فصل: تفسير الآيات رقم (13- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏13‏)‏ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏15‏)‏ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة، فنزلت‏.‏ وعن ابن عباس، سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا ابن فلانة؛ فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ «إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى»‏.‏ ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً‏.‏ ‏{‏من ذكر وأنثى‏}‏‏:‏ أي من آدم وحواء، أو كل أحد منكم من أب وأم، فكل واحد منكم مساوٍ للآخر في ذلك الوجه، فلا وجه للتفاخر‏.‏ ‏{‏وجعلناكم شعوباً وقبائل‏}‏‏:‏ وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفرادت‏.‏ وقيل‏:‏ الشعوب في العجم والقبائل في العرب، والأسباط في بني إسرائيل‏.‏ وقيل‏:‏ الشعوب‏:‏ عرب اليمن من قحطان، والقبائل‏:‏ ربيعة ومضر وسائر عدنان‏.‏ وقال قتادة، ومجاهد، والضحاك‏:‏ الشعب‏:‏ النسب الأبعد، والقبيلة‏:‏ الأقرب، قال الشاعر‏:‏

قبائل من شعوب ليس فيهم *** كريم قد يعدّ ولا نجيب

وقيل‏:‏ الشعوب‏:‏ الموالي، والقبائل‏:‏ العرب‏.‏ وقال أبو روق‏:‏ الشعوب‏:‏ الذين ينسبون إلى المدائن والقرى، والقبائل‏:‏ الذين ينسبون إلى آبائهم‏.‏ انتهى‏.‏ وواحد الشعوب شعب، بفتح الشين‏.‏ وشعب‏:‏ بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين، والنسب إلى الشعوب شعوبية، بفتح الشين، وهم الأمم التي ليست بعرب‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين يفضلون العجم على العرب، وكان أبو عبيدة خارجياً شعوبياً، وله كتاب في مناقب العرب، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لتعارفوا‏}‏، مضارع تعارف، محذوف التاء؛ والأعمش‏:‏ بتاءين؛ ومجاهد، وابن كثير في رواية، وابن محيصن‏:‏ بإدغام التاء في التاء؛ وابن عباس، وأبان عن عاصم‏:‏ لتعرفوا، مضارع عرف؛ والمعنى‏:‏ أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر، كي يعرف بعضكم بعضاً في النسب، فلا ينتمي إلى غير آبائه، لا التفاخر بالآباء والأجداد، ودعوى التفاضل، وهي التقوى‏.‏ وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة‏:‏ ‏"‏ إنما الناس رجلان، مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله ‏"‏، ثم قرأ الآية‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ‏"‏ وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام، وبالبلاد، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع، وأكثره بالأنساب‏:‏

وأعجب شيء إلى عاقل *** فروع عن المجد مستأخره

إذا سئلوا ما لهم من علا *** أشاروا إلى أعظم ناخره

ومن ذلك‏:‏ افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ إن، بكسر الهمزة؛ وابن عباس‏:‏ بفتحها، وكان قرأ‏:‏ لتعرفوا، مضارع عرف، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر، وهو أجود من حيث المعنى‏.‏

وأما إن كانت لام كي، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوباً وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى‏.‏ فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفاً، أي لتعرفوا الحق، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي‏.‏

‏{‏قالت الأعراب آمنا‏}‏، قال مجاهد‏:‏ نزلت في بني أسد بن خزيمة، قبيلة تجاور المدينة، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة، فردّ الله تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل لم تؤمنوا‏}‏، أكذبهم الله في دعوى الإيمان، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم، وهذا في أعراب مخصوصين‏.‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏ولكن قولوا أسلمنا‏}‏، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم، وهو الاستسلام والانقياد ظاهراً، ولم يواطئ أقوالكم ما في قلوبكم، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏‏:‏ وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار، وتبين أن قوله‏:‏ ‏{‏لم تؤمنوا‏}‏ لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلاً بزمان الإخبار أيضاً، لأنك إذا نفيت بلم، جاز أن يكون النفي قد انقطع، ولذلك يجوز أن تقول‏:‏ لم يقم زيد وقد قام، وجاز أن يكون النفي متصلاً بزمن الإخبار‏.‏ فإذا كان متصلاً بزمن الإخبار، لم يجز أن تقول‏:‏ وقد قام، لتكاذب الخبرين‏.‏ وأما لما، فإنها تدل على نفي الشيء متصلاً بزمان الإخبار، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏لما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏ ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ هو بعد قوله‏:‏ ‏{‏قل لم تؤمنوا‏}‏ يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة؛ قلت‏:‏ ليس كذلك، فإن فائدة قوله‏:‏ ‏{‏لم تؤمنوا‏}‏ هو تكذيب دعواهم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏ توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم‏:‏ ‏{‏ولكن قولوا أسلمنا‏}‏ حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏قولوا‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏

والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا‏:‏ ‏{‏قولوا أسلمنا‏}‏ غير مقيد بحال، وأن ‏{‏ولما يدخل الإيمان‏}‏ إخبار غير قيد في قولهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد‏.‏ انتهى، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما، إنما تنفي ما كان متصلاً بزمان الإخبار، ولا تدل على ما ذكر، وهي جواب لقد فعل، وهب أن قد تدل على توقع الفعل‏.‏ فإذا نفي ما دل على التوقع، فكيف يتوهم أنه يقع بعد‏:‏ ‏{‏وإن تطيعوا الله ورسوله‏}‏ بالإيمان والأعمال‏؟‏ وهذا فتح لباب التوبة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لا يلتكم‏}‏، من لات يليت، وهي لغة الحجاز‏.‏ والحسن والأعرج وأبو عمرو‏:‏ ولا يألتكم، من ألت، وهي لغة غطفان وأسد‏.‏ ‏{‏ثم لم يرتابوا‏}‏، ثم تقتضي التراخي، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان، فقيل‏:‏ من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان، أي ثم أقول لم يرتابوا‏.‏ وقيل‏:‏ قد يخلص الإيمان، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه، فنفي ذلك، فحصل التراخي، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه‏.‏ ‏{‏أولئك هم الصادقون‏}‏‏:‏ أي في قولهم آمنا، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال‏.‏ وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا، وهم كاذبون في ذلك‏.‏

‏{‏قل أتعلمون الله بدينكم‏}‏، هي منقولة من‏:‏ علمت به، أي شعرت به، ولذلك تعدّت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف، وفي ذلك تجهيل لهم، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى‏.‏ ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض‏.‏ ويقال‏:‏ منّ عليهم بيد أسداها إليه، أي أنعم عليه‏.‏ المنة‏:‏ النعمة التي لا يطلب لها ثواب، ثم يقال‏:‏ منّ عليه صنعه، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً، أي يعتدون عليك أن أسلموا، فإن أسلموا في موضع المفعول، ولذلك تعدى إليه في قوله‏:‏ ‏{‏قل لا تمنوا عليّ إسلامكم‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون أسلموا مفعولاً من أجله، أي يتفضلون عليك بإسلامهم‏.‏ ‏{‏أن هداكم للإيمان‏}‏ بزعمكم، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله‏:‏ ‏{‏قل لم تؤمنوا‏}‏‏.‏ وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ، إذ هداكم، جعلا إذ مكان إن، وكلاهما تعليل، وجواب الشرط محذوف، أي ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏، فهو المانّ عليكم‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم‏:‏ يعلمون، بياء الغيبة، والجمهور‏:‏ بتاء الخطاب‏.‏

سورة ق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ‏(‏1‏)‏ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏2‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ‏(‏4‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ‏(‏5‏)‏ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ‏(‏6‏)‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏7‏)‏ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏8‏)‏ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏(‏9‏)‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏(‏10‏)‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏(‏11‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ‏(‏12‏)‏ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ‏(‏13‏)‏ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية، قال ابن عطية‏:‏ بإجماع من المتأولين‏.‏ وقال صاحب التحرير‏:‏ قال ابن عباس، وقتادة‏:‏ مكية إلا آية، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا السموات والأرض‏}‏ الآية‏.‏ ومناسبتها لآخر ما قبلها، أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا آمنا، لم يكن إيمانهم حقاً، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏{‏بل عجبوا أن جاءهم منذر‏}‏‏.‏ وعدم الإيمان أيضاً يدل على إنكار البعث، فلذلك أعقبه به‏.‏ وق حرف هجاء، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولاً متعارضة، لا دليل على صحة شيء منها، فأطرحت نقلها في كتابي هذا‏.‏

‏{‏والقرآن‏}‏ مقسم به و‏{‏المجيد‏}‏ صفته، وهو الشريف على غيره من الكتب، والجواب محذوف يدل عليه ما بعده، وتقديره‏:‏ أنك جئتهم منذراً بالبعث، فلم يقبلوا‏.‏ ‏{‏بل عجبوا‏}‏، وقيل‏:‏ ما ردوا أمرك بحجة‏.‏ وقال الأخفش، والمبرد، والزجاج‏:‏ تقديره لتبعثن‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب مذكور، فعن الأخفش قد علمنا ما تنقص الأرض منهم؛ وعن ابن كيسان، والأخفش‏:‏ ما يلفظ من قول؛ وعن نحاة الكوفة‏:‏ بل عجبوا، والمعنى‏:‏ لقد عجبوا‏.‏ وقيل‏:‏ إن في ذلك لذكرى، وهو اختيار محمد بن علي الترمذي‏.‏ وقيل‏:‏ ما يبدل القول لديّ، وهذه كلها أقوال ضعيفة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ قاف بسكون الفاء، ويفتحها عيسى، ويكسرها الحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال؛ وبالضم‏:‏ هارون وابن السميفع والحسن أيضاً؛ فيما نقل ابن خالويه‏.‏ والأصل في حروف المعجم، إذا لم تركب مع عامل، أن تكون موقوفة‏.‏ فمن فتح قاف، عدل إلى الحركات؛ ومن كسر، فعلى أصل التقاء الساكنين؛ ومن ضم، فكما ضم قط ومنذ وحيث‏.‏

‏{‏بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم‏}‏‏:‏ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم بالخوف رجل منهم قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه، فكان المناسب أن لا يعجبوا، وهذا مع اعترافهم بقدرة الله تعالى، فأي بعد في أن يبعث من يخوف وينذر بما يكون في المآكل من البعث والجزاء‏.‏ والضمير في ‏{‏بل عجبوا‏}‏ عائد على الكفار، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فقال الكافرون‏}‏ تنبيهاً على القلة الموجبة للعجب، وهو أنهم قد جبلوا على الكفر، فلذلك عجبوا‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على الناس، قيل‏:‏ لأن كل مفطور يعجب من بعثة بشر رسولاً من الله، لكن من وفق نظر فاهتدى وآمن، ومن خذل ضل وكفر؛ وحاج بذلك العجب والإشارة بقولهم‏:‏ ‏{‏هذا شيء عجيب‏}‏، الظاهر أنها إلى مجيء منذر من البشر‏.‏ وقيل‏:‏ إلى ما تضمنه الإنذار، وهو الإخبار بالبعث‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وهذا إشارة إلى المرجع‏.‏ انتهى، وفيه بعد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أئذأ‏}‏ بالاستفهام، وهم على أصولهم في تحقيق الثانية وتسهيلها والفصل بينهما‏.‏ وقرأ الأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، وابن وثاب، والأعمش، وابن عتبة عن ابن عامر‏:‏ إذا بهمزة واحدة على صورة الخبر، فجاز أن يكون استفهاماً حذفت منه الهمزة، وجاز أن يكونوا عدلوا إلى الخبر وأضمر جواب إذا، أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا‏.‏

وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز بعضهم في جواب الشرط ذلك إذا كان جملة اسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة‏.‏ وأما في قراءة الاستفهام، فالظرف منصوب بمضمر، أي‏:‏ أنبعث إذا متنا‏؟‏ وإليه الإشارة بقوله ذلك، أي البعث‏.‏

‏{‏رجع بعيد‏}‏، أي مستبعد في الأوهام والفكر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وإذا منصوب بمضمر معناه‏:‏ أحين نموت ونبلى نرجع‏؟‏ انتهى‏.‏ وأخذه من قول ابن جني، قال ابن جني‏:‏ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ أئذا متنا بعد رجعنا، فدل رجع بعيد على هذا الفعل، ويحل محل الجواب لقولهم أئذا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع، وهو الجواب، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث، والوقف قبله على هذا التفسير حسن‏.‏ فإن قلت‏:‏ فما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع‏؟‏ قلت‏:‏ ما دل عليه المنذر من المنذر به، وهو البعث‏.‏ انتهى‏.‏ وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع، وأنه من كلام الله تعالى، لا من كلامهم، على ما شرحه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب‏.‏

‏{‏قد علمنا ما تنقص الأرض منهم‏}‏‏:‏ أي من لحومهم وعظامهم وآثارهم، قاله ابن عباس ومجاهد والجمهور، وهذا فيه رد لاستبعادهم الرجع، لأن من كان عالماً بذلك، كان قادراً على رجعهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ أي ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم، وهذا يتضمن الوعيد‏.‏ ‏{‏وعندنا كتاب حفيظ‏}‏‏:‏ أي حافظ لما فيه جامع، لا يفوت منه شيء، أو محفوظ من البلى والتغير‏.‏ وقيل‏:‏ هو عبارة عن العلم والإحصاء‏.‏ وفي الخبر الثابت أن الارض تأكل ابن آدم الأعجب الذنب، وهو عظم كالخردلة منه يركب ابن آدم‏.‏

‏{‏بل كذبوا بالحق لما جاءهم‏}‏‏:‏ وقدروا قبل هذا الإضراب جملة يكون مضروباً عنها، أي ما أجادوا والنظر، بل كذبوا‏.‏ وقيل‏:‏ لم يكذبوا المنذر، بل كذبوا، والغالب أن الإضراب يكون بعد جملة منفية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بل كذبوا‏:‏ إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات‏.‏ انتهى‏.‏ وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأول، وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جواباً للقسم، فلا يكون قبل الثانية ما قدروه من قولهم‏:‏ ما أجادوا النظر، ‏{‏بل كذبوا بالحق‏}‏، والحق‏:‏ القرآن، أو البعث، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الإسلام، أقوال‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لما جاءهم‏}‏‏:‏ أي لم يفكروا فيه، بل بأول ما جاءهم كذبوا؛ والجحدري‏:‏ لما جاءهم، بكسر اللام وتخفيف الميم، وما مصدرية، واللام لام الجر، كهي في قولهم كتبته لخمس خلون أي عند مجيئهم إياه‏.‏

‏{‏فهم في أمر مريج‏}‏، قال الضحاك، وابن زيد‏:‏ مختلط‏:‏ مرة ساحر، ومرة شاعر، ومرة كاهن‏.‏ قال قتادة‏:‏ مختلف‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ملتبس‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ فاسد‏.‏ ومرجت أمانات الناس‏:‏ فسدت، ومرج الدين‏:‏ اختلط‏.‏ قال أبو واقد‏:‏

ومرج الدين فأعددت له *** مسرف الحارك محبوك الكند

وقال ابن عباس‏:‏ المريج‏:‏ الأمر المنكر، وعنه أيضاً مختلط، وقال الشاعر‏:‏

فجالت والتمست لها حشاها *** فخر كأنه خوط مريج

والأصل فيه الاضطراب والقلق‏.‏ مرج الخاتم في أصبعي، إذا قلق من الهزال‏.‏ ويجوز أن يكون الأمر المريج، باعتبار انتقال أفكارهم فيما جاء به المنذر قائلاً عدم قبولهم أول إنذاره إياهم، ثم العجب منهم، ثم استعباد البعث الذي أنذر به، ثم التكذيب لما جاء به‏.‏ ‏{‏أفلم ينظروا‏}‏ حين كفروا بالبعث وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي، ‏{‏كيف بنيناها‏}‏ مرتفعة من غير عمد، ‏{‏وزيناها‏}‏ بالنيرين وبالنجوم، ‏{‏وما لها من فروج‏}‏‏:‏ أي من فتوق وسقوف، بل هي سليمة من كل خلل‏.‏

‏{‏والأرض مددناها‏}‏‏:‏ بسطناها، ‏{‏وألقينا فيها رواسي‏}‏، أي جبالاً ثوابت تمنعها من التكفؤ، ‏{‏من كل زوج‏}‏‏:‏ أي نوع، ‏{‏بهيج‏}‏‏:‏ أي حسن المنظر بهيج، أي يسر من نظر إليه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تبصرة وذكرى‏}‏ بالنصب، وهما منصوبان بفعل مضمر من لفظهما، أي بصر وذكر‏.‏ وقيل‏:‏ مفعول من أجله‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ تبصرة بالرفع، وذكر معطوف عليه، أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة، والمعنى‏:‏ يتبصر بذلك ويتذكر، ‏{‏كل عبد منيب‏}‏‏:‏ أي راجع إلى ربه مفكر في بدائع صنعه‏.‏ ‏{‏ماء مباركاً‏}‏‏:‏ أي كثير المنفعة، ‏{‏وحب الحصيد‏}‏‏:‏ أي الحب الحصيد، فهو من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، كما يقوله البصريون، والحصيد‏:‏ كل ما يحصد مما له حب، كالبر والشعير‏.‏ ‏{‏باسقات‏}‏‏:‏ أي طوالاً في العلو، وهو منصوب على الحال، وهي حال مقدرة، لأنها حالة الإنبات، لم تكن طوالاً‏.‏ وباسقات جمع‏.‏ ‏{‏والنخل‏}‏ اسم جنس، فيجوز أن يذكر، نحو قوله‏:‏ ‏{‏نخل منقعر‏}‏ وأن يؤنث نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نخل خاوية‏}‏ وأن يجمع باعتبار إفراده، ومنه باسقات، وقوله‏:‏ ‏{‏وينشئ السحاب الثقال‏}‏ والجمهور‏:‏ باسقات بالسين‏.‏ وروى قطبة بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قرأ‏:‏ باصقات بالصاد، وهي لغة لبني العنبر، يبدلون من السين صاداً إذا وليتها، أو فصل بحرف أو حرفين، خاء أو عين أو قاف أو طاء‏.‏ ‏{‏لها طلع‏}‏‏:‏ تقدم شرحه عند ‏{‏من طلعها قنوان دانية‏}‏ ‏{‏نضيد‏}‏‏:‏ أي منضود بعضه فوق بعض، بريد كثرة الطلع وتراكمه، أي كثرة ما فيه من الثمر‏.‏ وأول ظهور الثمر في الكفرى هو أبيض ينضد كحب الرمان، فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو نضيد، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد‏.‏

و ‏{‏رزقاً‏}‏ نصب على المصدر، لأن معنى‏:‏ وأنبتنا رزقنا، أو على أنه مفعول له‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ميتاً‏}‏ بالتخفيف؛ وأبو جعفر، وخالد‏:‏ بالتثقيل، والإشارة في ذلك إلى الإحياء، أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم، مثل ذلك الحياة للبلدة الميت، وهذه كلها أمثلة وأدلة على البعث‏.‏

وذكر تعالى في السماء ثلاثة‏:‏ البناء والتزين ونفي الفروج، وفي الأرض ثلاثة‏:‏ المد وإلقاء الرواسي والإنبات‏.‏ قابل المد بالبناء، لأن المد وضع والبناء رفع‏.‏ وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب، لارتكاز كل واحد منهما‏.‏ والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج، فلا شق فيها‏.‏ ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقي أصله، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة، وعلى ما اختلط من جنسين، فبعض الثمار فاكهة لا قوت، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت‏.‏

ولما ذكر تعالى قوله‏:‏ ‏{‏بل كذبوا بالحق لما جاءهم‏}‏، ذكر من كذب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية هذه الآية وقصص من ذكر فيها‏.‏ وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وطلحة، ونافع‏:‏ الأيكة بلام التعريف؛ والجمهور‏:‏ ليكة‏.‏ ‏{‏كل كذب الرسل‏}‏‏:‏ أي كلهم، أي جميعهم كذب؛ وحمل على لفظ كل، فأفرد الضمير في كذب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يجوز أن يراد به كل واحد منهم‏.‏ انتهى‏.‏ والتنوين في كل تنوين عوض من المضاف إليه المحذوف‏.‏ وأجاز محمد بن الوليد، وهو من قدماء نحاة مصر، أن يحذف التنوين من كل جعله غاية، ويبنى على الضم، كما يبنى قبل وبعد، فأجاز كل منطلق بضم اللام دون تنوين، ورد ذلك عليه الأخفش الصغير، وهو علي بن سليمان‏.‏ ‏{‏فحق وعيد‏}‏‏:‏ أي وجب تعذيب الأمم المكذبة وإهلاكهم، وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتهديد لقريش ومن كذب الرسول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 21‏]‏

‏{‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ‏(‏16‏)‏ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ‏(‏17‏)‏ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ‏(‏18‏)‏ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ‏(‏19‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ‏(‏20‏)‏ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏أفعيينا بالخلق الأول‏}‏‏:‏ وهو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج، وتقدم تفسير عيي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يعي بخلقهن‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ أفعيينا، بياء مكسورة بعدها ياء ساكنة، ماضي عيي، كرضي‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة، والوليد بن مسلم، والقورصبي عن أبي جعفر، والسمسار عن شيبة، وأبو بحر عن نافع‏:‏ بتشديد الياء من غير إشباع في الثانية، هكذا قال أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل‏.‏ وقال ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات له‏:‏ أفعينا بتشديد الياء‏.‏ ابن أبي عبلة، وفكرت في توجيه هذه القراءة، إذ لم يذكر أحد توجيهها، فخرجتها على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي، فقال‏:‏ عي في عيي، وحي في حيي‏.‏ فلما أدغم، ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه، ولم يفك الإدغام فقال‏:‏ عيناً، وهي لغة لبعض بكر بن وائل، يقولون في رددت ورددنا‏:‏ ردت وردنا، فلا يفكون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشدّدة مفتوحة‏.‏ فلو كان ن ضمير نصب، لاجتمعت العرب على الإدغام، نحو‏:‏ ردّنا زيد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الخلق الأول آدم عليه السلام، والمعنى‏:‏ أعجزنا عن الخلق الأول، فنعجز عن الخلق الثاني، وهذا توقيف للكفار، وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم‏.‏ ‏{‏بل هم في لبس‏}‏‏:‏ أي خلط وشبهة وحيرة، ومنه قول علي‏:‏ يا جار إنه لملبوس عليك، اعرف الحق تعرف أهله‏.‏ ‏{‏من خلق جديد‏}‏‏:‏ أي من البعث من القبور‏.‏

‏{‏ولقد خلقنا الإنسان‏}‏‏:‏ هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث، والإنسان إسم جنس‏.‏ وقيل‏:‏ آدم‏.‏ ‏{‏ونحن أقرب‏}‏‏:‏ قرب علم به وبأحواله، لا يخفى عليه شيء من خفياته، فكأن ذاته قريبة منه، كما يقال‏:‏ الله في كل مكان، أي بعلمه، وهو منزه عن الأمكنة‏.‏ و‏{‏حبل الوريد‏}‏‏:‏ مثل في فرط القرب، كقول العرب‏:‏ هو مني مقعد القابلة، ومقعد الإزار‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

والموت أدنى لي من الوريد *** والحبل‏:‏ العرق الذي شبه بواحد الحبال، وإضافته إلى الوريد للبيان، كقولهم‏:‏ بعير سانية‏.‏ أو يراد حبل العاتق، فيضاف إلى الوريد، كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد، والعامل في إذ أقرب‏.‏ وقيل‏:‏ اذكر، قيل‏:‏ ويحسن تقدير اذكر، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس، والقرب بالقدرة والملك‏.‏ فلما تم الإخبار، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر، وتعين وروده عند السامع‏.‏ فمنها‏:‏ ‏{‏إذ يتلقى المتلقيان‏}‏، ومنها مجيء سكرة الموت، ومنها‏:‏ النفخ في الصور، ومنها‏:‏ مجيء كل نفس معها سائق وشهيد‏.‏ والمتلقيان‏:‏ الملكان الموكلان بكل إنسان؛ ملك اليمين يكتب الحسنات، وملك الشمال يكتب السيئآت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الحفظة أربعة، اثنان بالنهار واثنان بالليل‏.‏ وقعيدة‏:‏ مفرد، فاحتمل أن يكون معناه‏:‏ مقاعد، كما تقول‏:‏ جليس وخليط‏:‏ أي مجالس ومخالط، وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة، كعليم‏.‏

قال الكوفيون‏:‏ مفرد أقيم مقام اثنين، والاجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، أي عن اليمين قعيد، كما قال الشاعر‏:‏

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطوى رماني

على أحسن الوجهين فيه، أي كنت منه برياً، ووالدي برياً‏.‏ ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد، وعن الشمال، فأخر قعيد عن موضعه‏.‏ ومذهب الفراء أن لفظ قعيد يدل على الاثنين والجمع، فلا يحتاج إلى تقدير‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ما يلفظ من قول‏}‏، وظاهر ما يلفظ العموم‏.‏ قال مجاهد، وأبو الحواراء‏:‏ يكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه‏.‏ وقال الحسن، وقتادة‏:‏ يكتبان جميع الكلام، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات، ويمحو غير ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ هو مخصوص، أي من قول خير أو شر‏.‏ وقال‏:‏ معناه عكرمة، وما خرج عن هذا لا يكتب‏.‏ واختلفوا في تعيين قعود الملكين، ولا يصح فيه شيء‏.‏ ‏{‏رقيب‏}‏‏:‏ ملك يرقب‏.‏ ‏{‏عتيد‏}‏‏:‏ حاضر، وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد، فأحرى على العمل‏.‏ وقال الحسن‏:‏ فإذا مات، طويت صحيفته‏.‏ وقيل‏:‏ له يوم القيامة اقرأ كتابك‏.‏

‏{‏وجاءت سكرة الموت‏}‏‏:‏ هو معطوف على ‏{‏إذ يتلقى‏}‏، وسكرة الموت‏:‏ ما يعتري الإنسان عند نزاعه، والباء في ‏{‏بالحق‏}‏ للتعدية، أي جاءت سكرة الموت الحق، وهو الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله، من سعادة الميت أو شقاوته، أو للحال، أي ملتبسه بالحق‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ سكران جمعاً‏.‏ ‏{‏ذلك ما كنت منه تحيد‏}‏‏:‏ أي تميل‏.‏ تقول‏:‏ أعيش كذا وأعيش كذا، فمتى فكر في قرب الموت، حاد بذهنه عنه وأمل إلى مسافة بعيدة من الزمن‏.‏ ومن الحيد‏:‏ الحذر من الموت، وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الخطاب للفاجر‏.‏ تحيد‏:‏ تنفر وتهرب‏.‏ ‏{‏ذلك يوم الوعيد‏}‏، هو على حذف‏:‏ أي وقت ذلك يوم الوعيد‏.‏ والإشارة إلى مصدر نفخ، وأضاف اليوم إلى الوعيد، وإن كان يوم الوعد والوعيد معاً على سبيل التخويف‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ معها؛ وطلحة‏:‏ بالحاء مثقلة، أدغم العين في الهاء، فانقلبتا حاء؛ كما قالوا‏:‏ ذهب محم، يريد معهم، ‏{‏سائق‏}‏‏:‏ جاث على السير، ‏{‏وشهيد‏}‏‏:‏ يشهد عليه‏.‏ قال عثمان بن عفان، ومجاهد وغيره‏:‏ ملكان موكلان بكل إنسان، أحدهما يسوقه، والآخر من حفظه يشهد عليه‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ السائق ملك، والشهيد النبي‏.‏ وقيل‏:‏ الشهيد‏:‏ الكتاب الذي يلقاه منشوراً، والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏سائق وشهيد‏}‏ اسما جنس، فالسائق‏:‏ ملائكة موكلون بذلك، والشهيد‏:‏ الحفظة وكل من يشهد‏.‏ وقال ابن عباس، والضحاك‏:‏ السائق ملك، والشهيد‏:‏ جوارح الإنسان‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا يبعد عن ابن عباس، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله‏:‏ كل نفس يعم الصالحين، فإنما معناه‏:‏ وشهيد بخيره وشره‏.‏ ويقوى في شهيد اسم الجنس، فشهد بالخير الملائكة والبقاع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» وقال أبو هريرة‏:‏ السائق ملك، والشهيد العمل‏.‏ وقال أبو مسلم‏:‏ السائق شيطان، وهو قول ضعيف‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ملكان، أحدهما يسوقه إلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله؛ أو ملك واحد جامع بين الأمرين، كأنه قيل‏:‏ كأنه قيل‏:‏ ملك يسوقه ويشهد عليه ويحل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدئ في النحو، لأنه لو نعت كل نفس، لما نعت إلا بالنكرة، فهو نكرة على كل حال، فلا يمكن أن يتعرف كل، وهو مضاف إلى نكرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 35‏]‏

‏{‏لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏(‏22‏)‏ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ‏(‏23‏)‏ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏24‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ‏(‏25‏)‏ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ‏(‏26‏)‏ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏27‏)‏ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ‏(‏28‏)‏ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ‏(‏30‏)‏ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ‏(‏31‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ‏(‏32‏)‏ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ‏(‏33‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ‏(‏34‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لقد كنت في غفلة‏}‏، بفتح التاء، والكاف في كنت وغطاءك وبصرك؛ والجحدري‏:‏ بكسرها على مخاطبة النفس‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عنك غطاءك فبصرك‏}‏، بفتح التاء والكاف، حملاً على لفظ كل من التذكير؛ والجحدري، وطلحة بن مصرّف‏:‏ عنك غطاءك فبصرك، بالكسر مراعاة للنفس أيضاً، ولم ينقل الكسر في الكاف صاحب اللوامح إلا عن طلحة وحده‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ولم أجد عنه في ‏{‏لقد كنت‏}‏‏.‏ الكسر‏.‏ فإن كسر، فإن الجميع شرع واحد؛ وإن فتح ‏{‏لقد كنت‏}‏، فحمل على كل أنه مذكر‏.‏ ويجوز تأنيث كل في هذا الباب لإضافته إلى نفس، وهو مؤنث، وإن كان كان كذلك، فإنه حمل بعضه على اللفظ وبعضه على المعنى، مثل قوله‏:‏ ‏{‏فله أجره‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ انتهى‏.‏

قال ابن عباس، وصالح بن كيسان، والضحاك‏:‏ يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد، إذا حصل بين يدي الرحمن، وعاين الحقائق التي لا يصدق بها في الدنيا، ويتغافل عن النظر فيها‏:‏ ‏{‏لقد كنت في غفلة من هذا‏}‏‏:‏ أي من عاقبة الكفر‏.‏ فلما كشف الغطاء عنك، احتدّ بصرك‏:‏ أي بصيرتك؛ وهذا كما تقول‏:‏ فلان حديد الذهن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو بصر العين، أي احتدّ التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة‏.‏ وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله، وهو في كتاب ابن عطية‏.‏ وكنى بالغطاء عن الغفلة، كأنها غطت جميعه أو عينيه، فهو لا يبصر‏.‏ فإذا كان في القيامة، زالت عنه الغفلة، فأبصر ما كان لم يبصره من الحق‏.‏

‏{‏وقال قرينه‏}‏‏:‏ أي من زبانية جهنم، ‏{‏هذا‏}‏‏:‏ العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر، ‏{‏عتيد‏}‏‏:‏ حاضر، ويحسن هذا القول إطلاق ما على ما لا يعقل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قرينه‏:‏ الملك الموكل بسوقه، أي هذا الكافر الذي أسوقه لديّ حاضر‏.‏ وقال الزهراوي‏:‏ وقيل قرينه‏:‏ شيطانه، وهذا ضعيف، وإنما وقع فيه أن القرين في قوله‏:‏ ‏{‏ربنا ما أطغيته‏}‏ هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف‏.‏ ولفظ القرين اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبه من الزبانية قرين، ومماشي الإنسان في طريقة قرين‏.‏ وقيل‏:‏ قرينه هنا‏:‏ عمله قلباً وجوارحاً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقال قرينه‏:‏ هو الشيطان الذي قيض له في قوله ‏{‏نقيض له شيطاناً فهو له قرين‏}‏ يشهد له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال قرينه ربنا ما أطغيته‏}‏، ‏{‏هذا ما لدي عتيد‏}‏، هذا شيء لدي، وفي ملكتي عتيد لجهنم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن ملكاً يسوقه، وآخر يشهد عليه، وشيطاناً مقروناً به يقول‏:‏ قد أعتدته لجهنم وهيأته لها بإغواي وإضلالي‏.‏ انتهى، وهذا قول مجاهد‏.‏ وقال الحسن، وقتادة أيضاً‏:‏ الملك الشهيد عليه‏.‏ وقال الحسن أيضاً‏:‏ هو كاتب سيئاته، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد وموصولة، والظرف صلتها‏.‏

وعتيد، قال الزمخشري‏:‏ بدل أو خير بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ عتيد بالرفع؛ وعبد الله‏:‏ بالنصب على الحال، والأولى إذ ذاك أن تكون ما موصولة‏.‏

‏{‏ألقيا في جهنم‏}‏‏:‏ الخطاب من الله للملكين‏:‏ السائق والشهيد‏.‏ وقيل‏:‏ للملكين من ملائكة العذاب، فعلى هذا الألف ضمير الاثنين‏.‏ وقال مجاهد وجماعة‏:‏ هو قول إما للسائق، وإما للذي هو من الزبانية، وعلى أنه خطاب للواحد‏.‏ وقال المبرد معناه‏:‏ ألق ألق، فثنى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو من خطاب الواحد بخطاب الاثنين‏.‏ وقيل‏:‏ الألف بدل من النون الخفيفة، أجرى الوصل مجرى الوقف، وهذه أقوال مرغوب عنها، ولا ضرورة تدعو إلى الخروج عن ظاهر اللفظ لقول مجاهد‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ألقين بنون التوكيد الخفيفة، وهي شاذة مخالفة لنقل التواتر بالألف‏.‏ ‏{‏كل كفار‏}‏‏:‏ أي يكفر النعمة والمنعم؛ ‏{‏عنيد‏}‏، قال قتادة‏:‏ منحرف عن الطاعة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ جاحد متمرد‏.‏ وقال السدي‏:‏ المساق من العند، وهو عظم يعرض في الحلق‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ المعجب بما فيه‏.‏

‏{‏مناع للخير‏}‏، قال قتادة ومجاهد وعكرمة‏:‏ يعني الزكاة‏.‏ وقيل‏:‏ بخيل‏.‏ وقيل‏:‏ مانع بني أخيه من الإيمان، كالوليد بن المغيرة، كان يقول لهم‏:‏ من دخل منكم فيه لم أنفعه بشيء ما عشت، والأحسن عموم الخير في المال وغيره‏.‏ ‏{‏مريب‏}‏، قال الحسن‏:‏ شاك في الله أو في البعث‏.‏ وقيل‏:‏ متهم الذي جوزوا فيه أن يكون منصوباً بدلاً من كل كفار، وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار، وأن يكون مرفوعاً بالابتداء مضمناً معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاء في خبره، وهو فألقياه‏.‏ والظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل، ويكون فألقياه توكيداً‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون صفة من حيث يختص كفار بالأوصاف المذكورة، فجاز وصفه بهذه المعرفة‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا ليس بشيء لو وصفت النكرة بأوصاف كثيرة لم يجز أن توصف بالمعرفة‏.‏

‏{‏قال قرينه‏}‏‏:‏ لم تأت هذه الجملة بالواو، بخلاف ‏{‏وقال قرينه‏}‏ قبله، لأن هذه استؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون، فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه، فكأن الكافر قال ربي هو أطغاني، ‏{‏قال قرينه ربنا ما أطغيته‏}‏‏.‏ وأما ‏{‏وقال قرينه‏}‏ فعطف لدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين‏.‏ وقول قرينه‏:‏ ما قال له، ومعنى ما أطغيته‏:‏ تنزيه لنفسه من أنه أثر فيه، ‏{‏ولكن كان في ضلال بعيد‏}‏‏:‏ أي من نفسه لا مني، فهو الذي استحب العمى على الهدى، كقوله‏:‏ ‏{‏وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي‏}‏ وكذب القرين، قد أطغاه بوسوسته وتزيينه‏.‏ ‏{‏قال لا تختصموا لدي‏}‏‏:‏ استئناف أيضاً مثل قال قرينه، كأن قائلاً قال‏:‏ ما قال الله تعالى‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏لا تختصموا لدي‏}‏ أي في دار الجزاء وموقف الحساب‏.‏

‏{‏وقد قدّمت إليكم بالوعيد‏}‏ لمن عصاني، فلم أترك لكم حجة‏.‏

‏{‏ما يبدّل القول لدي‏}‏‏:‏ أي عندي، فما أمضيته لا يمكن تبديله‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور‏.‏ وقدمت‏:‏ يجوز أن يكون بمعنى تقدمت، أي قد تقدم قولي لكم ملتبساً بالوعيد، أو يكون قدم المتعدية، وبالوعيد هو المفعول، والباء زائدة، والتقديم كان في الدنيا، ونهيهم عن الاختصام في الآخرة، فاختلف الزمانان‏.‏ فلا تكون الجملة من قوله‏:‏ ‏{‏وقد قدّمت‏}‏ حالاً إلا على تأويل، أي وقد صح عندكم أني قدمت، وصحة ذلك في الآخرة، فاتفق زمان النهي عن الاختصام، وصحة التقديم بالحال على هذا التأويل مقارنة‏.‏ ‏{‏وما أنا بظلام للعبيد‏}‏‏:‏ تقدم شرح مثله في أواخر آل عمران، والمعنى‏:‏ لا أعذب من لا يستحق العذاب‏.‏

وقرأ يوم يقول، بياء الغيبة الأعرج، وشيبة، ونافع، وأبو بكر، والحسن، وأبو رجاء، وأبو جعفر، والأعمش، وباقي السبعة‏:‏ بالنون؛ وعبد الله، والحسن، والأعمش أيضاً‏:‏ يقال مبنياً للمفعول وانتصاب يوم بظلام، أو بأذكر، أو بأنذر كذلك‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن ينتصب بنفخ، كأنه قيل‏:‏ ونفخ في الصور يوم نقول، وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم يقول‏.‏ انتهى، وهذا بعيد جداً، قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة، فلا يناسب هذا القول فصاحة القرآن وبلاغته‏.‏ و‏{‏هل امتلأت‏}‏‏:‏ تقرير وتوقيف، لا سؤال استفهام حقيقة، لأنه تعالى عالم بأحوال جهنم‏.‏ قيل‏:‏ وهذا السؤال والجواب منها حقيقة‏.‏ وقيل‏:‏ هو على حذف مضاف، أي نقول لخزنة جهنم، قاله الرماني‏.‏ وقيل‏:‏ السؤال والجواب من باب التصوير الذي يثبت المعنى، أي حالها حال من لو نطق بالجواب لسائله لقال كذا، وهذا القول يظهر أنها إذ ذاك لم تكن ملأى‏.‏ فقولها‏:‏ ‏{‏من مزيد‏}‏، سؤال ورغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين فيها‏.‏ وقال الحسن، وعمرو، وواصل‏:‏ كانت ملأى وقت السؤال، فلا تزداد على امتلائها، كما جاء في الحديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما تركه ومزيد يحتمل أن يكون مصدر أو اسم مفعول‏.‏ ‏{‏غير بعيد‏}‏‏:‏ مكاناً غير بعيد، وهو تأكيد لأزلفت، رفع مجاز القرب بالوعد والإخبار‏.‏ فانتصاب غير على الظرف صفة قامت مقام مكان، فأعربت بإعرابه‏.‏ وأجاز الزمخشري أن ينتصب غير بعيد على الحال من الجنة‏.‏ قال‏:‏ وتذكيره يعني بعيد، لأنه على زنة المصدر، كالزئير والصليل، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث‏.‏ انتهى‏.‏ وكونه على وزن المصدر، لا يسوغ أن يكون المذكر صفة للمؤنث‏.‏ وقال الزمخشري أيضاً‏:‏ أو على حذف الموصوف، أي شيئاً غير بعيد‏.‏ انتهى‏.‏ وكأنه يعني إزلافاً غير بعيد، هذا إشارة للثواب‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ما توعدون‏}‏؛ خطاب للمؤمنين؛ وابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ بياء الغيبة، أي هذا القول هو الذي وقع الوعد به، وهي جملة اعتراضية بين المبدل منه والبدل‏.‏

و ‏{‏لكل أواب‏}‏‏:‏ هو البدل من المتقين‏.‏ ‏{‏من خشي‏}‏‏:‏ بدل بعد بدل تابع ‏{‏لكل‏}‏، قاله الزمخشري‏.‏ وإنما جعله تابعاً ‏{‏لكل‏}‏، لا بدلاً من ‏{‏للمتقين‏}‏، لأنه لا يتكرر الإبدال من مبدل منه واحد‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف أواب وحفيظ، ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ، لأن من لا يوصف به، ولا يوصف من بين سائر الموصولات إلا بالذي‏.‏ انتهى‏.‏ يعني بقوله‏:‏ في حكم أوأب‏:‏ أن يجعل من صفته، وهذا حكم صحيح‏.‏ وأما قوله‏:‏ ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي، فالحصر ليس بصحيح، قد وصفت العرب بما فيه أل، وهو موصول، نحو القائم والمضروب، ووصفت بذو الطائية، وذات في المؤنث‏.‏ ومن كلامهم‏:‏ بالفضل ذو فضلكم الله به، والكرامة ذات أكرمك الله به، يريد بالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم، ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي، بل فروعه من المؤنث والمثنى والمجموع على اختلاف لغات ذلك‏.‏ وجوز أن تكون من موصولة مبتدأ خبره القول المحذوف، تقديره‏:‏ يقال لهم ادخلوها، لأن من في معنى الجمع، وأن تكون شرطية، والجواب الفعل المحذوف، أي فيقال‏:‏ وأن يكون منادى، كقولهم‏:‏ من لا يزال محسناً أحسن إليّ، وحذف حرف النداء للتقريب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن تكون من نعتاً‏.‏ انتهى، وهذا لا يجوز، لأن من لا ينعت بها، وبالغيب حال من المفعول، أي وهو غائب عنه، وإنما أدركه بالعلم الضروري، إذ كل مصنوع لا بد له من صانع‏.‏ ويجوز أن تكون صفة لمصدر خشي، أي خشية خشيه ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب، أو خشيه بسبب الغيب الذي أوعده به من عذابه‏.‏ وقيل‏:‏ في الخلوة حيث لا يراه أحد، فيكون حالاً من الفاعل‏.‏ وقرن بالخشية الرحمن بناء على الخاشي، حيث علم أنه واسع الرحمة، وهو مع ذلك يخشاه‏.‏

‏{‏ادخلوها بسلام‏}‏‏:‏ أي سالمين من العذاب، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته‏.‏ ‏{‏ذلك يوم الخلود‏}‏‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ أي مقدرين الخلود، وهو معادل لقوله في الكفار‏:‏ ‏{‏ذلك يوم الوعيد‏}‏‏.‏ ‏{‏لهم ما يشاءون فيها‏}‏‏:‏ أي ما تعلقت به مشيئاتهم من أنواع الملاذ والكرمات، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم‏}‏ ‏{‏ولدينا مزيد‏}‏‏:‏ زيادة، أو شيء مزيد على ما تشاءون، ونحوه‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏ وكما جاء في الحديث‏:‏ «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ما اطلعتهم عليه»، ومزيد مبهم، فقيل‏:‏ مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها‏.‏ وقيل‏:‏ أزواج من حور الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ تجلى الله تعالى لهم حتى يرونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 45‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏36‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ‏(‏38‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ‏(‏39‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ‏(‏40‏)‏ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ‏(‏42‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ‏(‏43‏)‏ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ‏(‏44‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

أي كثيراً‏.‏ ‏{‏أهلكنا‏}‏‏:‏ أي قبل قريش‏.‏ ‏{‏هم أشدّ منهم بطشاً‏}‏، لكثرة قوتهم وأموالهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فنقبوا‏}‏، بفتح القاف مشددة، والظاهر أن الضمير في نقبوا عائد على كم، أي دخلوا البلاد من أنقابها‏.‏ والمعنى‏:‏ طافوا في البلاد‏.‏ وقيل‏:‏ نقروا وبحثوا، والتنقيب‏:‏ التنقير والبحث‏.‏ قال امرؤ القيس في معنى التطواف‏:‏

وقد نقبت في الآفاق حتى *** رضيت من الغنيمة بالإياب

وروي‏:‏ وقد طوفت‏.‏ وقال الحارث بن خالدة‏:‏

نقبوا في البلاد من حذر الموت *** وجالوا في الأرض كل مجال

وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم، فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه‏.‏ ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش، أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا محيصاً حتى يؤملوه لأنفسهم‏؟‏ ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس، وابن يعمر، وأبي العالية، ونصر بن يسار، وأبي حيوة، والأصمعي عن أبي عمرو‏:‏ بكسر القاف مشدّدة على الأمر لأهل مكة، أي فسيحوا في البلاد وابحثوا‏.‏ وقرئ‏:‏ بكسر القاف خفيفة، أي نقبت أقدامهم وأخفاف إبلهم، أو حفيت لكثرة تطوافهم في البلاد، من نقب خف البعير إذا انتقب ودمى‏.‏ ويحتمل أن يكون ‏{‏هل من محيص‏}‏ على إضمار القول، أي يقولون هل من محيص من الهلاك‏؟‏ واحتمل أن لا يكون ثم قول، أي لا محيص من الموت، فيكون توفيقاً وتقريراً‏.‏

‏{‏إن في ذلك‏}‏‏:‏ أي في إهلاك تلك القرون، ‏{‏لذكرى‏}‏‏:‏ لتذكرة واتعاظاً، ‏{‏لمن كان له قلب‏}‏‏:‏ أي واع، والمعنى‏:‏ لمن له عقل وعبر عنه بمحله، ومن له قلب لا يعي، كمن لا قلب له‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أو ألقى السمع‏}‏، مبنياً للفاعل، والسمع نصب به، أي أو أصغى سمعه مفكراً فيه، و‏{‏شهيد‏}‏‏:‏ من الشهادة، وهو الحضور‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لمن كان له، قيل‏:‏ من أهل الكتاب، فيعتبر ويشهد بصحتها لعلمه بذلك من التوراة، فشهيد من الشهادة‏.‏ وقرأ السلمي، وطلحة، والسدي، وأبو البرهشيم‏:‏ أو ألقى مبنياً، للمفعول، السمع‏:‏ رفع به، أي السمع منه، أي من الذي له قلب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أو لمن ألقي غيره السمع وفتح له أذنه ولم يحضر ذهنه، أي الملقي والفاتح والملقى له والمفتوح أذنه حاضر الذهن متفطن‏.‏ وذكر لعاصم أنها قراءة السدي، فمقته وقال‏:‏ أليس يقول يلقون السمع‏؟‏

‏{‏ولقد خلقنا السموات والأرض‏}‏‏:‏ نزلت في اليهود تكذيباً لهم في قولهم‏:‏ إنه تعالى استراح من خلق السموات والأرض، ‏{‏في ستة أيام‏}‏‏:‏ يوم السبت، واستلقى على العرش، وقيل‏:‏ التشبيه الذي وقع في هذه الأمة إنما أخذ من اليهود‏.‏ ‏{‏وما مسنا لغوب‏}‏‏:‏ احتمل أن تكون جملة حالية، واحتمل أن تكون استئنافاً؛ واللغوب‏:‏ الإعياء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بضم اللام، وعلي، والسلمي، وطلحة، ويعقوب، بفتحها، وهما مصدران، الأول مقيس وهو الضم، وأما الفتح فغير مقيس، كالقبول والولوع، وينبغي أن يضاف إلى تلك الخمسة التي ذكرها سيبويه، وزاد الكسائي الوزوع فتصير سبعة‏.‏

‏{‏فاصبر‏}‏، قيل‏:‏ منسوخ بآية السيف، ‏{‏على ما يقولون‏}‏‏:‏ أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم، ‏{‏وسبح بحمد ربك‏}‏، أي فصلّ، ‏{‏قبل طلوع الشمس‏}‏، هي صلاة الصبح، ‏{‏وقبل الغروب‏}‏‏:‏ هي صلاة العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قبل الغروب‏:‏ الظهر والعصر‏.‏ ‏{‏ومن الليل‏}‏‏:‏ صلاة العشاءين، ‏{‏وقبل الغروب‏}‏‏:‏ ركعتان قبل المغرب‏.‏ وفي صحيح مسلم، عن أنس ما معناه‏:‏ أن الصحابة كانوا يصلونها قبل المغرب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ما أدركت أحداً يصليها إلا أنساً وأبا برزة الأسلمي‏.‏ وقال بعض التابعين‏:‏ كان الصحابة يهبون إليهما كما يهبون إلى المكتوبة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هي العشاء فقط‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي صلاة الليل‏.‏ ‏{‏وأدبار السجود‏}‏، قال أبو الأحوص‏:‏ هو التسبيح في أدبار الصلوات‏.‏ وقال عمر، وعليّ، وأبو هريرة، والحسن، والشعبي، وإبراهيم، ومجاهد، والأوزاعي‏:‏ هما ركعتان بعد المغرب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو الوتر بعد العشاء‏.‏ وقال ابن عباس، ومجاهد أيضاً، وابن زيد‏:‏ النوافل بعد الفرائض‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ركعتان بعد العشاء، يقرأ في الأولى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ وفي الثانية‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ وقرأ ابن عباس، وأبو جعفر، وشيبة، وعيسى، والأعمش، وطلحة، وشبل، وحمزة، والحرميان‏:‏ وإدبار بكسر الهمزة، وهو مصدر، تقول‏:‏ أدبرت الصلاة، انقضت ونمت‏.‏ وقال الزمخشري وغيره‏:‏ معناه ووقت انقضاء السجود، كقولهم‏:‏ آتيك خفوق النجم‏.‏ وقرأ الحسن والأعرج وباقي السبعة‏:‏ بفتحها، جمع دبر، كطنب وأطناب، أي وفي أدبار السجود‏:‏ أي أعقابه‏.‏ قال أوس بن حجر‏:‏

على دبر الشهر الحرام فأرضنا *** وما حولها جدب سنون تلمع

‏{‏واستمع‏}‏‏:‏ أمر بالاستماع، والظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع، والمستمع له محذوف تقديره‏:‏ واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ «يا معاذ اسمع ما أقول لك»، ثم حدثه بعد ذلك‏.‏ وانتصب ‏{‏يوم‏}‏ بما دل عليه ذلك‏.‏ ‏{‏يوم الخروج‏}‏‏:‏ أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور‏.‏ وقيل‏:‏ مفعول استمع محذوف تقديره‏:‏ نداء المنادي‏.‏ وقيل تقديره‏:‏ نداء الكافر بالويل والثبور‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحتاج إلى مفعول، إذ حذف اقتصاراً، والمعنى‏:‏ كن مستمعاً، ولا تكن غافلاً معرضاً‏.‏ وقيل معنى واستمع‏:‏ وانتظر، والخطاب لكل سامع‏.‏ وقيل‏:‏ للرسول، أي ارتقبه، فإن فيه تبين صحة ما قلته، كما تقول لمن تعده بورود فتح‏:‏ استمع كذا وكذا، أي كن منتظراً له مستمعاً، فيوم منتصب على أنه مفعول به‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ المنادى بالياء وصلاً ووقفاً، ونافع، وأبو عمرو؛ بحذف الياء وقفاً، وعيسى، وطلحة، والأعمش، وباقي السبعة‏:‏ بحذفها وصلاً ووقفاً اتباعاً لخط المصحف، ومن أثبتها فعلى الأصل، ومن حذفها وقفاً فلأن الوقف تغيير يبدل فيه التنوين ألفاً نصباً، والتاء هاء، ويشدّد المخفف، ويحذف الحرف في القوافي‏.‏

والمنادي في الحديث‏:‏ «أن ملكاً ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى» ‏{‏من مكان قريب‏}‏‏:‏ وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق‏.‏ قيل‏:‏ والمنادي إسرافيل، ينفخ في الصور وينادي‏.‏ وقيل‏:‏ المنادي جبريل‏.‏ وقال كعب، وقتادة وغيرهما‏:‏ المكان صخرة بيت المقدس، قال كعب‏:‏ قربها من السماء بثمانية عشر ميلاً، كذا في كتاب ابن عطية، وفي كتاب الزمخشري‏:‏ باثني عشر ميلاً، وهي وسط الأرض‏.‏ انتهى، ولا يصح ذلك إلا بوحي‏.‏

‏{‏يوم يسمعون‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏يوم ينادي‏}‏، و‏{‏الصيحة‏}‏‏:‏ صيحة المنادي‏.‏ قيل‏:‏ يسمعون من تحت أقدامهم‏.‏ وقيل‏:‏ من تحت شعورهم، وهي النفخة الثانية، و‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بالصيحة، والمراد به البعث والحشر‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏‏:‏ أي يوم النداء والسماع، ‏{‏يوم الخروج‏}‏ من القبور، وقيل‏:‏ الإشارة بذلك إلى النداء، واتسع في الظرف فجعل خبراً عن المصدر، أو يكون على حذف، أي ذلك لنداء نداء يوم الخروج، أو وقت النداء يوم الخروج‏.‏ وقرأ نافع، وابن عامر‏:‏ تشقق بشدّ الشين؛ وباقي السبعة‏:‏ بتخفيفها‏.‏ وقرئ‏:‏ تشقق بضم التاء، مضارع شققت على البناء للمفعول، وتنشق مضارع انشقت‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ تشقق بفك الإدغام، ذكره أبو عليّ الأهوازي في قراءة زيد بن عليّ من تأليفه، ويوم بدل من يوم الثاني‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب بالمصدر، وهو الخروج‏.‏ وقيل‏:‏ المصير، وانتصب ‏{‏سراعاً‏}‏ على الحال من الضمير في عنهم، والعامل تشقق‏.‏ وقيل‏:‏ محذوف تقديره يخرجون، فهو حال من الواو في يخرجون، قاله الحوفي‏.‏ ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملاً في ‏{‏يوم تشقق‏}‏‏.‏ ‏{‏ذلك حشر علينا يسير‏}‏‏:‏ فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة، وهو علينا، أي يسير علينا، وحسن ذلك كون الصفة فاصلة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏علينا يسير‏}‏، تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعني لا يتيسر مثل ذلك اليوم العظيم إلا على القادر الذات الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال‏:‏ ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏ انتهى، وهو على طريقه في أن تقديم المفعول وما أشبهه من دلالة ذلك على الاختصاص، وقد بحثنا معه في ذلك في سورة الفاتحة في ‏{‏إياك نعبد‏}‏ ‏{‏نحن أعلم بما يقولون‏}‏‏:‏ هذا وعيد محض للكفار وتهديد لهم، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وما أنت عليهم بجبار‏}‏‏:‏ بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان، قاله الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم‏.‏ ‏{‏فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏‏:‏ لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدّق بوقوعه لا يذكر، إذ لا تنفع فيه الذكرى، كما قال‏:‏ ‏{‏وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين‏}‏ وختمت بقوله‏:‏ ‏{‏فذكر بالقرآن‏}‏، افتتحت ب ‏{‏ق والقرآن‏}‏‏.‏

سورة الذاريات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 23‏]‏

‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ‏(‏1‏)‏ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏(‏8‏)‏ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ‏(‏9‏)‏ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ‏(‏11‏)‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ‏(‏13‏)‏ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏15‏)‏ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ‏(‏16‏)‏ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏18‏)‏ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏19‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏(‏22‏)‏ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

هذه السورة مكية‏.‏ ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال ‏{‏فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏ وقال أول هذه بعد القسم‏:‏ ‏{‏إنما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع‏}‏‏.‏

‏{‏والذاريات‏}‏‏:‏ الرياح‏:‏‏.‏ ‏{‏فالحاملات‏}‏ السحاب‏.‏ ‏{‏فالجاريات‏}‏ الفلك‏.‏ ‏{‏فالمقسمات‏}‏‏:‏ الملائكة، هذا تفسير عليّ كرم الله وجهه على المنبر، وقد سأله ابن الكوا، قاله ابن عباس‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ ‏{‏فالحاملات‏}‏ هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم‏.‏ وقيل‏:‏ الحوامل من جميع الحيوان‏.‏ وقيل‏:‏ الجاريات‏:‏ السحاب بالرياح‏.‏ وقيل‏:‏ الجواري من الكواكب، وأدغم أبو عمرو وحمزة ‏{‏والذاريات‏}‏ في ذال ‏{‏ذرواً‏}‏، وذروها‏:‏ تفريقها للمطر أو للتراب‏.‏ وقرئ‏:‏ بفتح الواو وتسمية للمحمول بالمصدر‏.‏ ومعنى ‏{‏يسراً‏}‏‏:‏ جرياً ذا يسر، أي سهولة‏.‏ فيسراً مصدر وصف به على تقدير محذوف، فهو على رأي سيبويه في موضع الحال‏.‏ ‏{‏أمراً‏}‏ تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها، فأمراً مفعول به‏.‏ وقيل‏:‏ مصدر منصوب على الحال، أي مأموره، ومفعول المقسمات محذوف‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يتولى أمر العباد جبريل للغلظة، وميكائيل للرحمة، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ‏.‏ وجاء في الملائكة‏:‏ فالمقسمات على معنى الجماعات‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد الرياح لا غير، لأنها تنشئ السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجو جرياً سهلاً، وتقسم الأمطار بتصريف الرياح‏.‏ انتهى‏.‏ فإذا كان المدلول متغايراً، فتكون أقساماً متعاقبة‏.‏ وإذا كان غير متغاير، فهو قسم واحد، وهو من عطف الصفات، أي ذرت أول هبوبها التراب والحصباء، فأقلت السحاب، فجرت في الجو باسطة للسحاب، فقسمت المطر‏.‏ فهذا كقوله‏:‏

يا لهف زيابة للحارث الص *** ابح فالغانم فالآيب

أي‏:‏ الذي صبح العدو فغنم منهم، فآب إلى قومه سالماً غانماً‏.‏ والجملة المقسم عليها، وهي جواب القسم، هي ‏{‏إنما توعدون‏}‏، وما موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي توعدونه‏.‏ ويحتمل أن تكون مصدرية، أي أنه وعدكم أو وعيدكم، إذ يحتمل توعدون الأمرين أن يكون مضارع وعد ومضارع أوعد، ويناسب أن يكون مضارع أوعد لقوله‏:‏ ‏{‏فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏، ولأن المقصود التخويف والتهويل‏.‏ ومعنى صدقة‏:‏ تحقق وقوعه، والمتصف بالصدق حقيقة هو المخبر‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك وعد غير مكذوب‏}‏ أي مصدوق فيه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لصادق‏}‏، ووضع اسم الفاعل موضع المصدر، ولا حاجة إلى هذا التقدير‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الأظهر أن الآية في الكفار، وأنه وعيد محض‏.‏ ‏{‏وإن الدين‏}‏‏:‏ أي الجزاء، ‏{‏لواقع‏}‏‏:‏ أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن‏.‏ والظاهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات‏.‏ وقال عبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ هي السماء السابعة‏.‏ وقيل‏:‏ السحاب الذي يظل الأرض‏.‏

‏{‏ذات الحبك‏}‏‏:‏ أي ذات الخلق المستوي الجيد، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع‏.‏ وقال الحسن، وسعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏ذات الحبك‏}‏‏:‏ أي الزينة بالنجوم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ذات الطرائق، يعني من المجرة التي في السماء‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ ذات الشدة، لقوله‏:‏ ‏{‏سبعاً شداداً‏}‏ وقيل‏:‏ ذات الصفاقة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ الحبك بضمتين؛ وابن عباس، والحسن‏:‏ بخلاف عنه، وأبو مالك الغفاري، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو السمال، ونعيم عن أبي عمرو‏:‏ بإسكان الباء؛ وعكرمة‏:‏ بفتحها، جمع حبكة، مثل‏:‏ طرفة وطرف‏.‏ وأبو مالك الغفاري، والحسن‏:‏ بخلاف عنه، بكسر الحاء والباء؛ وأبو مالك الغفاري، والحسن أيضاً، وأبو حيوة‏:‏ بكسر الحاء وإسكان الباء، وهو تخفيف فعل المكسور هما وهو اسم مفرد لا جمع، لأن فعلاً ليس من أبنية الجموع، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين؛ وابن عباس أيضاً، وأبو مالك‏:‏ بفتحهما‏.‏ قال أبو الفضل الرازي‏:‏ فهو جمع حبكة، مثل عقبة وعقب‏.‏ انتهى‏.‏ والحسن أيضاً‏:‏ الحبك بكسر الحاء وفتح الباء، وقرأ أيضاً كالجمهور، فصارت قراءته خمساً‏:‏ الحبك الحبك الحبك الحبك الحبك‏.‏ وقرأ أبو مالك أيضاً‏:‏ الحبك بكسر الحاء وضم الباء، وذكرها ابن عطية عن الحسن، فتصير له ست قراءات‏.‏ وقال صاحب اللوامح، وهو عديم النظير في العربية‏:‏ في أبنيتها وأوزانها، ولا أدري ما رواه‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هي قراءة شاذة غير متوجهة، وكأنه أراد كسرها، ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء، وهذا على تداخل اللغات، وليس في كلام العرب هذا البناء‏.‏ انتهى‏.‏

وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة، ولم يعتد باللام الساكنة، لأن الساكن حاجز غير حصين‏.‏ وجواب القسم‏:‏ ‏{‏إنكم لفي قول مختلف‏}‏، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر، كما أن جواب القسم السابق يشملهما، واختلافهم كونهم مؤمناً بالرسول صلى الله عليه وسلم وكتابه وكافراً‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ خطاب للكفرة، فيقولون‏:‏ ساحر شاعر كاهن مجنون، وقال الضحاك‏:‏ قول الكفرة لا يكون مستوياً، إنما يكون متناقضاً مختلفاً‏.‏ وقيل‏:‏ اختلافهم في الحشر، منهم من ينفيه، ومنهم من يشك فيه‏.‏ وقيل‏:‏ اختلافهم‏:‏ إقرارهم بأن الله تعالى أوجدهم وعبادتهم غيره والأقوال التي يقولونها في آلهتهم‏.‏

‏{‏يؤفك‏}‏‏:‏ أي يصرف عنه، أي عن القرآن والرسول، قاله الحسن وقتادة‏.‏ ‏{‏من أفك‏}‏‏:‏ أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم لقوله‏:‏ لا يهلك على الله إلا هالك‏.‏ وقيل‏:‏ من صرف في سابق علم الله تعالى أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون، أو للذي أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاك ومنهم جاحد‏.‏ ثم قال‏:‏ يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك‏.‏ وقيل‏:‏ المأفوك عنه محذوف، وعن هنا للسبب، والضمير عائد على ‏{‏قول مختلف‏}‏، أي يصرف بسببه من أراد الإسلام بأن يقول‏:‏ هو سحر هو كهانة، حكاه الزهراوي والزمخشري، وأورده على عادته في إبداء ما هو محكي عن غيره أنه مخترعه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يعود على ‏{‏قول مختلف‏}‏، والمعنى‏:‏ يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته، وهذا على أن يكون في قول مختلف للكفار، إلا أن عرف الاستعمال في إفكه الصرف من خير إلى شر، فلذلك لا تجده إلا في المذمومين‏.‏ انتهى، وفيه بعض تلخيص‏.‏ وقرأ ابن جبير وقتادة‏:‏ من أفك مبنياً للفاعل، أي من أفك الناس عنه، وهم قريش‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ يأفك عنه من أفك، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ يأفك عنه من أفك، أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب‏.‏ وقرئ‏:‏ يؤفن عنه من أفن بالنون فيهما، أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا نهكه حلباً‏.‏

‏{‏قتل الخراصون‏}‏‏:‏ أي قتل الله الخراصين، وهم المقدرون ما لا يصح‏.‏ ‏{‏في غمرة‏}‏‏:‏ في جهل يغمرهم، ‏{‏ساهون‏}‏‏:‏ غافلون عن ما أمروا به‏.‏ ‏{‏أيان يوم الدين‏}‏‏:‏ أي متى وقت الجزاء‏؟‏ سؤال تكذيب واستهزاء، وتقدمت قراءة من كسر الهمزة في قوله‏:‏ ‏{‏أيان مرساها‏}‏ ‏{‏وأيان يوم الدين‏}‏، فيكون الظرف محلاً للمصدر، وانتصب يومهم بمضمر تقديره‏:‏ هو كائن، أي الجزاء، قاله الزجاج، وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو يومهم، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير متمكن، وهي الجملة الإسمية‏.‏ ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني‏.‏ ‏{‏يوم هم‏}‏ بالرفع، وإذا كان ظرفاً جاز أن تكون الحركة فيه حركة إعراب وحركة بناء، وتقدم الكلام على إضافة الظرف المستقبل إلى الجملة الإسمية في غافر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم هم بارزون‏}‏ وقال بعض النحاة‏:‏ يومهم بدل من ‏{‏يوم الدين‏}‏، فيكون هنا حكاية من كلامهم على المعنى، ويقولون ذلك على سبيل الاستهزاء‏.‏ ولو حكى لفظ قولهم، لكان التركيب‏:‏ يوم نحن على النار يفتنون‏.‏ ‏{‏ذوقوا فتنتكم‏}‏‏:‏ أي يقال لهم ذوقوا‏.‏ ‏{‏هذا الذي‏}‏‏:‏ مبتدأ وخبر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون هذا بدلاً من فتنتكم، أي ذوقوا هذا العذاب‏.‏ انتهى، وفيه بعد، والاستقلال خير من البدل‏.‏ ومعنى تفتنون‏:‏ تعذبون في النار‏.‏

ولما ذكر حال الكفار، ذكر حال المؤمنين، وانتصب آخذين على الحال، أي قابليه راضين به، وذلك في الجنة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏آخذين‏}‏‏:‏ أي في دنياهم، ‏{‏ما آتاهم ربهم‏}‏ من أوامره ونواهيه وشرعه، فالحال محكية لتقدمها في الزمان على كونهم في الجنة‏.‏ والظاهر أن ‏{‏قليلاً‏}‏ ظرف، وهو في الأصل صفة، أي كانوا في قليل من الليل‏.‏ وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً، وما زائدة في كلا الإعرابين‏.‏ وفسر أنس بن مالك ذلك فقال‏:‏ كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء، ولا يدل لفظ الآية على الاقتصار على هذا التفسير‏.‏ وقال الربيع بن خيثم‏:‏ كانوا يصيبون من الليل حظاً‏.‏

وقال مطرف، ومجاهد، وابن أبي نجيح‏:‏ قل ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏كانوا قليلاً‏}‏، أي في عددهم، وثم خبر كان، ثم ابتدأ ‏{‏من الليل ما يهجعون‏}‏، فما نافية، وقليلاً وقف حسن، وهذا القول فيه تفكيك للكلام، وتقدم معمول العامل المنفي بما على عامله، وذلك لا يجوز عند البصريين، ولو كان ظرفاً أو مجروراً‏.‏ وقد أجاز ذلك بعضهم، وجاء في الشعر قوله‏:‏

إذا هي قامت حاسراً مشمعلة *** يحسب الفؤاد رأسها ما تقنع

فقدم رأسها على ما تقنع، وهو منفي بما، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلاً، أي كانوا قليلاً هجوعهم، وهو إعراب سهل حسن، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف تقديره‏:‏ ‏{‏كانوا قليلاً من الليل‏}‏ من الوقت الذي يهجعون فيه، وفيه تكلف‏.‏ ومن الليل يدل على أنهم مشغولون بالعبادة في أوقات الراحات، وسكون الأنفس من مشاق النهار‏.‏ ‏{‏وبالأسحار هم يستغفرون‏}‏، فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار، فيأخدون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير وكأنهم أجرموا في تلك الليالي، والأسحار مظنة الاستغفار‏.‏ وقال ابن عمرو الضحاك‏:‏ يستغفرون‏:‏ يصلون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يدعون في طلب المغفرة، والظاهر أن قيام الليل وهذا الحق في المال هو من المندوبات، وأكثر ما تقع زيادة الثواب بفعل المندوب‏.‏ وقال القاضي منذر بن سعيد‏:‏ هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وضعف بأن السورة مكية، وفرض الزكاة بالمدينة‏.‏ وقيل‏:‏ كان فرضاً، ثم نسخ وضعف بأنه تعالى لم يشرع شيئاً بمكة قبل الهجرة من أخد الأموال‏.‏ والسائل‏:‏ الذي يستعطي، والمحروم‏:‏ لغة الممنوع من الشيء، قال علقمة‏:‏

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة *** أنى توجه والمحروم محروم

وأما في الآية، فالذي يحسب غنياً فيحرم الصدقة لتعففه‏.‏ وقيل‏:‏ الذي تبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم مال‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ هو الذي أجيحت ثمرته‏.‏ وقيل‏:‏ الذي ماتت ماشيته‏.‏ وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ هو الكلب‏.‏ وقيل‏:‏ الذي لا ينمي له مال‏.‏ وقيل‏:‏ المحارف الذي لا يكاد يكسب‏.‏ وقيل غير ذلك، وكل هذه الأقوال على سبيل التمثيل لا التعيين، ويجمعها أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه‏.‏

‏{‏وفي الأرض آيات‏}‏ تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها، وفيها الفجاج للسلاك، وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسبخة، وتلقح بأنواع النبات، وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال‏.‏ وقرأ قتادة‏:‏ آية على الإفراد، ‏{‏للموقنين‏}‏‏:‏ وهم الذين نظروا النظر الصحيح، وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت به الرسل، فأيقنوا لم يدخلهم ريب‏.‏

‏{‏وفي أنفسكم‏}‏ حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال، وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس، وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغريب الصنائع، وغير ذلك مما لا ينحصر‏.‏

‏{‏وفي السماء رزقكم‏}‏، قال الضحاك ومجاهد وابن جبير‏:‏ المطر والثلج، لأنه سبب الأقوات، وكل عين دائمة من الثلج‏.‏ وقال مجاهد أيضاً وواصل الأحدب‏:‏ أراد القضاء والقدر، أي الرزق عند الله يأتي به كيف شاء، ‏{‏وما توعدون‏}‏‏:‏ الجنة، أو هي النار، أو أمر الساعة، أو من خير وشر، أو من ثواب وعقاب، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ أرزاقكم على الجمع، والضمير في إنه عائد على القرآن، أو إلى الدين الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وإن الدين لواقع‏}‏، أو إلى اليوم المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏أيان يوم الدين‏}‏، أو إلى الرزق، أو إلى الله، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أقوال منقولة‏.‏ والذي يظهر أنه عائد على الإخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء، وكونهم في ‏{‏قول مختلف‏}‏، و‏{‏قتل الخراصون‏}‏، وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف، وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك، ولذلك شبه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، والحسن، وابن أبي إسحاق، والأعم5‏:‏ بخلاف عن ثلاثتهم‏.‏ مثل بالرفع‏:‏ صفة لقوله‏:‏ ‏{‏لحق‏}‏؛ وباقي السبعة، والجمهور‏:‏ بالنصب، وقيل‏:‏ هي فتحة بناء، وهو نعت كحاله في قراءة من رفع‏.‏ ولما أضيف إلى غير متمكن بنى، وما على هذا الإعراب زائدة للتوكيد، والإضافة هي إلى أنكم تنطقون‏.‏ وقال المازني‏:‏ بنى مثل، لأنه ركب مع ما، فصار شيئاً واحداً، ومثله‏:‏ ويحما وهيما وابنما، قال حميد بن ثور‏:‏

ألا هيما مما لقيت وهيما *** وويحاً لمن لم يلق منهن ويحما

قال‏:‏ فلولا البناء لكان منوناً، وقال الشاعر‏:‏

فأكرم بنا أو أماً وأكرم بنا ابنما *** انتهى هذا التخريج‏.‏ وابنما ليس ابنا بني مع ما، بل هذا من باب زيادة الميم فيه، واتباع ما في الآخر، إذ جعل في الميم الإعراب‏.‏ تقول‏:‏ هذا ابنم، ورئت ابنما، ومررت بابنم، وليست ما في الثلاث في ابنما مركبة مع ما، كما قال‏:‏ الفتحة في ابنما حركة إعراب، وهو منصوب على التمييز، وأنشد النحويون في بناء الاسم مع الحرف قول الراجز‏:‏

أثور ما أصيدكم أو ثورين *** أم تيكم الجماء ذات القرنين

وقيل‏:‏ هو نعت لمصدر محذوف تقديره‏:‏ إنه لحق حقاً مثل ما أنكم، فحركته حركة إعراب‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب على أنه حال من الضمير المستكن في ‏{‏لحق‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ حال من لحق، وإن كان نكرة، فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه‏.‏ والنطق هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني‏.‏ ويقول الناس‏:‏ هذا حق، كما أنك ههنا وهذا حق، كما أنك ترى وتسمع، وهذا كما في الآية‏.‏ وما زائدة بنص الخليل، ولا يحفظ حذفها، فتقول‏:‏ ذا حق كأنك ههنا، والكوفيون يجعلون مثلاً محلى، فينصبونه على الظرف، ويجيزون زيد مثلك بالنصب، فعلى مذهبهم يجوز أن تكون مثل فيها منصوباً على الظرف، واستدلالهم والرد عليهم مذكور في النحو‏.‏ ومن كلام بعض الأعراب‏:‏ من ذا الذي أغضب الخليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 46‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏24‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏27‏)‏ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏37‏)‏ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏40‏)‏ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ‏(‏41‏)‏ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ‏(‏42‏)‏ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ‏(‏43‏)‏ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏44‏)‏ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏هل أتاك‏}‏‏:‏ تقرير لتجتمع نفس المخاطب، كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب، فتقرره هل سمع ذلك أم لا، فكأنك تقتضي أن يقول لا‏.‏ ويستطعمك الحديث، وفيه تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه بالوحي، وضيف الواحد والجماعة فيه سواء‏.‏ وبدأ بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإن كانت متأخرة عن قصة عاد، هزماً للعرب، إذ كان أباهم الأعلى، ولكون الرسل الذين وفدوا عليه جاءوا بإهلاك قوم لوط، إذ كذبوه، ففيه وعيد للعرب وتهديد واتعاظ وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجري عليه من قومه‏.‏ ووصفهم بالمكرمين لكرامتهم عند الله تعالى، كقوله تعالى في الملائكة‏:‏ ‏{‏بل عباد مكرمون‏}‏ قاله الحسن، فهي صفة سابقة فيهم، أو لإكرام إبراهيم إياهم، إذ خدمهم بنفسه وزوجته سارة وعجل لهم القرا‏.‏ وقيل‏:‏ لكونه رفع مجالسهم في صفة حادثة‏.‏ وقرأ عكرمة‏:‏ المكرمين بالتشديد، وأطلق عليهم ضيف، لكونهم في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم، أو لحسبانه لذلك‏.‏ وتقدم ذكر عددهم في سورة هود‏.‏ وإذ معمولة للمكرمين إذا كانت صفة حادثة بفعل إبراهيم، وإلا فبما في ضيف من معنى لفعل، أو بإضمار اذكر، وهذه أقوال منقولة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ قالوا سلاماً، بالنصب على المصدر الساد مسد فعله المستغنى به‏.‏

‏{‏قال سلام‏}‏ بالرفع، وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره‏:‏ عليكم سلام‏.‏ قصد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه أخذاً بأدب الله تعالى، إذ سلاماً دعاء‏.‏ وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي أمري سلام، وسلام جملة خبرية قد تحصل مضمونها ووقع‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويتجه أن يعمل في سلاماً قالوا، على أن يجعل سلاماً في معنى قولاً، ويكون المعنى حينئذ‏:‏ أنهم قالوا تحية؛ وقولاً معناه سلاماً، وهذا قول مجاهد‏.‏ وقرأ ابن وثاب، والنخعي، وابن جبير، وطلحة‏:‏ قال سلم، بكسر السين وإسكان اللام، والمعنى‏:‏ نحن سلم، أو أنتم سلم، وقرئا مرفوعين‏.‏ وقرئ‏:‏ سلاماً قالوا سلماً، بنصبهما وكسر سين الثاني وسكون لامه‏.‏ ‏{‏قوم منكرون‏}‏، قال أبو العالية‏:‏ أنكر سلامهم في تلك الأرض وذلك الزمان‏.‏ وقيل‏:‏ لا نميزهم ولا عهد لنا بهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان هذا سؤالهم، كأنه قال‏:‏ أنتم قوم منكرون، فعرّفوني من أنتم‏.‏ وقوم خبر مبتدأ محذوف قدره أنتم، والذي يناسب حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا يخاطبهم بذلك، إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى، بل يظهر أنه يكون التقدير‏:‏ هؤلاء قوم منكرون‏.‏ وقال ذلك مع نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف‏.‏

‏{‏فراغ إلى أهله‏}‏‏:‏ أي مضى أثناء حديثه، مخفياً مضيه مستعجلاً؛ ‏{‏فجاء بعجل سمين‏}‏‏:‏ ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرا من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يمنعه أن يجيء بالضيافة‏.‏

وكونه عطف، فجاء على فراغ يدل على سرعة مجيئه بالقرا، وأنه كان معداً عنده لمن يرد عليه‏.‏ وقال في سورة هود‏:‏ ‏{‏فما لبث أن جاء بعجل حنيذ‏}‏ وهذا يدل أيضاً على أنه كان العجل سابقاً شيه قبل مجيئهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان غالب ماله البقر، وفيه دليل على أنه يحضر للضيف أكثر مما يأكل‏.‏ وكان عليه الصلاة والسلام مضيافاً، وحسبك وقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها‏.‏

‏{‏فقربه إليهم‏}‏‏:‏ فيه أدب المضيف من تقريب القرا لمن يأكل، وفيه العرض على الأكل؛ فإن في ذلك تأنيساً لللآكل، بخلاف من قدم طعاماً ولم يحث على أكله، فإن الحاضر قد يتوهم أنه قدمه على سبيل التجمل، عسى أن يمتنع الحاضر من الأكل، وهذا موجود في طباع بعض الناس‏.‏ حتى أن بعضهم إذا لج الحاضر وتمادى في الأكل، أخذ من أحسن ما أحضر وأجزله، فيعطيه لغلامه برسم رفعه لوقت آخر يختص هو بأكله‏.‏ وقيل‏:‏ الهمزة في ألا للإنكار، وكأنه ثم محذوف تقديره‏:‏ فامتنعوا من الأكل، فأنكر عليهم ترك الأكل فقال‏:‏ ‏{‏ألا تأكلون‏}‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إنهم قالوا إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه، فقال لهم‏:‏ وإني لا أبيحه لكم إلا بثمن، قالوا‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ أن تسموا الله عز وجل عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل، فقال بعضهم لبعض‏:‏ بحق اتخذه الله خليلاً»

‏{‏فأوجس منهم خيفة‏}‏‏:‏ أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل، أوجس منهم خيفة، وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه، وللطعام حرمة وذمام، والامتناع منه وحشة‏.‏ فخشي إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن امتناعهم من أكل طعامهم إنما هو لشر يريدونه، فقالوا لا تخف، وعرفوه أنهم ملائكة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب‏.‏ وعلمهم بما أضمر في نفسه من الخوف، إنما يكون باطلاع الله ملائكته على ما في نفسه، أو بظهور أمارته في الوجه، فاستدلوا بذلك على الباطن‏.‏ وعن يحيى بن شداد‏:‏ مسح جبريل عليه السلام بجناحه العجل، فقام يدرج حتى لحق بأمه‏.‏ ‏{‏بغلام عليم‏}‏‏:‏ أي سيكون عليماً، وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء‏.‏ وعن الحسن‏:‏ عليم نبي؛ والجمهور‏:‏ على أن المبشر به هو إسحاق بن سارة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو إسماعيل‏.‏ وقيل‏:‏ علم أنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب، ووقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس، وكانت البشارة بذكر، لأنه أسر للنفس وأبهج، ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل إلا بالصورة الجميلة والقوة‏.‏

‏{‏فأقبلت امرأته في صرة‏}‏‏:‏ أي إلى بيتها، وكانت في زاوية تنظر إليهم وتسمع كلامهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فأقبلت‏}‏، أي شرعت في الصياح‏.‏

قيل‏:‏ وجدت حرارة الدم، فلطمت وجهها من الحياء‏.‏ والصرة، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وسفيان‏:‏ الصيحة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فألحقنا بالهاديات ودونه *** حواجرها في صرة لم تزيل

وقال قتادة وعكرمة‏:‏ الرنة‏.‏ قيل‏:‏ قالت أوّه بصياح وتعجب‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ الجماعة، أي من النسوة تبادروا نظراً إلى الملائكة‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ الصرة‏:‏ الصيحة والجماعة والشدة‏.‏ ‏{‏فصكت وجهها‏}‏‏:‏ أي لطمته، قاله ابن عباس، وكذلك كما يفعله من يرد عليه أمر يستهوله ويتعجب منه، وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء‏.‏ وقال السدي وسفيان‏:‏ ضربت بكفها جبهتها، وهذا مستعمل في الناس حتى الآن‏.‏ ‏{‏وقالت عجوز عقيم‏}‏‏:‏ أي إنا قد اجتمع فيها أنها عجوز، وذلك مانع من الولادة، وأنها عقيم، وهي التي لم تلد قط، فكيف ألد‏؟‏ تعجبت من ذلك‏.‏ ‏{‏قالوا كذلك‏}‏‏:‏ أي مثل القول الذي أخبرناك به، ‏{‏قال ربك‏}‏‏:‏ وهو القادر على إيجاد ما يستبعد‏.‏ وروي أن جبريل عليه السلام قال لها‏:‏ انظري إلى سقف بيتك، فنظرت، فإذا جذوعه مورقة مثمرة‏.‏ ‏{‏إنه هو الحكيم‏}‏‏:‏ أي ذو الحكمة‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بالمصالح‏.‏

ولما علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ملائكة، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله تعالى رسلاً، قال ‏{‏فما خطبكم‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏قوم مجرمين‏}‏‏:‏ أي ذوي جرائم، وهي كبار المعاصي من كفر وغيره‏.‏ ‏{‏لنرسل عليهم‏}‏‏:‏ أي لنهلكهم بها، ‏{‏حجارة من طين‏}‏‏:‏ وهو السجيل، طين يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصير في صلابة كالحجارة‏.‏ ‏{‏مسوّمة‏}‏‏:‏ معلمة، على كل واحد منها اسم صاحبه‏.‏ وقيل‏:‏ معلمة أنها من حجارة العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ معلمة أنها ليست من حجارة الدنيا، ‏{‏للمسرفين‏}‏‏:‏ وهم المجاوزون الحد في الكفر‏.‏ ‏{‏فأخرجنا من كان فيها‏}‏‏:‏ في القرية التي حل العذاب بأهلها‏.‏ ‏{‏غير بيت‏}‏‏:‏ هو بيت لوط عليه السلام، وهو لوط وابنتاه فقط، وقيل‏:‏ ثلاثة عشر نفساً‏.‏ وقال الرماني‏:‏ الآية تدل على أن الإيمان هو الإسلام، وكذا قال الزمخشري، وهما معتزليان‏.‏

‏{‏وتركنا فيها‏}‏‏:‏ أي في القرية، ‏{‏آية‏}‏‏:‏ علامة‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ حجراً كبيراً جدًّا منضوداً‏.‏ وقيل‏:‏ ماء أسود منتن‏.‏ ويجوز أن يكون فيها عائداً على الإهلاكة التي أهلكوها، فإنها من أعاجيب الإهلاك، بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏وفي موسى‏}‏ معطوف على ‏{‏وتركنا فيها‏}‏‏:‏ أي في قصة موسى‏.‏ وقال الزمخشري وابن عطية‏:‏ ‏{‏وفي موسى‏}‏ يكون عطفاً على ‏{‏وفي الأرض آيات للموقنين‏}‏ ‏{‏وفي موسى‏}‏، وهذا بعيد جدًّا، ينزه القرآن عن مثله‏.‏ وقال الزمخشري أيضاً‏:‏ أو على قوله، ‏{‏وتركنا فيها آية‏}‏ على معنى‏:‏ وجعلنا في موسى آية، كقوله‏:‏

علفتها تبناً وماء بارداً ***

انتهى، ولا حاجة إلى إضمار ‏{‏وتركنا‏}‏، لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور ‏{‏وتركنا‏}‏‏.‏

‏{‏فتولى بركنه‏}‏‏:‏ أي ازور وأعرض، كما قال‏:‏ ‏{‏ونأى بجانبه‏}‏ وقيل‏:‏ بقوته وسلطانه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ بركنه‏:‏ بمجموعه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بقومه‏.‏ ‏{‏وقال ساحر أو مجنون‏}‏‏:‏ ظن أحدهما، أو تعمد الكذب، وقد علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ أو بمعنى الواو، ويدل على ذلك أنه قد قالهما، قال‏:‏ ‏{‏إن هذا لساحر عليم‏}‏ و‏{‏قال إن رسولكم الذين إرسل إليكم لمجنون‏}‏ واستشهد أبو عبيدة بقول جرير‏:‏

أثعلبة الفوارس أو رباحاً *** عدلت بهم طهية والحشايا

ولا ضرورة تدعو إلى جعل أو بمعنى الواو، إذ يكون قالهما، وأبهم على السامع، فأو للإبهام‏.‏ ‏{‏هو مليم‏}‏‏:‏ أي أتى من المعاصي ما يلام عليه‏.‏ ‏{‏العقيم‏}‏ التي لا خير فيها، من الشتاء مطر، أو لقاح شجر‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور‏.‏ فقول من ذهب إلى أنها الصبا، أو الجنوب، أو النكباء، وهي ريح بين ريحين، نكبت عن سمت القبلة، فسميت نكباء، ليس بصحيح، لمعارضته للنص الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها الدبور‏.‏

‏{‏ما تذر من شيء أتت عليه‏}‏‏:‏ وهو عام مخصوص، كقوله‏:‏ ‏{‏تدمر كل شيء بأمر ربها‏}‏ أي مما أراد الله تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو نبات، لأنها لم يرد الله بها إهلاك الجبال والآكام والصخور، ولا العالم الذي لم يكن من قوم عاد‏.‏ ‏{‏إلا جعلته كالرميم‏}‏‏:‏ جملة حالية، والرميم تقدّم تفسيره في يس، وهنا قال السدّي‏:‏ التراب، وقتادة‏:‏ الهشيم، ومجاهد‏:‏ البالي، وقطرب‏:‏ الرماد، وابن عيسى‏:‏ المنسحق الذي لا يرم، جعل الهمزة في أرم للسلب‏.‏ روي أن الريح كانت تمر بالناس، فيهم الرجل من قوم عاد، فتنزعه من بينهم وتهلكه‏.‏ ‏{‏تمتعوا حتى حين‏}‏، قال الحسن‏:‏ هذا كان حين بعث إليهم صالح، أمروا بالإيمان بما جاء به، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم، ثم إنهم عتوا بعد ذلك، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به، فهو مطابق لفظاً ووجود‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هذا الأمر بالتمتع كان بعد عقر الناقة، والحين ثلاثة أيام التي أوعدوا في تمامها بالعذاب‏.‏ فالعتو كان قد تقدم قبل أن يقال لهم تمتعوا، ولا ضرورة تدعو إلى قول الفراء، إذ هو غير مرتب في الوجود‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ الصاعقة؛ وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، والكسائي‏:‏ الصعقة، وهي الصيحة هنا‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ الصاعقة؛ وزيد بن علي كقراءة الكسائي‏.‏ ‏{‏وهم ينظرون‏}‏‏:‏ أي فجأة، وهم ينظرون بعيونهم، قاله الطبري‏:‏ وكانت نهاراً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وهم ينظرون‏}‏ ينتظرون ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموه فيها، ورأوا علاماته في قلوبهم، وانتظار العذاب أشد من العذاب‏.‏

‏{‏فما استطاعوا من قيام‏}‏، لقوله‏:‏ ‏{‏فأصبحوا في دارهم جاثمين‏}‏ ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة‏.‏ ‏{‏وما كانوا منتصرين‏}‏، أبلغ من نفي الانتصار‏:‏ أي فما قدروا على الهرب، ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏من قيام‏}‏، هو من قولهم‏:‏ ما يقوم به إذا عجز عن دفعه، فليس المعنى انتصاب القامة، قاله قتادة‏.‏ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏وقوم‏}‏ بالجر عطفاً على ما تقدم، أي وفي قوم نوح، وهي قراءة عبد الله‏.‏ وقرأ باقي السبعة، وأبو عمرو في رواية‏:‏ بالنصب‏.‏ قيل‏:‏ عطفاً على الضمير في ‏{‏فأخذتهم‏}‏؛ وقيل‏:‏ عطفاً على ‏{‏فنبذناهم‏}‏، لأن معنى كل منهما‏:‏ فأهلكناهم‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب بإضمار فعل تقديره‏:‏ وأهلكنا قوم نوح، لدلالة معنى الكلام عليه‏.‏ وقيل‏:‏ باذكر مضمرة‏.‏ وروى عبد الوارث، ومحبوب، والأصمعي عن أبي عمرو، وأبو السمال، وابن مقسم‏:‏ وقوم نوح بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، أي أهلكناهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 60‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ‏(‏47‏)‏ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏49‏)‏ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏51‏)‏ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏52‏)‏ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏53‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ‏(‏54‏)‏ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ‏(‏58‏)‏ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏59‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

أي‏:‏ وبنينا السماء، فهو من باب الاشتغال، وكذا وفرشنا الأرض‏.‏ وقرأ أبو السمال، ومجاهد، وابن مقسم‏:‏ برفع السماء ورفع الأرض على الابتداء‏.‏ ‏{‏بأيد‏}‏‏:‏ أي بقوة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏داود ذا الأيد‏}‏ ‏{‏وإنا لموسعون‏}‏‏:‏ أي بناءها، فالجملة حالية، أي بنيناها موسعوها، كقوله‏:‏ جاء زيد وإنه لمسرع، أي مسرعاً، فهي بحيث أن الأرض وما يحيط من الماء والهواء كالنقطة وسط الدائرة‏.‏ وقال ابن زيد قريباً من هذا وهو‏:‏ أن الوسع راجع إلى السماء‏.‏ وقيل‏:‏ لموسعون قوة وقدرة، أي لقادرون من الوسع، وهو الطاقة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أوسع الرزق بالمطر والماء‏.‏

‏{‏فنعم الماهدون‏}‏، و‏{‏خلقنا زوجين‏}‏، قال مجاهد‏:‏ إشارة إلى المتضادات والمتقابلات، كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصحة والمرض، والكفر والإيمان، ونحو ذلك، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة التي توجد الضدين، بخلاف ما يفعل بطبعه، كالتسخين والتبريد‏.‏ ومثل الحسن بأشياء مما تقدم وقال‏:‏ كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له‏.‏ وقال ابن زيد وغيره‏:‏ ‏{‏من كل شيء‏}‏‏:‏ أي من الحيوان، ‏{‏خلقنا زوجين‏}‏‏:‏ ذكراً وأنثى‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالشيء الجنس، وما يكون تحت الجنس نوعان‏:‏ فمن كل جنس خلق نوعين من الجواهر، مثل النامي والجامد‏.‏ ومن النامي المدرك والنبات، ومن المدرك الناطق والصامت، وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه‏.‏ ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏‏:‏ أي بأني باني السماء وفارش الأرض وخالق الزوجين، تعالى أن يكون له زوج‏.‏ أو تذكرون أنه لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح‏.‏ وقرأ أبي‏:‏ تتذكرون، بتاءين وتخفيف الذال‏.‏ وقيل‏:‏ إرادة أن تتذكروا، فتعرفوا الخالق وتعبدوه‏.‏

‏{‏ففروا إلى الله‏}‏‏:‏ أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار، لينبه على أن وراء الناس عقاب وعذاب‏.‏ وأمر حقه أن يفر منه، فجمعت لفظة ففروا بين التحذير والاستدعاء‏.‏ وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ملجأ وملا منجا منك إلا إليك»، قاله ابن عطية، وهو تفسير حسن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه، ووحدوه ولا تشركوا به شيئاً‏.‏ وكرر ‏{‏إني لكم منه نذير مبين‏}‏، عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ والمعنى‏:‏ قل يا محمد ففروا إلى الله‏.‏ انتهى، وهو على طريق الاعتزال‏.‏ وقد رددنا عليه في تفسير ‏{‏لا ينفع نفساً إيمانها‏}‏ في موضع هذه الآية‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏‏:‏ أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم، مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم، وهو التكذيب‏.‏ ‏{‏ساحر أو مجنون‏}‏‏:‏ أو للتفصيل، أي قال بعض ساحر، وقال بعض مجنون، وقال بعض كلاهما، ألا ترى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام لم يقولوا عنه إنه ساحر، بل قالوا به جنة، فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل‏؟‏ ‏{‏أتواصوا به‏}‏‏:‏ أي بذلك القول، وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء، مع افتراق أزمانهم، ‏{‏بل هم قوم طاغون‏}‏‏:‏ أي لم يتواصوا به، لأنهم لم يكونوا في زمان واحد، بل جمعتهم علة واحدة، وهي كونهم طغاة، فهم مستعلون في الأرض، مفسدون فيها عاتون‏.‏

‏{‏فتول عنهم‏}‏‏:‏ أي أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة، فلم يجيبوا‏.‏ ‏{‏فما أنت بملوم‏}‏‏:‏ إذ قد بلغت ونصحت‏.‏ ‏{‏وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين‏}‏‏:‏ تؤثر فيهم وفيمن قدر الله أن يؤمن، وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف‏.‏ وعن عليّ، كرم الله وجهه‏:‏ لما نزل ‏{‏فتول عنهم‏}‏، حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع، وأن الوحي قد انقطع، نزلت ‏{‏وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين‏}‏، فسروا بذلك‏.‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏‏:‏ أي ‏{‏وما خلقت الإنس والجن‏}‏ الطائعين، قاله زيد بن أسلم وسفيان، ويؤيده رواية ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» وقال علي وابن عباس‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏‏:‏ إلا لآمرهم بعبادتي، وليقروا لي بالعبادة‏.‏ فعبر بقوله‏:‏ ‏{‏ليعبدون‏}‏، إذ العبادة هي مضمن الأمر، فعلى هذا الجن والإنس عام‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى‏:‏ إلا معدين ليعبدون، وكأن الآية تعديد نعمه، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة، نحو‏:‏ العبادة، كما تقول‏:‏ هذا مخلوق لكذا، وإن لم يصدر منه الذي خلق له، كما تقول‏:‏ القلم مبري لأن يكتب به، وهو قد يكتب به وقد لا يكتب به، وقال الزمخشري‏:‏ إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها‏.‏ فإن قلت‏:‏ لو كان مريداً للعبادة منهم، لكانوا كلهم عباداً‏.‏ قلت‏:‏ إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريداً لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم‏.‏ انتهى، وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إلا ليعبدون‏}‏‏:‏ ليعرفون‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لأحملهم في العبادة على الشقاوة والسعادة‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ إلا للعبادة، قال‏:‏ وهو ظاهر اللفظ‏.‏ وقيل‏:‏ إلا ليذلوا لقضائي‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إلا ليوحدون، فالمؤمن يوحده في الشدة والرخاء، والكافر في الشدة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ليطيعون، فأثيب العابد، وأعاقب الجاحد‏.‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ إلا للأمر والنهي‏.‏

‏{‏ما أريد منهم من رزق‏}‏‏:‏ أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم‏.‏ ‏{‏ما أريد أن يطعمون‏}‏‏:‏ أي أن يطعموا خلقي، فهو على حذف مضاف، فالإضافة إلى الضمير تجوز، قاله ابن عباس‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏أن يطعمون‏}‏‏:‏ أن ينفعون، فذكر جزءاً من المنافع وجعله دالاً على الجميع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يريد إن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم، لأن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا في تحصيل معايشهم وأرزاقهم بهم؛ فإما مجهز في تجارة يبغي ربحاً، أو مرتب في فلاحة ليقتل أرضاً، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، أو محتطب، أو محتش، أو مستق، أو طابخ، أو خابز، أو ما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق‏.‏ فأما مالك ملاك العبيد فقال لهم‏:‏ اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي‏.‏ انتهى، وهو تكثير وخطابة‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ ‏{‏الرزاق‏}‏، كما قرأ‏:‏ ‏{‏وفي السماء رزقكم‏}‏‏:‏ اسم فاعل، وهي قراءة حميد‏.‏ وقرأ الأعمش، وابن وثاب‏:‏ ‏{‏المتين‏}‏ بالجر، صفة للقوة على معنى الاقتدار، قاله الزمخشري، أو كأنه قال‏:‏ ذو الأيد، وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو وخفض على الجوار، كقولهم‏:‏ هذا جحر ضب خرب‏.‏

‏{‏فإن للذين ظلموا‏}‏‏:‏ هم أهل مكة وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ذنوباً‏:‏ أي حظاً ونصيباً، ‏{‏مثل ذنوب أصحابهم‏}‏‏:‏ من الأمم السابقة التي كذبت الرسل في الإهلاك والعذاب‏.‏ وعن قتادة‏:‏ سجلاً من عذاب الله مثل سجل أصحابهم‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ الذنوب‏:‏ الدلو الملأى ماء، ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة وجمعها العدد، وفي الكثير ذنائب‏.‏ والذنوب‏:‏ الفرس الطويل الذنب، والذنوب‏:‏ النصيب، والذنوب‏:‏ لحم أسفل المتن‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ يقال يوم ذنوب‏:‏ أي طويل الشر لا ينقضي‏.‏ ‏{‏فويل للذين كفروا من يومهم‏}‏، قيل‏:‏ يوم بدر‏.‏ وقيل‏:‏ يوم القيامة ‏{‏الذي يوعدون‏}‏‏:‏ أي به، أو يوعدونه‏.‏