناسبة للختم بهذين الوصفين‏.‏ ولما ذكر تعالى خلقنا، ثم إماتتنا وتفاوتنا في السن، ذكر تفاوتنا في الرزق، وأن رزقنا أفضل من رزق المماليك وهم بشر مثلنا، وربما كان المملوك خيراً من المولى في العقل والدين والتصرف، وأن الفاضل في الرزق لا يساهم مملوكه فيما رزق فيساويه، وكان ينبغي أن يردّ فضل ما رزق عليه ويساويه في المطعم والملبس، كما يحكى عن أبي ذرّ أنه ريء عبده وإزاره ورداؤه مثل ردائه من غير تفاوت، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما هم أخوانكم فاكسوهم مما تلبسون واطعموهم مما تطعمون» وعن ابن عباس وقتادة‏:‏ أنّ الإخبار بقوله‏:‏ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على سبيل المثل أي‏:‏ إنّ المفضلين في الرزق لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يشرك في ألوهيته الأوثان والأصنام، ومن عبد من الملائكة وغيرهم والجميع عبيده وخلقه‏؟‏ وعن ابن عباس‏:‏ أن الآية مشيرة إلى عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ هذه الآية كقوله‏:‏ ‏{‏ضرب لكم مثلاً من أنفسكم‏}‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق، فإنما ذلك أجريه إليهم على أيديهم‏.‏ وعلى هذا القول يكون فهم فيه سواء جملة إخبار عن تساوي الجميع في أكن الله تعالى هو رازقهم، وعلى القولين الآخرين تكون الجملة في موضع جواب النفي كأنه قيل‏:‏ فيستووا‏.‏

وقيل‏:‏ هي جملة استفهامية حذف منها الهمزة التقدير‏:‏ أفهم فيه سواء أي‏:‏ ليسوا مستوين في الرزق، بل التفضيل واقع لا محالة‏.‏ ثم استفهم عن جحودهم نعمة استفهام إنكار، وأتى بالنعمة الشاملة للرزق وغيره من النعم التي لا تحصى أي‏:‏ إنّ من تفضل عليكم بالنشأة أولاً ثم مما فيه قوام حياتكم جدير بأن تشكر نعمه ولا تكفر‏.‏

وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو عبد الرحمن، والأعرج بخلاف عنه‏:‏ تجحدون بالتاء على الخطاب لقوله‏:‏ فضل، تبكيتاً لهم في جحد نعمة الله‏.‏ ولما ذكر تعالى امتنانه بالإيجاد ثم بالرزق المفضل فيه، ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإنسان مما يأنس به ويستنصر به ويخدمه، واحتمل أن أنفسكم أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم، واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، فنسب ذلك إلى بني آدم، وكلا الاحتمالين مجاز‏.‏ والظاهر أن عطف حفدة على بنين يفيد كون الجميع من الأزواج، وأنهم غير البنين‏.‏ فقال الحسن‏:‏ هم بنو ابنك‏.‏ وقال ابن عباس والأزهري‏:‏ الحفدة أولاد الأولاد، واختاره ابن العربي‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ البنون صغار الأولاد، والحفدة كبارهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بعكسه، وقيل‏:‏ البنات لأنهنّ يخدمن في البيوت أتم خدمة‏.‏ ففي هذا القول خص البنين بالذكران لأنه جمع مذكر كما قال‏:‏ ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ وإنما الزينة في الذكورة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ هم أولاد الزوجة من غير الزوج التي هي في عصمته‏.‏ وقيل‏:‏ وحفدة منصوب بجعل مضمرة، وليسوا داخلين في كونهم من الأزواج‏.‏ فقال ابن مسعود، وعلقمة، وأبو الضحى، وابراهيم بن جبير‏:‏ الأصهار، وهم قرابة الزوجة كأبيها وأخيها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم الأنصار والأعوان والخدم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الحفدة هم البنون أي‏:‏ جامعون بين البنوة والخدمة، فهو من عطف الصفات لموصوف واحد‏.‏ قال ابن عطية ما معناه‏:‏ وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجه بنين وحفدة، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس‏.‏ ويحتمل عندي أن قوله من أزواجكم، إنما هو على العموم والاشتراك أي‏:‏ من أزواج البشر جعل الله منهم البنين، ومنهم جعل الخدمة، وهكذا رتبت الآية النعمة التي تشمل العالم‏.‏ ويستقيم لفظ الحفدة على مجراها في اللغة، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة انتهى‏.‏ وفي قوله‏:‏ من أنفسكم أزواجاً دلالة على كذب العرب في اعتقادها أن الآدمي قد يتزوج من الجن ويباضعها، حتى حكوا ذلك عن عمرو بن هندانة تزوج سعلاة‏.‏

ومِن في الطيبات للتبعيض، لأن كل الطيبات في الجنة، والذي في الدنيا أنموذج منها‏.‏ والظاهر أنّ الطيبات هنا المستلذات لا الحلال، لأن المخاطبين كفار لا يتلبسون بشرع‏.‏ ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ننتفع به من جهتين، ذكر مننه بالرزق‏.‏

والطيبات عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة، ومن الحيوان‏.‏ وقيل‏:‏ الطيبات الغنائم‏.‏ وقيل‏:‏ ما أتى من غير نصب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الباطل الشيطان، ونعمة لله محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ طاعة الشيطان في الحلال والحرام‏.‏ وقيل‏:‏ ما يرجى من شفاعة الأصنام وبركتها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أفبالباطل يؤمنون وهو ما يعتقدون من مننفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، فليس لهم إيمان إلا به‏.‏ كأنه شيء معلوم مستيقن‏.‏ ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل، وتمييزهم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا تتصوره العقول‏.‏ وقيل‏:‏ الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما، ونعمة الله ما أحل لهم انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ يؤمنون بالياء، وهو توقيف للرسول صلى الله عليه وسلم على إيمانهم بالباطل، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها‏.‏ وقرأ السلمي بالتاء، ورويت عن عاصم، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم، والجملة بعد ذلك مجرد إخبار عنهم‏.‏ فالظاهر أنه لا يندرج في التقريع‏.‏ ويعبدون، استفهام أخبار عن حالهم في عبادة الأصنام، وفي ذلك تبيين لقوله‏:‏ أفبالباطل يؤمنون، نعى عليهم فساد نظرهم في عبادة ما لا يمكن أن يقع منه ما يسعى عابده في تحصيله منه وهو الرزق، ولا هو في استطاعته‏.‏ فنفى أولاً أن يكون شيء من الرزق في ملكهم، ونفى ثانياً قدرتها على أن تحاول ذلك، وما لا تملك في جميع من عبد من دون الله من ملك أو آدمي أو غير ذلك‏.‏ وأجازوا في شيئاً انتصابه بقوله‏:‏ رزقاً، أجاز ذلك أبو عليّ وغيره‏.‏ ورد عليه ابن الطراوة بأنّ الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن، والمصدر هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن‏.‏ ورد على ابن الطراوة بأنّ الرزق بالكسر يكون أيضاً مصدراً، وسمع ذلك فيه، فصح أنْ يعمل في المفعول به والمعنى‏:‏ ما لا يملك أن يرزق من السموات والأرض شيئاً‏.‏ ومن السموات متعلق إذ ذاك بالمصدر‏.‏ قال ابن عطية بعد أن ذكر أعمال المصدر منوناً‏:‏ والمصدر يعمل مضافاً باتفاق، لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية‏.‏ وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر‏:‏

ضعيف النكاية أعداءه *** البيت وقوله‏:‏

لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا *** انتهى‏.‏ أما قوله‏:‏ يعمل مضافاً بالاتفاق إنْ عنى من البصريين فصحيح، وإن عنى من النحويين فغير صحيح، لأنّ بعض النحويين ذهب إلى أنه وإن أضيف لا يعمل، وإن نصب ما بعده أو رفعه إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر‏.‏ وأما قوله‏:‏ لأنه في تقدير الانفصال ليس كذلك، لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الإضافة غير محضة، وقد قال بذلك أبو القاسم بن برهان، وأبو الحسين بن الطراوة، ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف، وتوكيده بالمعرفة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قول أخيراً‏:‏ وقد جاء عاملاً مع الألف واللام‏.‏ وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين، ومذهب سيبويه جواز أعماله‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وتقول عجبت من الضرب زيداً، كما تقول‏:‏ عجبت من الضارب زيداً، تكون الألف واللام بمنزلة التنوين‏.‏ وإذا كان رزقاً يراد به المرزوق فقالوا‏:‏ انتصب شيئاً على أنه بدل من رزقاً، كأنه قيل‏:‏ ما لا يملك لهم من السموات والأرض شيئاً، وهو البدل جارياً على جهة البيان لأنه أعم من رزق، ولا على جهة التوكيد لأنه لعمومه ليس مرادفاً، فينبغي أن لا يجوز، إذ لا يخلو البدل من أحد نوعيه هذين‏.‏ إما البيان، وإما التوكيد‏.‏ وأجازوا أيضاً أن يكون مصدراً أي‏:‏ شيئاً من الملك كقوله‏:‏ ولا تضرونه شيئاً أي شيئاً من الضرر‏.‏ وعلى هذين الإعرابين تتعلق من السموات بقوله‏:‏ لا يملك، أو يكون في موضع الصفة لرزق فيتعلق بمحذوف‏.‏

ومن السموات رزقاً يعني به المطر، وأطلق عليه رزق لأنه عنه ينشأ الرزق‏.‏ والأرض يعني‏:‏ الشجر، والثمر، والزرع‏.‏ والظاهر عود الضمير في يستطيعون على ما على معناها، لأنه يراد بها آلهتهم، بعدما عاد على اللفظ في قوله‏:‏ ما لا يملك، فأفرد وجاز أن يكون داخلاً في صلة ما، وجاز أنْ لا يكون داخلاً، بل إخبار عنهم بانتفاء الاستطاعة أصلاً، لأنهم أموات‏.‏ وأما قول الزمخشري‏:‏ إنه يراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة التوكيد فليس كما ذكر، لأنّ نفي الملك مغاير لنفي الاستطاعة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ولا يستطيعون أن يرزقوا أنفسهم‏.‏ وجوز الزمخشري وابن عطية‏:‏ أن يعود الضمير على ما عاد عليه في قوله‏:‏ ويعبدون، وهم الكفار أي‏:‏ ولا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب من ذلك شيئاً، فكيف بالجماد الذي لا حس به‏؟‏ قاله الزمخشري‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها انتهى‏.‏

ونهى تعالى عن ضرب الأمثال لله، وضرب الأمثال تمثيلها والمعنى هنا‏:‏ تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالاً بحال‏.‏ وقصة بقصة من قولهم‏:‏ هذا ضرب لهذا أي‏:‏ مثل، والضرب النوع‏.‏ تقول‏:‏ الحيوان على ضروب أي أنواع، وهذا من ضرب واحد أي‏:‏ من نوع واحد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ معناه لا تشبهوه بخلقه انتهى‏.‏ وقال‏:‏ إن الله يعلم أثبت العلم لنفسه، والمعنى‏:‏ أنه يعلم ما تفعلون من عبادة غيره والإشراك به، وعبر عن الجزاء بالعلم‏:‏ وأنتم لا تعلمون كنه ما أقدمتم عليه، ولا وبال عاقبته، فعدم علمكم بذلك جركم وجرأكم وهو كالتعليل للنهي عن الإشراك‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد أنّ الله يعلم كيف نضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون انتهى‏.‏ وقاله ابن السائب قال‏:‏ يعلم بضرب المثل، وأنتم لا تعلمون ذلك‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعلم أنه ليس له شريك، وأنتم لا تعلمون ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 79‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

الكَل‏:‏ الثقيل، وقد يسمى اليتيم كلاًّ لثقله على من يكفله‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

أكول لمال الكل قبل شبابه *** إذا كان عظم الكل غير شديد

والكل أيضاً الذي لا ولد له ولا والد، والكل العيال، والجمع كلول‏.‏ اللمح‏:‏ النظر بسرعة، لمحه لمحاً ولمحاناً‏.‏ الجو‏:‏ مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل‏:‏ هو ما يلي الأرض في سمت العلو، واللوح والسكاك أبعد منه‏.‏

‏{‏ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏‏:‏ مناسبة ضرب هذا المثل أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله غيره وهو لا يجلب نفعاً ولا ضراً لنفسه ولا لعابده، ضرب لهم مثلاً قصة عبد في ملك غيره، عاجز عن التصرف، وحر غني متصرف فيما آتاه الله‏.‏ فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد، ومشتركين في الإنسانية، فكيف تشركون بالله وتسوون به من مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره، مع تباين الأوصاف‏.‏ وأنّ موجد الوجود لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه، ولا يمكن لعاقل أن يشبه به غيره‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هذا مثل لله وللأصنام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ للمؤمن والكافر فالكافر العبد المملوك لا ينتفع بعبادته في الآخرة، ومن رزقناه المؤمن‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ مثل للبخيل والسخي انتهى‏.‏

ولما كان لفظ عبد قد يطلق على الحر، خصص بمملوك‏.‏ ولما كان المملوك قد يكون له تصرف وقدرة كالمأذون له والمكاتب، خصص بقوله‏:‏ لا يقدر على شيء، والمعنى‏:‏ على شيء من التصرف في المال، لأنه يقدر على أشياء من حركاته‏:‏ كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، والنوم، وغير ذلك‏.‏ والظاهر كون ومن موصولة أي‏:‏ والذي رزقناه، ودلت الصلة وما عطف على أنه يراد به الحر‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ موصوفة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ الظاهر أنها موصوفة كأنه قال‏:‏ وحراً رزقناه ليطابق عبداً، ولا يمتنع أن تكون موصولة‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ مَن بمعنى الذي، ولا يقتضي ضرب المثل لشخصين موصوفين بأوصاف متباينة تعيينهما، بل ما روي في تعيينهما من أنهما‏:‏ عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد له أو أنهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأبو جهل، لا يصح إسناده‏.‏

وجمع الضمير في يستوون ولم يثن لسبق اثنين، لأن مَن يحتمل أن يراد بها الجمع فيصير إذ ذاك جمع الضمير لانتظام العبد المملوك والأغنياء في الجمع، وكأنه قيل‏:‏ عبداً مملوكاً‏.‏ والملاك المرزوقون المنفقون‏.‏ ويحتمل أن يراد بعبداً مملوكاً الجنس، فيصلح عود الضمير جمعاً عليه، وعلى جنس الأغنياء‏.‏ ويحتمل أن يعود على العبيد والأحرار وإن لم يجر للجمعين ذكر، لدلالة عبد مملوك ومن رزقناه عليهما‏.‏

قل‏:‏ الحمد لله، الظاهر أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون خطاباً لمن رزقه الله، أمره أن يحمد الله على أنّ ميزه بهذه القدرة على ذلك الضعيف‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الحمد لله شكر على بيان الأمر بهذا المثل، وعلى إذعان الخصم له كما تقول لمن أذعن لك في حجة وسلم تبنى أنت عليه، قولك‏:‏ الله أكبر على هذا يكون كذا وكذا، فلما قال هنا‏:‏ هل يستوون، فكأن الخصم قال له‏:‏ لا، فقال‏:‏ الحمد لله ظهرت الحجة انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ الحمد لله أي‏:‏ هو المستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه، إذ لا نعمة للأصنام عليهم فتحمد عليها، إنما الحمد الكامل لله لأنه المنعم الخالق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد‏.‏ والظاهر نفي العلم عن أكثرهم، لأنّ منهم من بان له الحق ورجع إليه، أو أكثر الخلق لأن الأكثر هم المشركون‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به العموم أي‏:‏ بل هم لا يعلمون‏.‏ ومتعلق يعلمون محذوف، إما لأنّ المعنى نفي العلم عن الأكثر ولم يلحظ متعلقه، وإما لأنه محذوف يترتب على الأقوال التي سببها قوله الحمد لله‏.‏

وضرب الله مثلاً رجلين أي قصة رجلين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع‏.‏ والأبكم الذي ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم‏.‏ وهو كلٌّ على مولاه أي‏:‏ ثقيل، وعيال على من يلي أمره ويعوله‏.‏ أينما يوجهه‏:‏ حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح‏.‏ هل يستوي هو، ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة، فهو يأمر الناس بالعدل، وهو في نفسه على صراط مستقيم على سيرة صالحة، ودين قويم انتهى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أحدهما أبكم مثل للكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هذا مثل لله تعالى، والأصنام فهي الأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء، وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق، كما الأصنام تحتاج أن تنقل وتخدم ويتعذب بها، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة‏.‏

وعن قتادة أيضاً وغيره‏:‏ هذا مثل ضربه الله لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، وهذا ليس كذلك لأنه قال‏:‏ مثلاً رجلين، فلا بد أن يكون عديل الأبكم الموصوف بتلك الصفات، ومقابله رجل موصوف بما يقابل تلك الصفات من النطق والقدرة والكفاية، ولكنه حذف المقابل لدلالة مقابله عليه، ثم قيل‏:‏ هل يستوي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات، وهذا الناطق‏:‏ ففي ذكر استوائهما أيضاً دليل على حذف المقابل‏.‏ ولما كان البكم هو المبدأ به من الأوصاف، وعنه تكون الأوصاف التي بعده قابلة في الاستواء بالنطق، وثمرته من الأمر بالعدل غيره وهو في نفسه على طريقة مستقيمة، فحيثما توجه صدر منه الخبر ونفع، وليس بكالّ على أحد‏.‏ وقد تقرر في بداية العقول أنّ الأبكم العاجز لا يكون مساوياً في العقل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية، فلأن يحكم بأنّ الجماد لا يكون مساوياً لرب العالمين في المعبودية أحرى وأولى‏.‏ وكما قلنا في المثل السابق‏:‏ لا يحتاج إلى تعيين المضروب بهما المثل، فكذلك هنا، فتعيين الأبكم بأبي جهل، والآمر بالعدل‏:‏ بعمار، أو بأبيّ بن خلف، وعثمان بن مظعون، أو بهاشم بن عمرو بن الحرث كان يعادي الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصح إسناده‏.‏

وقرأ عبد الله، وعلقمة، وابن وثاب، ومجاهد، وطلحة يوجه بهاء واحدة ساكنة مبنياً، وفاعله ضمير يعود عليى مولاه، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه‏.‏ ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الأبكم، ويكون الفعل لازماً وجه بمعنى توجه، كان المعنى‏:‏ أينما يتوجه‏.‏ وعن عبد الله أيضاً‏:‏ توجهه بهاءين، بتاء الخطاب، والجمهور بالياء والهاءين‏.‏ وعن علقمة وابن وثاب، وطلحة، يوجه بهاء، واحدة ساكنة، والفعل مبني للمفعول‏.‏ وعن علقمة، وطلحة‏:‏ يوجه بكسر الجيم وهاء واحدة مضمومة‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ فإنْ صح ذلك فإنّ الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فراراً من التضعيف، ولأن اللفظ به صعب مع التضعيف، أو لم يرد به الشرط، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه، وقد حذف منه ضمير المفعول به، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو‏:‏ يوم يأت‏.‏ وإذا يسر انتهى‏.‏ ولا يخرج أين عن الشرط أو الاستفهام‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ هذه القراءة ضعيفة، لأن الجزم لازم انتهى‏.‏ والذي توجه عليه هذه القراءة إن صحت أنّ أينما شرط حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية، ثم حذفت الياء من لا يأت تخفيفاً، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه، فهو فعل لازم لا متعد‏.‏

ثم ذكر تعالى أنه له غيب السموات والأرض، وهو ما غاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه‏.‏ والظاهر اتصاله بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ أخبر باستئثاره بعلم غيب السموات والأرض، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب، والمعنى بهذا الإخبار‏:‏ أنّ الآلهة التي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما‏:‏ العلم المحيط بالمغيبات، والقدرة البالغة التامّة‏.‏ ومن ذكر أنّ قوله‏:‏ ومن يأمر بالعدل هو الله تعالى، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأنّ من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة، فبين ذلك بهذه الجملة‏.‏ قيل‏:‏ والغيب هنا ما لا يدرك بالحس، ولا يفهم بالعقل‏.‏ وقال المفضل‏:‏ ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو أراد بغيب السموات والأرض يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم‏.‏ قيل‏:‏ لما كانت الساعة آتية ولا بد، جعلت من القرب كلمح البصر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لم يرد أنّ الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي‏:‏ يقول للشيء كن فيكون‏.‏ وقيل‏:‏ هذا تمثيل للقرب كما تقول‏:‏ ما السنة إلا لحظة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو عند الله وإن تراخى، كما يقولون أنتم في الشيء التي تستقربونه‏:‏ كلمح البصر، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب‏}‏ ‏{‏ولن يخلف الله وعده‏}‏ ‏{‏وأن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدُّون‏}‏ أي هو عنده دان، وهو عندكم بعيد‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنّ إقامة الساعة وإماتة الأحياء، وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت أوحاه‏.‏ أنّ الله على كل شيء قدير، فهو يقدر على أنْ يقيم الساعة، ويبعث الخلق، لأنه بعض المقدورات‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والمعنى على ما قال قتادة وغيره، وما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها‏:‏ كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر‏؟‏ أو هي أقرب من ذلك‏؟‏ فأو على هذا على بابها في الشك‏.‏ وقيل‏:‏ هي للتخيير انتهى‏.‏ والشك والتخيير بعيدان، لأنّ هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة، فالشك مستحيل عليه‏.‏ ولأنّ التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم‏:‏ خذ من مالي ديناراً أو درهماً، أو في التكليفات كآية الكفارات‏:‏ ‏{‏والذين يظاهرون‏}‏ وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً‏}‏ وهو تعالى قد علم عددهم، ومتى يأتيها أمره، كما علم أمر الساعة، لكنه أبهم على المخاطب‏.‏ وكون أو هنا للإبهام ذكره الزجاج هنا‏.‏

وقال القاضي‏:‏ هذا لا يصح، لأنّ إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال‏:‏ إنه تعالى يأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان، وليس زمان تكليف‏.‏ والذي نقوله‏:‏ إن الإبهام وقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة، لا وقت الإتيان بها‏.‏ وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عن شيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء، ألا ترى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏ كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لمح البصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركب من آناء متعاقبة، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏أو هو أقرب‏}‏ ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره، ثم قال‏:‏ أو هو أقرب تنبيهاً على ما ذكرناه، وليس المراد طريقة الشك، والمراد بل هو أقرب انتهى‏.‏ وفيه بعض تلخيص‏.‏ وما ذكره من أنّ أو بمعنى بل، هو قول الفراء، ولا يصح لأنّ الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا‏.‏ أما أحدهما‏:‏ فإن يكون إبطالاً للإسناد السابق، وأنه ليس هو المراد، وهذا مستحيل هنا، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون انتقالاً من شيء إلى شيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة، والإخبار بالأقربية، فلا يمكن صدقهما معاً‏.‏ وقال صاحب الغنيان‏:‏ وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم‏.‏ وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى‏:‏

قال له البرق وقالت له الريح *** جميعاً وهما ما هما

أأنت تجري معنا قال إن *** نشطت أضحكتكما منكما

أنا ارتداد الطرف قد فته *** إلى المدى سبقاً فمن أنتما

ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة‏.‏ وتقدم وصفهم بانتفاء العلم، ذكر تعالى النشأة الأولى وهي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئاً، تنبيهاً على وقوع النشأة الآخرة‏.‏ ثم ذكر تعالى امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم، ولما كانت النشأة الأولى، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال‏:‏ لعلكم تشكرون، وتقدّم الكلام في أمهات في النساء‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ بكسر الهمزة، والميم هنا وفي النور، والزمر، والنجم، والكسائي بكسر الهمزة فيهن، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ حذف الهمزة رديء، ولكنّ قراءة ابن أبيّ أصوب انتهى‏.‏

وإنما كانت أصوب لأنّ كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقرّ الميم على حركتها‏.‏ ولا تعلمون جملة حالية أي‏:‏ غير عالمين‏.‏ وقالوا‏:‏ لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، أو شيئاً مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة، أو شيئاً من منافعكم‏.‏ والأولى عموم لفظ شيء، ولا سيما في سياق النفي‏.‏ وقال وهب‏:‏ يولد المولود حذراً إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألماً‏.‏ ويحتمل وجعل أن يكون معطوفاً على أخرجكم، فيكون واحداً في حيز خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفاً على الجملة الابتدائية كاستئنافها‏.‏

والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها، فعبر عن ذلك بالآية‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه‏:‏ إنما جمع الفؤاد جمع قلة، لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية اليقينية، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية، فكان فؤادهم ليس بفؤاد، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصاً‏.‏ وهو قول هذياني، ولولا جلاله قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري‏:‏ أنه من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة والقلة، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء‏:‏ شسوع في جمع شسع لا غير، فجرى ذلك المجرى انتهى‏.‏ إلا أنّ دعوى الزمخشري أنه لم يجيء في جمع شسع إلا شسع لا غير، ليس بصحيح، بل جاء فيه جمع القلة قالوا‏:‏ أشساع، فكان ينبغي له أن يقول‏:‏ غلب شسوع‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، وطلحة، والأعمش، وابن هرمز‏:‏ ألم تروا بتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ واختلف عن الحسن، وعيسى الثقفي، وعاصم، وأبي عمرو‏.‏ ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة‏:‏ السمع، والنظر، والعقل، والأوّلان مدرك المحسوس، والثالث مدرك المعقول، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك‏.‏ وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به‏.‏ وتضمنت الآية أيضاً ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط، إذ ليس تحته ما يدعمه، ولا فوقه ما يتعلق به، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير‏}‏ فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل‏.‏ ومعنى مسخرات‏:‏ مذللات، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخراً‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته، فإنه تعالى خلق الطائر خلقه معها يمكنه الطيران، أعطاه جناحاً يبسطه مرة، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجو خلقه معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً انتهى‏.‏

وكلامه منتزع من كلام القاضي قال‏:‏ إنما أضاف الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى‏.‏ والذي نقوله‏:‏ إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى‏.‏ وقد قام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة لله، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار، فلا نقول‏:‏ إنه لولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران، ولا لولا الآلات ما أمكن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ما يوافق كلامهما قال‏:‏ مسخرات، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، والأسباب المواتية لذلك‏.‏ ثم أحسن أخيراً في قوله‏:‏ ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى‏.‏ لآيات‏:‏ جمع ولم يفرد، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل، والفضاء الذي بين السماء والأرض، والإمساك الذي لله تعالى، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال‏:‏ لقوم يؤمنون، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله، فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن‏.‏