فصل: تفسير الآيات رقم (59- 66)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 66‏]‏

‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏ أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

لما فرغ من قصص هذه السورة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بحمده تعالى والسلام على المصطفين، وأخذ في مباينة واجب الوجود، الله تعالى، ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع الله وعبدوها‏.‏ وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة، وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة‏.‏ وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف كتبهم وخطبهم ووعظهم، فافتتحوا بتحميد الله، والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم المترسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث التي لها شأن‏.‏ وقيل‏:‏ هو متصل بما قبله، وأمر الرسول عليه السلام بتحميد الله على هلاك الهالكين من كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏قل‏}‏، خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ويسلم ‏{‏على عباده الذين اصطفى‏}‏‏.‏ وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال‏:‏ هذه عجمة من الفراء‏.‏ وقرأ أبو السماك‏:‏ ‏{‏قل الحمد لله‏}‏، وكذا‏:‏ قل الحمد لله سيريكم، بفتح اللام، وعباده المصطفون، يعم الأنبياء وأتباعهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ العباد المسلم عليهم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، اصطفاهم لنبيه، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من الكفار‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء، وأن من كذبهم استؤصل بالعذاب، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول، أمره تعالى بحمده على ما خصه من هذه النعمة، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة‏.‏ انتهى، وفيه تلخيص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آلله خير أمّا يشركون‏}‏‏:‏ استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم، وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة في الخيرية بين الله تعالى وبينهم، وكثيراً ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطأ مرتكبه‏.‏ والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خيرية الذوات، فقيل‏:‏ جاء على اعتقاد المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيراً بوجه مّا، وقيل‏:‏ في الكلام حذف في موضعين، التقدير‏:‏ أتوحيد الله خير أم عبادة ما يشركون‏؟‏ فما في أم ما بمعنى الذي‏.‏ وقيل‏:‏ ما مصدرية، والحذف من الأول، أي أتوحيد الله خير أم شرككم‏؟‏ وقيل‏:‏ خير ليست للتفضيل، فهي كما تقول‏:‏ الصلاة خير، يعني خيراً من الخيور‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير ذو خير‏.‏ والظاهر أن خيراً أفعل التفضيل، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم، وتنبيهه على خطئه، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد، وانتفائه عن الآخر، وقرأ الجمهور‏:‏ تشركون، بتاء الخطاب؛ والحسن، وقتادة، وعاصم، وأبو عمرو‏:‏ بياء الغيبة‏.‏

وأم في أم ما متصلة، لأن المعنى‏:‏ أيهما خير‏؟‏ وفي ‏{‏أم من خلق‏}‏ وما بعده منفصلة‏.‏ ولما ذكر الله خيراً، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في غير موضع من كتابه، توقيفاً لهم على ما أبدع من المخلوقات، وأنهم لا يجدون بداً من الإقرار بذلك لله تعالى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أمّن خلق‏}‏، وفي الأربعة بعدها بشد الميم، وهي ميم أم أدغمت في ميم من‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام، أدخلت على من، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ تقديره‏:‏ يكفر بنعمته ويشك به، ونحو هذا من المعنى‏.‏ وقدره الزمخشري‏:‏ خير أما يشركون، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول؛ بدأ أولاً في الاستفهام باسم الذات، ثم انتقل فيه إلى الصفات‏.‏ وقال أبو الفضل الرازي في ‏(‏كتاب اللوامح‏)‏ له‏:‏ ولا بد من إضمار جملة معادلة، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه‏.‏ وتقدير تلك الجملة‏:‏ أمن خلق السموات كمن لم يخلق، وكذلك أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ انتهى‏.‏ وتسمية هذا المقدّر جملة، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك، بل هو مضمر من قبيل المفرد‏.‏ وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏، أي لأجلكم، على سبيل الامتنان، وأن ذلك من أجلكم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فأنبتنا‏}‏، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالاً على اختصاصه بذلك، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى‏.‏ وقد رشح هذا الاختصاص بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏‏.‏

ولما كان خلق السموات والأرض، وإنزال الماء من السماء، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة، ويسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏‏.‏ ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده‏؟‏ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته، فكيف يكون فاعلاً لها‏؟‏ والبهجة‏:‏ الجمال والنضرة والحسن، لأن الناظر فيها يبتهج، أي يسر ويفرح‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ذات‏}‏، بالإفراد، ‏{‏بهجة‏}‏، بسكون الهاء، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة، كقوله‏:‏ ‏{‏أزواج مطهرة‏}‏ وهو على معنى جماعة‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة، ذوات، بالجمع، بهجة بتحريك الهاء بالفتح‏.‏

‏{‏ما كان لكم أن تنبتوا شجرها‏}‏‏:‏ قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا، أو لامتناع وقوعه شرعاً، أو لنفي الأولوية‏.‏

والمعنى هنا‏:‏ أن إنبات ذلك منكم محال، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى‏.‏ ولما ذكر منته عليهم، خاطبهم بذلك؛ ثم لما ذكر ذمّهم، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال‏:‏ ‏{‏بل هم قوم يعدلون‏}‏، إما التفاتاً، وإما إخباراً للرسول صلى الله عليه وسلم بحالهم، أي يعدلون عن الحق، أو يعدلون به غيره، أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً‏.‏ وقرئ‏:‏ إلهاً، بالنصب، بمعنى‏:‏ أتدعون أو أتشركون‏؟‏ وقرئ‏:‏ أإله، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية، والفصل بينهما بألف‏.‏ ولما ذكر تعالى أنه منشئ السموات والأرض، ذكر شيئاً مشتركاً بين السماء والأرض، وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض، ذكر شيئاً مختصاً بالأرض، وهو جعلها قراراً، أي مستقراً لكم، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها، ولا يديرها الفلك، قيل‏:‏ لأنها مضمحلة في جنب الفلك، كالنقطة في الرحى‏.‏

‏{‏وجعل خلالها‏}‏‏:‏ أي بين أماكنها، في شعابها وأوديتها، ‏{‏أنهاراً وجعل لها رواسي‏}‏‏:‏ أي جبالاً ثوابت حتى لا تتكففأ بكم وتميد‏.‏ والبحران‏:‏ العذب والملح، والحاجز‏:‏ الفاصل، من قدرته تعالى، قاله الضحاك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بحر السماء والأرض، والحاجز من الهواء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بحر فارس والروم، وقال السدّي‏:‏ بحر العراق والشام، والحاجز من الأرض‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ مختاراً لهذا القول في الحاجز‏:‏ هو ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها، على رقتها في بعض المواضع، ولطافتها التي لولا قدرته لبلع الملح العذب‏.‏ وكان ابن عطية قد قدم أن البحرين‏:‏ العذب بجملته، والماء الأجاج بجملته؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة مستقلة، تكرر فيها العامل في قوله‏:‏ ‏{‏وجعل‏}‏، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان، ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات‏.‏ ولأبي عبد الله الرازي في ذكر هذه الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة، والحكماء على زعمه، خارج عن مذاهب العرب، يوقف عليه في كتابه‏.‏ والمضطر‏:‏ اسم مفعول، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو المجهود‏.‏ وقال السدّي‏:‏ هو الذي لا حول ولا قوة له‏.‏ وقيل‏:‏ هو المذنب إذا استغفر، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى، فليس كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطاً فيه المصلحة‏.‏ انتهى، وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى‏.‏

‏{‏ويكشف‏}‏‏:‏ هو كل ما يسوء، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر، وهو خاص إليّ أعم، وهو ما يسوء، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها‏.‏

وخلفاء‏:‏ أي الأمم السالفة، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، أو خلفاء الكفار في أرضهم، أو الملك والتسلط، أقوال‏.‏ وقرأ الحسن في رواية‏:‏ ونجعلكم بنون المتكلم، كأنه استئناف إخبار ووعد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليستخلفنهم في الأرض‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويجعلكم خلفاء الأرض‏}‏‏:‏ انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار، وهي حالة الخلافة، فهما ظرفان‏.‏ وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكاً متسلطاً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تذكرون، بتاء الخطاب؛ والحسن، والأعمش، وأبو عمرو‏:‏ بياء الغيبة، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ تتذكرون، بتاءين‏.‏ وظلمة البر هي ظلمة الليل، وهي الحقيقة، وتنطلق مجازاً على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال‏:‏ أظلم عليّ الأمر‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

تجلت عمايات الرجال عن الصبا *** أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات، وهداية البحر بالنجوم‏.‏

‏{‏ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته‏}‏‏:‏ تقدم تفسير نظير هذه الجملة‏.‏ وقرئ‏:‏ عما تشركون، بتاء الخطاب‏.‏ ‏{‏أمن يبدأ الخلق‏}‏‏:‏ الظاهر أن الخلق هو المخلوق، وبدؤه‏:‏ اختراعه وإنشاؤه‏.‏ ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك، لا عموم المخلوق‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، والإعادة البعث من القبور، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان، كما تقول‏:‏ فلان يبدئ ويعيد في أمر كذا إذا كان يتقنه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة‏؟‏ قلت‏:‏ قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار‏.‏ انتهى‏.‏

ولما كان إيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإحساناً، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال‏:‏ ‏{‏ومن يرزقكم من السماء‏}‏ بالمطر، ‏{‏والأرض‏}‏ بالنبات‏؟‏ ‏{‏قل هاتوا برهانكم‏}‏‏:‏ أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ في أن مع الله إلهاً آخر‏.‏ فأين دليلكم عليه‏؟‏ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه‏.‏

لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة، فختم بقوله‏:‏ ‏{‏بل هم قوم يعدلون‏}‏، أي عن عبادته، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع‏.‏ ولما ذكر جعل الأرض مستقراً، وتفجير الأنهار، وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيهاً على تعقل ذلك والفكر فيه، ختم بقوله‏:‏ ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك‏.‏ ولما ذكر إجابة دعاء المضطر، وكشف السوء، واستخلافهم في الأرض، ناسب أن يستحضر الإنسان دائماً هذه المنة، فختم بقوله‏:‏ ‏{‏قليلاً ما تذكرون‏}‏، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه، كما قال‏:‏

‏{‏نسي ما كان يدعوا إليه من قبل‏}‏ ولما ذكر الهداية في الظلمات، وإرسال الرياح نشراً، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل، وهم يشركون بها الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏عما يشركون‏}‏‏.‏ واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله‏:‏ ‏{‏أإله مع الله‏}‏، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى‏.‏

قيل‏:‏ سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وألحوا عليه، فنزل‏:‏ ‏{‏قل لا يعلم من في السموات والأرض‏}‏، الآية‏.‏ والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم، والغيب مفعول، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من، وجاء مرفوعاً على لغة تميم، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب‏.‏ وعن عائشة، رضي الله عنها‏:‏ من زعم أن محمداً يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏قل لا يعلم من في السموات والأرض إلا الله‏}‏، ولا يقال‏:‏ إنه مندرج في مدلول من، فيكون في السموات إشارة إلى ظرفاً حقيقياً للمخلوقين فيهما، ومجازياً بالنسبة إليه تعالى، أي هو فيها بعلمه، لأن في ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز، وأكثر العلماء ينكر ذلك، وإنكاره هو الصحيح‏.‏ ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلاً، وارتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء، لأنه استثناء من نفي متقدم، والظاهر عموم الغيب‏.‏ وقيل‏:‏ المراد غيب الساعة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي‏؟‏ يعني في كونه استثناء منقطعاً، إذ ليس مندرجاً تحت من، ولم أختر الرفع على لغة تميم، ولم نختر النصب على لغة الحجاز، قال‏:‏ قلت‏:‏ دعت إلى ذلك نكتة سرية، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله‏:‏ إلا اليعافير، بعد قوله‏:‏ ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك‏:‏ إن كان الله ممن في السموات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم‏.‏ كما أن معنى‏:‏ ما في البيت إن كانت اليعافير أنيساً، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس‏.‏ انتهى‏.‏ وكان الزمخشري قد قدم قوله‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم أرفع اسم الله، والله سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض‏؟‏ قلت‏:‏ جاء على لغة بني تميم، حيث يقولون‏:‏ ما في الدار أحد إلا حمار، كان أحداً لم يذكر، ومنه قوله‏:‏

عشية ما تغني الرماح مكانها *** ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وقوله‏:‏ ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه‏.‏ انتهى‏.‏ وملخصه أنه يقول‏:‏ لو نصب لكان مندرجاً تحت المستثنى منه، وإذا رفع كان بدلاً، والمبدل منه في نية الطرح، فصار العامل كأنه مفرغ له، لأن البدل على نية تكرار العامل، فكأنه قيل‏:‏ قل لا يعلم الغيب إلا الله‏.‏

ولو أعرب من مفعولاً، والغيب يدل منه، وإلا الله هو الفاعل، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم، وهم لا يعلمون بحدوثها، أي لا يسبق علمهم بذلك، لكان وجهاً حسناً، وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم‏.‏ وأيان‏:‏ تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به‏.‏ وقرأ السلمي‏:‏ إيان، بكسر الهمزة، وهي لغة قبيلته بني سليم‏.‏ ولما نفى علم الغيب عنهم على العموم، نفى عنهم هذا الغيب المخصوص، وهو وقت الساعة والبعث، فصار منتفياً مرتين، إذ هو مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بل ادّارك‏}‏، أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال فسكنت، فاجتلبت همزة الوصل‏.‏ وقرأ أبي‏:‏ أم تدارك، على الأصل، وجعل أم بدل‏.‏ وقرأ سليمان بن يسار أخوه‏:‏ بل ادّرك، بنقل حركة الهمزة إلى اللام، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل، فأدغم الدال، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً، فصار قلب الثاني للأول لقولهم‏:‏ اثرد، وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل‏.‏ وقرأ أبو رجاء والأعرج، وشيبة، وطلحة، وتوبة العنبري‏:‏ كذلك، إلا أنهم كسروا لام بل؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعاصم، والأعمش‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأهل مكة‏:‏ بل أدرك، على وزن أفعل، بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر، عن عاصم‏.‏ وقرأ عبد الله في رواية، وابن عباس في رواية، وابن أبي جمرة، وغيره عنه، والحسن، وقتادة، وابن محيصن‏:‏ بل آدرك، بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك، فقلب الثانية ألفاً تخفيفاً، كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ لا يجوز الاستفهام بعد بل، لأن بل إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى‏:‏ لم يكن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أشهدوا خلقهم‏}‏ أي لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار‏.‏ انتهى‏.‏ وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل، وشبهه بقول القائل‏:‏ أخبزاً الكت بل أماء شربت‏؟‏ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني‏.‏ وقرأ مجاهد‏:‏ أم أدرك، جعل أم بدل بل، وأدرك على وزن أفعل‏.‏ وقرأ ابن عباس أيضاً‏:‏ بل إدّارك، بهمزة داخلة على ادارك، فيسقط همزة الوصل المجتلبة، لأجل الإدغام والنطق بالساكن‏.‏ وقرأ ابن مسعود أيضاً‏:‏ بل أأدرك، بهمزتين، همزة الاستفهام وهمزة أفعل‏.‏

وقرأ الحسن أيضاً، والأعرج‏:‏ بل أدرك، بهمزة وإدغام فاء الكلمة، وهي الدال في تاء افتعل، بعد صيرورة التاء دالاً‏.‏ وقرأ ورش في رواية‏:‏ بل ادّرك، بحذف همزة أدرك ونقل حركتها إلى اللام‏.‏ وقرأ ابن عباس أيضاً‏:‏ بلى ادرك، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي‏.‏ وقرئ‏:‏ بل آأدرك، بألف بين الهمزتين‏.‏ فأما قراءة من قرأ بالاستفهام، فقال ابن عباس‏:‏ هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك قراءة من قرأ‏:‏ أم ادّرك، وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم، أي اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم‏.‏ وأما قراءة من قرأ على الخبر، فقال ابن عباس‏:‏ المعنى‏:‏ بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا، أي علموه في الآخرة، بمعنى‏:‏ تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم، لمشاهدتهم عياناً في الآخرة ما وعدوا به غيباً في الدنيا، وكونه بمعنى المضي، ومعناه الاستقبال، لأن الإخبار به صدق، فكأنه قد وقع‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه تناهي علمهم، كما تقول‏:‏ أدرك النبات وغيره، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم، وقد تعدّى العلم بالباء، كما تقول‏:‏ علمي بزيد كذا، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف والاستفهام، وجاء إنكاراً لأنهم لم يدركوا شيئاً نافعاً‏.‏ والثاني‏:‏ أن أدرك‏:‏ بمعنى يدرك، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا فلا‏.‏ وهذا تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك‏.‏ انتهى، وفيه بعض تلخيص وزيادة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏بل هم في شك منها بل هم منه عمون‏}‏، يريد المشركين ممن في السموات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال‏:‏ بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله ناس منهم‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس‏:‏ ما أعلمك، على سبيل الهزء به، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك، فضلاً عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته‏.‏ وفي ادرك علمهم وادارك وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني، من قولهم‏:‏ أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم‏.‏

وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ العلم هنا بمعنى الحكم والقول، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة، وكثرة منهم الخوض فيها، فنفاها بعضهم، وشك فيها بعضهم، واستبعدها بعضهم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ بل ادرك، فيصير بمعنى الجحد، ولذلك نظائر؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها، ودل على ذلك ‏{‏بل هم في شك منها‏}‏، فصارت في في الكلام بمعنى الباء، أي لم يدرك علمهم بالآخرة‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ‏:‏ أدرك، بالاستفهام‏.‏ انتهى‏.‏ وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل، فقال أبو حاتم‏:‏ إن كان بلى جواباً لكلام تقدم، جاز أن يستفهم به، كأن قوماً أنكروا ما تقدم من القدرة، فقيل لهم‏:‏ بلى إيجاباً لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم في شك منها‏}‏، بمعنى‏:‏ أم هم في شك منها، لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم منها عمون‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏ يعني أن المعنى‏:‏ ادّرك علمهم بالآخرة أم شكوا‏؟‏ فبل بمعنى أم، عودل بها الهمزة، وهذا ضعيف جداً، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ فمن قرأ بلى ادرك‏؟‏ قلت‏:‏ لما جاء ببلى بعد قوله‏:‏ ‏{‏وما يشعرون‏}‏، كان معناه‏:‏ بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله‏:‏ ادرك علمهم في الآخرة، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، فكأنه قال‏:‏ شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون، كونها، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون‏.‏ وأما من قرأ‏:‏ بلى أدّرك، على الاستفهام فمعناه‏:‏ يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن‏.‏ فإن قلت‏:‏ هذه الإضرابات الثلاث ما معناها‏؟‏ قلت‏:‏ ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذلك عداه بمن دون عن، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 82‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

لما تقدم أنه تعالى منفرد بعلم الغيب، ومن جملتها وقت الساعة، وأنهم لا شعور لهم بوقتها، وأن الكفار في شك منها عمون، ناسب ذكر مقالاتهم في استبعادها، وأن ما وعدوا به من ذلك ليس بصحيح، إنما ذلك ما سطر الأولون من غير إخبار بذلك عن حقيقة‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏أئذا، أئنا‏}‏ بالجمع بين الاستفهامين؛ وقلب الثانية ياء، وفصل بينهما بألف أبو عمرو، وقرأهما عاصم وحمزة‏:‏ بهمزتين، ونافع‏:‏ إذا بهمزة مكسورة، آينا بهمزة الاستفهام، وقلب الثانية ياء، وبينهما مدة، والباقون‏:‏ آئذا، باستفهام ممدود، إننا‏:‏ بنونين من غير استفهام، والعامل في إذا محذوف دل على مضمون الجملة الثانية تقديره‏:‏ يخرج ويمتنع إعمال لمخرجون فيه، لأن كلاًّ من إن ولام الابتداء والاستفهام يمنع أن يعمل ما بعده فيما قبله، إلا اللام الواقعة في خبر إن، فإنه يتقدم معمول الخبر عليها وعلى الخبر على ما قرر في علم النحو‏.‏

وآباؤنا‏:‏ معطوف على اسم كان، وحسن ذلك الفصل بخبر كان‏.‏ والإخراج هنا من القبور أحياء، مردوداً أرواحهم إلى الأجساد، والجمع بين الاستفهام في إذا وفي إنا إنكار على إنكار، ومبالغة في كون ذلك لا يكون، والضمير في إننا لهم ولآبائهم، لأن صيرورتهم تراباً، شامل للجميع‏.‏ ثم ذكروا أنهم وعدوا ذلك هم وآباؤهم، فلم يقع شيء من هذا الموعود، ثم جزموا وحصروا أن ذلك من أكاذيب من تقدم‏.‏ وجاء هنا تقديم الموعود به، وهو هذا، وتأخر في آية أخرى على حسب ما سيق الكلام لأجله‏.‏ فحيث تأكد الإخبار عنهم بإنكار البعث والآخرة، عمدوا إليها بالتقديم على سبيل الاعتناء، وحيث لم يكن ذلك، عمدوا إلى إنكار إيجاد المبعوث، فقدموه وأخروا الموعود به، ثم أمر نبيه أن يأمرهم بالسير في الأرض؛ وتقدم الكلام في نظير هذه الآية في أوائل الأنعام‏.‏ وأراد بالمجرمين‏:‏ الكافرين، ثم سلى نبيه فقال‏:‏ ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏‏:‏ أي في كونهم لم يسلموا ولم يذعنوا إلى ما جئت به، ‏{‏ولا تكن في ضيق‏}‏‏:‏ أي في حرج وأمر شاق عليك ‏{‏مما يمكرون‏}‏، فإن مكرهم لاحق بهم، لا بك، والله يعصمك منهم‏.‏ وتقدّمت قراءة ضيق، بكسر الضاد وفتحها، وهما مصدران‏.‏ وكره أبو علي أن يكون المفتوح الضاد، أصله ضيق، بتشديد الياء فخفف، كلين في لين، لأن ذلك يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وليست من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد‏.‏ وأجاز ذلك الزمخشري، قال‏:‏ ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم‏.‏

ولما استعجلت قريش بأمر الساعة، أو بالعذاب الموعود به هم، وسألوا عن وقت الموعود به على سبيل الاستهزاء، قيل له‏:‏ قل عسى أن يكون ردفكم بعضه‏:‏ أي تبعكم عن قرب وصار كالرديف التابع لكم بعض ما استعجلتم به، وهو كان عذاب يوم بدر‏.‏

وقيل‏:‏ عذاب القبر‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ردف، بكسر الدال‏.‏ وقرأ ابن هرمز‏:‏ بفتحها، وهما لغتان، وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق، فاحتمل أن يكون مضمناً معنى اللازم، ولذلك فسره ابن عباس وغيره بأزف وقرب لما كان يجيء بعد الشيء قريباً منه ضمن معناه، أو مزيداً اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه، كما زيدت الباء في‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم‏}‏ قاله الزمخشري، وقد عدى بمن على سبيل التضمين لما يتعدى بها، وقال الشاعر‏:‏

فلما ردَفنا من عمير وصحبه *** تولوا سراعاً والمنية تعنق

أي دنوا من عمير‏.‏ وقيل‏:‏ ردفه وردف له، لغتان‏.‏ وقيل‏:‏ الفعل محمول على المصدر، أي الرادفة لكم‏.‏ وبعض على تقدير ردافة بعض ما تستعجلون، وهذا فيه تكلف ينزه القرآن عنه‏.‏ وقيل‏:‏ اللام في لكم داخلة على المفعول من أجله، والمفعول به محذوف تقديره‏:‏ ردف الخلق لأجلكم، وهذا ضعيف‏.‏ وقيل‏:‏ الفاعل بردف ضمير يعود على الوعد، ثم قال‏:‏ لكم بعض ما تستعجلون على المبتدأ والخبر، وهذا فيه تفكيك للكلام، وخروج عن الظاهر لغير حاجة تدعو إلى ذلك‏.‏ ‏{‏لذو فضل‏}‏‏:‏ أي إفضال عليهم بترك معاجلتهم بالعقوبة على معاصيهم وكفرهم، ومتعلق يشكرون محذوف، أي لا يشكرون نعمه عندهم، أو لا يشكرون بمعنى‏:‏ لا يعرفون حق النعمة، عبر عن انتفاء معرفتهم بالنعمة، بانتفاء ما يترتب على معرفتها، وهو الشكر‏.‏

ثم أخبر تعالى بسعة علمه، فبدأ بما يخص الإنسان، ثم عم كل غائبة وعبر بالصدور، وهي محل القلوب التي لها الفكر والتعقل، كما قال‏:‏ ‏{‏ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏ عن الحال فيها، وهي القلوب، وأسند الإعلان إلى ذواتهم، لأن الإعلان من أفعال الجوارح‏.‏ ولما كان المضمر في الصدر هو الداعي لما يظهر على الجوارح، والسبب في إظهاره قدم الإكنان على الإعلان‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ما تكن‏}‏، من أكن الشيء‏:‏ أخفاه‏.‏ وقرأ ابن محيصن، وحميد، وابن السميفع‏:‏ بفتح التاء وضم الكاف، من كن الشيء‏:‏ ستره، والمعنى‏:‏ ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم‏.‏ والظاهر عموم قوله‏:‏ ‏{‏من غائبة‏}‏، أي ما من شيء في غاية الغيبوبة والخفاء إلا في كتاب عند الله ومكنون علمه‏.‏ وقيل‏:‏ ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض‏.‏ وقيل‏:‏ هو يوم القيامة وأهوالها، قاله الحسن‏.‏ والكتاب‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏ وقيل‏:‏ أعمال العباد أثبتت ليجازى عليها‏.‏ وقال صاحب الغنيان‏:‏ أي حادثة غائبة، أو نازلة واقعة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أي ما من شيء سرّ في السموات والأرض وعلانية، فاكتفى بذكر السر عن مقابلة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة والعافية، ونظيرهما‏:‏ النطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالرواية في قولهم‏:‏ ويل للشاعر من رواية السوء، كأنه قال‏:‏ وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء، إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة‏.‏

انتهى‏.‏

ولما ذكر تعالى المبدأ والمعاد، ذكر ما يتعلق بالنبوة، وكان المعتمد الكبير في إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن‏.‏ ومن جملة إعجازه إخباره بما تضمن من القصص، الموافق لما في التوراة والإنجيل، مع العلم بأنه أمي لم يخالط العلماء ولا اشتغل بالتعليم‏.‏ وبنو إسرائيل هم اليهود والنصارى‏.‏ قص فيه أكثر ما اختلفوا فيه على وجهه، وبينه لهم، ولو أنصفوا وأسلموا‏.‏ ومما اختلفوا فيه أمر المسيح، تحزبوا فيه، فمن قائل هو الله، ومن قائل ابن الله، ومن قائل ثالث ثلاثة، ومن قائل هو نبي كغيره من الأنبياء، وقد عقدوا لهم اجتماعات، وتباينوا في العقائد، وتناكروا في أشياء حتى لعن بعضهم بعضاً، والظاهر عموم المؤمنين‏.‏ وقيل لمن آمن من بني إسرائيل والقضاء والحكم، وإن ظهر أنهما مترادفان، فقيل‏:‏ المراد به هنا العدل، أي بعدله، لأنه لا يقضي إلا بالعدل، وقيل‏:‏ المراد بحكمته والحكم‏.‏ قيل‏:‏ ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه، بكسر الحاء وفتح الكاف، جمع حكمة، وهو جناح بن حبيش‏.‏ ولما كان القضاء يقتضي تنفيذ ما يقضي به، والعلم بما يحكم به، جاءت هاتان الصفتان عقبه، وهو العزة‏:‏ أي الغلبة والقدرة والعلم، ثم أمره تعالى بالتوكل عليه، وأخبره أنه على الحق الواضح الذي لا شك فيه، وهو كالتعليل للتوكل، وفيه دليل على أن من كان على الحق يحق له أن يثق بالله، فإنه ينصره ولا يخذله‏.‏

ولما كان القرآن وما قص الله فيه لا يكاد يجدي عندهم، أخبر تعالى عنهم أنهم موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى، وإن كانوا أحياء صحاح الأبصار، لأنهم إذا تلي عليهم لا تعيه آذانهم، فكانت حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا تسمع الصم‏}‏ هنا، وفي الروم بضم التاء وكسر الميم، الصم بالرفع، ولما كان الميت لا يمكن أن يسمع، لم يذكر له متعلق، بل نفي الإسماع، أي لا يقع منك إسماع لهم ألبتة لعدم القابلية‏.‏ وأما الأصم فقد يكون في وقت يمكن إسماعه وسماعه، فأتى بمتعلق الفعل وهو الدعاء‏.‏ وإذا معمولة لتسمع، وقيد نفي الإسماع أو السماع بهذا الطرف وما بعده على سبيل التأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي مدبراً، كان أبعد عن إدراك صوته‏.‏

شبههم أولاً بالموتى، ثم بالصم في حالة، ثم بالعمي، فقال‏:‏ ‏{‏وما أنت بهادي العمي‏}‏ حيث يضلون الطريق، فلا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويحولهم هداة بصراء إلا الله تعالى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بهادي العمى، اسم فاعل مضاف؛ ويحيى بن الحارث، وأبو حيوة‏:‏ بهادٍ، منوناً العمي؛ والأعمش، وطلحة، وابن وثاب، وابن يعمر، وحمزة‏:‏ تهدي، مضارع هدى، العمي بالنصب؛ وابن مسعود‏:‏ وما أنت تهتدي، بزيادة أن بعد ما، ويهتدي مضارع اهتدى، والعمي بالرفع، والمعنى‏:‏ ليس في وسعك إدخال الهدى في قلب من عمي عن الحق ولم ينظر إليه بعين قلبه‏.‏

‏{‏إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا‏}‏، وهم الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته‏.‏ ‏{‏فهم مسلمون‏}‏‏:‏ منقادون للحق‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ مسلمون مخلصون، من قوله‏:‏ ‏{‏بلى من أسلم وجهه لله‏}‏ بمعنى جعله سالماً لله خالصاً‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وإذا وقع القول عليهم‏}‏‏:‏ أي إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله، كقوله‏:‏ ‏{‏حقت كلمة العذاب‏}‏ فالمعنى‏:‏ إذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه فيهم من العذاب، أخرج لهم دابة تنفذ من الأرض‏.‏ ووقع‏:‏ عبارة عن الثبوت واللزوم والقول، إما على حذف مضاف، أي مضمون القول، وإما أنه أطلق القول على المقول، لما كان المقول مؤدى بالقول، وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ‏{‏وقع القول عليهم‏}‏ يكون بموت العلماء، وذهاب العلم، ورفع القرآن‏.‏ انتهى‏.‏ وروي أن خروجها حين ينقطع الخبر، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا نائب‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الأشراط»، ولم يعين الأول، وكذلك الدجال؛ وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها، والظاهر أن الدابة التي تخرج هي واحدة‏.‏ وروي أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مثبوت نوعها في الأرض، وليست واحدة، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏دابة‏}‏ اسم جنس‏.‏ واختلفوا في ماهيتها، وشكلها، ومحل خروجها، وعدد خروجها، ومقدار ما تخرج منها، وما تفعل بالناس، وما الذي تخرج به، اختلافاً مضطرباً معارضاً بعضه بعضاً، ويكذب بعضه بعضاً؛ فاطرحنا ذكره، لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح، وتضييع لزمان نقله‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏تكلمهم‏}‏، بالتشديد، وهي قراءة الجمهور، من الكلام؛ ويؤيده قراءة أبيّ‏:‏ تنبئهم، وفي بعض القراءات‏:‏ تحدثهم، وهي قراءة يحيى بن سلام؛ وقراءة عبد الله‏:‏ بأن الناس‏.‏ قال السدي‏:‏ تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ نخاطبهم، فتقول للمؤمن‏:‏ هذا مؤمن، وللكافر‏:‏ هذا كافر‏.‏ وقيل معنى تكلمهم‏:‏ تجرحهم من الكلم، والتشديد للتكثير؛ ويؤيده قراءة ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وأبي زرعة، والجحدري، وأبي حيوة، وابن أبي عبلة‏:‏ تكلمهم، بفتح التاء وسكون الكاف مخفف اللام، وقراءة من قرأ‏:‏ تجرحهم مكان تكلمهم‏.‏ وسأل أبو الحوراء ابن عباس‏:‏ تكلم أو تكلم‏؟‏ فقال‏:‏ كل ذلك تفعل، تكلم المؤمن وتكلم الكافر‏.‏ انتهى‏.‏ وروي‏:‏ أنها تسم الكافر في جبهته وتربده، وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه‏.‏

وقرأ الكوفيون، وزيد بن علي‏:‏ ‏{‏أن الناس‏}‏، بفتح الهمزة، وابن مسعود‏:‏ بأن وتقدم؛ وباقي السبعة‏:‏ إن، بكسر الهمزة، فاحتمل الكسر أن يكون من كلام الله، وهو الظاهر لقوله‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏، واحتمل أن يكون من كلام الدابة‏.‏ وروي هذا عن ابن عباس، وكسرت إن هذا على القول، إما على إضمار القول، أو على إجراء تكلمهم إجراء تقول لهم‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ على حذف مضاف، أو لاختصاصها بالله؛ كما تقول بعض خواص الملك‏:‏ خيلنا وبلادنا، وعلى قراءة الفتح، فالتقدير بأن كقراءة عبد الله، والظاهر أنه متعلق بتكلمهم، أي تخاطبهم بهذا الكلام‏.‏ ويجوز أن تكون الباء المنطوق بها أو المقدرة سببية، أي تخاطبهم أو تجرحهم بسبب انتفاء إيقانهم بآياتنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 93‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

أي اذكر يوم نحشر، والحشر‏:‏ الجمع على عنف‏.‏ ‏{‏من كل أمة‏}‏‏:‏ أي من الأمم، ومن هي للتبعيض‏.‏ ‏{‏فوجاً‏}‏‏:‏ أي جماعة كثيرة‏.‏ ‏{‏ممن يكذب بآياتنا‏}‏‏:‏ من للبيان، أي الذين يكذبون‏.‏ والآيات‏:‏ الأنبياء، أو القرآن، أو الدلائل، أقوال‏.‏ ‏{‏فهم يوزعون‏}‏‏:‏ تقدم تفسيره في أول قصة سليمان من هذه السورة‏.‏ وعن ابن مسعود، أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة‏:‏ بين يدي أهل مكة، ولذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار‏.‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوا‏}‏‏:‏ أي إلى الموقف؛ ‏{‏قال أكذبتم بآياتي‏}‏‏:‏ استفهام توبيخ وتقريع وإهانة؛ ‏{‏ولم تحيطوا بها علماً‏}‏‏:‏ الظاهر أن الواو للحال، أي أوقع تكذيبكم بها غير متدبرين لها ولا محيطين علماً بكنهها‏؟‏ ويجوز أن تكون الواو للعطف، أي أجحدتموها‏:‏ ومع جحودها لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه إليه، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويحيط بمعانيه علماً‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ولم تحيطوا بها علماً‏}‏، أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين‏.‏ وأم هنا منقطعة، وينبغي أن تقدر ببل وحدها‏.‏ انتقل من الاستفهام الذي يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضاً على جهة التوبيخ، أي‏:‏ أي شيء كنتم تعملون‏؟‏ والمعنى‏:‏ إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوا، وليس لهم عمل ولا حجة فيما عملوه إلا الكفر والتكذيب‏.‏ وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاماً منصوباً بخبر كان، وهو تعملون، وأن يكون ما هو الاستفهام، وذا موصول بمعنى الذي، فيكونان مبتدأ وخبراً، وكان صلة لذا والعائد محذوف، أي تعملونه‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ أما ذا، بتخفيف الميم، أدخل أداة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد‏.‏

‏{‏ووقع القول‏}‏‏:‏ أي العذاب الموعود به بسبب ظلمهم، وهو التكذيب بآيات الله‏.‏ ‏{‏فهم لا ينطقون‏}‏‏:‏ أي بحجة ولا عذر لما شغلهم من عذاب الله‏.‏ وقيل‏:‏ يختم على أفواههم فلا ينطقون، وانتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة، أو من فريق من الناس، لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن‏.‏

ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة، ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه، نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر والنبوة بما هم يشاهدونه في حال حياتهم، وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة، ومن ظلمة إلى نور، وفاعل ذلك واحد، وهو الله تعالى، فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية‏.‏ وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت، ومن موت إلى حياة أخرى، وفيه دليل أيضاً على النبوة، لأن هذا التقليب هو لمنافع المكلفين، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله‏:‏ ‏{‏لتسكنوا فيه‏}‏

وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق؛ وأضاف الإبصار إلى النهار على سبيل المجاز، لما كان يقع فيه أضافه إليه، كما تقول‏:‏ ليلك نائم، وعلل جعل الليل بقوله‏:‏ ‏{‏لتسكنوا فيه‏}‏، أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار واستراحة نفوسهم‏.‏ قال بعض الرجاز‏:‏

النوم راحة القوى الحسية *** من حركات والقوى النفسية

ولم يقع التقابل في جعل النهار بالنص على علته، فيكون التركيب‏:‏ والنهار لتبصروا فيه، بل أتى بقوله‏:‏ ‏{‏مبصراً‏}‏، قيداً في جعل النهار، لا علة للجعل‏.‏ فقال الزمخشري‏:‏ هو مراعى من حيث المعنى، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى مبصراً‏:‏ لتبصروا فيه طريق التقلب في المكاسب‏.‏ انتهى‏.‏ والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت في مقابله، وحذف من آخره ما أثبت في أوله، فالتقدير‏:‏ جعلنا الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً لتتصرفوا فيه؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون، والإبصار ينشأ عنه التصرف في المصالح، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ فالسكون علة لجعل الليل مظلماً، والتصرف علة لجعل النهار مبصراً وتقدم لنا‏:‏ الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعاً في البقرة في قوله‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق‏}‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏‏:‏ أي في هذا الجعل، ‏{‏لآيات لقوم يؤمنون‏}‏‏:‏ لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون، خصوا بالذكر، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم‏.‏ ‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏‏:‏ تقدم القول في الصور في سورة الأنعام، وهذه النفخة هي نفخة الفزع‏.‏ وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات‏:‏ نفخة الفزع، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور‏.‏ وقيل‏:‏ نفختان، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة، واستدلوا بقوله‏:‏ ‏{‏ثم نفخ فيه أخرى‏}‏ ويأتي الكلام في ذلك إن شاء الله‏.‏ وقال صاحب الغنيان‏:‏ ‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏ للبعث من القبور والحشر، وعبر هنا بالماضي في قوله‏:‏ ‏{‏ففزغ‏}‏، وإن كان لم يقع إشعاراً بصحة وقوعه، وأنه كائن لا محالة، وهذه فائدة وضع الماضي موضع المستقبل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوردهم النار‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏يقدم قومه يوم القيامة‏}‏ ‏{‏إلا من شاء الله‏}‏‏:‏ أي فلا ينالهم هذا الفزع لتثبيت الله قلبه‏.‏ فقال مقاتل‏:‏ هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت عليهم السلام‏.‏ وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم، فهم حريون أن لا ينالهم هذا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الحور العين، وخزنة النار، وحملة العرش‏.‏ وعن جابر‏:‏ منهم موسى، لأنه صعق مرة‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ هم الشهداء، ورواه أبو هريرة حديثاً، وهو‏:‏ «أنهم هم الشهداء عند ربهم يرزقون»، وهو قول ابن جبير، قال‏:‏ هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش‏.‏ وقيل‏:‏ هم المؤمنون لقوله‏:‏ ‏{‏وهم من فزع يومئذ آمنون‏}‏‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ ولم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل‏.‏

قال القرطبي‏:‏ خفي عليه حديث أبي هريرة، وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي، فيعول عليه في التعيين، وغيره اجتهاد‏.‏ وهذا النفخ هو حقيقة، إما في القرن، وإما في الصور، وهو قول الأكثرين‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموتى، فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع الصوت، فيكون ذلك مجازاً‏.‏ والأول قول الأكثرين، وهو الصواب، لكثرة ورود النفخ في الصور في القرآن وفي الحديث الصحيح‏.‏ وقيل‏:‏ ففزع، ليس من الفزع بمعنى الخوف، وإنما معناه‏:‏ أجاب وأسرع إلى البقاء‏.‏

‏{‏وكل أتوه‏}‏‏:‏ المضاف إليه كل محذوف تقديره‏:‏ وكلهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ آتوه، اسم فاعل؛ وعبد الله؛ وحمزة، وحفص‏:‏ أتوه، فعلاً ماضياً، وفي القراءتين روعي معنى كل من الجمع، وقتادة‏:‏ أتاه، فعلاً ماضياً مسنداً الضمير كل على لفظها، وجمع ‏{‏داخرين‏}‏ على معناها‏.‏ وقرأ الحسن، والأعمش‏:‏ دخرين، بغير ألف‏.‏ قيل‏:‏ ومعنى آتوه‏:‏ حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له‏.‏ ‏{‏ورى الجبال‏}‏‏:‏ هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى، أو من الجبال‏.‏ وجامدة، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور، وهي أول أحوال الجبال، تموج وتسير، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن، ثم تكون هباء منبثاً في آخر الأمر‏.‏ ‏{‏وهي تمر مر السحاب‏}‏‏:‏ جملة حالية، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة، وتشبيه مرورها بمر السحاب‏.‏ قيل‏:‏ في كونها تمر مراً حثيثاً، كما مر السحاب، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش‏:‏

نار عن مثل الطود تحسب أنهم *** وقوف لحاج والركاب تهملج

وقيل‏:‏ شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيراً وسطاً، كما قال الأعشى‏:‏

كأن مشيتها من بيت جارتها *** مر السحابة لا ريث ولا عجل

وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها، قيل‏:‏ لهول ذلك اليوم، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ الوجه في حسبانهم أنها جامدة، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت، ظن الناظر إليها أنها واقفة، وهي تمر مراً حثيثاً‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه‏.‏ فأول الصفات‏:‏ ارتجاجها، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن، ثم نسفها، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض غير بارزة، وبالنسف برزت، ونفسها بإرسال الرياح عليها، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار، ثم كونها سراباً، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئاً كالسراب‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ بل تقع على الأرض فتسوى بها‏.‏

وانتصب ‏{‏صنع الله‏}‏ على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها، فالعامل فيه مضمر من لفظه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏صنع الله‏}‏ من المصادر المؤكدة كقوله‏:‏ ‏{‏وعد الله‏}‏ و‏{‏صبغة الله‏}‏ إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ، والمعنى‏:‏ ‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏، فكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين، وعاقب المجرمين، ثم قال‏:‏ ‏{‏صنع الله‏}‏، يريد به الإثابة والمعاقبة، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب، حيث قال‏:‏ ‏{‏صنع الله الذي أتقن كل شيء‏}‏، يعني؛ أن مقابلته الحسنة بالثواب، والسيئة بالعقاب، من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها واجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد، وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب ذلك‏.‏ ثم لخص ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة فله‏}‏، إلى آخر الآيتين‏.‏ فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، ومكانة إضماده، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً، وما لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق، ونحو هذا المصدر، إذا جاء عقيب كلام، جاء كالشاهد لصحته، والمنادى على سداده، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما كان‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏صنع الله‏}‏، و‏{‏صبغة الله‏}‏ و‏{‏وعد الله‏}‏ و‏{‏فطرة الله‏}‏ بعد ما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم، كيف تلاها بقوله‏:‏ ‏{‏الذي أتقن كل شيء، ومن أحسن من الله صبغة‏}‏ ‏{‏إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏ ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ انتهى‏.‏ وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام، واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه، من مذاهب المعتزلة‏.‏

والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، وهي جملة الحال، أي صنع الله بها ذلك، وهو قلعها من الأرض، ومرّها مرًّا مثل مر السحاب‏.‏ وأما قوله‏:‏ إلا أن مؤكده محذوف، وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله، يريد به الإثابة والمعاقبة، فذلك لا يصح، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته، لأنه منصوب بفعل من لفظه، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر، وذلك حذف كثير مخل‏.‏ ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة، وجد الجمل مصرحاً بها، لم يرد الحذف في شيء منها، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد، إذ الحذف ينافي التوكيد، لأنه من حيث أكد معتنى به، ومن حيث حذف غير معتنى به‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب صنع الله على الإغراء بمعنى، انظروا صنع الله‏.‏ وقرأ العربيان، وابن كثير‏:‏ يفعلون بالياء؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب‏.‏

ولما ذكر علامات القيامة، ذكر أحوال المكلفين بعد قيام الساعة‏.‏

‏{‏والحسنة‏}‏‏:‏ الإيمان‏.‏ وقال ابن عباس، والنخعي، وقتادة‏:‏ هي لا إله إلا الله، ورتب على مجيء المكلف بالحسنة شيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه له خير منها، ويظهر أن خيراً ليس أفعل تفضيل، ومن لابتداء الغاية، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها، أي من جهة هذه الحسنة، والخير هنا‏:‏ الثواب‏.‏

وهذا قول الحسن، وابن جريج، وعكرمة‏.‏ قال عكرمة‏:‏ ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله، يريد أنها ليست أفعل التفضيل‏.‏ وقيل‏:‏ أفعل التفضيل‏.‏ فقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏فله خير منها‏}‏، يريد الإضعاف، وأن العمل ينقضي والثواب يدوم، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد، تركيب مختلف فيه، فبعض العلماء منعه، والصحيح جوازه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون للتفضيل، ويكون في قوله‏:‏ ‏{‏منها‏}‏، حذف مضاف تقديره‏:‏ خير من قدرها واستحقاقها، بمعنى‏:‏ أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ يعطى بالواحدة عشراً، والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ ثواب المعرفة الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النظر إلى وجهه الكريم‏.‏ وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة، ولو لم تحمل الآية على ذلك، لزم أن يكون الأكل والشرب خيراً من معرفة الله تعالى، وذلك لا يكون‏.‏

وقرأ الكوفيون‏:‏ ‏{‏من فزع‏}‏، بالتنوين، ‏{‏ويومئذ‏}‏، منصوب على الظرف معمول لقوله‏:‏ ‏{‏آمنون‏}‏، أو لفزع‏.‏ ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه، أو في موضع الصفة لفزع، أي كائن في ذلك الوقت‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ بإضافة فزع إلى يومئذ؛ فكسر الميم العربيان، وابن كثير، وإسماعيل بن جعفر، عن نافع، وفتحها، بناء لإضافته إلى غير متمكن؛ نافع، في غير رواية إسماعيل‏.‏ والتنوين في يومئذ تنوين العوض، حذفت الجملة وعوض منها، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف، أي يوم، إذ جاء بالحسنة، ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ يوم إذ ترى الجبال، ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ يوم إذ ينفخ في الصور، ولا سيما إذا فسر بأنه نفخ القيام من القبور للحساب، ويكون الفزع إذ ذاك واحداً‏.‏ وقال أبو عليّ ما معناه‏:‏ من فزع، بالتنوين، أو بالإضافة، ويجوز أن يراد به فزع واحد، وأن يراد به الكثرة، لأنه مصدر‏.‏ فإن أريد الكثرة، شمل كل فزع يكون في القيامة، وإن أريد الواحد، فهو الذي أشير إليه بقوله‏:‏ ‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما الفرق بين الفزعين‏؟‏ قلت‏:‏ الفزع الأول‏:‏ ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة نفع، وهو يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به‏.‏ والثاني‏:‏ الخوف من العذاب‏.‏ انتهى‏.‏ والسيئة‏:‏ الكفر والمعاصي ممن حتم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار‏.‏ وخصت الوجوه، إذ كانت أشرف الأعضاء، ويلزم من كبها في النار كب الجميع، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة، كما قال‏:‏

‏{‏فكبكبوا فيها‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فكبوا في النار‏.‏ والظاهر من كبت، أنهم يلقون في النار منكوسين، قاله أبو العالية، أعلاهم قبل أسفلهم‏.‏ ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار، قاله الضحاك‏.‏ ‏{‏هل تجزون‏}‏‏:‏ خطاب لهم على إضمار القول، أي يقال لهم وقت الكب‏:‏ هل تجزون‏.‏

ثم أمر تعالى نبيه أن يقول‏:‏ ‏{‏إنما أمرت‏}‏، والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل، أو دليل العقل على وحدانية الله تعالى‏.‏ ‏{‏أن أعبد‏}‏‏:‏ أي أفرده بالعبادة، ولا أتخذ معه شريكاً، كما فعلت قريش، وهذه إشارة تعظيم كقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه‏}‏ هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه‏.‏ والبلدة‏:‏ مكة، وأسند التحريم إليه تشريفاً لها واختصاصاً، ولا تعارض بين قوله‏:‏ ‏{‏الذي حرمها‏}‏، وقوله عليه السلام‏:‏ «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة»، لأن إسناد ذلك إلى الله من حيث كان بقضائه وسابق علمه، وإسناده إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏حرمها‏}‏، تنبيه بنعمته على قريش، إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات والفتن التي تكون في بلاد العرب، وأهلك من أرادها بسوء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ الذي‏:‏ صفة للرب‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس‏:‏ التي حرمها‏:‏ صفة للبلدة، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة، أخبر أنه يملك كل شيء فقال‏:‏ ‏{‏وله كل شيء‏}‏، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص، وعلى جهة العموم‏.‏ ‏{‏وأمرت أن أكون من المسلمين‏}‏‏:‏ أي من المستسلمين المنقادين لأمر الله، فاعبده كما أمرني، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله‏:‏ ‏{‏هو سماكم المسلمين‏}‏، ‏{‏وأن أتلوا القران‏}‏، إما من التلاوة، أي‏:‏ وأن أتلو عليكم القرآن، وهذا الظاهر، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة، وإما من المتلو، أي‏:‏ وأن أتبع القرآن، كقوله‏:‏ ‏{‏واتبع ما يوحى إليك‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وأن أتلو‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ وأن اتل، بغير واو، أمراً من تلا، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار‏:‏ وأمرت أن أتل، أي اتل‏.‏ وقرأ أبي‏:‏ واتل هذا القرآن، جعله أمراً دون أن‏.‏ ‏{‏فمن اهتدى‏}‏، به ووحد الله ونبيه وآمن بما جاء به، فثمرة هدايته مختصة به‏.‏ ‏{‏ومن ضل‏}‏، فوبال إضلاله مختص به، وحذف جواب من ضل لدلالة جواب مقابله عليه، أو يقدر في قوله‏:‏ ‏{‏فقل إنما أنا من المنذرين‏}‏ ضمير حي يربط الجزاء بالشرط، إذ أداة الشرط اسم وليس ظرفاً، فلا بد في جملة الجواب من ذكر يعود عليه ملفوظ به أو مقدر، فتكون هذه الجملة هي جواب الشرط، ويقدر الضمير من المنذرين له، ليس علي إلا إنذاره، وأما هدايته فإلى الله‏.‏

‏{‏وقل الحمد لله‏}‏‏:‏ أمر أن يقول ذلك، فيحمد ربه على ما خصه به من شرف النبوة والرسالة، واختصه من رفيع المنزلة‏.‏ ‏{‏سيريكم آياته‏}‏‏:‏ تهديد لأعدائه بما يريهم الله من آياته التي تضطرهم إلى معرفتها والإقرار أنها آيات الله‏.‏ قال الحسن‏:‏ وذلك في الآخرة حتى لا تنفعهم المعرفة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ في الدنيا؛ وهي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من نقمات الله‏.‏ وقيل‏:‏ يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ خروج الدابة، ولو بعد حين‏.‏ وقيل‏:‏ آياته في أنفسكم وفي سائر ما خلق مثل قوله‏:‏ ‏{‏سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم‏}‏ وقيل‏:‏ معجزات الرسول، وأضافها إليه لأنه هو مجريها على يدي رسوله، ومظهرها من جهته‏.‏ ‏{‏فتعرفونها‏}‏‏:‏ أي حقيقتها، ولا يسعكم جحودها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ عما يعملون، بياء الغيبة، التفاتاً من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة؛ ونافع، وابن عامر‏:‏ بتاء الخطاب لقوله‏:‏ ‏{‏سيريكم‏}‏‏.‏ ولما قسمهم إلى مهتد وضال، أخبر تعالى أنه محيط بأعمالهم، غير غافل عنها‏.‏

سورة القصص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏طسم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏4‏)‏ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ‏(‏5‏)‏ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية كلها، قاله الحسن وعطاء وعكرمة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فيها من المدني ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب من قبله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا نبتغي الجاهلين‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت بين مكة والجحفة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ بالجحفة، في خروجه عليه السلام للهجرة‏.‏ وقال ابن سلام‏:‏ نزل ‏{‏إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد‏}‏، بالجحفة، وقت الهجرة إلى المدينة‏.‏ ومناسبة أول هذه السورة لآخر السورة قبلها أنه أمره تعالى بحمده، ثم قال‏:‏ ‏{‏سيريكم آياته‏}‏ وكان مما فسر به آياته تعالى معجزات الرسول، وأنه أضافها تعالى إليه، إذ كان هو المخبر بها على قدمه فقال‏:‏ ‏{‏تلك آيات الكتاب‏}‏، إذ كان الكتاب هو أعظم المعجزات وأكبر الآيات البينات، والظاهر أن الكتاب هو القرآن، وقيل‏:‏ اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏نتلوا‏}‏‏:‏ أي نقرأ عليك بقراءة جبريل، أو نقص‏.‏ ومفعول ‏{‏نتلوا من نبأ‏}‏‏:‏ أي بعض نبأ، وبالحق متعلق بنتلو، أي محقين، أو في موضع الحال من نبأ، أي متلبساً بالحق، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتلاوة‏.‏ ‏{‏علا في الأرض‏}‏‏:‏ أي تجبر واستكبر حتى ادّعى الربوبية الإلهية‏.‏ والأرض‏:‏ أرض مصر، والشيع‏:‏ الفرق‏.‏ ملك القبط واستعبد بني إسرائيل، أي يشيعونه على ما يريد، أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته، أو ناساً في بناء وناساً في حفر، وغير ذلك من الحرف الممتهنة‏.‏ ومن لم يستخدمه، ضرب عليه الجزية، أو أغرى بعضهم ببعض ليكونوا له أطوع، والطائفة المستضعفة بنو إسرائيل‏.‏ والظاهر أن ‏{‏يستضعف‏}‏ استئناف يبين حال بعض الشيع، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير، وجعل وأن تكون صفة لشيعاً، ويذبح تبيين للاستضعاف، وتفسير أو في موضع الحال من ضمير يستضعف، أو في موضع الصفة لطائفة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ يذبح، مضعفاً؛ وأبو حيوة، وابن محيصن‏:‏ بفتح الياء وسكون الذال‏.‏

‏{‏إنه كان من المفسدين‏}‏‏:‏ علة لتجبره ولتذبيح الأبناء، إذ ليس في ذلك إلاّ مجرد الفساد‏.‏ ‏{‏ونريد‏}‏‏:‏ حكاية حال ماضية، والجملة معطوفة على قوله‏:‏ ‏{‏إن فرعون‏}‏، لأن كلتيهما تفسير للبناء، ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في يستضعف، لاحتياجه إلى إضمار مبتدأ، أي ونحن نريد، وهو ضعيف‏.‏ وإذا كانت حالاً، فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المنة من الله ولا يمكن الاقتران‏؟‏ فقيل‏:‏ لما كانت المنة بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم‏.‏ و‏{‏أن نمن‏}‏‏:‏ أي بخلاصهم من فرعون وإغراقه‏.‏ ‏{‏ونجعلهم أئمة‏}‏‏:‏ أي مقتدى بهم في الدين والدنيا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ دعاة إلى الخير‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ولاة، كقولهم وجعلكم ملوكاً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أنبياء‏.‏

‏{‏ونجعلهم الوارثين‏}‏‏:‏ أي يرثون فرعون وقومه، ملكهم وما كان لهم‏.‏ وعن علي، الوارثون هم‏:‏ يوسف عليه السلام وولده، وعن قتادة أيضاً‏:‏ ورثوا أرض مصر والشام‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ونمكن‏}‏، عطفاً على نمن‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ ولنمكن، بلام كي، أي وأردنا ذلك لنمكن، أو ولنمكن فعلنا ذلك‏.‏ والتمكين‏:‏ التوطئة في الأرض، هي أرض مصر والشام، بحيث ينفذ أمرهم ويتسلطون على من سواهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ونري‏}‏، مضارع أرينا، ونصب ما بعده‏.‏ وعبد الله، وحمزة، والكسائي‏:‏ ونرى، مضارع رأى، ورفع ما بعده‏.‏ ‏{‏وهامان‏}‏‏:‏ وزير فرعون وأحد رجاله، وذكر لنباهته في قومه ومحله من الكفر‏.‏ ألا ترى إلى قوله له‏:‏ ‏{‏يا هامان ابن لي صرحاً‏}‏ ويحذرون أي زوال ملكهم وإهلاكهم على يدى مولود من بني إسرائيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏7‏)‏ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ‏(‏8‏)‏ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

إيحاء الله إلى أم موسى‏:‏ إلهام وقذف في القلب، قاله ابن عباس وقتادة؛ أو منام، قاله قوم؛ أو إرسال ملك، قاله قطرب وقوم، وهذا هو الظاهر لقوله‏:‏ ‏{‏إنّا رادُّوه إليك وجاعلوه من المرسلين‏}‏‏.‏ وأجمعوا على أنها لم تكن نبية، فإن كان الوحي بإرسال ملك، كما هو الظاهر، فهو كإرساله للأقرع والأبرص والأعمى، وكما روي من تكليم الملائكة للناس‏.‏ والظاهر أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة، فيكون ثم جملة محذوفة، أي ووضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه‏.‏ ‏{‏وأوحينا‏}‏، و‏{‏أن‏}‏ تفسيرية، أو مصدرية‏.‏ وقيل‏:‏ كان الوحي قبل الولادة‏.‏ وقرأ عمرو بن عبد الواحد، وعمر بن عبد العزيز‏:‏ أن ارضعيه، بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس، لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة، وهي الفتحة، إلى النون، كقراءة ورش‏.‏

‏{‏فإذا خفت عليه‏}‏ من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأولاد، ‏{‏فألقيه في اليم‏}‏‏.‏ قال الجنيد‏:‏ إذا خفت حفظه بواسطة، فسلميه إلينا بإلقائه في البحر، واقطعي عنك شفقتك وتدبيرك‏.‏ وزمان إرضاعه ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ثمانية، أقوال‏.‏ واليم هنا‏:‏ نيل مصر‏.‏ ‏{‏ولا تخافي‏}‏‏:‏ أي من غرقه وضياعه، ومن التقاطه، فيقتل، ‏{‏ولا تحزني‏}‏ لمفارقتك إياه، ‏{‏إنّا رادّوه إليك‏}‏، وعد صادق يسكن قلبها ويبشرها بحياته وجعله رسولاً، وقد تقدم في سورة طه طرف من حديث التابوت ورميه في اليم وكيفية التقاطه، فأغنى عن إعادته‏.‏ واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعراً فقالت‏:‏ أبعد قوله تعالى ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى‏}‏ الآية، فصاحة‏؟‏ وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين‏.‏

‏{‏فالتقطه آل فرعون‏}‏‏:‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ ففعلت ما أمرت به من إرضاعه ومن إلقائه في اليم‏.‏ واللام في ‏{‏ليكون‏}‏ للتعليل المجازي، لما كان مآل التقاطه وتربيته إلى كونه عدواً لهم ‏{‏وحزناً‏}‏، وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني، وكونه يكون حبيباً لهم، ويعبر عن هذه اللام بلام العاقبة وبلام الصيرورة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وحزناً، بفتح الحاء والزاي، وهي لغة قريش‏.‏ وقرأ ابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وابن سعدان‏:‏ بضم الحاء وإسكان الزاي‏.‏ والخاطئ‏:‏ المتعمد الخطأ، والمخطئ‏:‏ الذي لا يتعمده‏.‏ واحتمل أن يكون في الكلام حذف، وهو الظاهر، أي فكان لهم عدواً وحزناً، أي لأنهم كانوا خاطئين، لم يرجعوا إلى دينه، وتعمدوا الجرائم والكفر بالله‏.‏ وقال المبرد‏:‏ خاطئين على أنفسهم بالتقاطه‏.‏ وقيل‏:‏ بقتل أولاد بني إسرائيل‏.‏ وقيل‏:‏ في تربية عدوّهم‏.‏

وأضيف الجند هنا وفيما قبل إلى فرعون وهامان، وإن كان هامان لا جنود له، لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير، إذ بالوزير تحصل الأموال، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال‏.‏ وقرئ‏:‏ خاطيين، بغير همز، فاحتمل أن يكون أصله الهمز‏.‏

وحذفت، وهو الظاهر‏.‏ وقيل‏:‏ من خطا يخطو، أي خاطين الصواب‏.‏

ولما التقطوه، هموا بقتله، وخافوا أن يكون المولود الذي يحذرون زوال ملكهم على يديه، فألقى الله محبته في قلب آسية امرأة فرعون، ونقلوا أنها رأت نوراً في التابوت، وتسهل عليها فتحه بعد تعسر فتحه على يدي غيرها، وأن بنت فرعون أحبته أيضاً لبرئها من دائها الذي كان بها، وهو البرص، بإخبار من أخبر أنه لا يبرئها إلا ريق إنسان يوجد في تابوت في البحر‏.‏

وقرة‏:‏ خبر مبتدأ محذوف، أي هو قرة، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر ‏{‏لا تقتلوه‏}‏؛ وتقدم شرح قرة في آخر الفرقان‏.‏ وذكر أنها لما قالت لفرعون‏:‏ ‏{‏قرة عين لي ولك‏}‏، قال‏:‏ لك لا لي‏.‏ وروي أنها قالت له‏:‏ لعله من قوم آخرين ليس من بني إسرائيل، وأتبعت النهي عن قتله برجائها أن ينفعهم لظهور مخايل الخير فيه من النور الذي رأته، ومن برإ البرص، أو يتخذوه ولداً، فإنه أهل لذلك‏.‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏‏:‏ جملة حالية، أي لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يديه، قاله قتادة؛ أو أنه عدو لهم، قاله مجاهد؛ أو أني أفعل ما أريد لا ما يريدون، قاله محمد بن إسحاق‏.‏ والظاهر أنه من كلام الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ هو من كلام امرأة فرعون، أي قالت ذلك لفرعون، والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبه عليه، لئلا يغروه بقتله‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ تقدير الكلام‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏، و‏{‏قالت امرأة فرعون‏}‏ كذا، ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن فرعون‏}‏ الآية، جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم‏.‏ انتهى‏.‏ ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير فصل كان أحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وأصبح‏}‏‏:‏ أي صار فارغاً من العقل، وذلك حين بلغها أنه وقع في يد فرعون، فدهمها أمر مثله لا يثبت معه العقل، لا سيما عقل امرأة خافت على ولدها حتى طرحته في اليم، رجاء نجاته من الذبح؛ هذا مع الوحي إليها أن الله يرده إليها ويجعله رسولاً، ومع ذلك فطاش لبها وغلب عليها ما يغلب على البشر عند مفاجأة الخطب العظيم، ثم استكانت بعد ذلك لموعود الله‏.‏ وقرأ أحمد بن موسى، عن أبي عمر وفؤاد‏:‏ بالواو‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى‏.‏ وقال مالك‏:‏ هو ذهاب العقل‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ فارغاً من الصبر‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ فارغاً من وعد الله ووحيه إليها، تناسته من الهم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ فارغاً من الحزن، إذ لم يغرق، وهذا فيه بعد، وتبعده القراءات الشواذ التي في اللفظة‏.‏ وقرأ فضالة بن عبيد، والحسن، ويزيد بن قطيب، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير‏:‏ فزعاً، بالزاي والعين المهملة، من الفزع، وهو الخوف والقلق؛ وابن عباس‏:‏ قرعاً، بالقاف وكسر الراء وإسكانها، من قرع رأسه، إذا انحسر شعره، كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى‏.‏ وقيل‏:‏ قرعاً، بالسكون، مصدر، أي يقرع قرعاً من القارعة، وهي الهم العظيم‏.‏ وقرأ بعض الصحابة‏:‏ فزغاً، بالفاء مكسورة وسكون الزاي والغين المنقوطة، ومعناه‏:‏ ذاهباً هدراً تالفاً من الهم والحزن‏.‏ ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال‏:‏

فإن يك قتلي قد أصيْبت نفوسهم *** فلن تذهبوا فزغاً بقتل حبال

أي‏:‏ بقتل حبال فزغاً، أي هدراً لا يطلب له بثأر ولا يؤخذ‏.‏ وقرأ الخليل بن أحمد‏:‏ فرغاً، بضم الفاء والراء‏.‏ ‏{‏إن كادت لتبدي به‏}‏‏:‏ هي إن المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة‏.‏ وقيل‏:‏ إن نافية، واللام بمعنى إلاّ، وهذا قول كوفي، والإبداء‏:‏ إظهار الشيء‏.‏ والظاهر أن الضمير في به عائد على موسى عليه السلام، فقيل‏:‏ الباء زائدة، أي‏:‏ لتظهره‏.‏ وقيل‏:‏ مفعول تبدي محذوف، أي لتبدي القول به، أي بسببه وأنه ولدها‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في به للوحي، أي لتبدي بالوحي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كادت تصيح عند إلقائه في البحر وا ابناه‏.‏ وقيل‏:‏ عند رؤيتها تلاطم الأمواج به ‏{‏لولا أن ربطنا على قلبها‏}‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ بالإيمان‏.‏ وقال السدي‏:‏ بالعصمة‏.‏ وقال الصادق‏:‏ باليقين‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ بالوحي، و‏{‏لتكون من المؤمنين‏}‏‏.‏ فعلنا ذلك، أي المصدقين بوعد الله، وأنه كائن لا محالة‏.‏ والربط على القلب كناية عن قراره وإطمئنانه، شبه بما يربط مخافة الانفلات‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز‏:‏ وأصبح فؤادها فارغاً من الهم حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه‏.‏ ‏{‏إن كادت لتبدي‏}‏ بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت، لولا أنا ظلمنا قلبها وسكّنّا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج‏.‏

‏{‏لتكون من المؤمنين‏}‏ الواثقين بوعد الله، لا بتبني فرعون وتعطفه‏.‏ انتهى‏.‏ وما ذهب إليه الزمخشري من تجويز كونه فارغاً من الهم إلى آخره، خلاف ما فهمه المفسرون من الآية، وجواب لولا محذوف تقديره‏:‏ لكادت تبدي به، ودل عليه قوله‏:‏ ‏{‏إن كادت لتبدي به‏}‏، وهذا تشبيه بقوله‏:‏ ‏{‏وهم بها لولا أن رأى برهان ربه‏}‏ ‏{‏وقالت لأخته‏}‏، طمعاً منها في التعرف بحاله‏.‏ ‏{‏قصيه‏}‏‏:‏ أي اتبعي أثره وتتبعي خبره‏.‏ فروي أنها خرجت في سكك المدينة مختفية، فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يتطلبون له امرأة ترضعه، حين لم يقبل المراضع، واسم أخته مريم، وقيل‏:‏ كلثمة، وقيل‏:‏ كلثوم، وفي الكلام حذف، أي فقصت أثره‏.‏ ‏{‏فبصرت به‏}‏‏:‏ أي أبصرته؛ ‏{‏عن جنب‏}‏، أي عن بعد؛ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ بتطلبها له ولا بإبصارها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏عن جنب‏}‏‏:‏ عن شوق إليه، حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال‏:‏ هي لغة جذام، يقولون‏:‏ جنبت إليك‏:‏ اشتقت‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ جنب صفة لموصوف محذوف، أي عن مكان جنب، يريد بعيد‏.‏ وقيل‏:‏ عن جانب، لأنها كانت تمشي على الشط، وهم لا يشعرون أنها تقص‏.‏ وقيل‏:‏ لا يشعرون أنها أخته‏.‏ وقيل‏:‏ لا يشعرون أنه عدو لهم، قاله مجاهد‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ عن جنب، بضمتين‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ فبصرت، بفتح الصاد؛ وعيسى‏:‏ بكسرها‏.‏ وقرأ قتادة، والحسن، والأعرج، وزيد بن علي‏:‏ جنب، بفتح الجيم وسكون النون‏.‏ وعن قتادة‏:‏ بفتحهما أيضاً‏.‏ وعن الحسن‏:‏ بضم الجيم وإسكان النون‏.‏ وقرأ النعمان بن سالم‏:‏ عن جانب، والجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى واحد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معنى عن جنب‏:‏ أنها تنظر إليه كأنها لا تريده‏.‏ والتحريم هنا بمعنى المنع، أي منعناه أن يرضع ثدي امرأة؛ والمراضع جمع مرضع، وهي المرأة التي ترضع؛ أو جمع مرضع، وهو موضع الرضاع، وهو الثدي، أو الإرضاع‏.‏ ‏{‏من قبل‏}‏‏:‏ أي من أول أمره‏.‏ وقيل‏:‏ من قبل قصها أثره وإتيانه على من هو عنده‏.‏

‏{‏فقالت هل أدلكم‏}‏‏:‏ أي أرشدكم إلى ‏{‏أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون‏}‏، لكونهم فيهم شفقة ورحمة لمن يكفلونه وحسن تربية‏.‏ ودل قوله‏:‏ ‏{‏وحرمنا عليه المراضع‏}‏، أنه عرض عليه جملة من المرضعات، والظاهر أن الضمير في له عائد على موسى‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يعود على الملك الذي كان الطفل في ظاهر أمْره من جملته‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ تأول القوم أن الضمير للطفل فقالوا لها‏:‏ إنك قد عرفتيه، فأخبرينا من هو‏؟‏ فقالت‏:‏ ما أردت، إلا أنهم ناصحون للملك، فتخلصت منهم بهذا التأويل‏.‏ وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ فمرت بهم إلى أمه، فكلموها في إرضاعه؛ أو فجاءت بأمه إليهم، فكلموها في شأنه، فأرضعته، فالتقم ثديها‏.‏ ويروى أن فرعون قال لها‏:‏ ما سبب قبول هذا الطفل ثديك، وقد أبى كل ثدي‏؟‏ فقالت‏:‏ إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أوتي بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها، وذهبت به إلى بيتها، وأجرى لها كل يوم ديناراً‏.‏

وجاز لها أخذه لأنه مال حربي، فهو مباح، وليس ذلك أجرة رضاع‏.‏ ‏{‏فرددناه إلى أمّه‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّا رادّوه إليك‏}‏، ودمع الفرح بارد، وعين المهموم حرى سخنة، وقال أبو تمام‏:‏

فأما عيون العاشقين فأسخنت *** وأما عيون الشامتين فقرت

لما أنجز تعالى وعده في الردّ، ثبت عندها أنه سيكون نبياً رسولاً‏.‏ ‏{‏ولتعلم أن وعد الله حق‏}‏، فعلنا ذلك‏.‏ ولا يعلمون، أي أن وعد الله حق، فهم مرتابون فيه؛ أو لا يعلمون أن الرد إنما كان لعلمها بصدق وعد الله‏.‏ ولكن أكثر الناس لا يعلمون بأن الرد كان لذلك، وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولتعلم أن وعد الله حق‏}‏ دلالة على ضعف من ذهب إلى أن الإيحاء إليها كان إلهاماً أو مناماً، لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد‏.‏ وقوله‏:‏ ولتعلم وقوع ذلك فهو علم مشاهدة، إذ كانت عالمة أن ذلك سيكون، وأكثرهم هم القبط، ولا يعلمون سرّ القضاء‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ لا يعلمون مصالحهم وصلاح عواقبهم‏.‏ وقال الضحاك أيضاً، ومقاتل‏:‏ لا يعلمون أن الله وعدها رده إليها، وتقدم تفسير ‏{‏ولما بلغ أشده‏}‏ إلى ‏{‏المحسنين‏}‏ في سورة يوسف عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 21‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏16‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ‏(‏17‏)‏ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏19‏)‏ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏20‏)‏ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏المدينة‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ هي منف‏.‏ ركب فرعون يوماً وسار إليها، فعلم موسى عليه السلام بركوبه، فلحق بتلك المدينة في وقت القائلة، وعنه بين العشاء والعتمة‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ المدينة مصر بنفسها، وكان موسى قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وخاف، فدخلها متنكراً حذراً متغفلاً للناس‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ كان فرعون قد أخرجه من المدينة، فغاب عنها سنين، فنُسي، فجاء والناس في غفلة بنسيانهم له وبعد عهدهم به‏.‏ وقيل‏:‏ كان يوم عيد، وهم مشغولون بلهوهم‏.‏ وقيل‏:‏ خرج من قصر فرعون ودخل مصر‏.‏ وقيل‏:‏ المدينة عين شمس‏.‏ وقيل‏:‏ قرية على فرسخين من مصر يقال لها حابين‏.‏ وقيل‏:‏ الإسكندرية‏.‏ وقرأ أبو طالب القارئ‏:‏ ‏{‏على حين‏}‏، بنصب نون حين، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال‏:‏ على حين غفل أهلها، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض، كقوله‏:‏

على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وهذا توجيه شذوذ‏.‏ وقرأ نعيم بن ميسرة‏:‏ يقتلان‏.‏ بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف‏.‏ قيل‏:‏ كانا يقتتلان في الدين، إذ أحدهما إسرائيلي مؤمن والآخر قبطي‏.‏ وقيل‏:‏ يقتتلان، في أن كلف القبطي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون على ظهر الإسرائيلي، ويقتتلان صفة لرجلين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يقتتلان في موضع الحال‏.‏ انتهى‏.‏ والحال من النكرة أجازه سيبويه من غير شرط‏.‏ ‏{‏هذا من شيعته‏}‏‏:‏ أي ممن شايعه على دينه، وهو الإسرائيلي‏.‏ قيل‏:‏ وهو السامري، وهذا من عدوه، أي من القبط‏.‏ وقيل‏:‏ اسمه فاتون، وهذا حكاية حال، وقد كانا حاضرين حالة وجد أن موسى لهما، أو لحكاية الحال، عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر‏.‏ وقال المبرد‏:‏ العرب تشير بهذا إلى الغائب‏.‏ قال جرير‏:‏

هذا ابن عمي في دمشق خليفة *** لو شئت ساقكم إليّ قطينا

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فاستغاثة‏}‏، أي طلب غوثه ونصره على القبطي‏.‏ وقرأ سيبويه، وابن مقسم، والزعفراني‏:‏ بالعين المهملة والنون بدل الثاء، أي طلب منه الإعانة على القبطي‏.‏ قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة‏:‏ والاختيار قراءة ابن مقسم، لأن الإعانة أولى في هذا الباب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ذكرها الأخفش، وهي تصحيف لا قراءة‏.‏ انتهى‏.‏ وليست تصحيفاً، فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه، وابن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني‏.‏ وروي أنه لما اشتد التناكر بينهما قال القبطي لموسى‏:‏ لقد هممت أن أحمله عليك، يعني الحطب، فاشتد غضب موسى، وكان قد أوتي قوة، ‏{‏فوكزه‏}‏، فمات‏.‏ وقرأ عبد الله فلكزه، باللام، وعنه‏:‏ فنكزه، بالنون‏.‏ قال قتادة‏:‏ وكزه بعصاه؛ وغيره قال‏:‏ بجمع كفه، والظاهر أن فاعل ‏{‏فقضى‏}‏ ضمير عائد على موسى‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الله، أي فقضى الله عليه بالموت‏.‏

ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه، أي فقضى الوكز عليه، وكان موسى لم يتعمد قتله، ولكن وافقت وكزته الأجل، فندم موسى‏.‏ وروي أنه دفنه في الرمل وقال‏:‏ ‏{‏هذا من عمل الشطان‏}‏، وهو ما لحقه من الغضب حتى أدى إلى الوكزة التي قضت على القبطي، وجعله من عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه، لأنه أدى إلى قتل من لم يؤذن له في قتله‏.‏ وعن ابن جريج‏:‏ ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر‏.‏ وقال كعب‏:‏ كان موسى إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قتله خطأ، فإن الوكزة في الغالب لا تقتل‏.‏ وقال النقاش‏:‏ كان هذا قبل النبوة، وقد انتهج موسى عليه السلام نهج آدم عليه السلام إذ قال‏:‏ ‏{‏ظلمنا أنفسنا‏}‏ والباء في ‏{‏بما أنعمت‏}‏ للقسم، والتقدير‏:‏ أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة، والجواب محذوف، أي لأتوبن، ‏{‏فلن أكون‏}‏، أو متعلقة بمحذوف تقديره‏:‏ اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة، ‏{‏فلن أكون‏}‏ إن عصمتني ‏{‏ظهيراً للمجرمين‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فلن أكون‏}‏ دعاء لا خبر، ولن بمعنى لا في الدعاء، والصحيح أن لن لا تكون في الدعاء، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية، وبقول الشاعر‏:‏

لن تزالوا كذاكم ثم ما زلت *** لهم خالداً خلود الجبال

والمظاهرة، إما بصحبته لفرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما أنه أدت المظاهرة إلى القتل الذي جرى على يده‏.‏ وقيل‏:‏ بما أنعمت عليّ من النبوّ، فلن أستعملها إلاّ في مظاهرة أوليائك، ولا أدع قبطياً يغلب إسرائيلياً‏.‏ واحتج أهل العلم بهذه الآية على منع معونة أهل الظلم وخدمتهم، نص على ذلك عطاء بن أبي رباح وغيره‏.‏ وقال رجل لعطاء‏:‏ إن أخي يضرب بعلمه ولا يعدو رزقه، قال‏:‏ فمن الرأس، يعني من يكتب له‏؟‏ قال‏:‏ خالد بن عبد الله القسري، قال‏:‏ فأين قول موسى‏؟‏ وتلا الآية‏:‏ ‏{‏فأصبح في المدينة خائفاً‏}‏ من قبل القبطي أن يؤخذ به، يترقب وقوع المكروه، به أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه‏؟‏ قيل‏:‏ خائفاً من أنه يترقب المغفرة‏.‏ وقيل‏:‏ خائفاً يترقب نصرة ربه، أو يترقب هداية قومه، أو ينتظر أن يسلمه قومه‏.‏ ‏{‏فإذا الذي استنصره بالأمس‏}‏‏:‏ أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطي بسببه‏.‏ وإذا هنا للمفاجأة، وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ، وهو معرب، فحركة سينه حركة إعراب لأنه دخلته أل، بخلاف حاله إذا عري منها، فالحجاز تنبيه إذا كان معرفة، وتميم تمنعه الصرف حالة الرفع فقط، ومنهم من يمنعه الصرف مطلقاً، وقد يبنى مع أل على سبيل الندور‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وإني حسبت اليوم والأمس قبله *** إلى الليل حتى كادت الشمس تغرب

‏{‏يستصرخه‏}‏‏:‏ يصيح به مستغيثاً من قبطيّ آخر، ومنه قول الشاعر‏:‏

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصراخ له قرع الطنابيب

قال له موسى‏:‏ الظاهر أن الضمير في له عائد على الذي ‏{‏إنك لغوي مبين‏}‏ لكونك كنت سبباً في قتل القبطي بالأمس، قال له ذلك على سبيل العتاب والتأنيب‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في له، والخطاب للقبطي، ودل عليه قوله‏:‏ يستصرخه، ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي‏.‏ ‏{‏فلما أن أراد أن يبطش‏}‏‏:‏ الظاهر أن الضمير في أراد ويبطش هو لموسى‏.‏ ‏{‏بالذي هو عدو لهما‏}‏‏:‏ أي للمستصرخ وموسى وهو القبطي يوهم الإسرائيلي أن قوله‏:‏ ‏{‏إنك لغوي مبين‏}‏ هو على سبيل إرادة السوء به، وظن أنه يسطو عليه‏.‏ قال، أي الإسرائيلي‏:‏ ‏{‏يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس‏}‏، دفعاً لما ظنه من سطو موسى عليه، وكان تعيين القائل القبطي قد خفي على الناس، فانتشر في المدينة أن قاتل القبطي هو موسى، ونمى ذلك إلى فرعون، فأمر بقتل موسى‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في أراد ويبطش للإسرائيلي عند ذلك من موسى، وخاطبه بما يقبح، وأن بعد لما يطرد زيادتها‏.‏ وقيل‏:‏ لو إذا سبق قسم كقوله‏:‏

فأقسم أن لو التقينا وأنتم *** لكان لكم يوم من الشر مظلم

وقرأ الجمهور‏:‏ يبطش، بكسر الطاء؛ والحسن، وأبو جعفر‏:‏ بضمها‏.‏ ‏{‏إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض‏}‏‏:‏ وشأن الجبار أن يقتل بغير حق‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ من قتل رجلين فهو جبار، يعني بغير حق، ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح‏.‏ ‏{‏وجاء رجل من أقصى المدينة‏}‏، قيل‏:‏ هو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون‏.‏ قال الكلبي‏:‏ واسمه جبريل بن شمعون‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ شمعون بن إسحاق‏.‏ وقيل‏:‏ هو غير مؤمن آل فرعون‏.‏ ‏{‏يسعى‏}‏‏:‏ يشتد في مشيه‏.‏ ولما أمر فرعون بقتله، خرج الجلاوزة من الشارع الأعظم، فسلك هذا الرجل طريقاً أقرب إلى موسى‏.‏ ومن أقصى المدينة، ويسعى‏:‏ صفتان، ويجوز أن يكون يسعى حالاً، ويجوز أن يتعلق من أقصى بجاء‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وإذا جعل، يعني، من أقصى حالاً، لجاء لم يجز في يسعى إلاّ الوصف‏.‏ انتهى‏.‏ يعني‏:‏ أن رجلاً يكون نكرة لم توصف، فلا يجوز منها الحال، وقد أجاز ذلك سيبويه في كتابه من غير وصف‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏إن الملأ‏}‏، وهم وجوه أهل دولة فرعون، ‏{‏يأتمرون‏}‏‏:‏ يتشاورون، قال الشاعر، وهو النمر بن تولب‏:‏

أرى الناس قد أحدثوا شيمة *** وفي كل حادثة يؤتمر

وقال ابن قتيبة‏:‏ يأمر بعضهم بعضاً بقوله، من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وائتمروا بينكم بمعروف‏}‏ ‏{‏فاخرج إني لك من الناصحين‏}‏‏.‏ ولك‏:‏ متعلق إما بمحذوف، أي ناصح لك من الناصحين، أو بمحذوف على جهة البيان، أي لك أعني، أو بالناصحين، وإن كان في صلة أل، لأنه يتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما‏.‏ وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما أشبه هذا، فامتثل موسى ما أمره به ذلك الرجل، وعلم صدقه ونصحه، وخرج وقد أفلت طالبيه فلم يجدوه‏.‏ وكان موسى لا يعرف ذلك الطريق، ولم يصحب أحداً، فسلك مجهلاً، واثقاً بالله تعالى، داعياً راغباً إلى ربه في تنجيته من الظالمين‏.‏