فصل: تفسير الآيات رقم (99- 113)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 113‏]‏

‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏108‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏109‏)‏ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏110‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏111‏)‏ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏‏}‏

تل الرجلُ الرجَل‏:‏ صرعه على شقه، وقيل‏:‏ وضعه بقوة‏.‏ وقال ساعدة بن حوبة‏:‏

وتل تليلاً للجبين وللفم ***

والجبينان‏:‏ ما اكتف من هنا ومن هنا، وشذ جمع الجبين على أجبن، وقياسه في القلة أجبنة، ككثيب وأكثبة، وفي الكثرة‏:‏ جبنات وجبن، ككثبات وكثب‏.‏ الذبح‏:‏ اسم ما يذبح، كالرعي اسم ما يرعى‏.‏ أبق‏:‏ هرب‏.‏ ساهم‏:‏ قارع‏.‏ المدحض‏:‏ المقلوب‏.‏ الحوت‏:‏ معروف‏.‏ ألام‏:‏ أتى بما يلام عليه، قال الشاعر‏:‏

وكم من ميلم لم يصب بملامة *** ومتبع بالذنب ليس له ذنب

‏{‏وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام إن أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا بأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين، وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين‏}‏‏.‏

لما سلمه الله منهم ومن النار التي ألقوه فيها، عزم على مفارقتهم، وعبر بالذهاب إلى ربه عن هجرته إلى أرض الشام‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏إني مهاجر إلى ربي‏}‏ ليتمكن من عبادة ربه ويتضرع له من غير أن يلقي من يشوش عليه، فهاجر من أرض بابل، من مملكة نمرود، إلى الشأم‏.‏ وقيل‏:‏ إلى أرض مصر‏.‏ ويبعد قول من قال‏:‏ ليس المراد بذهابه الهجرة، وإنما مراده لقاء الله بعد الإحراق، ظاناً منه أنه سيموت في النار، فقالها قبل أن يطرح في النار‏.‏ و‏{‏سيهدين‏}‏‏:‏ أي إلى الجنة، نحا إلى هذا قتادة، لأن قوله‏:‏ ‏{‏رب هب لي من الصالحين‏}‏ يدفع هذا القول، والمعتقد أنه يموت في النار لا يدعو بأن يهب الله له ولداً صالحاً‏.‏ ‏{‏سهيدين‏}‏‏:‏ يوفقني إلى ما فيه صلاحي‏.‏ ‏{‏من الصالحين‏}‏‏:‏ أي ولداً يكون في عداد الصالحين‏.‏ ولفظ الهبة غلب في الولد، وإن كان قد جاء في الأخ، كقوله‏:‏ ‏{‏ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً‏}‏ واشتملت البشارة على ذكورية المولود وبلوغه سن الحلم ووصفه بالحلم، وأي حلم أعظم من قوله، وقد عرض عليه أبوه الذبح‏:‏ ‏{‏ستجدني إن شاء الله من الصابرين‏}‏‏؟‏

‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏، بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف تقديره‏:‏ فولد له وشب‏.‏ ‏{‏فلما بلغ‏}‏‏:‏ أي أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد‏:‏ والسعى هنا‏:‏ العمل والعبادة والمعونة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ السعي على القدم، يريد سعياً متمكناً، وفيه قال الزمخشري‏:‏ لا يصح تعلقه ببلغ به بلوغهما معاً حد السعي ولا بالسعي، لأن أصله المصدر لا يتقدم عليه، فنفى أن يكون بياناً، كأنه لما قال‏:‏ ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏، أي الحد الذي يقدر فيه على السعي، قيل‏:‏ مع من‏؟‏ فقال‏:‏ مع أبيه، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس وأعطفهم عليه وعلى غيره وبما عنف عليه في الاستسعاء، فلا يحتمله، لأنه لم يستحكم قوله، ولم يطلب عوده، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة‏.‏

انتهى‏.‏

‏{‏ق يا بني‏}‏‏:‏ نداء شفقة وترحم‏.‏ ‏{‏إني أرى في المنام إني أذبحك‏}‏‏:‏ أي بأمر من الله، ويدل عليه‏:‏ ‏{‏افعل ما تؤمر‏}‏‏.‏ ورؤيا الأنبياء وحي كاليقظة، وذكره له الرؤيا تجسير على احتمال تلك البلية العظيمة‏.‏ وشاوره بقوله‏:‏ ‏{‏فانظر ماذا ترى‏}‏، وإن كان حتماً من الله ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم، ويصبره إن جزع، ويوطن نفسه على ملاقاة هذا البلاء، وتسكن نفسه لما لا بد منه، إذ مفاجأة البلاء قبل الشعور به أصعب على النفس، وكان ما رآه في المنام ولم يكن في اليقظة، كرؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام، ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناماً سواء في الصدق متظافرتان عليه‏.‏ قيل‏:‏ إنه حين بشرت الملائكة بغلام حليم قال‏:‏ هو إذن ذبيح الله‏.‏ فلما بلغ حد السعي معه قيل له‏:‏ أوف بنذرك‏.‏ قيل‏:‏ رآى ليلة التروية قائلاً يقول له‏:‏ إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا‏.‏ فلما أصبح، روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح‏.‏ أمن الله هذا الحلم، فمن ثم سمي يوم التروية‏.‏ فلما أمس رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فمن ثم سمي يوم عرفة‏.‏ ثم رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحرة، فسمي يوم النحر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ترى‏}‏، بفتح التاء والراء؛ وعبد الله، والأسود بن يزيد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، ومجاهد، وحمزة، والكسائي‏:‏ بضم التاء وكسر الراء؛ والضحاك، والأعمش أيضاً بضم التاء وفتح الراء‏.‏ فالأول من الرأي، والثاني ماذا ترينيه وما تبديه لأنظر فيه‏؟‏ والثالث ما الذي يخيل إليك ويوقع في قلبك‏؟‏ وانظر معلقة، وماذا استفهام‏.‏ فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي، فما مبتدأ، والفعل بعد ذا صلة‏.‏ وإن كانت ذا مركبة، ففي موضع نصب بالفعل بعدها‏.‏ والجملة، واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لانظر‏.‏ ولما كان خطاب الأب ‏{‏يا بنيّ‏}‏، على سبيل الترحم، قال‏:‏ هو ‏{‏يا أبت‏}‏، على سبيل التعظيم والتوقير‏.‏ ‏{‏افعل ما تؤمر‏}‏‏:‏ أي ما تؤمره، حذفه وهو منصوب، وأصله ما تؤمر به، فحذف الحرف، واتصل الضمير منصوباً، فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو أمرك، على إضافة الصدر إلى المفعول الذي لم يسم فاعله، وفي ذلك خلاف؛ هل يعتقد في المصدر العامل أن يجوز أن يبنى للمفعول، فيكون ما بعده مفعولاً لم يسم فاعله، أم يكون ذلك‏؟‏ ‏{‏ستجدني إن شاء الله من الصابرين‏}‏‏:‏ كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله، والرضا بما أمر الله‏.‏

‏{‏فلما أسلما‏}‏‏:‏ أي لأمر الله، ويقال‏:‏ استسلم وسلم بمعناه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ أسلما‏.‏ وقرأ عبد الله، وعلي، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وجعفر بن محمد، والأعمش، والثوري‏:‏ سلما‏:‏ أي فوضا إليه في قضائه وقدره‏.‏ وقرئ‏:‏ استسلما، ثلاث قراءآت‏.‏ وقال قتادة في أسلما‏:‏ أسلم هذا ابنه، وأسلم هذا نفسه، فجعل أسلما متعدياً، وغيره جعله لازماً بمعنى‏:‏ انقاذ الأمر الله وخضعا له‏.‏ ‏{‏وتله للجبين‏}‏‏:‏ أي أوقعه على أحد جنبيه في الأرض مباشراً الأمر بصبر وجلد، وذلك عند الصخرة التي بمنى؛ وعن الحسن‏:‏ في الموضع المشرف على مسجد منى؛ وعن الضحاك‏:‏ في المنحر الذي ينحر فيه اليوم‏.‏ وجواب لما محذوف يقدر بعد ‏{‏وتله للجبين‏}‏، أي أجزلنا أجرهما، قاله بعض البصريين؛ او بعد ‏{‏الرؤيا‏}‏، أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما وحمدهما الله على ما أنعم به إلى ألفاظ كثيرة ذكرها الزمخشري على عادته في خطابته؛ أو قبل ‏{‏وتله‏}‏ تقديره‏:‏ ‏{‏فلما أسلما وتله‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو قول الخليل وسيبويه، وهو عندهم كقول امرئ القيس‏:‏

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحي ***

وقال الكوفيون‏:‏ الجواب مثبت، وهو‏:‏ ‏{‏وناديناه‏}‏ على زيادة الواو‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو ‏{‏وتله‏}‏ على زيادة الواو‏.‏ وذكر الزمخشري في قصة إبراهيم وابنه، وما جرى بينهما من الأقوال والأفعال فصولاً، الله أعلم بصحتحها، يوقف عليها في كتابة‏.‏ وأن مفسرة، أي ‏{‏قد صدّقت‏}‏‏.‏ وقرأ زيد ابن علي‏:‏ وناديناه قد صدقت، بحذف أن؛ وقرئ‏:‏ صدقت، بتخفيف الدال‏.‏ وقرأ فياض‏:‏ الريا، بكسر الراء والإدغام وتصديق الرؤيا‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه، لكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم‏.‏ ألا ترى أنه لا يسمى عاصياً ولا مفرطاً‏؟‏ بل يسمى مطيعاً ومجتهداً، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم‏.‏ وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل، ولا قبل أو ان الفعل في شيء، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏قد صدّقت‏}‏، يحتمل أن يريد يقلبك على معنى‏:‏ كانت عندك رؤياك صادقة حقاً من الله فعلمت بحسبها حين آمنت بها، واعتقدت صدقها‏.‏ ويحتمل أن يريد‏:‏ صدقت بقلبك ما حصل عن الرؤيا في نفسك، كأنه قال‏:‏ قد وفيتها حقها من العمل‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏إنا كذلك نجزي المحسنين‏}‏‏:‏ تعليل لتخويل ما خولهما الله من الفرج بعد الشدة، والظفر بالبغية بعد اليأس‏.‏

‏{‏إن هذا‏}‏‏:‏ أي ما أمر به إبراهيم من ذبح ابنه، ‏{‏لهو البلاء المبين‏}‏‏:‏ أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون وغيرهم، أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها‏.‏ ‏{‏وفدنياه بذبح‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل‏.‏ وقال أيضاً هو والحسن‏:‏ فدي بوعل أهبط عليه من سرو‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ كبش أبيض أقرن أقنى، ووصف بالعظم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لأنه متقبل يقيناً‏.‏ وقال عمرو بن عبيد‏:‏ لأنه جرت السنة به، وصار ديناً باقياً إلى آخر الدهر‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ لأنه كان من عند الله‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ لأنه لم يكن عن نسل، بل عن التكوين‏.‏ وقال ابن عباس، وابن جبير‏:‏ عظمته كونه من كباش الجنة، رعى فيها أربعين خريفاً‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ دليل على أن إبراهيم لم يذبح ابنه، وقد فدي‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ وقع الذبح وقام بعد ذلك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا كذب صراح‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ لم ير إبراهيم في منامه الإمرار بالشفرة فقط، فظن أنه ذبح مجهز، فنفذ لذلك‏.‏ فلما وقع الذي رآه وقع النسخ، قال‏:‏ ولا اختلاف، فإن إبراهيم عليه السلام، أمرّ الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع‏.‏ انتهى‏.‏ والذي دل عليه القرآن أنه ‏{‏تله للجبين‏}‏ فقط، ولم يأت في حديث صحيح أنه أمرّ الشفرة على حلق ابنه‏.‏ ‏{‏وتركنا عليه‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏المؤمنين‏}‏، تقدم تفسير نظيره في آخر قصة نوح، قبل قصة إبراهيم هنا، وقال هنا كذلك دون إنا، اكتفاء بذكر ذلك قبل وبعد‏.‏

‏{‏وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين‏}‏‏:‏ الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة، وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل، وأنه هو الذبيح لا إسحاق؛ وهو قول ابن عباس، وابن عمر، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن كعب القرظي، والشعبي، والحسن، ومجاهد، وجماعة من التابعين؛ واستدلوا بظاهر هذه الآيات وبقوله عليه السلام‏:‏ أنا ابن الذبيحين، وقول الأعرابي له‏:‏ يا ابن الذبيحين‏:‏ فتبسم عليه السلام، يعني إسماعيل، وأباه عبد الله‏.‏ وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له‏:‏ افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بها‏.‏ وفيما أوحي الله لموسى في حديث طويل‏.‏ وأما إسماعيل، فإنه جاد بدم نفسه‏.‏ وسأل عمر بن عبد العزيز يهودياً أسلم عن ذلك فقال‏:‏ إن يهودياً ليعلم، لكهنم يحسدونكم معشر العرب، وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة‏.‏ وسأل الأصمعي أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال‏:‏ يا أصمعي، أين عزب عنك عقلك‏؟‏ ومتى كان إسحاق بمكة‏؟‏ وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة‏؟‏ انتهى‏.‏ ووصفه تعالى بالصبر في قوله‏:‏ ‏{‏وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين‏}‏ وهو صبره على الذبح؛ وبصدق الوعد في قوله‏:‏

‏{‏إنه كان صادق الوعد‏}‏ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به‏.‏ وذكر الطبري أن ابن عباس قال‏:‏ الذبيح إسماعيل، ويزعم اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود‏.‏ ومن أقوى ما يستدل به أن الله تعالى بشر إبراهيم بإسحاق، وولد إسحاق يعقوب‏.‏ فلو كان الذبيح إسحاق، لكان ذلك الإخبار غير مطابق للواقع، وهو محال في إخبار الله تعالى‏.‏ وذهبت جماعة إلى أن الذبيح هو إسحاق، منهم‏:‏ العباس بن عبد المطلب، وابن مسعود، وعلي، وعطاء، وعكرمة، وكعب، وعبيد بن عمير، وابن عباس في رواية، وكان أمر ذبحه بالشأم‏.‏ وقال عطاء ومقاتل‏:‏ ببيت المقدس؛ وقيل‏:‏ بالحجاز، جاء مع أبيه على البراق‏.‏ وقال عبيد بن عمير، وابن عباس في رواية‏:‏ وكان أمر ذبحه بالشأم، كان بالمقام‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ والبشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق‏}‏، هي بشارة نبوته‏.‏ وقالوا‏:‏ أخبر تعالى عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولداً، ثم أتبع تلك البشارة بغلام حليم، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به، ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف، عليهما السلام‏:‏ من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله إبن إبراهيم خليل الله‏.‏ ومن جعل الذبيح إسحاق، جعل هذه البشارة بشارة بنبوته، كما ذكرنا عن ابن عباس‏.‏ وقالوا‏:‏ لا يجوز أن يبشره الله بولادته ونبوته معاً، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبياً‏.‏ ومن جعله إسماعيل، جعل البشارة بولده إسحاق‏.‏ وانتصب نبياً على الحال، وهي حال مقدرة‏.‏ فإن كان إسحاق هو الذبيح، وكانت هذه البشارة بولادة إسحاق، فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال‏.‏ فإن قلت‏:‏ فرق بين هذا وقوله‏:‏ ‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ وذلك أن المدخول موجود مع وجود الدخول، والخلود غير موجود معهما، فقدرت مقدرين للخلود، فكان مستقيماً‏.‏ وليس كذلك المبشر به، فإنه معلوم وقت وجود البشارة، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله، لأن الحال حلية لا تقوم إلا بالمحلي‏.‏ وهذا المبشر به الذي هو إسحاق، حين وجد لم توجد النبوة أيضاً بوجوده، بل تراخت عنه مدة طويلة، فكيف يجعل نبياً حالاً مقدرة‏؟‏ والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به‏.‏ فالخلود، وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة، فتقديرها صفتهم، لأن المعنى‏:‏ مقدرين الخلود‏.‏ وليس كذلك النبوة، فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق‏.‏ قلت‏:‏ هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك، والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وبشرناه‏}‏ بوجود إسحاق نبياً، أي بأن يوجد مقدرة نبوته، فالعامل في الحال الوجود، لا فعل البشارة؛ وبذلك يرجع نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فادخولها خالدين‏}‏ ‏{‏من الصالحين‏}‏ حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ، لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصالحين‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وباركنا عليه وعلى إسحاق‏}‏‏:‏ أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا، وبأن أخرجنا أنبياء بني إسرائيل من صلبه‏.‏ ‏{‏ومن ذريتهما محسن وظالم‏}‏‏:‏ فيه وعيد لليهود ومن كان من ذريتهما لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن البر قد يلد الفاجر، ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 138‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏115‏)‏ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏116‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏119‏)‏ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏121‏)‏ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏122‏)‏ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ‏(‏125‏)‏ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏126‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏128‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏129‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ‏(‏130‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏131‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏134‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏135‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏136‏)‏ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ‏(‏137‏)‏ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

‏{‏الكرب العيظم‏}‏‏:‏ تعبد القبط لهم، ثم خوفهم من جيش فرعون، ثم البحر بعد ذلك، والضمير في ‏{‏ونصرناهم‏}‏ عائد على موسى وهارون وقومهما؛ وقيل‏:‏ عائد على موسى وهارون فقط، تعظيماً لهما بكناية الجماعة‏.‏ و‏{‏هم‏}‏‏:‏ يجوز أن يكون فصلاً وتوكيداً أو بدلاً‏.‏ و‏{‏الكتاب المستبين‏}‏‏:‏ التوراة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏ و‏{‏الصراط المستقيم‏}‏‏:‏ هو الإسلام وشرع الله‏.‏ و‏{‏إلياس‏}‏، قال ابن مسعود وقتادة‏:‏ هو إدريس عليه السلام‏.‏ ونقلوا عن ابن مسعود، وابن وثاب، والأعمش، والمنهال بن عمر، والحكم بن عتيبة الكوفي أنهم قرأوا‏:‏ وإن إدريس لمن المرسلين، وهو محمولة عندي على تفسيره، لأن المستفيض عن ابن مسعود أنه قرأ‏:‏ ‏{‏وإن إلياس‏}‏، وأيضاً تفسيره إلياس بأنه إدريس لعله لا يصح عنه، لأن إدريس في التاريخ المنقول كان قبل نوح‏.‏ وفي سورة الأنعام ذكر إلياس، وأنه ذرية إبراهيم، أو من ذرية نوح على ما يحتمله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا‏}‏ ‏{‏ومن ذريته داود‏}‏ وذكر في جملة هذه الذرية إلياس، وقيل‏:‏ إلياس من أولاد هارون‏.‏ قال الطبري‏:‏ هو إلياس بن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن هارون‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وإن إلياس‏}‏، بهمزة قطع مكسورة‏.‏ وقرأ عكرمة، والحسن‏:‏ بخلاف عنهما؛ والأعرج، وأبو رجاء، وابن عامر، وابن محيصن‏:‏ بوصل الألف، فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع، واحتمل أن يكون اسمه ياسا، ودخلت عليه أل، كما دخلت على أليسع‏.‏ وفي حرف أبيّ ومصحفه‏:‏ وإن إيليس، بهمزة مكسورة، بعدها ياء ساكنة، بعدها لام مكسورة، بعدها ياء ساكنة وسين مفتوحة‏.‏ وقرئ‏:‏ وإن أدراس، لغة في إدريس، كأبراهام في إبراهيم‏.‏

‏{‏أتدون بعلاً‏}‏‏:‏ أي أتعبدون بعلاً، وهو علم لصنم لهم، قاله الضحاك والحسن وابن زيد‏.‏ قيل‏:‏ وكان من ذهب، طوله عشرون ذراعاً، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك‏.‏ وقال عكرمة، وقتادة‏:‏ البعل‏:‏ الرب بلغة اليمن‏.‏ وسمع ابن عباس رجلاً ينشد ضالة، فقال له رجل‏:‏ أنا بعلها، فقال ابن عباس‏:‏ الله أكبر، أتدعون بعلاً‏؟‏ ويقال‏:‏ من بعل هذه الدار، أي ربها‏؟‏ والمعنى على هذا‏:‏ أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله‏؟‏ وقالت فرقة‏:‏ إن بعلاً اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها‏.‏ وقرئ‏:‏ أتدعون بعلاء، بالمد على وزن حمراء، ويؤنس هذه القراءة قول من قال‏:‏ إنه اسم امرأة‏.‏

وقرأ الكوفيون، وزيد بن عليّ‏:‏ ‏{‏الله ربَّكم وربَّ آبائكم‏}‏، بالنصب في الثلاثة بدلاً من ‏{‏أحسن‏}‏، أو عطف بيان إن قلنا إن إضافة التفضيل محضة؛ وباقي السبعة بالرفع، أي هو الله؛ أو يكون استئنافاً مبتدأ وربكم خبره‏.‏

وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب، وإذا قطع رفع‏.‏ ‏{‏فكذبوه‏}‏‏:‏ أي كذبه قومه، إما في قوله‏:‏ ‏{‏الله ربكم‏}‏ هذه النسب، أو فكذبوه فيما جاء به من عند الله من الأمر بالتوحيد وترك الصنم والايمان بما جاءت به الرسل‏.‏ ومحضرون‏:‏ مجموعون للعذاب‏.‏ ‏{‏إلا عباد الله المخلصين‏}‏‏:‏ استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، فهو استثناء متصل من ضمير ‏{‏فكذبوه‏}‏، ولا يجوز أن يكون استثناء من ‏{‏فإنهم لمحضرون‏}‏، لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب، ويكونون ‏{‏عباد الله المخلصين‏}‏، وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعاً، إذ يصير المعنى‏:‏ لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب، ولا مسيس لهؤلاء الممسوسين بالآية التي فيها قصة إلياس هذه‏.‏

وقرأ زيد بن عليّ، ونافع، وابن عامر‏:‏ على آل ياسين‏.‏ وزعموا أن آل مفصولة في المصحف، وياسين اسم لإلياس‏.‏ وقيل‏:‏ اسم لأبي إلياس، لأنه إلياس بن ياسين، وآل ياسين هو ابنه إلياس‏.‏ وقيل‏:‏ ياسين هو اسم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ ‏{‏على الياسين‏}‏، بهمزة مكسورة، أي الياسين، جمع المنسوبين إلى الياس معه، فسلم عليهم‏.‏ وهذا يدل على أن من قومه من كان اتبعه على الدين، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس، فلما جمعت، خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف، فالتفى ساكنان‏:‏ الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع، فحذفت لالتقائهما، كما قالوا‏:‏ الأشعرون والأعجمون والخبيبون والمهلبون‏.‏ وحكى أبو عمرو أن منادياً نادى يوم الكلاب‏:‏ ههلك اليزيديون‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لو كانا جمعاً، لعرف بالألف واللام‏.‏ وقرأ أبو رجاء، والحسن‏:‏ على الياسين، بوصل الألف على أنه جمع يراد به إلياس وقومه المؤمنون، وحذفت ياء النسب، كما قالوا‏:‏ الأشعرون، والألف واللام دخلت على الجمع، واسمه على هذا ياس‏.‏ وقرأ ابن مسعود، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس‏:‏ سلام على إدراسين‏.‏ وعن قتادة‏:‏ وإن إدريس‏.‏ وقرأ‏:‏ على إدريس‏.‏ وقرأ ابن عليّ‏:‏ إيليس، كقراءته وإن إيليس لمن المرسلين‏.‏ ‏{‏إلا عجوزاً‏}‏‏:‏ هي امرأة لوط، وكانت كافرة، إما مستترة بالكفر، وإما معلنة به‏.‏ وكان نكاح الوثنيات عندهم جائزاً‏.‏ ‏{‏مصبحين‏}‏‏:‏ أي داخلين في الأصباح‏.‏ والخطاب في ‏{‏وإنكم‏}‏ لقريش، وكانت متاجرهم إلى الشأم على مدائن قوم لوط‏.‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏، فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 157‏]‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏ فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

العراء‏:‏ الأرض الفيحاء لا شجر فيها ولا يعلم، قال الشاعر‏:‏

رفعت رجلاً لا أخاف عثارها *** ونبذت بالمين العراء ثيابي

اليقطين‏:‏ يفعيل كاليفصيد، من قطن‏:‏ أقام بالمكان، وهو بالمكان، وهو ما كان من الشجر لا يقوم على ساق من عود، كشجر البطيخ والحنظل والقثاء‏.‏ الساحة‏:‏ الفناء، وجمعها سوح، قال الشاعر‏:‏

فكان سيان أن لا يسرحوا نعما *** أو يسرحوه بها واغبرت السوح

‏{‏وإن يونس لمن المرسلين، إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين، وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين، فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون، أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون، ألا إنهم من إفكهم ليقولون، ولد الله وإنهم لكاذبون، أصطفى البنات على البنين، ما لكم كيف تحكمون، أفلا تذكّرون، أم لكم سلطان مبين، فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين‏}‏‏.‏

يونس بن متى من بني إسرائيل‏.‏ وروي أنه نبئ وهو ابن ثمان وعشرين سنة، بعثه الله إلى قومه، فدعاهم للإيمان فخالفوه، فوعدهم بالعذاب، فأعلمهم الله بيومه، فحدده يونس لهم‏.‏ ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا، فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم‏.‏ وتقدم شرح قصته، وأعدنا طرف منها ليفيد ما بين الذكرين‏.‏ قيل‏:‏ ولحق يونس غضب، فأبق إلى ركوب السفينة فراراً من قومه، وعبر عن الهروب بالإباق، إذ هو عبد الله، خرج فاراً من غير إذن من الله‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه لما أبعدت السفينة في البحر، ويونس فيها، ركدت‏.‏ فقال أهلها‏:‏ إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه، فلنقترع‏.‏ فأخذوا لكل سهماً، على أن من طفا سهمه فهو، ومن غرق سهمه فليس إياه، فطفا سهم يونس‏.‏ فعلوا ذلك ثلاثاً، تقع القرعة عليه، فأجمعوا على أن يطرحوه‏.‏ فجاء إلى ركن منها ليقع منها، فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له‏.‏ فانتقل إلى الركن الآخر، فوجدها حتى استدار بالمركب وهي لا تفارقه، فعلم أن ذلك من عند الله، فترامى إليها فالتقمته‏.‏ ففي قصة يونس عليه السلام هنا جمل محذوفة مقدرة قبل ذكر فراره إلى الفلك، كما في قصته في سورة الأنبياء في قوله‏:‏ ‏{‏إذ ذهب مغاضباً‏}‏ هو ما بعد هذا، وقوله‏:‏ ‏{‏فنادى في الظلمات‏}‏ جمل محذوفة أيضاً‏.‏ وبمجموع القصص يتبين ما حذف في كل قصة منها‏.‏

‏{‏فساهم فكان من المدحضين‏}‏‏:‏ من المغلوبين، وحقيقته من المزلقين عن مقام الظفر في الاستهام‏.‏ وقرئ‏:‏ ‏{‏وهو مليم‏}‏، بفتح الميم، وقياسه ملوم، لأنه من لمته ألومه لوماً، فهو من ذوات الواو، ولكنه جيء به على أليم، كما قالوا‏:‏ مشيب ومدعى في مشوب، ومدعو بناء على شيب ودعى‏.‏

‏{‏من المسبحين‏}‏‏:‏ من الذاكرين الله تعالى بالتسبيح والتقديس‏.‏ والظاهر أنه يريد ما ذكر في قوله في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏}‏ وقال ابن جبير‏:‏ هو قوله سبحان الله‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ تسبيحه صلاة التطوع؛ فقال ابن عباس، وقتادة، وأبو العالية‏:‏ صلاته في وقت الرخاء تنفعه في وقت الشدة‏.‏ وقال الضحاك بن قيس على منبره‏:‏ اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبداً ذاكراً، فلما أصابته الشدة نفعه ذلك‏.‏ قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ تسبيحه‏:‏ صلاته في بطن الحوت‏.‏ وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه يقول‏:‏ لأبنين لك مسجداً حيث لم ينبه أحد قبلي‏.‏

وروي أن الحوت سافر مع السفينة رافعاً رأسه ليتنفس ويونس يسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالماً لم يتغير منه شيء، فأسلموا‏.‏ والظاهر أن قوله للبث في بطنه إلى يوم البعث، وعن قتادة‏:‏ لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة‏.‏ وذكر في مدة لبثه في بطن الحوت أقوالاً متكاذبة، ضربناً عن ذكرها صفحاً‏.‏ ‏{‏وهو سقيم‏}‏‏:‏ روي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، قاله ابن عباس والسدي‏.‏ وقال ابن عباس، وأبو هريرة، وعمرو بن ميمون‏:‏ اليقطين‏:‏ القرع خاصة، قيل‏:‏ وهي التي أنبتها الله عليه، وتجمع خصالاً، برد الظل، ونعومة الملمس، وعظم الورق، والذباب لا يقربها‏.‏ قيل‏:‏ وماء ورقه إذا رش به مكان لم يقربه ذباب، وقال أمية بن أبي الصلت‏:‏

فأنبت يقطيناً عليه برحمة *** من الله لولا الله ألفى ضياعيا

وفيما روي‏:‏ إنك لتحب القرع، قال‏:‏ أجل، هي شجرة أخي يونس‏.‏ وقيل‏:‏ هي شجرة الموز، تغطى بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها‏.‏ ومعنى ‏{‏أنبتنا عليه شجرة‏}‏، في كلام العرب‏:‏ ما كان على ساق من عود، فيحتمل أن يكون الله أنبتها ذات ساق يستظل بها وبورقها، خرقاً للعادة، فنبت وصح وحسن وجهه، لأن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده‏.‏

‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏، قال الجمهور‏:‏ رسالته هذه هي الأولى التي أبق بعدها، ذكرها آخر القصص تنبيهاً على رسالته، ويدل عليه‏:‏ ‏{‏فآمنوا فمتعناهم‏}‏، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس عليه السلام حتى أبق‏.‏ وقال ابن عباس، وقتادة‏:‏ هي رسالة أخرى بعد أن نبذه بالعراء، وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه، وهم أهل نينوى‏.‏ وقيل‏:‏ هو إرسال ثان بعد ما جري إليه إلى الأولين، أو إلى غيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى، لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيماً فيهم، فقال لهم‏:‏ إن الله باعث إليكم نبياً‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أو‏}‏، قال ابن عباس بمعنى بل‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى الواو وبالواو، وقرأ جعفر بن محمد‏.‏ وقيل‏:‏ للإبهام على المخاطب‏.‏ وقال المبرد وكثير من البصريين‏:‏ المعنى على نظر البشر، وحزرهم أن من وراءهم قال‏:‏ هم مائة ألف أو يزيدون، وهذا القول لم يذكر الزمخشري غيره‏.‏ قال‏:‏ أو يزيدون في مرأى الناظر، إذا رآها الرائي قال‏:‏ هي مائة ألف أو أكثر‏.‏ والغرض الوصف بالكثرة، والزيادة ثلاثون ألفاً، قاله ابن عباس؛ أو سبعون ألفاً، قاله ابن جبير؛ أو عشرون ألفاً، رواه أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا صح بطل ما سواه‏.‏

‏{‏فآمنوا‏}‏‏:‏ روي أنهم خرجوا بالأطفال والأولاد والبهائم، وفرقوا بينها وبين الأمهات، وناحوا وضجوا وأخلصوا، فرفع الله عنهم‏.‏ والتمتع هنا هو بالحياة، والحين آجالهم السابقة في الأزل، قاله قتادة والسدي‏.‏ والضمير في ‏{‏فاستفتهم‏}‏، قال الزمخشري‏:‏ معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة‏.‏ أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى‏.‏ انتهى‏.‏ ويبعد ما قاله من العطف‏.‏

وإذا كانوا عدوا الفصل بجملة مثل قولك‏:‏ كل لحماً واضرب زيداً وخبزاً، من أقبح التركيب، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة‏؟‏ فالقول بالعطف لا يجوز، والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على الله، حيث جعلوا لله الإناث في قولهم‏:‏ الملائكة بنات الله، مع كراهتهم لهن، ووأدهم إياهن، واستنكافهم من ذكرهن‏.‏ وارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر‏:‏ التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام؛ وتفضيل أنفسهم، حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى؛ واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله، حيث أنثوهم، وهم الملائكة‏.‏

بدأ أولاً بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله‏:‏ ‏{‏ألربك البنات‏}‏، وعدل عن قوله‏:‏ ‏{‏ألربكم‏}‏، لما في ترك الإضافة إليهم من تحسينهم وشرف نبيه بالإضافة إليه‏.‏ وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة يقتضي المشاهدة، فأنكر عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون‏}‏‏:‏ أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئاً من حالهم، كما قال في الأخرى‏:‏ ‏{‏أشهدوا خلقهم‏}‏ وكما قال ‏{‏ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم‏}‏ ثم أخبر عنهم ثالثاً بأعظم الكفر، وهو ادعاؤهم أنه تعالى قد ولد، فبلغ إفكهم إلى نسبة الولد‏.‏ ولما كان هذا فاحشاً قال‏:‏ ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏‏.‏ واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم ولد الله، ويكون تأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏من إفكهم‏}‏، واحتمل أن يعم هذا القول‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم قال‏:‏ ‏{‏وهم شاهدون‏}‏، فخص علمهم بالمشاهدة‏؟‏ قلت‏:‏ ما هو إلا استهزاء وتجهيل كقوله‏:‏ ‏{‏أشهدوا خلقهم‏}‏ وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق، لا بطريق استدلال ولا نظر‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولاً عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقه‏.‏ وقرأ‏:‏ ‏{‏ولد الله‏}‏‏:‏ أي الملائكة ولده، والولد فعل بمعنى مفعول يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ تقول‏:‏ هذه ولدي، وهؤلاء ولدي‏.‏ انتهى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أصطفى‏}‏، بهمزة الاستفهام، على طريقة الإنكار والاستبعاد‏.‏ وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة، وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة‏:‏ بوصل الألف، وهو من كلام الكفار‏.‏ حكى الله تعالى شنيع قولهم، وهو أنهم ما كفاهم أن قالوا ولد الله، حتى جعلوا ذلك الولد بنات الله، والله تعالى اختارهم على البنين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بدلاً عن قولهم ولد الله، وقد قرأ بها حمزة والأعمش، وهذه القراءة، وإن كان هذا محملها، فهي ضعيفة؛ والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏، ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏‏.‏ فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين سببين، وليست دخيلة بين نسيبين، بل لها مناسبة ظاهرة مع قولهم ولد الله‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏، فهي جملة اعتراض بين مقالتي الكفر، جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم‏.‏ ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏‏:‏ تقريع وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف‏:‏ تذكرون، بسكون الذال وضم الكاف‏.‏ ‏{‏أم لكم سلطان‏}‏‏:‏ أي حجة نزلت عليكم من السماء، وخبر بأن الملائكة بنات الله‏.‏ ‏{‏فأتوا بكتابكم‏}‏، الذي أنزل عليكم بذلك، كقوله‏:‏ ‏{‏أم أنزلنا عليهم سلطاناً‏}‏ فهو يتكلم بما كانوا به يشركون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 182‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

الظاهر أن الجنة هم الشياطين، وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة‏.‏ منها أنه تعالى صاهر سروات الجن، فولد منهم الملائكة، وهم فرقة من بني مدلج، وشافه بذلك بعض الكفار أبا بكر الصديق‏.‏ ‏{‏ولقد علمت الجنة‏}‏‏:‏ أي الشياطين، أنها محضرة أمر الله من ثواب وعقاب، قاله ابن عطية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إذا فسرت الجنة بالشياطين، فيجوز أن يكون الضمير في ‏{‏إنهم لمحضرون‏}‏ لهم‏.‏ والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له، أو شركاء في وجوب الطاعة، لما عذبهم‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏وجعلوا‏}‏ لفرقة من كفار قريش والعرب، والجنة‏:‏ الملائكة، سموا بذلك لاجتنابهم وخفائهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وإنما ذكرهم بهذا الاسم وضعاً منهم وتصغيراً لهم، وإن كانوا معظمين في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم، وفيه إشارة إلى أن من صفته الاجتنان والاستتار، وهو من صفات الأجرام، لا يصح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏ولقد علمت الجنة‏}‏‏:‏ أي الملائكة، ‏{‏إنهم‏}‏‏:‏ أي الكفرة المدعين نسبة بين الملائكة وبين الله تعالى، محضرون النار، يعذبون بما يقولون‏.‏ وأضيف ذلك إلى علم من نسبوا لذلك، مبالغة في تكذيب الناسبين‏.‏ ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به، ‏{‏إلا عباد الله‏}‏، فإنهم يصفونه بصفاته‏.‏ وأما من المحضرون، أي إلا عباد الله، فإنهم ناجون مدة العذاب، وتكون جملة التنزيه اعتراضاً على كلا القولين، فالاستثناء منقطع‏.‏ والظاهر أن الواو في ‏{‏وما تعبدون‏}‏ للعطف، عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم، وأن الضمير في عليه عائد على ما، والمعنى‏:‏ قل لهم يا محمد‏:‏ وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم، وغلب الخطاب‏.‏ كما تقول‏:‏ أنت وزيد تخرجان عليه، أي على عبادة معبودكم‏.‏ ‏{‏بفاتنين‏}‏‏:‏ أي بحاملين بالفتنة عبادة، إلا من قدر الله في سابق علمه أنه من أهل النار‏.‏ والضمير في ‏{‏عليه‏}‏ عائد على ما على حذف مضاف، كما قلنا، أي على عبادته‏.‏ وضمن فاتنين معنى‏:‏ حاملين بالفتنة، ومن مفعولة بفاتنين، فرغ له العامل إذ لم يكن بفاتنين مفعولاً‏.‏ وقيل‏:‏ عليه بمعنى‏:‏ أي ما أنتم بالذي تعبدون بفاتنين، وبه متعلق بفاتنين، المعنى‏:‏ ما أنتم فاتنين بذلك الذي عبدتموه إلا من سبق عليه القدر أنه يدخل النار‏.‏ وجعل الزمخشري الضمير في عليه عائداً على الله، قال فإن قلت‏:‏ كيف يفتنونهم على الله‏؟‏ قلت‏:‏ يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم من قولك‏:‏ فتن فلان على فلان امرأته، كما تقول‏:‏ أفسدها عليه وخيبها عليه‏.‏ ويجوز أن تكون الواو في ‏{‏وما تعبدون‏}‏ بمعنى مع مثلها في قولهم‏:‏ كل رجل وضيعته‏.‏ فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، جاز أن يسكت على قوله‏:‏ ‏{‏فإنكم وما تعبدون‏}‏، لأن قوله‏:‏ ‏{‏وما تعبدون‏}‏ ساد مسد الخبر، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون، والمعنى‏:‏ فإنكم مع آلهتكم، أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تبرحون تعبدونهم‏.‏

ثم قال ‏{‏ما أنتم عليه‏}‏‏:‏ أي على ما تعبدون، ‏{‏بفاتنين‏}‏‏:‏ بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال، إلا من هو ضال منكم‏.‏ انتهى‏.‏ وكون الواو في ‏{‏وما تعبدون‏}‏ واو مع غير متبادر إلى الذهن، وقطع ‏{‏ما أنتم عليه بفاتنين‏}‏ عن إنكم وما تعبدون ليس بجيد، لأن اتصافه به هو السابق إلى الفهم مع صحة المعنى، فلا ينبغي العدول عنه‏.‏

وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة‏:‏ صالوا الجحيم بالواو، وهكذا في كتاب الكامل للهذلي‏.‏ وفي كتاب ابن خالويه عنهما‏:‏ صال مكتوباً بغير واو، وفي كتاب ابن عطية‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ صالوا مكتوباً بالواو؛ وفي كتاب اللوامح وكتاب الزمخشري عن الحسن‏:‏ صال مكتوباً بغير واو‏.‏ فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة‏.‏ حمل أولاً على لفظ من فأفرد، ثم ثانياً على معناها فجمع، كقوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين‏}‏ حمل في يقول على لفظ من، وفي وما هم على المعنى، واجتمع الحمل على اللفظ، والمعنى في جملة واحدة، وهي صلة للموصول، كقوله‏:‏ ‏{‏إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ وقول الشاعر‏:‏

وأيقظ من كان منكم نياماً ***

ومن لم يثبت الواو احتمل أن يكون جمعاً، وحذفت الواو خطأ، كما حذفت في حالة الوصل لفظاً لأجل التقاء الساكنين‏.‏ واحتمل أن يكون صال مفرداً حذفت لامه تخفيفاً، وجرى الإعراب في عينه، كما حذف من قوله‏:‏ ‏{‏وجنى الجنتين دان‏}‏ ‏{‏وله الجوار المنشآت‏}‏ برفع النون والجوار، وقالوا‏:‏ ما باليت به بالة، أي بالية من بالى، كعافية من عافى، فحذفت لام باليت وبالية‏.‏ وقالوا بالة وبال، بحذف اللام فيهما‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقد وجه نحواً من الوجهين السابقين وجعلهما أولاً وثالثاً فقال‏:‏ والثاني أن يكون أصله صائل على القلب، ثم يقال‏:‏ صال في صائل، كقولهم‏:‏ شاك في شائك‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏وما منا‏}‏‏:‏ أي أحد، ‏{‏إلا له مقام معلوم‏}‏‏:‏ أي مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر الله، مقصور عليه لا يتجاوزه‏.‏ كما روي‏:‏ فمنهم راكع لا يقيم ظهره، وساجد لا يرفع رأسه، وهذا قول الملائكة، وهو يقوي قول من جعل الجنة هم الملائكة تبرؤا عن ما نسب إليهم الكفرة من كونهم بنات الله، وأخبروا عن حال عبوديتهم، وعلى أي حالة هم فيها‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أن السماء ما فيها موضع إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي»، وعن ابن مسعود‏:‏ «موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه»، وحذف المبتدإ مع من جيد فصيح، كما مر في قوله‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنون‏}‏ أي وأن من أهل الكتاب أحد‏.‏

وقال العرب‏:‏ منا ظعن ومنا أقام، يريد‏:‏ منا فريق ظعن ومنا فريق أقام‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وما منا أحد إلا له مقام معلوم، حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، كقوله‏:‏

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** بكفي كان من أرمي البشر

انتهى‏.‏ وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لأن أحداً المحذوف مبتدأ‏.‏ وإلا له مقام معلوم خبره، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله‏:‏ وما منا أحد، فقوله‏:‏ ‏{‏إلا له مقام معلوم‏}‏ هو محط الفائدة‏.‏ وإن تخيل أن ‏{‏إلا له مقام معلوم‏}‏ في موضع الصفة، فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها، وأنها فارقت غير إذا؛ كانت صفة في ذلك، ليتمكن غيره في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وجعل ذلك كقوله‏:‏ أنا ابن جلا، أي ابن رجل جلا؛ وبكفي كان، أي رجل كان، وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات‏.‏ ‏{‏وإنا لنحن الصافون‏}‏‏:‏ أي أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا في الهواء، أو حول العرش داعين للمؤمنين‏.‏ وقال الزهراوي‏:‏ قيل إن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية، ولا يصطف أحد من الملل غير المسلمين‏.‏ ‏{‏وإنا لنحن المسبحون‏}‏‏:‏ أي المنزهون الله عن ما نسب إليه الكفرة، أو المنزهون بلفظ التسبيح، أو المصلون‏.‏ وينبغي أن يجعل قوله‏:‏ ‏{‏سبحان الله عما يصفون‏}‏ من كلام الملائكة، فتطرد الجمل وتنساق لقائل واحد، فكأنه قيل‏:‏ ولقد علمت الملائكة أن ناسبي ذلك لمحضرون للعذاب؛ وقالوا‏:‏ سبحان الله، فنزهوا عن ذلك واستثنوا من أخلص من عباد الله؛ وقالوا للكفرة‏:‏ فإنكم وآلهتكم إلى آخره‏.‏ وكيف نكون مناسبيه، ونحن عبيد بين يديه، لكل منا مقام من الطاعة‏؟‏ إلى ما وصفوا به أنفسهم من رتبة العبودية‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏، هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وما من المرسلين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله، من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏.‏

ثم ذكر أعمالهم، وأنهم المصطفون في الصلاة المنزهون الله عن ما يقول أهل الضلال‏.‏ والضمير في ‏{‏ليقولون‏}‏ لكفار قريش، ‏{‏لو أن عندنا ذكراً‏}‏‏:‏ أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكذب كما كذبوا‏.‏ ‏{‏فكفروا به‏}‏‏:‏ أي فجاءهم الذكر الذي كانوا يتمنونه، وهو أشرف الأذكار، لأعجازه من بين الكتب‏.‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ عاقبة كفرهم، وما يحل بهم من الانتقام‏.‏ وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام كونهم كانوا جادين في ذلك، ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ، كقوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏ ‏{‏ولقد سبقت كلمتنا‏}‏‏:‏ قرأ الجمهور بالإفراد لما انتظمت في معنى واحد عبر عنها بالإفراد‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ بالجمع، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقامات الحجاج وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم عليهم في الآخرة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ما غلب نبي في الحرب، ولا قتل فيها‏.‏ ‏{‏فتول عنهم حتى حين‏}‏‏:‏ أي إلى مدّة يسيرة، وهي مدّة الكف عن القتال‏.‏ وعن السدّي‏:‏ إلى يوم بدر، ورجحه الطبري‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إلى موتهم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وأبصرهم‏}‏‏:‏ أي انظر إلى عاقبة أمرهم، فسوف يبصرونها وما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل، أو سوف يبصرونك وما يتم لك من الظفر بهم والنصر عليهم‏.‏ وأمره بإبصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة، وأنها قريبة كأنها بين ناظريه بحيث هو يبصرها، وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه السلام‏.‏ ‏{‏أفبعذابنا يستعجلون‏}‏‏:‏ استفهام توبيخ‏.‏

‏{‏فإذا نزل‏}‏ هو، أي العذاب، مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذره، فأنكروه بحيث أنذر بهجومه قومه وبعض صناعهم، فلم يلتفتوا إلى إنذراه، ولا أخذوا أهبته، ولا دبروا أمرهم تدبير ينجيهم حتى أناخ بفنائهم، فشن عليهم الغارة، وقطع دابرهم‏.‏ وكانت عادة مغازيهم أن يغيروا صباحاً، فسميت الغارة صباحاً، وإن وقعت في وقت آخر‏.‏ وما فصحت هذه الآية، ولا كانت له الروعة التي يحسن بها، ويرونك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل، قاله الزمخشري‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ مبنياً للفاعل؛ وابن مسعود‏:‏ مبنياً للمفعول؛ وساحتهم‏:‏ هو القائم مقام الفاعل‏.‏ ونزل ساحة فلان، يستعمل فيما ورد على الإنسان من خير أو شر؛ وسوء الصباح‏:‏ يستعمل في حلول الغارات والرزايات؛ ومثل قول الصارخ‏:‏ يا صباحاه؛ وحكم ساء هنا حكم بئس‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ فبئس، والمخصوص بالذم محذوف تقديره‏:‏ فساء صباح المنذرين صباحهم‏.‏ ‏{‏وتول عنهم حتى حين‏}‏‏:‏ كرر الأمر بالتولي، تأنيساً له عليه الصلاة والسلام، وتسلية وتأكيد لوقوع الميعاد؛ ولم يقيد أمره بالإبصار، كما قيده في الأول، إما لاكتفائه به في الأول فحذفه اختصاراً، وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الإبصار منه من صنوف المساءات، والإبصار منهم من صنوف المساءات‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالأول عذاب الدنيا، وبالآخرة عذاب الآخرة‏.‏

وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عن ما يصفه المشركون، وأضاف الرب إلى نبيه تشريفاً له بإضافته وخطابه، ثم إلى العزة، وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء والمؤمنين، وكذلك قال الفقهاء من جهة أنها مربوبة‏.‏ وقال محمد بن سحنون وغيره‏:‏ من حلف بعزة الله تعالى إلى يريد عزته التي خلقت بين عباده، وهي التي في قوله‏:‏ ‏{‏رب العزة‏}‏، فليست بيمين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها، كأنه قيل‏:‏ ذو العزة، كما تقول‏:‏ صاحب صدق لاختصاصه بالصدق‏.‏ انتهى‏.‏ فعلى هذا تنعقد اليمين بعزة الله لأنها صفة من صفاته‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو ربها ومالكها، لقوله‏:‏ ‏{‏وتعزّ من تشاء‏}‏ وعن علي، كرم الله وجهه‏:‏ «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه‏:‏ ‏{‏سبحان ربك رب العزة‏}‏، إلى آخر السورة‏.‏

سورة ص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ‏(‏1‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏2‏)‏ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏(‏3‏)‏ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏4‏)‏ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ‏(‏5‏)‏ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ‏(‏6‏)‏ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ‏(‏7‏)‏ أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ‏(‏8‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ‏(‏9‏)‏ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ‏(‏10‏)‏ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ ‏(‏11‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ‏(‏12‏)‏ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ‏(‏13‏)‏ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

لات‏:‏ هي لا، ألحقت بها التاء كما ألحقت في ثم ورب، فقالوا‏:‏ ثمت وربت، وهي تعمل عمل ليس في مذهب سيبويه، وعمل إن في مذهب الأخفش‏.‏ فإن ارتفع ما بعدها، فعلى الابتداء عنده؛ ولها أحكام ذكرت في علم النحو، ويأتي شيء منها هنا عند ذكر القراءات التي فيها‏.‏ والمناص‏:‏ المنجا والغوث، يقال ناصه ينوصه‏:‏ إذا فاته‏.‏ قال الفراء‏:‏ النوص‏:‏ التأخير، يقال ناص عن قرنه ينوص نوصاً ومناصاً‏:‏ أي فر وزاغ، وأنشد لامرئ القيس‏:‏

أم ذكر سلمى ان نأتك كنوص *** واستناص طلب المناص

قال حارثة بن بدر‏:‏ *** غمر الجراء إذا قصرت عنانه

بيدي استناص ورام جري المسحل *** وقال الجوهري‏:‏ استناص‏:‏ تأخر‏.‏ وقال النحاس‏:‏ ناص ينوص‏:‏ تقدم‏.‏ الوتد‏:‏ معروف، وكسر التاء أشهر من فتحها‏.‏ ويقال‏:‏ وتد واتد، كما يقال‏:‏ شغل شاغل‏.‏ قال الأصمعي وأنشد‏:‏

لاقت على الماء جذيلاً واتداً *** ولم يكن يخلفها المواعدا

وقالوا‏:‏ ودّ فأدغموه، قال الشاعر‏:‏

تخرج الودّ إذا ما أشحذت *** وتواريه إذا ما تشتكر

وقالوا فيه‏:‏ دت، فأدغموا بإدال الدال تاء، وفيه قلب الثاني للأول، وهو قليل‏.‏

‏{‏ص والقرآن ذي الذكر، بل الذين كفروا في عزّة وشقاق، كم أهلكنا من قبلكم من قرن فنادوا ولات حين مناص، وعجبوا ان جاءهم منذر منهم وقال الكفارون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب، وانطلق الملأ منهم أن أمشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب، أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب، أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقبوا في الأسباب، جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب، كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب، إن كل إلا كذَّب الرسل فحق عقاب‏}‏‏.‏

هذه السورة مكية، ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏لو أن عندنا ذكراً من الأولين‏}‏ لأخلصوا العبادة لله‏.‏ وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به‏.‏ بدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن، لأنه الذكر الذي جاءهم، وأخبر عنهم أنهم كافرون، وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به؛ ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا‏.‏ «وروي أنه لما مرض أبو طالب، جاءت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال‏:‏ يا ابن أخي، ما تريد من قومك‏؟‏ فقال‏:‏ يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم‏.‏ قال‏:‏ وما الكلمة‏؟‏ قال‏:‏ كلمة واحدة، قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ لا إله إلا الله، قال فقاموا وقالوا‏:‏ أجعل الآلهة إلهاً واحداً‏؟‏»

قال‏:‏ فنزل فيهم القرآن‏:‏ ‏{‏ص والقرآن ذي الذكر‏}‏، حتى بلغ، ‏{‏إن هذا إلا اختلاق‏}‏‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ص، بسكون الدال‏.‏ وقرأ أبي، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو السمال، وابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم‏:‏ ص، بكسر الدال، والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين‏.‏ وهو حرف من حروف المعجم نحو‏:‏ ق ونون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو أمر من صادى، أي عارض، ومنه الصدى، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة الخالية من الأجسام، أي عارض بعملك القرآن‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ صاديت‏:‏ حادثت، أي حادث، وهو قريب من القول الأول‏.‏ وقرأ عيسى، ومحبوب عن أبي عمرو، وفرقة‏:‏ صاد، بفتح الدال، وكذا قرأ‏:‏ قاف ونون، بفتح الفاء والنون، فقيل‏:‏ الفتح لالتقاء الساكنين طلباً للتخفيف؛ وقيل‏:‏ انتصب على أنه مقسم به، حذف منه حرف القسم نحو قوله‏:‏ ألله لأفعلن، وهو اسم للسورة، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقد صرفها من قرأ صاد بالجر والتنوين على تأويل الكتاب والتنزيل، وهو ابن أبي إسحاق في رواية‏.‏ وقرأ الحسن أيضاً‏:‏ صاد، بضم الدال، فإن كان اسماً للسورة، فخبر مبتدأ محذوف، أي هذه ص، وهي قراءة ابن السميفع وهارون الأعور؛ وقرأ قاف ونون، بضم الفاء والنون‏.‏ وقيل‏:‏ هو حرف دال على معنى من فعل أو من اسم، فقال الضحاك‏:‏ معناه صدق الله‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ مفتاح أسماء الله محمد صادق الوعد صانع المصنوعات‏.‏ وقيل‏:‏ معناه صدق محمد‏.‏

قال ابن عباس، وابن جبير، والسدّي‏:‏ ذي الذكر‏:‏ ذي الشرف الباقي المخلد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذي التذكرة، للناس والهداية لهم‏.‏ وقيل‏:‏ ذي الذكر، للأمم والقصص والغيوب والشرائع وجواب القسم، قيل‏:‏ مذكور، فقال الكوفيون والزجاج‏:‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏إن ذلك لحق تخاصم أهل النار‏}‏ وقال الفراء‏:‏ لا نجده مستقيماً في العربية لتأخره جداً عن قوله‏:‏ ‏{‏والقرآن‏}‏‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هو ‏{‏إن كل إلا كذّب الرسل‏}‏، وقال قوم‏:‏ ‏{‏كم أهلكنا‏}‏، وحذف اللام أي لكم، لما طال الكلام؛ كما حذفت في ‏{‏والشمس‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏قد أفلح‏}‏ حكاه الفراء وثعلب، وهذه الأقوال يجب اطراحها‏.‏ وقيل‏:‏ هو صاد، إذ معناه‏:‏ صدق محمد وصدق الله‏.‏ وكون صاد جواب القسم، قاله الفراء وثعلب، وهذا مبني على تقدم جواب القسم، واعتقاد أن الصاد يدل على ما ذكروه‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب محذوف، فقدره الحوفي‏:‏ لقد جاءكم الحق ونحوه، والزمخشري‏:‏ إنه لمعجز، وابن عطية‏:‏ ما الأمر كما تزعمون، ونحو هذا من التقدير‏.‏ ونقل أن قتادة والطبري قالا‏:‏ هو محذوف قبل ‏{‏بل‏}‏، قال‏:‏ وهو الصحيح، وقدره ما ذكرنا عنه، وينبغي أن يقدر ما أثبت هنا جواباً للقرآن حين أقسم به، وذلك في قوله تعالى‏:‏

‏{‏يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين‏}‏ ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله‏:‏ ‏{‏وعجبوا أن جاءهم منذر منهم‏}‏، وقال هناك‏:‏ ‏{‏لتنذر قوماً‏}‏ فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة، وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حالة تعزز الكفار ومشاقهم في قبول رسالتك وامتثال ما جئت به، واعتراف بالحق‏.‏

وقرأ حماد بن الزبرقان، وسورة عن الكسائي، وميمون عن أبي جعفر، والجحدري من طريق العقيلي‏:‏ في غرة، بالغين المعجمة والراء، أي في غفلة ومشاقة‏.‏ ‏{‏قبلهم‏}‏‏:‏ أي قبل هؤلاء ذوي المنعة الشديدة والشقاق، وهذا وعيد لهم‏.‏ ‏{‏فنادوا‏}‏‏:‏ أي استغاثوا ونادوا بالتوبة، قاله الحسن؛ أو رفعوا أصواتهم، يقال‏:‏ فلان أندى صوتاً‏:‏ أي أرفع، وذلك بعد معاينة العذاب، فلم يك وقت نفع‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولات حين‏}‏، بفتح التاء ونصب النون، فعلى قول سيبويه، عملت عمل ليس، واسمها محذوف تقديره‏:‏ ولات الحين حين فوات ولا فرار‏.‏ وعلى قول الأخفش‏:‏ يكون حين اسم لات، عملت عمل إن نصبت الإسم ورفعت الخبر، والخبر مخذوف تقديره‏:‏ ولات أرى حين مناص‏.‏ وقرأ أبو السمال‏:‏ ولات حين، بضم التاء ورفع النون؛ فعلى قول سيبويه‏:‏ حين مناص اسم لات، والخبر محذوف؛ وعلى قول الأخفش‏:‏ مبتدأ، والخبر محذوف‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ ولات حين، بكسر التاء وجر النون، خبر بعد لات، وتخريجه مشكل، وقد تمحل الزمخشري في تخريج الخبر في قوله‏:‏

طلبوا صلحنا ولات حين أوان *** فأجبنا أن لات حين بقاء

قال‏:‏ شبه أوان بإذ في قوله‏:‏ وأنت إذ صحيح في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض، لأن الأصل‏:‏ ولات أوان صلح‏.‏ فإن قلت‏:‏ فما تقول في حين مناص، والمضاف إليه قائم‏؟‏ قلت‏:‏ نزل قطع المضاف والمضاف إليه، وجعل تنوينه عوضاً من الضمير المحذوف، ثم بنى الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن‏.‏ انتهى‏.‏ هذا التمحل، والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة، والبيت النادر في جر ما بعد لات‏:‏ أن الجر هو على إضمار من، كأنه قال‏:‏ لات من حين مناص، ولات من أوان صلح، كما جروا بها في قولهم‏:‏ على كم جذع بيتك‏؟‏ أي من جذع في أصح القولين، وكما قالوا‏:‏ لا رجل جزاه الله خيراً، يريدون‏:‏ لا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول‏:‏ ليس من رجل قائماً، والخبر محذوف، وهذا على قول سيبويه، أو على أنه مبتدأ أو الخبر محذوف، على قول الأخفش‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ومن العرب من يخفض بلات، وأنشد الفراء‏:‏

ولتندمن ولات ساعة مندم ***

وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين، أي ولات حين أوان، حذف حين وأبقى أوان على جره‏.‏ وقال أبو إسحاق‏:‏ ولات أواننا، فحذف المضاف إليه، فوجب أن لا يعرب، وكسره لالتقاء الساكنين؛ وهذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري، أخذه من أبي إسحاق الزجاج، وأنشده المبرد‏:‏ ولات أوان بالرفع‏.‏

وعن عيسى‏:‏ ولات حين، بالرفع، مناص‏:‏ بالفتح‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ فإن صح ذلك، فلعله بنى حين على الضم، فيكون في الكلام تقديم وتأخير، وأجراه مجرى قبل وبعد في الغاية، وبنى مناص على الفتح مع لات، على تقدير‏:‏ لات مناص حين، لكن لا إنما تعمل في النكرات في اتصالها بهن دون أن يفصل بينهما ظرف أو غيره، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ عيسى أيضاً‏:‏ ولات بكسر التاء، وحين بنصب النون، وتقدم تخريج نصب حين‏.‏ ولات روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها والوقف عليها بالتاء، قول سيبويه والفراء وابن كيسان والزجاج، ووقف الكسائي والمبرد بالهاء، وقوم على لا، وزعموا أن التاء زيدت في حين؛ واختاره أبو عبيدة وذكر أن رآه في الإمام مخلوطاً تاؤه بحين، وكيف يصنع بقوله‏:‏ ولات ساعة مندم، ولات أوان‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانوا إذا قاتلوا فاضطروا، قال بعضهم لبعض‏:‏ مناص، أي عليكم بالفرار، فلما أتاهم العذاب قالوا‏:‏ مناص، فقال الله‏:‏ ‏{‏ولات حين مناص‏}‏‏.‏ قال القشيري‏:‏ فعلى هذا يكون التقدير‏:‏ فنادوا مناص، فحذف لدلالة ما بعده عليه، أي ليس الوقت وقت ندائكم به، وفيه نوع تحكم، إذ كل من هلك من القرون يقول مناص عند الاضطرار‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ أي فنادوا حين لا مناص، أي ساعة لا منجا ولا فوت‏.‏ فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو، كما تقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبراً مثل‏:‏ جاء زيد راكباً، ثم تقول‏:‏ جاء زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله‏:‏ ‏{‏فنادوا‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏ وكون أصل هذه الجملة‏:‏ فنادوا حين لا مناص، وأن حين ظرف لقوله‏:‏ ‏{‏فنادوا‏}‏ دعوى أعجمية مخالفة لنظم القرآن، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح، والجملة في موضع الحال، فنادوا وهم لات حين مناص، أي لهم‏.‏

ولما أخبر تعالى عن الكفار أنهم في عزة وشقاق، أردف بما صدر عنهم من كلماتهم الفاسدة، من نسبتهم إليه السحر والكذب‏.‏ ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله‏:‏ ‏{‏وقال الكافرون‏}‏، أي‏:‏ وقالوا تنبيهاً على الصفة التي أوجبت لهم العجب، حتى نسبوا من جاء بالهدى والتوحيد إلى السحر والكذب‏.‏ ‏{‏أجعل الآلهة إلهاً واحداً‏}‏، قالوا‏:‏ كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمورهم‏؟‏ وجعل‏:‏ بمعنى صير في القول والدعوى والزعم، وذكر عجبهم مما لا يعجب منه‏.‏ والضمير في ‏{‏وعجبوا‏}‏ لهم، أي استغربوا مجيء رسول من أنفسهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عجاب‏}‏، وهو بناء مبالغة، كرجل طوال وسراع في طويل وسريع‏.‏ وقرأ علي، والسلمي، وعيسى، وابن مقسم‏:‏ بشم الجيم، وقالوا‏:‏ رجل كرّام وطعام طياب، وهو أبلغ من فعال المخفف‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ عجاب لغة أزد شنوءة‏.‏ والذين قالوا‏:‏ ‏{‏أجعل الآلهة إلهاً واحداً‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ صناديد قريش، وهم ستة وعشرون‏.‏

‏{‏وانطلق الملأ منهم‏}‏‏:‏ الظاهر انطلاقهم عن مجلس أبي طالب، حين اجتمعوا هم والرسول عنده وشكوه على ما تقدّم في سبب النزول؛ ويكون ثم محذوف تقديره‏:‏ يتحاورون‏.‏ ‏{‏أن امشوا‏}‏، وتكون أن مفسرة لذلك المحذوف، وامشوا أمر بالمشي، وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وأن بمعنى أي، لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول والأمر بالمشي، أي بعضهم أمر بعضاً‏.‏ وقيل‏:‏ أمر الأشراف أتباعهم وأعوانهم‏.‏ ويجوز أن تكون أن مصدرية، أي وانطلقوا بقولهم امشوا، وقيل‏:‏ الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام، وأن مفسرة على هذا، والأمر بالمشي لا يراد به نقل الخطا، إنما معناه‏:‏ سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏امشوا‏}‏ دعاء بكسب الماشية، قيل‏:‏ وهو ضعيف، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة، لأنه إنما يقال‏:‏ أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية؛ وأيضاً فهذا المعنى غير متمكن في الآية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أنهم قالوا‏:‏ امشوا، أي أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها؛ ومنه الماشية للتفاؤل‏.‏ انتهى‏.‏ وأمروا بالصبر على الآلهة، أي على عبادتها والتمسك بها‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إن هذا‏}‏ أي ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، وعلوه بالنبوة، ‏{‏لشيء يراد‏}‏‏:‏ أي يراد منا الانقياد إليه، أو يريده الله ويحكم بإمضائه، فليس فيه إلا الصبر، أو أن هذا الأمر شيء من نوائب الدهر مراد منا، فلا انفكاك عنه، وأن دينكم لشيء يراد، أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه، احتمالات أربعة‏.‏ وقال القفال‏:‏ هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، المعنى‏:‏ أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير للدين، وإنما غرضه أن يستولي علينا، فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد‏.‏ ‏{‏ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة‏}‏، قال ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب، ومقاتل‏:‏ ملة النصارى، لأن فيها التثليث، ولا توحد‏.‏ وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ ملة العرب‏:‏ قريش ونجدتها‏.‏ وقال الفراء، والزجاج‏:‏ ملة اليهود والنصرانية، أشركت اليهود بعزير، وثلث النصارى‏.‏ وقيل‏:‏ في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان، وذلك أنه قبل المبعث، كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين‏.‏ ويدل على صحة هذا ما روي من أقوال الأحبار أولي الصوامع، وما روي عن الكهان شق وسطيح وغيرهما، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم‏.‏ وقيل‏:‏ في الملة الآخرة، أي لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله‏.‏ ‏{‏إن هذا إلا اختلاق‏}‏‏:‏ أي افتعال وكذب‏.‏

‏{‏أأنزل عليه الذكر من بيننا‏}‏‏:‏ أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، وهذا الإنكار هو ناشئ عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم‏.‏

‏{‏بل هم في شك من ذكري‏}‏‏:‏ أي من القرآن الذي أنزلت على رسولي يرتابون فيه، والإخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا اختلاق‏}‏‏.‏ ‏{‏بل لما يذوقوا عذاب‏}‏‏:‏ أي بعد، فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك‏.‏ ‏{‏أم عندهم خزائن رحمة ربك‏}‏‏:‏ أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة، فيعطون ما شاؤوا، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا، ويصطفون للرسالة من أرادوا، وإنما يملكها ويتصرف فيها ‏{‏العزيز‏}‏‏:‏ الذي لا يغالب، ‏{‏الوهاب‏}‏‏:‏ ما شاء لمن شاء‏.‏

لما استفهم استفهام إنكار في قوله‏:‏ ‏{‏أم عندهم خزائن رحمة ربك‏}‏، وكان ذلك دليلاً على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة ربك، أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال‏:‏ ‏{‏أم لهم ملك السموات والأرض‏}‏‏:‏ أي ليس لهم شيء من ذلك‏.‏ ‏{‏فليرتقوا‏}‏‏:‏ أي ألهم شيء من ذلك، فليصعدوا، ‏{‏في الأسباب‏}‏، الموصولة إلى السماء، والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم، فيضعون الرسالة فيمن اختاروا‏.‏ ثم صغرهم وحقرهم، فأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة‏.‏ قيل‏:‏ وما زائدة، ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم، أو التحقير، لأن مال الصفة تستعمل على هذين المعنيين‏.‏ و‏{‏هنالك‏}‏‏:‏ ظرف مكان يشار به للبعيد‏.‏ والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتلك الكلمات السابقة، وهو مكة، فيكون ذلك إخباراً بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح، فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏هنالك‏}‏، إشارة إلى الإرتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم‏.‏ وقيل‏:‏ أشير بهنالك إلى جملة الأصنام وعضدها، أي هم جند مهزوم في هذه السبيل‏.‏ وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ الإشارة إلى يوم بدر، وكان غيباً، أعلم الله به على لسان رسوله‏.‏ وقيل‏:‏ الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وهنالك، إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم‏:‏ لمن يندبه لأمر ليس من أهله، لست هنالك‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏هنالك‏}‏، يحتمل أن يكون في موضع الصفة لجند، أي كائن هنالك؛ ويحتمل أن يكون متعلقاً بمهزوم، وجند خبر مبتدأ محذوف، أي هم جند، ومهزوم خبره‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ جند مبتدأ، وما زائدة، وهنالك نعت، ومهزوم الخبر‏.‏ انتهى‏.‏ وفيه بعد لفصله عن الكلام الذي قبله‏.‏ ومعنى ‏{‏من الأحزاب‏}‏‏:‏ من جملة الأحزاب الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل‏.‏ ولما ذكر تعالى أنه أهلك قبل قريش قروناً كثيرة لما كذبوا رسلهم، سرد منهم هنا من له تعلق بعرفانه‏.‏ و‏{‏ذو الأوتاد‏}‏‏:‏ أي صاحب الأوتاد، وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده‏.‏ قال الأفوه العوذي‏:‏

والبيت لا يبتنى إلا على عمد *** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر، كما قال الأسود‏:‏

في ظل ملك ثابت الأوتاد ***

قاله الزمخشري، وأخذه من كلام غيره‏.‏ وقال ابن عباس، وقتادة، وعطاء‏:‏ كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان يقتل الناس بالأوتاد، ويسمرهم في الأرض بها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أراد المباني العظيمة الثابتة‏.‏ وقيل‏:‏ عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره‏.‏ وقيل‏:‏ كان يشج المعذب بين أربع سواري، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروبة فيها وتد من حديد، ويتركه حتى يموت‏.‏ روي معناه عن الحسن ومجاهد، وقيل‏:‏ كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه العقارب والحيات‏.‏ وقيل‏:‏ يشدهم بأربعة أوتاد، ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه‏.‏ وقال ابن مسعود، وابن عباس، في رواية عطية‏:‏ الأوتاد‏:‏ الجنود، يشدون ملكه، كما يقوي الوتد الشيء‏.‏ وقيل‏:‏ بنى مناراً يذبح عليها الناس، قاله ابن جبير‏.‏ ‏{‏أولئك الأحزاب‏}‏‏:‏ أي الذين تحزبوا على أنبيائهم، كما تحزب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والظاهر أن الإشارة بأولئك إلى أقرب مذكور، وهم قوم نوح ومن عطف عليهم؛ وفيه تفخيم لشأنهم وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله، أي هؤلاء العظماء لما كذبوا عوقبوا، وكذلك أنتم‏.‏

‏{‏إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب‏}‏‏:‏ فوجب عقابهم‏.‏ كذبت قوم نوح، آذوا نوحاً فأغرقوا؛ وقوم هود فأهلكوا بالريح؛ وفرعون فأغرق؛ وثمود بالصيحة؛ وقوم لوط بالخسف؛ والأيكة بعذاب الظلة‏.‏ ومعنى ‏{‏إن كل‏}‏‏:‏ ما كان من قوم نوح فمن بعدهم، ‏{‏فحق عقاب‏}‏‏:‏ أي وجب عقابهم، فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بالرسول‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ‏{‏أولئك الأحزاب‏}‏، قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم هم هم، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب، ولقد ذكرت تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية، فأوضحه فيها بأن كل واحد من الأحزاب كذب الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم، فقد كذبوا جميعاً، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً، وبالاستثناء ثانياً، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشدّ العذاب وأبلغه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فحق عقاب‏}‏‏:‏ أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 25‏]‏

‏{‏وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ‏(‏15‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏16‏)‏ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏17‏)‏ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ‏(‏18‏)‏ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ‏(‏19‏)‏ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ‏(‏20‏)‏ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ‏(‏21‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ‏(‏23‏)‏ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ‏(‏24‏)‏ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

الفواق، بضم الفاء وفتحها‏:‏ الزمان الذي ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع، وفي الحديث‏:‏ «العبادة قدر فواق الناقة» وأفاقت الناقة إفاقة‏:‏ اجتمعت الفيقة في ضرعها فهي مفيق ومفيقة، عن أبي عمرو‏.‏ والفيقة‏:‏ اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، ويجمع على أفواق، وأفاويق جمع الجمع‏.‏ وقال أبو عبيدة والفراء ومؤرج‏:‏ الفواق، بالفتح‏:‏ الإفاقة والاستراحة‏.‏ القط، قال الفراء‏:‏ الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك‏:‏ القط، وقال أبو عبيدة والكسائي‏:‏ القط‏:‏ الكتاب بالجوائز، وقال الأعشى‏:‏

ولا الملك النعمان يوم لقيته *** بغبطته يعطي القطوط ويأفق

ويروى بأمته‏:‏ أي بنعمته، ويأفق‏:‏ يصلح، وهو في الكتاب أكثر استعمالاً‏.‏ قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

قوم لهم ساحة أرض العراق وما *** يجبى إليهم بها والقط والعلم

ويجمع أيضاً على قططة، وفي القليل قط وأقطاط‏.‏ تسور الحائط والسور وتسنمه والبعير‏:‏ علا أعلاه‏.‏ والسور‏:‏ حائط المدينة، وهو غير مهموز‏.‏ الشطط‏:‏ مجاوزة الحد وتخطي الحق‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ شططت على فلان وأشططت‏:‏ جرت في الحكم‏.‏ التسع‏:‏ رتبة من العدد معروفة، وكسر التاء أشهر من الفتح‏.‏ النعجة‏:‏ الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن، ويكنى بها عن المرأة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

هما نعجتان من نعاج تبالة *** لذي جؤذرين أو كبعض لدى هكر

وقال ابن عون‏:‏

أنا أبوهن ثلاث هنه *** رابعة في البيت صغراهنه

ونعجتي خمساً توفيهنه *** إلا فتى سجح يغذيهنه

عزة‏:‏ غلبه، يعزه عزاً؛ وفي المثل‏:‏ من عزَّبزَّ، أي من غلب سلب‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

قطاة عزها شرك فباتت *** تجاذبه وقد علق الجناح

‏{‏وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب، اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب، إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، والطير محشورة كل له أواب، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب، وهل آتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب، إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقيل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب، فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب‏}‏‏.‏

‏{‏وما ينظر‏}‏‏:‏ أي ينظر، ‏{‏هؤلاء‏}‏‏:‏ إشارة إلى كفار قريش، والإشارة بهؤلاء مقوية أن الإشارة باؤلئك هي للذين يلونها من قوم نوح وما عطف عليه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر، أو لأنهم كالحضور عند الله‏.‏

انتهى‏.‏ وفيه بعد، وهو إخبار منه تعالى صدقه الوجود‏.‏ والصيحة‏:‏ ما نالهم من قتل وأسر وغلبة، كما تقول؛ صاح فيهم الدهر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور‏.‏ وقيل‏:‏ بصيحة يملكون بها في الدنيا‏.‏ فالقول الأول فيه الانتظار من الرسول لشيء معين فيهم، وعلى هذين القولين بمدرج عقوبة، وتحت أمر خطر ما ينتظرون فيه إلا الهلكة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من فواق‏}‏، بفتح الفاء؛ والسلمي، وابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وطلحة‏:‏ بضمها، فقيل‏:‏ هما بمعنى واحد، كقصاص الشعر‏.‏ وقال ابن زيد، والسدي‏:‏ بالفتح، إفاقة من أفاق واستراح، كجواب من أجاب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏من فواق‏}‏‏:‏ من ترداد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من رجوع‏.‏

‏{‏عجّل لنا قطّنا‏}‏‏:‏ نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا‏.‏ قاله الحسن وقتادة وابن جبير‏.‏ وقال أيضاً، ومجاهد‏:‏ نصيبنا من العذاب‏.‏ وقال أبو العالية والكلبي‏:‏ صحفنا بإيماننا‏.‏ وقال السدي‏:‏ المعنى‏:‏ أرنا منازلنا من الجنة حتى نتابعك، وعلى كل قول، فإنما قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف والاستهزاء‏.‏ ومعنى ‏{‏قبل يوم الحساب‏}‏‏:‏ أي الذين يزعمون أنه واقع في العالم، إذ هم كفرة لا يؤمنون بالبعث‏.‏

ولما كانت مقالتهم تقتضي الاستخفاف، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم، وذكر قصصاً للأنبياء‏:‏ داود وسليمان وأبوب وغيرهم، وما عرض لهم، فصبروا حتى فرج الله عنهم، وصارت عاقبتهم أحسن عاقبة‏.‏ فكذلك أنت تصبر، ويؤول أمرك إلى أحسن مآل، وتبلغ ما تريد من إقامة دينك وإماتة الضلال‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون‏}‏، وعظم أمر مخالفتهم لله في أعينهم، وذكرهم بقصة داود وما عرض له، وهو قد أوتي النبوة والملك، فما الظن بكم مع كفركم وعصيانكم‏؟‏ انتهى‏.‏ وهو ملتقط من كلام الزمخشري مع تغيير بعض ألفاظه لا تناسب منصب النبوة‏.‏ وقيل‏:‏ أمر بالصبر، فذكر قصص الأنبياء ليكون برهاناً على صحة نبوته‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون‏}‏، وحافظ على ما كلفت به من مصابرتهم، وتحمل أذاهم، واذكر داود وكرامته على الله، وما عرض له، ومالقي من عتب الله‏.‏ ‏{‏ذا الأيد‏}‏‏:‏ أي ذا القوة في الدين والشرع والصدع بأمر الله والطاعة لله، وكان من ذلك قوياً في بدنه‏.‏ والآوّاب‏:‏ الرجّاع إلى طاعة الله، قاله مجاهد وابن زيد‏.‏ وقال السدي‏:‏ المسبح‏.‏ ووصفه بأنه أوأب يدل على أن ذا الأيد معناه‏:‏ القوة في الدين‏.‏ ويقال‏:‏ رجل أيد وأيد وذو أد وأياد‏:‏ كل بمعنى ما يتقوى‏.‏ و‏{‏الإشراق‏}‏‏:‏ وقت الإشراق‏.‏ قال ثعلب‏:‏ شرقت الشمس، إذا طلعت؛ وأشرقت‏:‏ إذا أضاءت وصفت‏.‏ وفي الحديث، أنه عليه السلام، صلى صلاة الضحى وقال‏:‏ «يا أم هانئ، هذه صلاة الإشراق، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل» وتقدّم كل الكلام في تسبيح الجبال في قصة داود في سورة الأنبياء، وأتى بالمضارع باسم الفاعل دلالة على حدوث التسبيح شيئاً بعد شيء، وحالاً بعد حال؛ فكأن السامع محاضر تلك الجبال سمعها تسبح‏.‏

ومثله قول الأعشى‏:‏

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة *** إلى ضوء نار في بقاع تحرق

أي‏:‏ تحرق شيئاً فشيئاً‏.‏ ولو قال محرقة، لم يدل على هذا المعنى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏والطير محشورة‏}‏، بنصبهما، عطفاً على الجبال يسبحن، عطف مفعول على مفعول، وحال على حال، كقولك‏:‏ ضربت هنداً مجردة، ودعداً لابسة‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري‏:‏ والطير محشورة، برفعهما، مبتدأ وخبر، أو جاء محشورة باسم المفعول، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئاً، إذ حاشرها هو الله تعالى، فحشرها جملة واحدة أدل على القدرة‏.‏ والظاهر عود الضمير في له على داود، أي كل واحد من الجبل والطير لأجل داود، أي لأجل تسبيحه‏.‏ سبح لأنها كانت ترجع تسبيحه، ووضع الأواب موضع المسبح‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على الله، أي كل من داود والجبال والطير أواب، أي مسبح مرجع للتسبيح‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وشددنا‏}‏، مخففاً‏:‏ أي قوينا، كقوله‏:‏ ‏{‏سنشد عضدك بأخيك‏}‏ والحسن، وابن أبي عبلة‏:‏ بشد الدال، وهي عبارة شاملة لما وهبه الله تعالى من قوة وجند ونعمة، فالتخصيص ببعض الأشياء لا يظهر‏.‏ وقال السدي‏:‏ بالجنود‏.‏ قيل‏:‏ كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مسلم يحرسونه، وهذا بعيد في العادة؛ وقيل‏:‏ بهيبة قذفها الله له في قلوب قومه‏.‏ و‏{‏الحكمة‏}‏ هنا‏:‏ النبوة، أو الزبور، أو الفهم في الدين، أو كل كلام، ولقن الحق أقوال‏.‏ ‏{‏وفصل الخطاب‏}‏، قال علي والشعبي‏:‏ إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي‏:‏ القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ كلمة أما بعد، لأنه أول من تكلم بها وفصل بين كلامين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله‏:‏ أما بعد‏.‏ ويجوز أن يراد بالخطاب‏:‏ القصد الذي ليس له فيه اختصار مخل، ولا إشباع ممل؛ ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصل لا نذر ولا هذر‏.‏ انتهى‏.‏ ولما كان تعالى قد كمل نفس نبيه داود بالحكمة، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة فقال‏:‏ ‏{‏وفصل الخطاب‏}‏‏.‏

‏{‏وهل أتاك نبؤ الخصم‏}‏‏:‏ لما أنثى تعالى على داود عليه السلام بما أثنى، ذكر قصته هذه، ليعلم أن مثل قصته لا يقدح في الثناء عليه والتعظيم لقدره، وإن تضمنت استغفاره ربه، وليس في الاستغفار ما يشعر بارتكاب أمر يستغفر منه، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة‏.‏ ومجيء مثل هذا الاستفهام إنما يكون لغرابة ما يجيء معه من القصص، كقوله‏:‏ ‏{‏وهل أتاك حديث موسى‏}‏ فيتهيأ المخاطب بهذا الإستفهام لما يأتي بعده ويصغي لذلك‏.‏

وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحاً، وتكلمنا على ألفاظ الآية‏.‏ والنبأ‏:‏ الخبر، فالخبر أصله مصدر، فلذلك تصلح للمفرد والمذكر وفروعهما، وهنا جاء للجمع، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إذ تسورو‏}‏‏:‏ إذ دخلوا، كما قال الشاعر‏:‏

وخصم يعدون الدخول كأنهم *** قروم غيارى كل أزهر مصعب

والظاهر أنهم كانوا جماعة، فلذلك أتى بضمير الجمع‏.‏ فإن كان المتحاكمان اثنين، فيكون قد جاء معهم غيرهم على جهة المعاضدة أو المؤانسة، ولا خلاف أنهم كانوا ملائكة، كذا قال بعضهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، والأول أشهر‏.‏ وقيل‏:‏ الخصم هنا اثنان، وتجوز في العبارة فأخبر عنهما أخبار ما زاد على اثنين، لأن معنى الجمع في التثنية‏.‏ وقيل‏:‏ معنى خصمان‏:‏ فريقان، فيكون تسوروا ودخلوا عائداً على الخصم الذي هو جمع الفريقين، ويدل على أن خصمان بمعنى فريقان قراءة من قرأ‏:‏ بغى بعضهم على بعض‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هذا خصمان اختصموا في ربهم‏}‏ بمعنى‏:‏ فأما إن هذا أخي‏.‏ وما روي أنه بعث إليه ملكان، فالمعنى‏:‏ أن التحاكم كان بين اثنين، ولا يمتنع أن يصحبهما غيرهما‏.‏ وأطلق على الجميع خصم، وعلى الفريقين خصمان، لأن من جاء مع متخاصم لمعاضدة فهو في سورة خصم، ولا يبعد أن تطلق عليه التسمية، والعامل في الظرف، وهو إذ أتاك، قاله الحوفي ورد بأن إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده، لا في عهد داود‏.‏ وقال ابن عطية، وأبو البقاء‏:‏ العامل فيه نبأ ورد بما رد به ما قبله أن النبأ الواقع في عهد داود عليه السلام لا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإذا أردت بالنبأ القصة في نفسها، لم يكن ناصباً‏.‏ وقيل‏:‏ العامل فيه محذوف تقديره‏:‏ وهل أتاك تخاصم الخصم‏؟‏ قاله الزمخشري‏.‏ ويجوز أن ينتصب بالخصم، لما فيه من معنى الفعل‏.‏ وإذ دخلوا بدل من إذ الأولى؛ وقيل‏:‏ ينتصب بتسوروا‏.‏ وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما، فتسورا عليه المحراب، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ جزأ زمانه أربعة أجزاء‏:‏ يوماً للعبادة، ويوماً للقضاء، ويوماً للاشتغال بخواص أموره، ويوماً لجميع بني إسرائيل، فيعظهم ويبكيهم‏.‏ فجاءوه في غير القضاء، ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه، فخاف أن يؤذوه‏.‏ وقيل‏:‏ كان ذلك ليلاً، ويحتمل أن يكون فزعه من أجل أن أهل ملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فينكون فزعه على فساد السيرة، لا من الداخلين‏.‏ وقال أبو الأحوص‏:‏ فزع منهم لأنهما دخلا عليه، وكل منهما آخذ برأس صاحبه‏.‏

وقيل‏:‏ فزع منهم لما رأى من تسورهم على موضع مرتفع جداً لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد‏.‏ وقيل‏:‏ إنهما قالا‏:‏ لم نتوصل إليك إلا بالتسور لمنع الحجاب، وخفنا تفاقم الأمر بيننا، فقبل داود عذرهم‏.‏ ولما أدركوا منه الفزع قالوا‏:‏ ‏{‏لا تخف‏}‏، أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم‏.‏ ‏{‏خصمان‏}‏‏:‏ يحتمل أن يكون هذا موصولاً بقولهما‏:‏ ‏{‏لاتخف‏}‏، بادر بإخبار ما جاءا إليه‏.‏ ويحتمل أن يكون سألهم‏:‏ ما أمركم‏؟‏ فقالوا‏:‏ خصمان، أي نحن خصمان‏.‏ ‏{‏بغى‏}‏‏:‏ أي جار، ‏{‏بعضنا على بعض‏}‏، كما قال الشاعر‏:‏

ولكن الفتى حمل بن بدر *** بغى والبغي مرتعه وخيم

وقرأ أبو يزيد الجراد، عن الكسائي‏:‏ خصمان، بكسر الخاء؛ وفي أمرهم له ونهيهم ببعض فظاظة على الحكام، حمل على ذلك ما هم فيه من التخاصم والتشاجر، واستدعوا عدله من غير ارتياب في أنه يحكم بالعدل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا تشطط‏}‏، مفكوكاً من أشط رباعياً؛ وأبو رجاء، وابن أبي عبلة، وقتادة، والحسن، وأبو حيوة‏:‏ تشطط، من شط ثلاثياً‏.‏ وقرأ قتادة أيضاً‏:‏ تشط، مدغماً من أشط‏.‏ وقرأ زر‏:‏ تشاطط، بضم التاء وبالألف على وزن تفاعل، مفكوكاً‏.‏ وعن قتادة أيضاً‏:‏ تشطط من شطط، ‏{‏سواء الصراط‏}‏‏:‏ وسط طريق الحق، لا ميل فيه من هنا ولا هنا‏.‏

‏{‏إن هذا أخي‏}‏‏:‏ هو قول المدعي منهما، وأخي عطف بيان عند ابن عطية، وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري‏.‏ والأخوّة هنا مستعارة، إذ هما ملكان، لكنهما لما ظهرا في صورة انسانين تكلما بالأخوّة، ومجازها أنها إخوة في الدين والإيمان، أو على معنى الصحبة والمرافقة، أو على معنى الشركة والخلطة لقوله‏:‏ ‏{‏وإن كثيراً من الخلطاء‏}‏، وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء، ويندب إلى العدل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تسع وتسعون‏}‏، بكسر التاء فيهما‏.‏ وقرأ الحسن، وزيد بن علي‏:‏ بفتحها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نعجة‏}‏، بفتح النون؛ والحسن، وابن هرمز‏:‏ بكسر النون، وهي لغة لبعض بني تميم‏.‏ قيل‏:‏ وكنى بالنعجة عن الزوجة‏.‏ ‏{‏فقال أكفلنيها‏}‏‏:‏ أي ردها في كفالتي‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ اجعلها كفلي، أي نصيبي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أعطنيها؛ وعنه، وعن ابن مسعود‏:‏ تحول لي عنها؛ وعن أبي العالية‏:‏ ضمها إلي حتى أكفلها‏.‏ ‏{‏وعزني في الخطاب‏}‏، قال الضحاك‏:‏ إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ جاءني محجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أرده به‏.‏ وأراد بالخطاب‏:‏ مخاطبة المحاج المجادل، أو أراد خطيب المرأة، وخطبها هو فخاطبني خطاباً‏:‏ أي غالبني في الخطبة، فغلبني حيث زوجها دوني؛ وقيل‏:‏ غلبني بسلطانه، لأنه لما سأله لم يستطع خلافه‏.‏ قال الحافظ أبو بكر بن العربي‏:‏ كان ببلادنا أمير يقال له سيري بن أبي بكر، فكلمته في أن يسأل لي رجلاً حاجة، فقال لي‏:‏ أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غضب لها‏؟‏ فقلت‏:‏ أما إذا كان عدلاً فلا‏.‏

وقرأ أبو حيوة، وطلحة‏:‏ وعزني، بتخفيف الزاي‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ حذف الزاي الواحدة تخفيفاً، كما قال أبو زبيد‏:‏

أحسن به فهز إليه شوس *** وروي كذلك عن عاصم‏.‏ وقرأ عبيد الله، وأبو وائل، ومسروق، والضحاك، والحسن، وعبيد بن عمير‏:‏ وعازني، بألف وتشديد الزاي‏:‏ أي وغالبني‏.‏ والظاهر إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن، ولا يكنى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك لأن ذلك الإخبار كان صادراً من الملائكة، على سبيل التصوير للمسئلة والفرض لها مرة غير تلبس بشيء منها، فمثلوا بقصة رجل له نعجة، ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع في نعجة خليطة، وأراد انتزاعها منه؛ وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وإن كثيراً من الخلطاء‏}‏، وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد‏.‏

‏{‏قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه‏}‏‏:‏ ليس هذا ابتداء من داود، عليه السلام، إثر فراغ لفظ المدعي، ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور ما يجب، فقيل ذلك على تقدير، أي لئن كان ما تقول، ‏{‏لقد ظلمك‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ثم محذوف، أي فأقر المدعي عليه فقال‏:‏ ‏{‏لقد ظلمك‏}‏، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدّعي عليه، لأنه معلوم من الشرائع كلها، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدّعى عليه‏.‏ فأما ما قاله الحليمي من أنه رأى في المدّعي مخايل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم، كما تقول، فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه، فاستعجل بقوله‏:‏ ‏{‏لقد ظلمك‏}‏، فقوله ضعيف لا يعول عليه‏.‏ وروي أن داود، عليه السلام، لما سمع كلام الشاكي قال للآخر‏:‏ ما تقول‏؟‏ فأقر فقال له‏:‏ لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك، وقال للثاني‏:‏ ‏{‏لقد ظلمك‏}‏؛ فتبسما عند ذلك وذهبا، ولم يرهما لحينه، ورأى أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه‏.‏ وأضاف المصدر إلى المفعول، وضمن السؤال معنى الإضافة، أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال والطلب، ولذلك عداه بإلى‏.‏

‏{‏وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض‏}‏‏:‏ هذا من كلام داود، ويدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيراً‏.‏ والخلطاء‏:‏ الشركاء الذين خلطوا أموالهم، الواحد خليط‏.‏ قصد داود بهذا الكلام الموعظة الحسنة، والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكره إليهم الظلم، وأن يسلي المظلوم عن ما جرى عليه من خليطه، وأن له في أكثر الخلطاء أسوة‏.‏ وقرئ‏:‏ ليبغي، بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة، وأصله‏:‏ ليبغين، كما قال‏:‏

اضرب عنك الهموم طارقها ***

يريد‏:‏ اضربن، ويكون على تقدير قسم محذوف ذلك القسم، وجوابه خير لأن‏.‏

وعلى قراءة الجمهور، يكون ليبغي خبراً لأن‏.‏ وقرئ‏:‏ ليبغ، بحذف الياء كقوله‏:‏

محمد تفد نفسك كل نفس ***

أي‏:‏ تفدي على أحد القولين‏.‏ و‏{‏قليل‏}‏‏:‏ خبره مقدّم، وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجب، وهم مبتدأ‏.‏ ‏{‏وظنّ داود‏}‏‏:‏ لما كان الظن الغالب يقارب العلم، استعير له، ومعناه‏:‏ وعلم داود وأيقن أنا ابتليناه بمحاكمة الخصمين‏.‏ وأنكر ابن عطية مجيء الظن بمعنى اليقين‏.‏ وقال‏:‏ لسنا نجده في كلام العرب، وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ودلالة اليقين التام، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون‏:‏ ظن بمعنى أيقن، وطول ابن عطية في ذلك بما يوقف عليه في كتابه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فتناه‏}‏؛ وعمر بن الخطاب، وأبو رجاء، والحسن‏:‏ بخلاف عنه، شد التاء والنون مبالغة؛ والضحاك‏:‏ أفتناه، كقوله‏:‏

لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت *** وقتادة، وأبو عمرو في رواية؛ يخفف التاء والنون، والألف ضمير الخصمين‏.‏ ‏{‏فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب‏}‏، راكعاً‏:‏ حال، والخرور‏:‏ الهويّ إلى الأرض‏.‏ فإما أنه عبر بالركوع عن السجود، وإما أنه ذكر أول أحوال الخرور، أي راكعاً ليسجد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ أخر من ركوعه، أي سجد بعد أن كان راكعاً وقال قوم‏:‏ يقال خر لمن ركع، وإن لم ينته إلى الأرض‏.‏ والذي يذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظاناً أنهم يغتالونه، إذا كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه‏.‏ فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم، كما قص الله تعالى، وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنقاذ من الله له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان ظنه، فاستغفر من ذلك الظن، حيث أخلف ولم يكن يقع مظنونه، وخر ساجداً، أو رجع إلى الله تعالى فغفر له ذلك الظن؛ ولذلك أشار بقوله‏:‏ ‏{‏فغفرنا له ذلك‏}‏، ولم يتقدّم سوى قوله‏:‏ ‏{‏وظن داود إنما فتناه‏}‏، ويعلم قطعاً أن الأنبياء، عليهم السلام، معصومون من الخطايا، لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أن لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك، بطلت الشرائع، ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى، وما حكى القصاص مما فيه غض عن منصب النبوة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر‏:‏

ونؤثر حكم العقل في كل شبهة *** إذا آثر الآخبار جلاس قصاص