فصل: تفسير الآيات رقم (30- 31)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى حال أهل الكفر وما أعد لهم في النار ذكر حال أهل الإيمان وما أعد لهم في الجنة، وخبر ‏{‏إن‏}‏ يحتمل أن تكون الجملة من قوله أولئك لهم‏.‏ وقوله ‏{‏إنّا لا نضيع‏}‏ الجملة اعتراض‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر‏:‏

إن الخليفة إن الله ألبسه *** سربال ملك به ترجى الخواتيم

انتهى، ولا يتعين في قوله إن الله ألبسه أن يكون اعتراضاً هي اسم إن وخبرها الذي هو ترجى الخواتيم، يجوز أن يكون إن الله ألبسه هو الخبر، ويحتمل أن يكون الخبر قوله ‏{‏إنّا لا نضيع أجر‏}‏ والعائد محذوف تقديره ‏{‏من أحسن عملاً‏}‏ منهم‏.‏ أو هو قوله ‏{‏من أحسن عملاً‏}‏ على مذهب الأخفش في ربطه الجملة بالاسم إذا كان هو المبتدأ في المعنى، لأن ‏{‏من أحسن عملاً‏}‏ هم ‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ فكأنه قال‏:‏ إنّا لا نضيع أجرهم، ويحتمل أن تكون الجملتان خبرين لأن على مذهب من يقتضي المبتدأ خبرين فصاعداً من غير شرط أن يكونا، أو يكن في معنى خبر‏.‏ واحد‏.‏

وإذا كان خبر ‏{‏إن‏}‏ قوله ‏{‏إنّا لا نضيع‏}‏ كان قوله ‏{‏أولئك‏}‏ استئناف اخبار موضح لما انبهم في قوله ‏{‏إنّا لا نضيع‏}‏ من مبهم الجزاء‏.‏ وقرأ عيسى الثقفي ‏{‏لا نضيع‏}‏ من ضيع عداه بالتضعيف، والجمهور من أضاع عدوّه بالهمزة، ولما ذكر مكان أهل الكفر وهو النار‏.‏ ذكر مكان أهل الإيمان وهي ‏{‏جنات عدن‏}‏ ولما ذكر هناك ما يغاثون به وهو الماء كالمهل ذكر هنا ما خص به أهل الجنة من كون الأنهار تجري من تحتهم، ثم ذكر ما أنعم عليهم من التحلية واللباس اللذين هما زينة ظاهرة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ يحلى كل واحد ثلاثة أساور سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ ويواقيت‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ و‏{‏من‏}‏ الأول للابتداء والثانية للتبيين، وتنكير ‏{‏أساور‏}‏ لإبهام أمرها في الحسن انتهى‏.‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من ذهب‏}‏ للتبعيض لا للتبيين‏.‏ وقرأ أبان عن عاصم من اسورة من غير ألف وبزيادة هاء وهو جمع سوار‏.‏ وقرأ أيضاً أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر‏:‏ ‏{‏ويلبسون‏}‏ بكسر الباء‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏واستبرق‏}‏ بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلاً ماضياً على وزن استفعل من البريق، ويكون استفعل فيه موافقاً للمجرد الذي هو برق كما تقول‏:‏ قر واستقر بفتح القاف ذكره الأهوازي في الإقناع عن ابن محيصن‏.‏ قال ابن محيصن‏.‏ وحده‏:‏ ‏{‏واستبرق‏}‏ بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه انتهى‏.‏ فظاهره أنه ليس فعلاً ماضياً بل هو اسم ممنوع الصرف‏.‏ وقال ابن خالويه‏:‏ جعله استفعل من البريق ابن محيصن فظاهره أنه فعل ماض وخالفهما صاحب اللوامح‏.‏

قال ابن محيصن‏:‏ ‏{‏واستبرق‏}‏ بوصل الهمزة في جميع القرآن فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس، ويجوز أنه جعله عربية من برق يبرق بريقاً‏.‏ وذلك إذا تلالأ الثوب لجدته ونضارته، فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما تسمى به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة، ومعاملة المتمكنة من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنه عربية وليس بمستعرب دخل في كلامهم فأعربوه انتهى‏.‏

ويمكن أن يكون القولان روايتين عنه فتح القاف وصرفه التنوين، وذكر أبو الفتح بن جنيّ قراءة فتح القاف، وقال‏:‏ هذا سهو أو كالسهو انتهى‏.‏ وإنما قال ذلك لأنه جعله اسماً ومنعه من الصرف لا يجوز لأنه غير علم، وقد أمكن جعله فعلاً ماضياً فلا تكون هذه القراءة سهواً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وجمع بين السندس وهو ما رقَّ من الديباج، وبين الاستبرق وهو الغليظ منه جمعاً بين النوعين، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب، وفي القيمة أغلى، وفي العين أحلى، وبناء فعله للمفعول الذي لم يسم فاعله إشعاراً بأنهم يكرمون بذلك ولا يتعاطون ذلك بأنفسهم كما قال الشاعر‏:‏

غرائر في كن وصون ونعمة *** تحلين ياقوتاً وشذراً مفقرا

وأسند اللباس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصاً لو كان بادي العورة، ووصف الثياب بالخضرة لأنها أحسن الألوان والنفس تنبسط لها أكثر من غيرها، وقد روي في ذلك أثر إنها تزيد في ضوء البصر وقال بعض الأدباء‏:‏

أربعة مذهبة لكل هم وحزن *** الماء والخضرة والبستان والوجه الحسن

وخص الاتكاء لأنها هيئة المنعمين والملوك على أسرَّتهم‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ ‏{‏على الأرائك‏}‏ بنقل الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على ‏{‏فيها‏}‏ فتنحذف ألف ‏{‏على‏}‏ لتوهم سكون لام التعريف والنطق به علرائك ومثله قول الشاعر‏:‏

فما أصبحت علرض نفس برية *** ولا غيرها إلاّ سليمان بالها

يريد على الأرض، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الثواب ما وعدوا به، والضمير في ‏{‏حسنت‏}‏ عائد على الجنات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 36‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

حفه‏:‏ طاف به من جوانبه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

يحفه جانباً نيق ويتبعه *** مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد

وحففته به‏:‏ جعلته مطيفاً به، وحف به القوم صاروا في حفته، وهي جوانبه‏.‏ كلتا‏:‏ اسم مفرد اللفظ عند البصريين مثنى المعنى ومثنى لفظاً، ومعنى عند البغداديين وتاؤه عند البصريين غير الجرمي بدل من واو فاصله كلوى، والألف فيه للتأنيث وزائدة عند الجرمي، والألف منقلبة عن أصلها ووزنها عنده فعيل‏.‏ المحاورة‏:‏ مراجعة الكلام من حار إذا رجع‏.‏ البيدودة الهلاك، ويقال منه‏:‏ باد يبيد بيوداً وبيدودة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلئن باد أهله *** لبما كان يوهل

‏{‏واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً‏}‏‏.‏

قيل نزلت في أخوين من بني مخزوم الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل وكان كافراً، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود كان مؤمناً‏.‏ وقيل‏:‏ اخوان من بني إسرائيل فرطوس وهو الكافر وقيل‏:‏ اسمه قطفير، ويهوذا وهو المؤمن في قول ابن عباس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ اسمه تمليخا وهو المذكور في الصافات في قوله ‏{‏قال قائل منهم إني كان لي قرين‏}‏ وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله‏.‏ وعن مكي أنهما رجلان من بني إسرائيل اشتركاً في مال كافر ستة آلاف فاقتسماها‏.‏ وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالاً‏.‏ وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فاشترى الكافر أرضاً بألف وبني داراً بألف وتزوج امرأة بألف واشترى خدماً ومتاعاً بألف، واشترى المؤمن أرضاً في الجنة بألف فتصدق به، وجعل ألفاً صداقاً للحور فتصدق به، واشترى الولدان المخلدين بألف فتصدق به، ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله‏.‏

والضمير في ‏{‏لهم‏}‏ عائد على المتجبرين الطالبين من الرسول صلى الله عليه وسلم طرد الضعفاء المؤمنين، فالرجل الكافر بإزاء المتجبرين والرجل المؤمن بإزاء ضعفاء المؤمنين، وظهر بضرب هذا المثل الربط بين هذه الآية والتي قبلها إذ كان من أشرك إنما افتخر بماله وأنصاره، وهذا قد يزول فيصير الغني فقيراً، وإنما المفاخرة بطاعة الله والتقدير ‏{‏واضرب لهم مثلاً‏}‏ قصة ‏{‏رجلين‏}‏ وجعلنا تفسير للمثل فلا موضع له من الإعراب، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً لرجلين‏.‏

وأبهم في قوله ‏{‏جعلنا لأحدهما‏}‏ وتبين أنه هو الكافر الشاك في البعث، وأبهم تعالى مكان الجنتين إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة‏.‏ وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين وكانتا الأخوين، فباع أحدهما نصيبه من الآخر وأنفقه في طاعة الله حتى عيره الآخر، وجرت بينهما هذه المحاورة قال‏:‏ فغرقها الله في ليلة وإياهما عنى بهذه الآية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله فإن المرء لا يكاد يتخيل أجل منهما في مكاسب الناس جنتا عنب أحاط بهما نخل بينهما فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب والماء المعين، يسقى جميع ذلك من النهر‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏جنتين من أعناب‏}‏ بساتين من كروم، ‏{‏وحففناهما‏}‏ ‏{‏بنخل وجعلنا‏}‏ النخل محيطاً بالجنتين، وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏كلتا الجنتين‏}‏ وفي مصحف عبد الله كلا الجنتين، أتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي، ثم قرأ ‏{‏آتت‏}‏ فأنث لأنه ضمير مؤنث، فصار نظير قولهم طلع الشمس وأشرقت‏.‏ وقال الفراء في قراءة ابن مسعود‏:‏ كل الجنتين آتى أكله انتهى فأعاد الضمير على كل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ جعلها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه، ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينهما مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق، ونعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب، فجعله أفضل ما يسقى به وهو السيح بالنهر الجاري فيها والأكل الثمر‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وفجرّنا‏}‏ بتشديد الجيم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنما شدد ‏{‏وفجرّنا‏}‏ وهو نهر واحد لأن النهر يمتد فكان التفجر فيه كله أعلم الله تعالى أن شربهما كان من نهر واحد وهو أغزر الشرب‏.‏ وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر بتخفيف الجيم وكذا قرأ الأعمش في سورة القمر، والتشديد في سورة القمر أظهر لقوله ‏{‏عيوناً‏}‏ وقوله هنا ‏{‏نهراً‏}‏ وانتصب ‏{‏خلالهما‏}‏ على الظرف أي وسطهما، كان النهر يجري من داخل الجنتين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏نهراً‏}‏ بفتح الهاء‏.‏ وقرأ أبو السمال والفياض بن غزوان وطلحة بن سليمان بسكون الهاء‏.‏ وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وجماعة قراء المدينة‏:‏ ‏{‏ثمر‏}‏ وبثمره بضم الثاء والميم جمع ثمار‏.‏ وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بإسكان الميم فيهما تخفيفاً أو جمع ثمرة كبدنة وبدن‏.‏ وقرأ أبو جعفر والحسن وجابر بن زيد والحجاج وعاصم وأبو حاتم ويعقوب عن رويس عنه بفتح الثاء والميم فيهما‏.‏ وقرأ رويس عن يعقوب ‏{‏ثمر‏}‏ بضمهما وبثمره بفتحهما فيمن قرأ بالضم‏.‏ قال ابن عباس وقتادة الثمر جميع المال من الذهب والحيوان وغير ذلك‏.‏ وقال النابغة‏:‏

مهلاً فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمروا من مال ومن ولد

وقال مجاهد‏:‏ يراد بها الذهب والفضة خاصة‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ هي الأصول فيها الثمر‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ الثمر المال، فعلى هذا المعنى أنه كانت له إلى الجنتين أموال كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما، فكان متمكناً من عمارة الجنتين‏.‏ وأما من قرأ بالفتح فلا إشكال أنه يعني به حمل الشجر‏.‏ وقرأ أبو رجاء في رواية ‏{‏ثمر‏}‏ بفتح الثاء وسكون الميم، وفي مصحف أُبيّ وآتيناه ثمراً كثيراً، وينبغي أن يجعل تفسيراً‏.‏

ويظهر من قوله ‏{‏فقال لصاحبه‏}‏ أنه ليس أخاه، ‏{‏وهو يحاوره‏}‏ جملة حالية، والظاهر أن ذا الحال هو القائل أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث، وفي إشراكه بالله‏.‏ وقيل‏:‏ هي حال من صاحبه أي المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الله وإلى الإيمان بالبعث، والظاهر كون أفعل للتفضيل وأن صاحبه كان له مال ونفر ولم يكن سبروتاً كما ذكر أهل التاريخ، وأنه جاء يستعطيه ويدل على ذلك كونه قابله بقوله ‏{‏إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً‏}‏ وهذا على عادة الكفار في الافتخار بكثرة المال وعزة العشيرة والتكبر والاغترار بما نالوه من حطام الدنيا، ومقالته تلك لصاحبه بإزاء مقالة عيينة والأقرع للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ نحن سادات العرب وأهل الوبر والمدر، فنحِّ عنا سلمان وقرناءه‏.‏

وعنى بالنفر أنصاره وحشمه‏.‏ وقيل‏:‏ أولاداً ذكوراً لأنهم ينفرون معه دون الإناث، واستدل على أنه لم يكن أخاه بقوله‏:‏ ‏{‏وأعز نفراً‏}‏ إذ لو كان أخاه لكان نفره وعشيرته نفر أخيه وعشيرته، وعلى التفسيرين السابقين لا يرد هذا‏.‏ أما من فسر النفر بالعشيرة التي هي مشتركة بينهما فيرد، وأفرد الجنة في قوله ‏{‏ودخل جنته‏}‏ من حيث الوجود كذلك لأنه لا يدخلهما معاً في وقت واحد‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم أفرد الجنة بعد التثنية‏؟‏ قلت‏:‏ معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما انتهى‏.‏

ولا يتصور ما قال لأن قوله ودخل جنته إخبار من الله تعالى بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أن قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقت واحد، والمعنى ‏{‏ودخل جنته‏}‏ يري صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن‏.‏ ‏{‏وهو ظالم لنفسه‏}‏ جملة حالية أي وهو كافر بنعمة ربه مغتر بما ملكه شاك في نفاد ما خوله‏.‏ وفي البعث الذي حاوره فيه صاحبه، والظاهر أن الإشارة بقوله ‏{‏هذه‏}‏ إلى الجنة التي دخلها، وعنى بالأبد أبد حياته وذلك لطول أمله وتمادي غفلته، ولحسن قيامه عليها بما أوتي من المال والخدم فهي باقية مدة حياته على حالها من الحسن والنضارة، والحس يقتضي أن أحوال الدنيا بأسرها غير باقية أو يكون قائلاً بقدم العالم، وأن ما حوته هذه الجنة إن فنيت أشخاص أثمارها فتخلفها أشخاص أخر، وكذا دائماً‏.‏

ويبعد قول من قال‏:‏ يحتمل أن يشير بهذه إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواع المخلوقات، ودل كلامه على أن المحاورة التي كانت بينهما هي في فناء هذا العالم الذي هذه الجنة جزء منه، وفي البعث الأخروي أن صاحبه كان تقرر له هذان الأمران وهو يشك فيهما‏.‏

ثم أقسم على أنه إن رد إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وقياس الأخرى على الدنيا وكما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا تطمعاً، وتمنياً على الله، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين في الدنيا إلاّ لاستحقاقه، وأن معه هذا الاستحقاق أين توجه كقوله ‏{‏إن لي عنده للحسنى‏}‏ وأما ما حكى الله تعالى عما قاله العاص بن وائل لأوتين مالاً وولداً فليس على حد مقالة هذا لصاحبه لأن العاصي قصد الاستخفاف وهو مصمم على التكذيب، وهذا قال ما معناه إن كان ثم رجوع فسيكون حالي كذا وكذا‏.‏ وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر منهما على التثنية وعود الضمير على الجنتين، وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام‏.‏ وقرأ الكوفيون وأبو عمرو ‏{‏منها‏}‏ على التوحيد وعود الضمير على الجنة المدخولة وكذا في مصاحف الكوفة والبصرة، ومعنى ‏{‏منقلباً‏}‏ مرجعاً وعاقبة أي منقلب الآخرة لبقائها خير من منقلب الدنيا لزوالها، وانتصب ‏{‏منقلباً‏}‏ على التمييز المنقول من المبتدأ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 44‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

النطفة القليل من الماء، يقال ما في القربة من الماء نطفة، المعنى ليس فيها قليل ولا كثير، وسمِّي المني نطفة لأنه ينطف أي يقطر قطرة بعد قطرة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «جاء ورأسه ينطف ماء» أي يقطر‏.‏ الحسبان في اللغة الحساب، ويأتي أقوال أهل التفسير فيه‏.‏ الزلق‏:‏ ما لا يثبت فيه القدم من الأرض‏.‏

‏{‏قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً لكنّا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً وأحيط بثمرة فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عقباً‏}‏‏.‏

‏{‏وهو يحاوره‏}‏ حال من الفاعل وهو صاحبه المؤمن‏.‏ وقرأ أُبيّ وهو يخاصمه وهي قراءة تفسير لا قراءة رواية لمخالفته سواد المصحف، ولأن الذي روي بالتواتر ‏{‏هو يحاوره‏}‏ لا يخاصمه‏.‏ و‏{‏أكفرت‏}‏ استفهام إنكار وتوبيخ حيث أشرك مع الله غيره‏.‏ وقرأ ثابت البناني‏:‏ ويلك ‏{‏أكفرت‏}‏ وهو تفسير معنى التوبيخ والإنكار لا قراءة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم نبهه على أصل نشأته وإيجاده بعد العدم وأن ذلك دليل على جواز البعث من القبور، ثم تحتم ذلك بإخبار الصادقين وهم الرسل عليهم السلام‏.‏ وقوله ‏{‏خلقك من تراب‏}‏ إما أن يراد خلق أصلك ‏{‏من تراب‏}‏ وهو آدم عليه السلام وخلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له، أو أريد أن ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب، فنبهه أولاً على ما تولد منه ماء أبيه ثم ثانيه على النطفة التي هي ماء أبيه‏.‏ وأما ما نقل من أن ملَكاً وكلّ بالنطفة يلقي فيها قليلاً من تراب قبل دخولها في الرحم فيحتاج إلى صحة نقل‏.‏

ثم نبهه على تسويته رجلاً وهو خلقه معتدلاً صحيح الأعضاء، ويقال للغلام إذا تمّ شبابه قد استوى‏.‏ وقيل‏:‏ ذكره بنعمة الله عليه في كونه رجلاً ولم يخلقه أنثى، نبهه بهذه التنقلات على كمال قدرته وأنه لا يعجزه شيء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏{‏سواك‏}‏ عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال، جعله كافراً بالله جاحداً لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافراً انتهى‏.‏ وانتصب ‏{‏رجلاً‏}‏ على الحال‏.‏ وقال الحوفي ‏{‏رجلاً‏}‏ نصب بسوى أي جعلك ‏{‏رجلاً‏}‏ فظاهره أنه عدى سوى إلى اثنين، ولما لم يكن الاستفهام استفهام استعلام وإنما هو استفهام إنكار وتوبيخ فهو في الحقيقة تقرير على كفره وإخبار عنه به لأن معناه قد كفرت بالذي استدرك هو مخبراً عن نفسه، فقال ‏{‏لكنا هو الله ربي‏}‏ إقرار بتوحيد الله وأنه لا يشرك به غيره‏.‏

وقرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون لكن بتشديد النون بغير ألف في الوصل وبألف في الوقف وأصله، ولكن أنا نقل حركة الهمزة إلى نون ‏{‏لكن‏}‏ وحذف الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر‏.‏ وقيل‏:‏ حذف الهمزة من أنا على غير قياس فالتقت نون ‏{‏لكن‏}‏ وهي ساكنة مع نون أنا فأدغمت فيها، وأما في الوقف فإنه أثبت ألف أنا وهو المشهور في الوقف على أنا، وأما في الوصل فالمشهور حذفها وقد أبدلها ألفاً في الوقف أبو عمر وفي رواية فوقف لكنه ذكره ابن خالويه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وروى هارون عن أبي عمر ولكنه ‏{‏هو الله ربي‏}‏ بضمير لحق ‏{‏لكن‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيلي وزيد بن عليّ والحسن والزهري وأبو بحرية ويعقوب في رواية وأبو عمر وفي رواية وكردم وورش في رواية وأبو جعفر بإثبات الألف وقفاً ووصلاً، أما في الوقف فظاهر، وأما في الوصل فبنو تميم يثبتونها فيه في الكلام وغيرهم في الاضطرار فجاء على لغة بني تميم‏.‏ وعن أبي جعفر حذف الألف وصلاً ووقفاً وذلك من رواية الهاشمي، ودل إثباتها في الوصل أيضاً على أن أصل ذلك ‏{‏لكن‏}‏ أنا‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وحسن ذلك يعني إثبات الألف في الوصل وقوع الألف عوضاً من حذف الهمزة انتهى‏.‏ ويدل على ذلك أيضاً قراءة فرقة لكننا بحذف الهمزة وتخفيف النونين‏.‏ وقال أيضاً الزمخشري ونحوه يعني ونحو إدغام نون ‏{‏لكن‏}‏ في نون أما بعد حذف الهمزة قول القائل‏:‏

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب *** وتقلينني لكن إياك لا أقلي

أي لكن أنا لا أقليك انتهى‏.‏ ولا يتعين ما قاله في البيت لجواز أن يكون التقدير لكنني فحذف اسم لكن وذكروا أن حذفه فصيح إذا دل عليه الكلام، وأنشدوا على ذلك قول الشاعر‏:‏

فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي *** ولكن زنجي عظيم المشافر

أي ولكنك زنجي، وأجاز أبو علي أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين ثم وحد في ‏{‏ربي‏}‏ على المعنى، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا انتهى‏.‏ وهو تأويل بعيد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويتوجه في لكنا أن تكون المشهورة من أخوات إن المعنى لكن قولي ‏{‏هو الله ربي‏}‏ إلاّ أني لا أعرف من يقرأ بها وصلاً ووقفاً انتهى‏.‏ وذكر أبو القاسم يوسف بن عليّ بن جبارة الهذلي في كتاب الكامل في القراءات من تأليفه ما نصه‏:‏ يحذفها في الحالين يعني الألف في الحالين يعني الوصل والوقف حمصي وابن عتبة وقتيبة غير الثقفي، ويونس عن أبي عمر ويعني بحمصي ابن أبي عبلة وأبا حيوة وأبا بحرية‏.‏

قرأ أبيّ والحسن ‏{‏لكن‏}‏ أنا ‏{‏هو الله‏}‏ على الانفصال، وفكه من الإدغام وتحقيق الهمز، وحكاها ابن عطية عن ابن مسعود‏.‏ وقرأ عيسى الثقفي ‏{‏لكن هو الله‏}‏ بغير أنا، وحكاها ابن خالويه عن ابن مسعود، وحكاها الأهوازي عن الحسن‏.‏ فأما من أثبت ‏{‏هو‏}‏ فإنه ضمير الأمر والشأن، وثم قول محذوف أي ‏{‏لكن‏}‏ أنا أقول ‏{‏هو الله ربي‏}‏ ويجوز أن يعود على الذي ‏{‏خلقك من تراب‏}‏، أي أنا أقول‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي خالقك ‏{‏الله ربي‏}‏ و‏{‏ربي‏}‏ نعت أو عطف بيان أو بدل، ويجوز أن لا يقدر‏.‏ أقول محذوفة فيكون أنا مبتدأ، و‏{‏هو‏}‏ ضمير الشأن مبتدأ ثان و‏{‏الله‏}‏ مبتدأ ثالث، و‏{‏ربي‏}‏ خبره والثالث خبر عن الثاني، والثاني وخبره خبر عن أنا، والعائد عليه هو الياء في ‏{‏ربي‏}‏، وصار التركيب نظير هند هو زيد ضاربها‏.‏ وعلى رواية هارون يجوز أن يكون هو توكيد الضمير النصب في لكنه العائد على الذي خلقك، ويجوز أن يكون فصلاً لوقوعه بين معرفين، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد على اسم لكن من الجملة الواقعة خبراً‏.‏

وفي قوله و‏{‏لا أشرك بربي أحداً‏}‏ تعريض بإشراك صاحبه وأنه مخالفه في ذلك، وقد صرح بذلك صاحبه في قوله يا ليتني لم أشرك بربي أحداً‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بذلك أنه لا يرى الغنى والفقر إلاّ منه تعالى، يفقر من يشاء ويغني من يشاء‏.‏ وقيل‏:‏ لا أعجز قدرته على الإعادة، فأسَّوي بينه وبين غيره فيكون إشراكاً كما فعلت أنت‏.‏

ولما وبخ المؤمن الكافر أورد له ما ينصحه فحضه على أن كان يقول إذا دخل جنته ‏{‏ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله‏}‏ أي الأشياء مقذوفة بمشيئة الله إن شاء أفقر، وإن شاء أغنى، وإن شاء نصر، وإن شاء خذل‏.‏ ويحتمل أن تكون ما شرطية منصوبة بشاء، والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله كان، ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي موفوعة على الابتداء، أي الذي شاءه الله كائن، أو على الخبر أي الأمر ما شاء الله ‏{‏ولولا‏}‏ تحضيضية، وفصل بين الفعل وبينها بالظرف وهو معمول لقوله ‏{‏قلت‏}‏‏.‏ ثم نصحه بالتبرئ من القوة فيما يحاوله ويعانيه وأن يجعل القوة لله تعالى‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة‏:‏ «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة»‏؟‏ قال‏:‏ بلى يا رسول الله، قال‏:‏ «لا قوة إلاّ بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم» ‏"‏ ونحوه من حديث أبي موسى وفيه إلاّ بالله العلي العظيم‏.‏

ثم أردف تلك النصيحة بترجية من الله، وتوقعه أن يقلب ما به وما بصاحبه من الفقر والغنى‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً‏}‏ أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يمنحني جنة خيراً من جنتك لإيماني به، ويزيل عنك نعمته لكفرك به ويخرب بستانك‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أقل‏}‏ بالنصب مفعولاً ثانياً لترني وهي علمية لا بصرية لوقوع ‏{‏أنا‏}‏ فصلاً، ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب في ترني، ويجوز أن تكون بصرية و‏{‏أنا‏}‏ توكيد للضمير في ترني المنصوب فيكون ‏{‏أقل‏}‏ حالاً‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏أقل‏}‏ بالرفع على أن تكون أنا مبتدأ، و‏{‏أقل‏}‏ خبره، والجملة في موضع مفعول ترني الثاني إن كانت علمية، وفي موضع الحال إن كانت بصرية‏.‏ ويدل قوله ‏{‏وولداً‏}‏ على أن قول صاحبه ‏{‏وأعز نفراً‏}‏ عنى به الأولاد إن قابل كثرة المال بالقلة وعزة النفر بقلة الولد‏.‏

والحسبان، قال ابن عباس وقتادة‏:‏ العذاب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ البرد‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ النار‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ القضاء‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ سهام ترمي في مجرى فقلما تخطئ‏.‏ وقيل‏:‏ النبل‏.‏ وقيل‏:‏ الصواعق‏.‏ وقيل‏:‏ آفة مجتاحة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك، وهذا الترجي إن كان ذلك أن يؤتيه في الدنيا فهي أنكى للكافر وآلم إذ يرى حاله من الغنى قد انتقلت إلى صاحبه، وإن كان ذلك أن يؤتيه في الآخرة فهو أشرف وأذهب مع الخير والصلاح ‏{‏فتصبح صعيداً‏}‏ أي أرضاً بيضاء لا نبات فيها لا من كرم ولا نخل ولا زرع، قد اصطلم جميع ذلك فبقيت يباباً قفراً يزلق عليها لإملاسها، والزلق الذي لا تثبت فيه قدم ذهب غراسه وبناؤه وسلب المنافع حتى منفعة المشي فيه فهو وحل لا ينبت ولا يثبت فيه قدم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الزلق الطريق الذي لا نبات فيه‏.‏ وقيل‏:‏ الخراب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ رملاً هائلاً‏.‏ وقيل‏:‏ الزلق الأرض السبخة وترجِّي المؤمن لجنة هذا الكافر آفة علوية من السماء أو آفة سفلية من الأرض، وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع، وغور مصدر خبر عن اسم أصبح على سبيل المبالغة و‏{‏أو يصبح‏}‏ معطوف على قوله ‏{‏ويرسل‏}‏ لأن غؤور الماء لا يتسبب على الآفة السماوية إلاّ إن عنى بالحسبان القضاء الإلهي، فحينئذ يتسبب عنه إصباح الجنة ‏{‏صعيداً زلقاً‏}‏ أو إصباح مائها ‏{‏غوراً‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏غوراً‏}‏ بفتح الغين‏.‏ وقرأ البرجمي‏:‏ ‏{‏غوراً‏}‏ بضم الغين‏.‏ وقرأت فرقة بضم الغين وهمز الواو يعنون وبواو بعد الهمزة فيكون غؤوراً كما جاء في مصدر غارت عينه غؤوراً، والضمير في ‏{‏له‏}‏ عائد على الماء أي لن يقدر على طلبه لكونه ليس مقدوراً على ردّ ماغوره الله تعالى‏.‏ وحكى الماوردي أن معناه‏:‏ لن تستطيع طلب غيره بدلاً منه، وبلغ الله المؤمن ما ترجاه من هلاك ما بيد صاحبه الكافر وإبادته على خلاف ما ظنّ في قوله ما أظن أن تبيد هذه أبداً فأخبر تعالى أنه ‏{‏أحيط بثمره‏}‏ وهو عبارة عن الإهلاك وأصله من أحاط به العدّو وهو استدارته به من جوانبه، ومتى أحاط به ملكه واستولى عليه ثم استعملت في كل إهلاك ومنه

‏{‏إلاّ أن يحاط بكم‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد انتهى‏.‏

والظاهر أن الإحاطة كانت ليلاً لقوله ‏{‏فأصبح‏}‏ على أن أنه يحتمل أن يكون معنى ‏{‏فأصبح‏}‏ فصار فلا يدل على تقييد الخبر بالصباح، وتقليب كفيه ظاهره أنه ‏{‏يقلب كفيه‏}‏ ظهراً لبطن وهو أنه يبدي باطن كفه ثم يعوج كفه حتى يبدو ظهرها، وهي فعلة النادم المتحسر على شيء قد فاته، المتأسف على فقدانه، كما يكنى بقبض الكف والسقوط في اليد‏.‏ وقيل‏:‏ يصفق بيده على الأخرى و‏{‏يقلب كفيه‏}‏ ظهر البطن‏.‏ وقيل‏:‏ يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى، ولما كان هذا الفعل كناية عن الندم عداه تعدية فعل الندم فقال ‏{‏على ما أنفق فيها‏}‏ كأنه قال‏:‏ فأصبح نادماً على ذهاب ما أنفق في عمارة تلك الجنة ‏{‏وهي خاوية على عروشها‏}‏ تقدم الكلام على هذه الجملة في أواخر البقرة‏.‏ وتمنيه انتفاء الشرك الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة، وفي ذلك زجر للكفرة من قريش وغيرهم لئلا يجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم، قيل‏:‏ أرسل الله عليها ناراً فأكلتها فتذكر موعظة أخيه، وعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى لو لم يكن مشركاً‏.‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ هي حكاية عن قول الكافر هذه القالة في الآخرة، ولما افتخر بكثرة ماله وعزة نفره أخبر تعالى أنه لم تكن ‏{‏له فئة‏}‏ أي جماعة تنصره ولا كان هو منتصراً بنفسه، وجمع الضمير في ‏{‏ينصرونه‏}‏ على المعنى كما أفرده على اللفظ في قوله ‏{‏فئة تقاتل في سبيل الله‏}‏ واحتمل النفي أن يكون منسحباً على القيد فقط، أي له فئة لكنه لا يقدر على نصره‏.‏ وأن يكون منسحباً على القيد، والمراد انتفاؤه لانتفاء ما هو وصف له أي لا فئة فلا نصر وما كان منتصراً بقوة عن انتقام الله‏.‏

وقرأ الأخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ولم يكن بالياء لأن تأنيث الفئة مجاز‏.‏ وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بالتاء‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏فئة‏}‏ تنصره على اللفظ والحقيقة في هنالك أن يكون ظرف مكان للبعد، فالظاهر أنه أشير به لدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏ قيل‏:‏ لما نفى عنه الفئة الناصرة في الدنيا نفى عنه أن ينتصر في الآخرة، فقال ‏{‏وما كان منتصراً هنالك‏}‏ أي في الدار الآخرة، فيكون ‏{‏هنالك‏}‏ معمولاً لقوله ‏{‏منتصراً‏}‏‏.‏

وقال الزجّاج‏:‏ أي ‏{‏وما كان منتصراً‏}‏ في تلك الحال و‏{‏الولاية لله‏}‏ على هذا مبتدأ وخبر‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏هنالك الولاية لله‏}‏ مبتدأ وخبر، والوقف على قوله ‏{‏منتصراً‏}‏‏.‏

وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير ‏{‏الولاية‏}‏ بكسر الواو وهي بمعنى الرئاسة والرعاية‏.‏ وقرأ باقي السبعة بفتحها بمعنى الموالاة والصلة‏.‏ وحُكِي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلداً وليس هنالك تولي أمور‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏الولاية‏}‏ بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك، وقد قرئ بهما والمعنى هنالك أي في ذلك المقام، وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريراً لقوله ‏{‏ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله‏}‏ أو ‏{‏هنالك‏}‏ السلطان والملك ‏{‏لله‏}‏ لا يغلب ولا يمتنع منه، أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني إن قوله ‏{‏يا ليتني لم أشرك بربي أحداً‏}‏ كلمة ألجئ إليها فقالها فزعاً من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى ‏{‏هنالك الولاية لله‏}‏ ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن‏.‏ وصدق قوله عسى ‏{‏ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء‏}‏ ويعضده قوله ‏{‏هو خير ثواباً وخير عقباً‏}‏ أي لأوليائه انتهى‏.‏

وقرأ النحويان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني ‏{‏الحق‏}‏ برفع القاف صفة للولاية‏.‏ وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفاً لله تعالى‏.‏ وقرأ أُبيّ ‏{‏هنالك الولاية‏}‏ الحق لله برفع الحق للولاية وتقديمها على قوله ‏{‏لله‏}‏‏.‏ وقرأ أبو حيوة وزيد بن عليّ وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو ‏{‏لله الحق‏}‏ بنصب القاف‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ على التأكيد كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل وهي قراءة حسنة فصيحة، وكان عمرو بن عبيد رحمة الله عليه ورضوانه من أفصح الناس وأنصحهم انتهى‏.‏ وكان قد قال الزمخشري‏:‏ وقرأ عمرو بن عبيد رحمه الله انتهى‏.‏ فترحم عليه وترضى عنه إذ هو من أوائل أكابر شيوخه المعتزلة، وكان على غاية من الزهد والعبادة وله أخبار في ذلك إلاّ أن أهل السنة يطعنون عليه وعلى أتباعه، وفي ذلك يقول أبو عمرو الداني في أرجوزته التي سماها المنبهة‏:‏

وابن عبيد شيخ الاعتزال *** وشارع البدعة والضلال

وقرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة ‏{‏عقباً‏}‏ بسكون القاف والتنوين، وعن عاصم عقبى بألف التأنيث المقصورة على وزن رجعى، والجمهور بضم القاف والتنوين والثلاث بمعنى العاقبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

الهشيم اليابس قاله الفرّاء واحده هشيمة‏.‏ وقال الزجّاج وابن قتيبة‏:‏ كل شيء كان رطباً ويبس، ومنه كهشيم المحتظر وهشيم الثريد، وأصل الهشيم المتفتت من يابس العشب‏.‏ ذرى وأذرى لغتان فرّق قاله أبو عبيدة‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ تذروه تجيء به وتذهب‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ ترفعه‏.‏ غادر ترك من الغدر، ومنه ترك الوفاء، ومنه الغدير، وهو ما تركه السيل‏.‏ الصف الشخص بإزاء الآخر إلى نهايتهم وقوفاً أو جلوساً أو على غير هاتين الحالتين طولاً أو تحليقاً يقال منه‏:‏ صف يصف والجمع صفوف‏.‏

‏{‏واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً‏}‏‏.‏

لما بين تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه ما افتخر به الكافر من الهلاك، بيّن في هذا المثل حال ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ واضمحلالها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك و‏{‏كماء‏}‏ قدره ابن عطية خبر مبتدأ محذوف، أي هي أي ‏{‏الحياة الدنيا كماء‏}‏‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ الكاف متعلقة بمعنى المصدر أي ضرباً ‏{‏كماء أنزلناه‏}‏ وأقول إن ‏{‏كماء‏}‏ في موضع المفعول الثاني لقوله ‏{‏واضرب‏}‏ أي وصيِّر ‏{‏لهم مثل الحياة الدنيا‏}‏ أي صفتها شبه ماء وتقدم الكلام على تفسير نظير هذه الجمل في قوله ‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام‏}‏ في يونس ‏{‏فأصبح‏}‏ أي صار ولا يراد تقييد الخبر بالصباح فهو كقوله‏:‏

أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفرا

وقيل‏:‏ هي دالة على التقييد بالصباح لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلاً فهي كقوله ‏{‏فأصبح يقلب كفيه‏}‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ تذريه من أذرى رباعياً‏.‏ وقرأ زيد بن عليّ والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير‏:‏ الريح على الإفراد‏.‏ والجمهور ‏{‏تذروه الرياح‏}‏‏.‏ ولما ذكر تعالى قدرته الباهرة في صيرورة ما كان في غاية النضرة والبهجة إلى حالة التفتت والتلاشي إلى أن فرقته الرياح ولعبت به ذاهبة وجائية، أخبر تعالى عن اقتداره على كل شيء من الإنشاء والإفناء وغيرهما مما تتعلق به قدرته تعالى‏.‏

ولما حقر تعالى حال الدنيا بما ضربه من ذلك المثل ذكر أن ما افتخر به عيينه وأضرابه من المال والبنين إنما ذلك ‏{‏زينة‏}‏ هذه ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ المحقرة، وإن مصير ذلك إنما هو إلى النفاد، فينبغي أن لا يكترث به، وأخبر تعالى بزينة المال والبنين على تقدير حذف مضاف أي مقر ‏{‏زينة‏}‏ أو وضع المال والبنين منزلة المعنى والكثرة، فأخبر عن ذلك بقوله ‏{‏زينة‏}‏ ولما ذكر مآل ما في الحياة الدنيا إلى الفناء اندرج فيه هذا الجزئي من كون المال والبنين زينة، وأنتج‏.‏

أن زينة الحياة الدنيا فإن إذ ذاك فرد من أفراد ما في الحياة الدنيا، وترتيب هذا الإنتاج أن يقال ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ وكل ما كان ‏{‏زينة الحياة الدنيا‏}‏ فهو سريع الانقضاء فالمال والبنون سريع الانقضاء، ومن بديهة العقل أن ما كان كذلك بقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه، وهذا برهان على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد‏.‏

‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم‏.‏ وقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل هي الصلوات الخمس‏.‏ وعن ابن عباس أنه كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجحه الطبري وقول الجمهور مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره‏.‏ وعن قتادة‏:‏ كل ما أريد به وجه الله‏.‏ وعن الحسن وابن عطاء‏:‏ أنها النيات الصالحة فإنّ بها تتقبل الأعمال وترفع، ومعنى ‏{‏خير عند ربك ثواباً‏}‏ أنها دائمة باقية وخيرات الدنيا منقرضة فانية، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي‏.‏ ‏{‏وخير أملاً‏}‏ أي وخير رجاء لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة دون ذي المال والبنين العاري من الباقيات الصالحات فإنه لا يرجو ثواباً‏.‏

ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال ‏{‏ويوم تسير الجبال‏}‏ كقوله ‏{‏يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب‏}‏ وقال ‏{‏فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً‏}‏ وقال ‏{‏وإذا الجبال سيرت‏}‏ والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتى بالعالم الأخروي، وانتصب ‏{‏ويوم‏}‏ على إضمار اذكر أو بالفعل المضمر عند قوله ‏{‏لقد جئتمونا‏}‏ أي قلنا يوم كذا لقد‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرّف وأبو عبد الرحمن ‏{‏نسير‏}‏ بنون العظمة الجبال بالنصب، وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنياً للمفعول ‏{‏الجبال‏}‏ بالرفع وعن الحسن كذلك إلاّ أنه بضم الياء باثنتين من تحتها، وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمر وتسير من سارت الجبال‏.‏

وقرأ أبيّ سيرت الجبال ‏{‏وترى الأرض بارزة‏}‏ أي منكشفة ظاهرة لذهاب الجبال والظراب والشجر والعمارة، أو ترى أهل الأرض بارزين من بطنها‏.‏ وقرأ عيسى ‏{‏وتُرى الأرض‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏وحشرناهم‏}‏ أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم جيء بحشرناهم ماضياً بعد تسير وترى‏؟‏ قلت‏:‏ للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم، كأنه قيل‏:‏ ‏{‏وحشرناهم‏}‏ قبل ذلك انتهى‏.‏ والأولى أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف، والمعنى وقد ‏{‏حشرناهم‏}‏ أي يوقع التسيير في حالة حشرهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وحشرناهم‏}‏ ‏{‏وعرضوا‏}‏ ‏{‏ووضع الكتاب‏}‏ مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ نغادر بنون العظمة وقتادة تغادر على الإسناد إلى القدرة أو الأرض، وأبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنياً للمفعول واحد بالرفع وعصمة كذلك، والضحاك نغدر بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال، وانتصب ‏{‏صفاً‏}‏ على الحال وهو مفرد تنّزل منزلة الجمع أي صفوفاً‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ‏"‏ الحديث بطوله وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏ أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً أنتم منها ثمانون صفاً ‏"‏ أو انتصب على المصدر الموضوع موضع الحال أي مصطفين‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏صفاً‏}‏ صفاً فحذف صفاً وهو مراد، وهذا التكرار منبيء عن استيفاء الصفوف إلى آخرها، شبه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين يرى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً‏.‏

‏{‏لقد جئتمونا‏}‏ معمول لقول محذوف أي وقلنا و‏{‏كما خلقناكم‏}‏ نعت لمصدر محذوف أي مجيئاً مثل مجيء خلقكم أي «حفاة عراة غرلاً» كما جاء في الحديث، وخالين من المال والولد و‏{‏أنْ‏}‏ هنا مخففة من الثقيلة‏.‏ وفصل بينها وبين الفعل بحرف النفي وهو ‏{‏لن‏}‏ كما فصل في قوله ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع‏}‏ و‏{‏بل‏}‏ للإضراب بمعنى الانتقال من خبر إلى خبر ليس بمعنى الإبطال، والمعنى أن لن نجمع لإعادتكم وحشركم ‏{‏موعداً‏}‏ أي مكان وعد أو زمان وعد لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور، والخطاب في ‏{‏لقد جئتمونا‏}‏ للكفار المنكرين البعث على سبيل تقريعهم وتوبيخهم‏.‏

‏{‏ووضع الكتاب‏}‏ وقرأ زيد بن عليّ ‏{‏ووضع‏}‏ مبنياً للفاعل ‏{‏الكتاب‏}‏ بالنصب‏.‏ و‏{‏الكتاب‏}‏ اسم جنس أي كتب أعمال الخلق، ويجوز أن تكون الصحائف كلها جعلت كتاباً واحداً ووضعته الملائكة لمحاسبة الخلق وإشفاقهم خوفهم من كشف أعمالهم السيئة وفضحهم وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي، ونادوا هلكتهم التي هلكوا خاصة من بين الهلكات فقالوا يا ويلنا والمراد من بحضرتهم كأنهم قالوا يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا، وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله

‏{‏يا أسفي على يوسف‏}‏ ‏{‏يا حسرتي على ما فرطت‏}‏ ‏{‏يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا‏}‏ وقول الشاعر‏:‏

يا عجباً لهذه الفليقة *** فيا عجباً من رحلها المتحمل

إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادي‏.‏ و‏{‏لا يغادر‏}‏ جملة في موضع الحال‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة‏.‏ وعن ابن جبير‏:‏ القبلة والزنا وعن غيره السهو والعمد‏.‏ وعن الفضيل صبحوا والله من الصغائر قبل الكبائر، وقدمت الصغيرة اهتماماً بها، وإذا أحصيت فالكبيرة أحرى ‏{‏إلاّ أحصاها‏}‏ ضبطها وحفظها ‏{‏ووجدوا ما عملوا حاضراً‏}‏ في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا‏.‏ ‏{‏ولا يظلم ربك أحداً‏}‏ فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه الذي يستحقه أو يعذبه بغير جرم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ كما يزعم من ظلم الله في تعذيب أطفال المشركين انتهى‏.‏ ولا يقال‏:‏ إن ذلك ظلم منه تعالى لأنه تعالى كل مملوكون له فله أن يتصرف في مملوكيه بما يشاء، لا يسأل عما يفعل، والصحيح في أطفال المشركين أنهم يكونون في الجنة خدماً لأهلها نص عليه في البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

العضد العضو من الإنسان وغيره معروف وفيه لغتان، فتح العين وضم الضاد وإسكانها وفتحها وضم العين والضاد وإسكان الضاد، ويستعمل في العون والنصير‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والإعضاد التقوّي وطلب المعونة يقال‏:‏ اعتضدت بفلان استعنت به‏.‏ الموبق المهلك يقال‏:‏ وبق يوبق وبقاً ووبق يبق وبوقاً إذا هلك فهو وابق، وأوبقته ذنوبه أهلكته‏.‏

‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوّ بئس للظالمين بدلاً ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً‏}‏‏.‏

ذكروا في ارتباط هذه الآية بما قبلها أنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بمجالسة الفقراء وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم، وذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم طردهم عنه وذلك لما جبلوا عليه من التكبر والتكثر بالأموال والأولاد وشرف الأصل والنسب، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر والافتخار بالأصل الذي خلق منه وهذا الذي ذكروه في الإرتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين، وإما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا والذي يظهر في ارتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع الله ناسب ذكر إبليس والنهي عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيداً عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به‏.‏ وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أم منقطع، وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل سورة البقرة فأغني عن إعادته، والظاهر من هذه الآية أنه ليس من الملائكة وإنما هو من الجن‏.‏ قال قتادة‏:‏ الجن حي من الملائكة خلقوا من نار السموم‏.‏ وقال شهر بن حوشب‏:‏ هو من الجن الذين ظفرت بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء‏.‏ وقال الحسن وغيره‏:‏ هو أول الجن وبداءتهم كآدم في الإنس‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ كان إبليس وقبيله جناً لكن الشياطين اليوم من ذريته فهو كنوح في الإنس‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كان من الجن كلام مستأنف جارٍ مجري التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال‏:‏ ما له لم يسجد فقيل ‏{‏كان من الجن ففسق عن أمر ربه‏}‏ والفاء للتسبيب أيضاً جعل كونه من الجن سبباً في فسقه، يعني إنه لو كان ملكاً كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله لأن الملائكة معصومون ألبتة لا يجوز عليهم ما يجوز على الجن والإنس كما قال‏:‏

‏{‏لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون‏}‏ وهذا الكلام المعترض تعمد من الله عز وعلا لصيانة الملائكة عن وقوع شبهة في عصمتهم، فما أبعد البون بين ما تعمده الله وبين قول من ضادّه فزعم أنه كان ملكاً ورئيساً على الملائكة فعصى فلُعن ومُسخ شيطاناً، ثم وركه على ابن عباس انتهى‏.‏

والظاهر أن معنى ‏{‏ففسق عن أمر ربه‏}‏ فخرج عما أمره ربه به من السجود‏.‏ قال رؤبة‏:‏

يهوين في نجد وغوراً غائراً *** فواسقاً عن قصدها حوائرا

وقيل‏:‏ ‏{‏ففسق‏}‏ صار فاسقاً كافراً بسبب أمر ربه الذي هو قوله ‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏ حيث لم يمتثله‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يكون المعنى ‏{‏ففسق‏}‏ بأمر ربه أي بمشيئته وقضائه لأن المشيئة يطلق عليها أمر كما تقول‏:‏ فعلت ذلك عن أمرك أي بحسب مرادك، والهمزة في ‏{‏أفتتخذونه‏}‏ للتوبيخ والإنكار والتعجب أي أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان تتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عداوته لكم تتخذونه ولياً‏.‏ وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر وهو يخطب ‏{‏أفتتخذونه وذريته‏}‏ بفتح الذال، والظاهر أن لإبليس ذرية وقال بذلك قوم منهم قتادة والشعبي وابن زيد والضحاك والأعمش‏.‏ قال قتادة‏:‏ ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ لا يكون ذرية إلاّ من زوجة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ إن الله قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها، فليس يولد لولد آدم ولد إلاّ ولد معه شيطان يقرن به‏.‏ وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألك شيطان‏؟‏ قال‏:‏ «نعم ألا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم» ‏"‏ وسمي الضحاك وغيره من ذرية إبليس جماعة الله أعلم بصحة ذلك، وكذلك ذكروا كيفيات في وطئه وإنساله الله أعلم بذلك، وذهب قوم إلى أنه ليس لإبليس ولد وإنما الشياطين هم الذين يعينونه على بلوغ مقاصده، والمخصوص بالذم محذوف أي ‏{‏بئس الظالمين بدلاً‏}‏ من الله إبليس وذريته وقال ‏{‏للظالمين‏}‏ لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم إبليس وذريته، وهذا نفس الظالم لأنه وضع الشيء في غيره موضعه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ما أشهدتهم‏}‏ بتاء المتكلم‏.‏ وقرأ أبو جعفر وشيبة والسبختياني وعون العقيلي وابن مقسم‏:‏ ما أشهدناهم بنون العظمة، والظاهر عود ضمير المفعول في ‏{‏أشهدتهم‏}‏ على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في ‏{‏خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم‏}‏ بل خلقتهم على ما أردت، ولهذا قال ‏{‏وما كنت متخذ المضلين عضداً‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يعني إنكم اتخذتم شركاء لي في العبادة وإنما كانوا يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفي مشاركتهم في الإلهية بقوله‏:‏ ‏{‏ما أشهدتهم خلق السموات والأرض‏}‏ لا أعتضد بهم في خلقها ‏{‏ولا خلق أنفسهم‏}‏ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله

‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ وما كنت متخذهم أعواناً فوضع ‏{‏المضلين‏}‏ موضع الضمير ذماً لهم بالإضلال فإذا لم يكونوا لي ‏{‏عضداً‏}‏ في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الملائكة والمعنى أنه ما أشهدهم ذلك ولا استعان بهم في خلقها بل خلقتهم ليطيعوني ويعبدوني فكيف يعبدونهم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ على جميع الخلق‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الضمير في ‏{‏أشهدتهم‏}‏ عائد على الكفار وعلى الناس بالجملة، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين والأطباء وسواهم من كل من يتخرص في هذه الأشياء، وقاله عبد الحق الصقلي وتأول هذا التأويل في هذه الآية وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين انتهى‏.‏

وقرأ أبو جعفر والجحدري والحسن وشيبة ‏{‏وما كنت‏}‏ بفتح التاء خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم انتهى‏.‏ والذي أقوله أن المعنى إخبار من الله عن نبيه وخطاب منه تعالى له في انتفاء كينونته متخذ عضد من المضلين، بل هو مذ كان ووجد عليه السلام في غاية التبرّي منهم والبعد عنهم لتعلم أمته أنه لم يزل محفوظاً من أول نشأته لم يعتضد بمضل ولا مال إليه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب متخذاً المضلين أعمل اسم الفاعل‏.‏ وقرأ عيسى ‏{‏عضداً‏}‏ بسكون الضاد خفف فعلاً كما قالوا‏:‏ رجل وسبع في رجل وسبع وهي لغة عن تميم، وعنه أيضاً بفتحتين‏.‏ وقرأ شيبة وأبو عمر وفي رواية هارون وخارجة والخفاف ‏{‏عضداً‏}‏ بضمتين، وعن الحسن ‏{‏عضداً‏}‏ بفتحتين وعنه أيضاً بضمتين‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏عضداً‏}‏ بكسر العين وفتح الضاد‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ويوم يقول‏}‏ بالياء أي الله‏.‏ وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم‏:‏ نقول بنون العظمة أي للذين أشركوا به في الدنيا ‏{‏نادوا شركائي‏}‏ وليس المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شركاؤه ولكن ذلك على زعمكم، والإضافة تكون بأدنى ملابسة ومفعولاً ‏{‏زعمتم‏}‏ محذوفان لدلالة المعنى عليهما إذ التقدير زعمتموهم شركائي والنداء بمعنى الاستغاثة، أي استغيثوا بشركائكم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو للشفاعة لكم، والظاهر أن الضمير في ‏{‏بينهم‏}‏ عائد على الداعين والمدعوين وهم المشركون والشركاء‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على أهل الهدى وأهل الضلالة، والظاهر وقوع الدعاء حقيقة وانتفاء الإجابة‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون استعارة كأن فكرة الكافر ونظره في أن تلك الجمادات لا تغني شيئاً ولا تنفع هي بمنزلة الدعاء وترك الإجابة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏شركائي‏}‏ ممدوداً مضافاً للياء، وابن كثير وأهل مكة مقصوراً مضافاً لها أيضاً، والظاهر انتصاب ‏{‏بينهم‏}‏ على الظرف‏.‏ وقال الفراء‏:‏ البين هنا الوصل أي ‏{‏وجعلنا‏}‏ نواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة، فعلى هذا يكون مفعولاً أول لجعلنا، وعلى الظرف يكون في موضع المفعول الثاني‏.‏

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك‏:‏ الموبق المهلك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جعلنا بينهم من العذاب ما يوبقهم‏.‏ وقال عبد الله بن عمر وأنس ومجاهد‏:‏ واد في جهنم يجري بدم وصديد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ عداوة‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ إنه المجلس‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الموعد‏.‏

‏{‏ورأى المجرمون النار‏}‏ هي رؤية عين أي عاينوها، والظن هنا قيل‏:‏ على موضوعه من كونه ترجيح أحد الجانبين‏.‏ وكونهم لم يجزموا بدخولها رجاء وطمعاً في رحمة الله‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏فظنوا‏}‏ أيقنوا قاله أكثر الناس، ومعنى ‏{‏مواقعوها‏}‏ مخالطوها واقعون فيها كقوله ‏{‏وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه‏}‏ ‏{‏الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم‏}‏ وقال ابن عطية‏:‏ أطلق الناس أن الظن هنا بمعنى التيقن، ولو قال بدل ظنوا أيقنوا لكان الكلام متسقاً على مبالغة فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد ناله الحسن بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون وإلاّ فمن يقع ويحس لا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن‏.‏

وتأمل هذه الآية وتأمل قول دريد‏:‏

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** انتهى‏.‏ وفي مصحف عبد الله ملاقوها مكان ‏{‏مواقعوها‏}‏ وقرأه كذلك الأعمش وابن غزوان عن طلحة، والأولى جعله تفسيراً لمخالفة سواد المصحف‏.‏ وعن علقمة أنه قرأ ملافوها بالفاء مشددة من لففت‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة» ومعنى ‏{‏مصرفاً‏}‏ معدلاً ومراعاً‏.‏ ومنه قول أبي كبير الهذلي‏:‏

أزهير هل عن شيبة من مصرف *** أم لا خلود لباذل متكلف

وأجاز أبو معاذ ‏{‏مصرفاً‏}‏ بفتح الراء وهي قراءة زيد بن عليّ جعله مصدراً كالمضرب لأن مضارعه يصرف على يفعل كيصرف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 59‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

أدحض الحق أرهقه قاله ثعلب، وأصله من إدحاض القدم وهو إزلاقها قال الشاعر‏:‏

وردت ويجىّ اليشكري حذاره *** وحاد كما حاد البعير عن الدّحض

وقال آخر‏:‏

أبا منذر رمت الوفاء وهبته *** وحدت كما حاد البعير المدحض

والدحض الطين الذي يزهق فيه‏.‏ الموئل قال الفراء‏:‏ المنجي يقال والت نفس فلان نجت‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

وقد أخالس رب البيت غفلته *** وقد يحاذر مني ثم ما يئل

أي ما ينجو‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الملجأ يقال‏:‏ وأل فلان إلى كذا ألجأ، يئل وألاً وؤولاً‏.‏

‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلاّ أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدّمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجَّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً‏}‏‏.‏

تقدّم تفسير نظير صدر هذه الآية‏:‏ و‏{‏شيء‏}‏ هنا مفرد معناه الجمع أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال إن فصلتها واحداً بعد واحد‏.‏ ‏{‏جدلاً‏}‏ خصومة ومماراة يعني إن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء ونحوه، فإذا هو خصيم مبين‏.‏ وانتصب ‏{‏جدلاً‏}‏ على التمييز‏.‏ قيل‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ هنا النضر بن الحارث‏.‏ وقيل‏:‏ ابن الزبعري‏.‏ وقيل‏:‏ أبيّ بن خلف، وكان جداله في البعث حين أتى بعظم فذره، فقال‏:‏ أيقدر الله على إعادة هذا‏؟‏ قاله ابن السائب‏.‏ قيل‏:‏ كل من يعقل من ملك وجنّ يجادل و‏{‏الإنسان أكثر‏}‏ هذه الأشياء ‏{‏جدلاً‏}‏ انتهى‏.‏

وكثيراً ما يُذكر الإنسان في معرض الذمّ وقد تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ حين عاتب علياً كرم الله وجهه على النوم عن صلاة الليل، فقال له عليّ‏:‏ إنما نفسي بيد الله، فاستعمل ‏{‏الإنسان‏}‏ على العموم‏.‏ وفي قوله ‏{‏وما منع الناس‏}‏ الآية تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب، وإنما امتنعوا هم مع اعتقاد أنهم مصيبون لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم‏.‏ و‏{‏الناس‏}‏ يراد به كفار عصر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين تولوا دفع الشريعة وتكذبيها قاله ابن عطية‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ إن الأولى نصب والثانية رفع وقبلهما مضاف محذوف تقديره ‏{‏وما منع الناس‏}‏ الإيمان ‏{‏إلا‏}‏ انتظار ‏{‏أن تأتيهم سنّة الأولين‏}‏ وهي الإهلاك ‏{‏أو‏}‏ انتظار ‏{‏أن يأتيهم العذاب‏}‏ يعني عذاب الآخرة انتهى‏.‏

وهو مسترق من قول الزجاج‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تقديره ما منعهم من الإيمان ‏{‏إلاّ‏}‏ طلب ‏{‏أن تأتيهم سنّة الأولين‏}‏‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ المعنى ما منعهم إلاّ أني قد قدّرت عليهم العذاب، وهذه الآية فيمن قتل ببدر وأُحد من المشركين، وهذا القول نحو من قول من قال التقدير ‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا‏}‏ إلاّ ما سبق في علمنا وقضائنا أن يجري عليهم ‏{‏سنّة الأولين‏}‏ من عذاب الاستئصال من المسخ والصيحة والخسف والغرق وعذاب الظلة ونحو ذلك، وأراد بالأولين من أهلك من الأمم السالفة‏.‏ وقال صاحب الغنيان‏:‏ إلاّ إرادة أو انتظار أن تأتيهم سنتنا في الأولين، ومن قدر المضاف هذا أو الطلب فإنما ذلك لاعتقادهم عدم صدق الأنبياء فيما وعدوا به من العذاب كما قال حكاية عن بعضهم ‏{‏إن كان هذا هو الحق من عندك‏}‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ هنا استفهامية لا نافية، والتقدير وأي شيء ‏{‏منع الناس‏}‏ أن ‏{‏يؤمنوا‏}‏ و‏{‏الهدى‏}‏ الرسول أو القرآن قولان‏.‏

وقرأ الحسن والأعرج والأعمش وابن أبي ليلى وخلف وأيوب وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير والكوفيون بضم القاف والباء، فاحتمل أن يكون بمعنى ‏{‏قبلاً‏}‏ لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، وأن يكون جمع قبيل أي يجيئهم العذاب أنواعاً وألواناً‏.‏ وقرأ باقي السبعة ومجاهد وعيسى بن عمر ‏{‏قبلاً‏}‏ بكسر القاف وفتح الباء ومعناه عياناً‏.‏ وقرأ أبو رجاء والحسن أيضاً بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف قبل على لغة تميم‏.‏ وذكر ابن قتيبة أنه قرئ بفتحتين وحكاه الزمخشري وقال مستقبلاً‏.‏ وقرأ أُبيّ بن كعب وابن غزوان عن طلحة قبيلاً بفتح القاف وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل‏.‏

‏{‏وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين‏}‏ أي بالنعيم المقيم لمن آمن ‏{‏ومنذرين‏}‏ أي بالعذاب الأليم لمن كفر لا ليجادلوا ولا ليتمنى عليهم الاقتراحات ‏{‏ليدحضوا‏}‏ ليزيلوا ‏{‏واتخذوا آياتي‏}‏ يجمع آيات القرآن وعلامات الرسول قولاً وفعلاً ‏{‏وما أنذروا‏}‏ من عذاب الآخرة، واحتملت ‏{‏ما‏}‏ أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف أي ‏{‏وما‏}‏ أنذروه وأن تكون مصدرية أي وإنذارهم فلا تحتاج إلى عائد على الأصح ‏{‏هزواً‏}‏ أي سخرية واستخفافاً لقولهم أساطير الأولين‏.‏ لو شئنا لقلنا مثل هذا وجداً لهم للرسل صلى الله عليه وسلم قولهم و‏{‏ما أنتم إلاّ بشر مثلنا‏}‏ ولو شاء الله لأنزل ملائكة وما أشبه ذلك، والآيات المضاف إلى الرب هو القرآن ولذلك عاد الضمير مفرداً في قوله ‏{‏أن يفقهوه‏}‏ وإعراضه عنها كونه لا يتذكر حين ذكر ولم يتدبر ونسي عاقبة ما قدّمت يداه من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها ولا ناظر في أن المحسن والمسيء يجزيان بما عملا‏.‏

وتقدم تفسير نظير قوله ‏{‏إنّا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً‏}‏ ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا يهتدون أبداً وهذا من العام والمراد به الخصوص، وهو من طبع الله على قلبه وقضى عليه بالموافاة على الكفر إذ قد اهتدى كثير من الكفرة وآمنوا، ويحتمل أن يكون ذلك حكماً على الجميع أي ‏{‏وإن تدعهم‏}‏ أي ‏{‏إلى الهدى‏}‏ جميعاً ‏{‏فلن يهتدوا‏}‏ جميعاً ‏{‏أبداً‏}‏ وحمل أولاً على لفظ من فأفرد ثم على المعنى في قوله ‏{‏إنّا جعلنا على قلوبهم‏}‏ فجمع وجعلوا دعوة الرسول إلى الهدى وهي التي تكون سبباً لوجود الاهتداء، سبباً لانتفاء هدايتهم، وهذا الشرط كأنه جواب للرسول عن تقدير قوله مالي لا أدعوهم إلى الهدى حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على حصول إيمانهم، فقيل‏:‏ ‏{‏وإن تدعهم‏}‏ وتقييده بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم‏.‏

و ‏{‏الغفور‏}‏ صفة مبالغة و‏{‏ذو الرحمة‏}‏ أي الموصوف بالرحمة، ثم ذكر دليل رحمته وهو كونه تعالى ‏{‏لا يؤاخذهم‏}‏ عاجلاً بل يمهلهم مع إفراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والموعد أجل الموت، أو عذاب الآخرة، أو يوم بدر، أو يوم أحد، وأيام النصر أو العذاب إما في الدنيا وإما في الآخرة أقوال‏.‏

والموئل قال مجاهد‏:‏ المحرز‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ المخلص والضمير في ‏{‏من دونه‏}‏ عائد على الموعد‏.‏ وقرأ الزهري موّلاً بتشديد الواو من غير همز ولا ياء‏.‏ وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه مولاً بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء‏.‏ وقرأ الجمهور بسكون الواو وهمزة بعدها مكسورة، وأشارة تعالى بقوله ‏{‏وتلك القرى‏}‏ إلى القرى المجاورة أهل مكة والعرب كقرى ثمود وقوم لوط وغيرهم، ليعتبروا بما جرى عليهم وليحذروا ما يحل بهم كما حل بتلك القرى‏.‏ ‏{‏وتلك‏}‏ مبتدأ و‏{‏القرى‏}‏ صفة أو عطف بيان والخبر ‏{‏أهلكناهم‏}‏ ويجوز أن تكون ‏{‏القرى‏}‏ الخبر و‏{‏أهلكناهم‏}‏ جملة حالية كقوله ‏{‏فتلك بيوتهم خاوية‏}‏ ويجوز أن تكون ‏{‏تلك‏}‏ منصوباً بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا ‏{‏تلك القرى أهلكناهم‏}‏ و‏{‏تلك القرى‏}‏ على إضمار مضاف أي وأصحاب تلك القرى، ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله ‏{‏أهلكناهم‏}‏‏.‏

وقوله ‏{‏لما ظلموا‏}‏ إشعار بعلَّة الإهلاك وهي الظلم، وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن بن عصفور على حرفية ‏{‏لما‏}‏ وأنها ليست بمعنى حين لأن الظرف لا دلالة فيه على العلية‏.‏ وفي قوله ‏{‏لما ظلموا‏}‏ تحذير من الظلم إذ نتيجته الإهلاك وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً، وهو الموعد واحتمل أن تكون مصدراً أو زماناً‏.‏ وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام، واحتمل أن يكون مصدراً مضافاً إلى المفعول وأن يكون زماناً‏.‏ وقرأ حفص وهارون عن أبي بكر بفتحتين وهو زمان الهلاك‏.‏ وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام مصدر هلك يهلك وهو مضاف للفاعل‏.‏ وقيل‏:‏ هلك يكون لازماً ومتعدياً فعلى تعديته يكون مضافاً للمفعول، وأنشد أبو عليّ في ذلك‏:‏

ومهمه هالك من تعرجاً *** ولا يتعين ما قاله أبو عليّ في هذا البيت، بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكاً فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة أصله هالك من تعرجاً‏.‏ فمن فاعل ثم أضمر في هالك ضمير مهمه، وانتصب ‏{‏من‏}‏ على التشبيه بالمفعول ثم أضاف من نصب، وقد اختلف في الموصول هل يكون من باب الصفة المشبهة‏؟‏ والصحيح جواز ذلك وقد ثبت في أشعار العرب‏.‏ قال الشاعر وهو عمر بن أبي ربيعة‏:‏

أسيلات أبدان دقاق خصورها *** وثيرات ما التفت عليها الملاحف

وقال آخر‏:‏

فعجتها قبل الأخيار منزلة *** والطيبي كل ما التاثت به الأُزُر

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 70‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

برح‏:‏ زال مضارع يزول، ومضارع يزال فتكون من أخوات كان الناقصة‏.‏ الحِقب‏:‏ السنون واحدها حقبة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فإن تنأ عنها حقبة لاتلاقها *** فإنك مما أحدثت بالمحرب

وقال الفراء‏:‏ الحقب سنة، ويأتي قول أهل التفسير فيه‏.‏ السرب‏:‏ المسلك في جوف الأرض‏.‏ النصب‏:‏ التعب والمشقة‏.‏ الصخرة معروفة وهي حجر كبير‏.‏ ‏{‏وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً قال إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً‏}‏‏.‏

‏{‏موسى‏}‏ المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران عليه السلام، ولم يذكر الله في كتابه موسى غيره، ومن ذهب إلى أنه غيره وهو موسى بن ميشا بن يوسف، أو موسى بن افراثيم بن يوسف فقول لا يصح، بل الثابت في الحديث الصحيح وفي التواريخ أنه موسى بن عمر نبيّ إسرائيل، والمرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون، وفتاه هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام، والفتى الشاب ولما كان الخدم أكثر ما يكونون فتياناً قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك‏.‏ ففي الحديث‏:‏ «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي» ‏{‏لفتاه‏}‏ لأنه كان يخدمه ويتبعه‏.‏ وقيل‏:‏ كان يأخذ منه العلم‏.‏ ويقال‏:‏ إن يوشع كان ابن اخت موسى عليه السلام وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يوماً في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحداً أعلم منك‏؟‏ قال‏:‏ لا، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ أسير أي لا أزال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وإنما قال هذه المقالة وهو سائر‏.‏ ومن هذا قول الفرزدق‏:‏

فما برحوا حتى تهادت نساؤهم *** ببطحاء ذي قار عباب اللطائم

انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر ‏{‏لا أبرح‏}‏ وهي من أخوات كان، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلاّ ما جاء في الشعر من قوله‏:‏

لهفي عليك للهفة من خائف *** يبغي جوارك حين ليس مجير

أي حين ليس في الدنيا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ‏{‏لا أبرح‏}‏ إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلت‏:‏ هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معاً يدلان عليه، أما الحال فلأنها كانت حال سفر، وأما الكلام فلأن قوله ‏{‏حتى أبلغ مجمع البحرين‏}‏ غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري ‏{‏حتى أبلغ‏}‏ على أن ‏{‏حتى أبلغ‏}‏ هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى‏.‏ وهما وجهان خلطهما الزمخشري‏:‏ أما الأول‏:‏ فجعل الفعل مسنداً إلى المتكلم لفظاً وتقديراً وجعل الخبر محذوفاً كما قدره ابن عطية و‏{‏حتى أبلغ‏}‏ فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له‏.‏ والوجه الثاني جعل ‏{‏لا أبرح‏}‏ مسنداً من حيث اللفظ إلى المتكلم، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله ‏{‏لا أبرح‏}‏ هو ‏{‏حتى أبلغ‏}‏ فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر ‏{‏أبرح‏}‏‏.‏

وقال الزمخشري‏.‏ أيضاً‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى ‏{‏لا أبرح‏}‏ ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه ‏{‏حتى أبلغ‏}‏ كما تقول لا أبرح المكان انتهى‏.‏ يعني إن برح يكون بمعنى فارق فيتعدى إذ ذاك إلى مفعول ويحتاج هذا إلى صحة نقل، وذكر الطبري عن ابن عباس قال‏:‏ لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه بمصر، فلما استقرت الحال خطب يوماً فذكَّر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل، ثم ذكر ما هو عليه من أنه لا يعلم أحداً أعلم منه‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلاّ في هذا الكلام، وما أراه يصح بل المتظاهر أن موسى مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين، وهذا المروي عن ابن عباس ذكره الزمخشري فقال‏:‏ روي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله، وقال‏:‏ إن الله اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له‏:‏ قد علمنا هذا فأي الناس أعلم‏؟‏ قال‏:‏ أنا فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، كان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى، وذكر أيضاً في أسئلة موسى أنه قال‏:‏ إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه، قال‏:‏ أعلم منك الخضر انتهى‏.‏

وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من أنه قيل له هل أحد أعلم منك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

و ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ هو مجتمع بحر فارس وبحر الروم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجتمع البحرين على هذا القول‏.‏ وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي‏:‏ هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا‏.‏ وعن أبيّ بإفريقية‏.‏ وقيل‏:‏ هو بحر الأندلس والقرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ بحر ملح وبحر عذب فيكون الخضر على هذا عند موقع نهر عظيم في البحر‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ البحران كناية عن موسى والخضر لأنهما بحرا علم‏.‏ وهذا شبيه بتفسير الباطنية وغلاة الصوفية، والأحاديث تدل على أنهما بحرا ماء‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ من بدع التفاسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما كانا بحرين في العلم انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ بحر القلزم‏.‏ وقيل‏:‏ بحر الأزرق‏.‏ وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار ‏{‏مجمع‏}‏ بكسر الميم الثانية والنضر عن ابن مسلم في كلا الحرفين وهو شاذ، وقياسه من يفعل فتح الميم كقراءة الجمهور‏.‏ والظاهر أن ‏{‏مجمع البحرين‏}‏ هو اسم مكان جمع البحرين‏.‏ وقيل‏:‏ مصدر‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ الحقب الدهر‏.‏ وقال عبد الله بن عمرو وأبو هريرة‏:‏ ثمانون سنة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ سبعون‏.‏ وقيل‏:‏ سنة بلغة قريش ذكره الفراء‏.‏ وقيل‏:‏ وقت غير محدود قاله أبو عبيدة‏.‏ والظاهر أن قوله ‏{‏أو أمضي‏}‏ معطوف على ‏{‏أبلغ‏}‏ فغيا بأحد الأمرين إما ببلوغه المجمع وإما بمضيه ‏{‏حقباً‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هي تغيية لقوله ‏{‏لا أبرح‏}‏ كقولك لا أفارقك أو تقضيني حقي، فالمعنى ‏{‏لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين‏}‏ إلى أن أمضي زماناً أتيقن معه فوات مجمع البحرين‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏حقباً‏}‏ بإسكان القاف والجمهور بضمها‏.‏

‏{‏فلما بلغا مجمع بينهما‏}‏ ثم جملة محذوفة التقدير فسار ‏{‏فلما بلغا‏}‏ أي موسى وفتاه ‏{‏مجمع بينهما‏}‏ أي بين البحرين ‏{‏نسيا حوتهما‏}‏ وكان من أمر الحوت وقصته أن موسى عليه السلام حين أوحي إليه أنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك‏.‏ قال موسى‏:‏ يا رب فيكف لي به‏؟‏ قال‏:‏ تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فنام موسى واضطرب الحوت في المكتمل فخرج منه فسقط ‏{‏في البحر سرباً‏}‏ وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق‏.‏ قيل‏:‏ وكان الحوت مالحاً‏.‏ وقيل‏:‏ مشوياً‏.‏ وقيل‏:‏ طرياً‏.‏ وقيل‏:‏ جمع يوشع الحوت والخبز في مكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة ونام موسى، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت‏.‏

وروي أنهما أكلا منها‏.‏ وقيل‏:‏ توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش ووقع في الماء، والظاهر نسبة النسيان إلى موسى وفتاه‏.‏

وقيل‏:‏ كان النسيان من أحدهما وهو فتى موسى نسي أن يعلم موسى أمر الحوت إذ كان نائماً، وقد أحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر ورآه قد اتخذ السرب فأشفق أن يوقظ موسى‏.‏ وقال أؤخر إلى أن يستيقظ ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا و‏{‏جاوزا‏}‏ وقد يسند الشيء إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحد منهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو على حذف مضاف أي نسي أحدهما‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أي ‏{‏نسيا‏}‏ تفقد أمره وما يكون منه مما جعل إمارة على الظفر بالطلبة‏.‏ وقيل‏:‏ نسي يوشع أن يقدمه، ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء انتهى‏.‏ وشبه بالسرب مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده بل بقي كالطاق، هذا الذي ورد في الحديث‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ بقي موضع سلوكه فارغاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ماء جامداً وعن ابن عباس‏:‏ حجراً صلداً‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ إنما اتخذ سبيله سرباً في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة كأنه يعني بقوله ‏{‏سرباً‏}‏ تصرفاً وجولاناً من قولهم‏:‏ فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء‏.‏ ومنه قوله تعالى ‏{‏وسارب بالنهار‏}‏ أي متصرف‏.‏ وقال قوم‏:‏ اتخذ ‏{‏سرباً‏}‏ في التراب من المكتمل، وصادف في طريقه حجراً فنقبه‏.‏ والظاهر أن السرب كان في الماء ولا يفسر إلاّ بما ورد في الحديث الصحيح أن الماء صار عليه كالطاق وهو معجزة لموسى عليه السلام أو الخضر إن قلنا أنه نبي وإلاّ تكن كرامة‏.‏

وقيل‏:‏ عاد موضع سلوك الحوت حجراً طريقاً وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر ‏{‏فلما جاوزا‏}‏ أي مجمع البحرين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الموعد وهو الصخرة‏.‏ قيل‏:‏ سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع حين جاوزا لموعد ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت وطلبه‏.‏ وقوله ‏{‏من سفرنا‏}‏ هذا إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏نصباً‏}‏ بفتحتين وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمتين‏.‏ قال صاحب اللوامح وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف نسي يوشع ذلك ومثله لا ينسى لكونه إمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ولكونه معجزتين بينتين وهما حياة السمكة المملوحة المأكول منها وقيل‏:‏ ما كانت إلاّ شق سمكة وقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب، ثم كيف استمر به النسيان حتى خلفا الموعد وسارا مسيرة ليلة إلى ظهر الغد، وحتى طلب موسى عليه السلام الحوت قلت‏:‏ قد شغله الشيطان بوساوسه فذهب بفكره كل مذهب حتى اعتراه النسيان، وانضم إلى ذلك أنه ضري بمشاهدة أمثاله عند موسى من العجائب، واستأنس بأخواته فأعان الإلف على قلة الإهتمام انتهى‏.‏

قال أبو بكر غالب بن عطية والداني عبد الحق المفسر‏:‏ سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظة‏:‏ مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏أرأيت‏}‏ بمعنى أخبرني فإن قلت‏:‏ فما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من ‏{‏أرأيت‏}‏ و‏{‏إذ أوينا‏}‏ و‏{‏فإني نسيت الحوت‏}‏ لا متعلق له‏؟‏ قلت‏:‏ لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك، كأنه قال‏:‏ ‏{‏أرأيت‏}‏ ما دهاني ‏{‏إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت‏}‏ فحذف ذلك انتهى‏.‏ وكون أرأيتك بمعنى أخبرني ذكره سيبويه‏:‏ وقد أمعّنا الكلام في ذلك في سورة الأنعام وفي شرحنا لكتاب التسهيل‏.‏

وأما ما يختص بأرأيت في هذا الموضع فقال أبو الحسن الأخفش‏:‏ إن العرب أخرجتها عن معناها بالكلية فقالوا‏:‏ أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني، وإذا كانت بمعنى أبصرت لم تحذف همزتها قال‏:‏ وشذت أيضاً فألزمتها الخطاب على هذا المعنى، ولا تقول فيها أبداً أراني زيد عمراً ما صنع، وتقول هذا على معنى أعلم‏.‏ وشذت أيضاً فأخرجتها عن موضعها بالكلية بدليل دخول الفاء ألا ترى قوله ‏{‏أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت‏}‏ فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت لمعنى إما أو تنبه، والمعنى أما ‏{‏إذ أوينا إلى الصخرة‏}‏ فالأمر كذا، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام، وقد يخرج لمعنى أما ويكون أبداً بعدها الشرط وظرف الزمان فقوله ‏{‏فإني نسيت الحوت‏}‏ معناه أما ‏{‏إذ أوينا‏}‏ ‏{‏فإني نسيت الحوت‏}‏ أو تنبه ‏{‏إذ أوينا‏}‏ وليست الفاء إلاّ جواباً لأرأيت، لأن إذ لا يصح أن يجازى بها إلاّ مقرونة بما بلا خلاف انتهى كلام الأخفش‏.‏ وفيه إن ‏{‏أرأيت‏}‏ إذا كانت بمعنى أخبرني فلا بد بعدها من الاسم المستخبر عنه، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام وهذان مفقودان في تقدير الزمخشري ‏{‏أرأيت‏}‏ هنا بمعنى أخبرني، ومعنى ‏{‏نسيت الحوت‏}‏ نسيت ذكر ما جرى فيه لك‏.‏

وفي قوله ‏{‏وما أنسانيه إلاّ الشيطان‏}‏ حسن أدب سبب النسيان إلى المتسبب فيه بوسوسته و‏{‏أن أذكره‏}‏ بدل اشتمال من الضمير العائد على الحوت، والظاهر أن الضمير في ‏{‏واتخذ سبيله في البحر عجباً‏}‏ عائد على الحوت كما عاد في قوله ‏{‏فاتخذ سبيله في البحر سرباً‏}‏ وهو من كلام يوشع‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير عائد على موسى أي اتخذ موسى‏.‏ ومعنى ‏{‏عجباً‏}‏ أي تعجب من ذلك أو اتخاذاً ‏{‏عجباً‏}‏ وهو أن أثره بقي إلى حيث سار‏.‏ وقدره الزمخشري ‏{‏سبيله‏}‏ ‏{‏عجباً‏}‏ وهو كونه شبيه السرب قال‏:‏ أو قال ‏{‏عجباً‏}‏ في آخر كلام تعجباً من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها، أو مما رأى من المعجزتين وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره‏}‏ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏عجباً‏}‏ حكاية لتعجب موسى وليس بذلك انتهى‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏واتخذ في سبيله في البحر عجباً‏}‏ يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيلاً عجباً للناس، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏واتخذ سبيله في البحر‏}‏ تمام الخبر ثم استأنف التعجب فقال من قبل نفسه ‏{‏عجباً‏}‏ لهذا الأمر، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه ثم حيي بعد ذلك‏.‏

قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته أتيت به فإذا هو شق حوت وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيّ‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وأنا رأيته والشق الذي فيه شيّ عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة، ويحتمل أن يكون ‏{‏واتخذ سبيله‏}‏ الآية إخباراً من الله تعالى وذلك على وجهين‏:‏ إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر ‏{‏عجباً‏}‏ أي تعجب منه، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله ‏{‏عجباً‏}‏ للناس انتهى‏.‏ وقرأ حفص‏:‏ ‏{‏وما أنسانيه‏}‏ بضم الهاء وفي الفتح عليه الله وذلك في الوصل وأمال الكسائي فتحة السين، وفي مصحف عبد الله وقراءته ‏{‏أن أذكره‏}‏ ‏{‏إلاّ الشيطان‏}‏‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ واتخاذ سبيله عطف على المصدر على ضمير المفعول في ‏{‏أذكره‏}‏ والإشارة بقوله ذلك إلى أمر الحوت وفقده واتخاذه سبيلاً في البحر لأنه إمارة الظفر بالطلبة من لقاء ذلك العبد الصالح و‏{‏ما‏}‏ موصولة والعائد محذوف أي نبغيه‏.‏ وقرئ نبغ ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع، وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعاً لرسم المصحف، وأثبتها في الحالين ابن كثير‏.‏

‏{‏فارتدا‏}‏ رجعاً على أدراجهما من حيث جاءا‏.‏ ‏{‏قصصاً‏}‏ أي يقصان الأثر ‏{‏قصصاً‏}‏ فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان، أو يكون في موضع الحال أي مقتصين فينصب بقوله ‏{‏فارتدا‏}‏ ‏{‏فوجدا‏}‏ أي موسى والفتى ‏{‏عبداً من عبادنا‏}‏ هذه إضافة تشريف واختصاص، وجداه عند الصخرة التي فقد الحوت عندها وهو مسجى في ثوبه مستلقياً على الأرض فقال‏:‏ السلام عليك فرفع رأسه، وقال‏:‏ أنى بأرضك السلام ثم قال له، من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى، قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال له‏:‏ ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ولكن أحببت لقاءك وأن أتعلم منك، قال له‏:‏ إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا‏.‏

والجمهور على أنه الخضر وخالف من لا يعتد بخلافه فزعم أنه عالم آخر‏.‏ وقيل‏:‏ اليسع‏.‏ وقيل‏:‏ الياس‏.‏ وقيل‏:‏ خضرون ابن قابيل بن آدم عليه السلام‏.‏ قيل‏:‏ واسم الخضر بليا بن ملكان، والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن قد أوحيت إليه، وعلم موسى الأحكام والفتيا بالظاهر‏.‏ وروي أنه وجد قاعداً على ثبج البحر‏.‏ وفي الحديث سمي خضراً لأنه جلس على فروة بالية فاهتزت تحته خضراء‏.‏ وقيل‏:‏ كان إذا صلى اخضّر ما حوله‏.‏ وقيل‏:‏ جلس على فروة بيضاء وهي الأرض المرتفعة‏.‏ وقيل‏:‏ الصلبة واهتزت تحته خضراء‏.‏ وقيل‏:‏ كانت أمه رومية وأبوه فارسي‏.‏ وقيل‏:‏ كان ابن ملك من الملوك أراد أبوه أن يستخلفه من بعده فلم يقبل منه ولحق بجزائر البحر فطلبه أبوه فلم يقدر عليه‏.‏ والجمهور على أنه مات‏.‏

وقال شرف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي‏:‏ أما خضر موسى بن عمران فليس بحي لأنه لو كان حياً للزمه المجيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتبّاعه‏.‏ وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لو كان موسى وعيسى حيين لم يسعهما إلاّ اتباعي» انتهى هكذا ورد لحديث ومذهب المسلمين أن عيسى حي وأنه ينزل من السماء، ولعل الحديث‏:‏ «لو كان موسى حياً لم يسعه إلاّ اتباعي»‏.‏ والرحمة التي آتاه الله إياها هي الوحي والنبوة‏.‏ وقيل‏:‏ الرزق‏.‏ ‏{‏وعلمناه من لدنّا علماً‏}‏ أي من عندنا أي مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب‏.‏ وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو ‏{‏من لدنّا‏}‏ بتخفيف النون وهي لغة في لدن وهي الأصل‏.‏

قيل‏:‏ وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح بادعاء هذا العلم ويسمونه العلم اللدني، وأنه يلقى في روع الصالح منهم شيء من ذلك حتى يخبر بأن من كان من أصحابه هو من أهل الجنة على سبيل القطع، وأن بعضهم يرى الخضر‏.‏ وكان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنه رأى الخضر وحدثه، فقيل له‏:‏ من أعلمه أنه الخضر‏؟‏ ومن أين عرف ذلك‏؟‏ فسكت‏.‏ وبعضهم يزعم أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر، وسمعنا الحديث عن شيخ يقال له عبد الواحد العباسي الحنبلي وكان أصحابه الحنابلة يعتقدون فيه أنه يجتمع بالخضر‏.‏

‏{‏قال له موسى‏}‏ في الكلام محذوف تقديره فلما التقيا وتراجعا الكلام وهو الذي ورد في الحديث الصحيح ‏{‏قال له موسى هل أتبعك‏}‏ وفي هذا دليل على التواضع للعالم، وفي هذه القصة دليل على الحث على الرحلة في طلب العلم وعلى حسن التلطف والاستنزال والأدب في طلب العلم‏.‏

بقوله ‏{‏هل أتبعك‏}‏ وفيه المسافرة مع العالم لاقتباس فوائده، والمعنى هل يخف عليك ويتفق لك وانتصب ‏{‏رشداً‏}‏ على أنه مفعول ثانٍ لقوله ‏{‏تعلمني‏}‏ أو على أنه مصدر في موضع الحال، وذو الحال الضمير في ‏{‏أتبعك‏}‏‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏علماً‏}‏ ذا رشد أرشد به في ديني، قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ أما دلت حاجته إلى التعلم من آخر في عهده أنه كما قيل موسى بن ميشا لا موسى بن عمران لأن النبيّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين‏؟‏ قلت‏:‏ لا غضاضة بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ قبله، وإنما يغض منه أن يأخذ ممن دونه‏.‏

وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس‏:‏ إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، وأن موسى هو موسى بن ميشا فقال‏:‏ كذب عدو الله انتهى‏.‏

وقرأ الحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي ‏{‏رشداً‏}‏ بفتحتين وهي قراءة أبي عمرو من السبعة‏.‏ وقرأ باقي السبعة بضم الراء وإسكان الشين، ونفى الخضر استطاعة الصبر معه على سبيل التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم، وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها ينكرها الرجل الصالح فكيف النبيّ فلا يتمالك أن يشمئز لذلك، ويبادر بالإنكار ‏{‏وكيف تصبر‏}‏ أي إن صبرك على ما لا خبرة لك به مستبعد، وفيه إبداء عذر له حيث لا يمكنه الصبر لما يرى من منافاة ما هو عليه من شريعته‏.‏ وانتصب ‏{‏خبراً‏}‏ على التمييز أي مما لم يحط به خبرك فهو منقول من الفاعل أو على أنه مصدر على غير الصدر لأن معنى ‏{‏على ما لم تحط به‏}‏ لم تخبره‏.‏ وقرأ الحسن وابن هرمز ‏{‏خبراً‏}‏ بضم الباء‏.‏

‏{‏قال ستجدني إن شاء الله صابراً‏}‏ وعده بوجدانه ‏{‏صابراً‏}‏ وقرن ذلك بمشيئة الله علماً منه بشدة الأمر وصعوبته، إذ لا يصبر إلاّ على ما ينافي ما هو عليه إذ رآه ‏{‏ولا أعصي‏}‏ يحتمل أن يكون معطوفاً على ‏{‏صابراً‏}‏ أي ‏{‏صابراً‏}‏ وغير عاص فيكون في موضع نصب عطف الفعل على الاسم إذا كان في معناه كقوله ‏{‏صافات ويقبضن‏}‏ أي وقابضات، ويجوز أن يكون معطوفاً على ‏{‏ستجدني‏}‏ فلا محل له من الإعراب ولا يكون مقيداً بالمشيئة لفظاً‏.‏

وقال القشيري‏:‏ وعد موسى من نفسه بشيئين‏:‏ بالصبر وقرنه بالاستثناء بالمشيئة فصبر حين وجد على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل، وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالاستثناء فعصاه حيث قال له ‏{‏فلا تسألني‏}‏ فكان يسأله فما قرن بالاستثناء لم يخالف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى‏.‏ وهذا منه على تقدير أن يكون ‏{‏ولا أعصي‏}‏ معطوفاً على ‏{‏ستجدني‏}‏ فلم يندرج تحت المشيئة‏.‏

‏{‏قال فان اتبعتني‏}‏ أي إذا رأيت مني شيئاً خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك فلا تفاتحني بالسؤال حتى أكون أنا الفاتح عليك، وهذا من أدب المتعلم مع العالم المتبوع‏.‏ وقرأنا نافع وابن عامر ‏{‏فلا تسألني‏}‏ وعن أبي جعفر بفتح السين واللام من غير همز مشددة النون وباقي السبعة بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون‏.‏ قال أبو علي‏.‏ كلهم بياء في الحالين انتهى‏.‏ وعن ابن عامر في حذف الياء خلاف غريب‏.‏