فصل: سورة القيامة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 40‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

تقدّم الكلام في ‏{‏لا أقسم‏}‏‏.‏ والخلاف في لا، والخلاف في قراآتها في أواخر الواقعة‏.‏ أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمه وهو له‏.‏ و‏{‏لا أقسم‏}‏، قيل‏:‏ لا نافية، نفى أن يقسم بالنفس اللوّامة وأقسم بيوم القيامة، نص على هذا الحسن؛ والجمهور‏:‏ على أن الله أقسم بالأمرين‏.‏ واللوّامة، قال الحسن‏:‏ هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوها، فهي على هذا ممدوحة، ولذلك أقسم الله بها‏.‏ وروي نحوه عن ابن عباس وعن مجاهد، تلوم على ما فات وتندم على الشر لم فعلته، وعلى الخير لم لم تستكثر منه‏.‏ وقيل‏:‏ النفس المتقية التي تلوم النفوس في يوم القيامة على تقصيرهنّ في التقوى‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ هي الفاجرة الخشعة اللوّامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها، فهي على هذا ذميمة، ويحسن نفي القسم بها‏.‏ والنفس اللوّامة‏:‏ اسم جنس بهذا الوصف‏.‏ وقيل‏:‏ هي نفس معينة، وهي نفس آدم عليه السلام، لم تزل لائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وكل نفس متوسطة ليست بمطمئنة ولا أمّارة بالسوء فإنها لوّامة في الطرفين، مرّة تلوم على ترك الطاعة، ومرّة تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت‏.‏ انتهى‏.‏ والمناسبة بين القسمين من حيث أحوال النفس من سعادتها وشقاوتها وظهور ذلك في يوم القيامة، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب‏}‏ الآية، وتقديره لتبعثن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون‏}‏ والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، وكان قد أنشد قول امرئ القيس‏:‏

لا وأبيك ابنة العامري *** لا يدعي القوم إني أفرّ

وقول غوية بن سلمى‏:‏

ألا نادت أمامة باحتمالي *** لتحزنني فلا بك ما أبالي

قال‏:‏ فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً، نحو قولك‏:‏ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏، لا تتركون سدى‏؟‏ قلت‏:‏ لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقسم‏.‏ ألا ترى كيف لقي ‏{‏لا أقسم بهذا البلد‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ وكذلك ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏ ‏{‏إنه لقرآن كريم‏}‏ ثم قال الزمخشري‏:‏ وجواب القسم ما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏، وهو لتبعثن‏.‏ انتهى، وهو تقدير النحاس‏.‏ وقول من قال جواب القسم هو‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان‏}‏‏.‏ وما روي عن الحسن أن الجواب‏:‏ ‏{‏بلى قادرين‏}‏، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما، أي لا أقسم على شيء، وأن التقدير‏:‏ أسألك أيحسب الإنسان‏؟‏ أقوال لا تصلح أن يرد بها، بل تطرح ولا يسود بها الورق، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها‏.‏

والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث‏.‏ روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا محمد، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن به، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في أبي جهل، كان يقول‏:‏ أيزعم محمد صلى الله عليه وسلم أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها فيعيدها خلقاً جديداً‏؟‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نجمع‏}‏ بنون، ‏{‏عظامه‏}‏ نصباً؛ وقتادة‏:‏ بالتاء مبنياً للمفعول، عظامه رفعاً، والمعنى‏:‏ بعد تفرّقها واختلاطها بالتراب وتطيير الرياح إياها في أقاصي الأرض‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب‏}‏ استفهام تقرير وتوبيخ، حيث ينكر قدرة الله تعالى على إعادة المعدوم‏.‏ ‏{‏بلى‏}‏‏:‏ جواب للاستفهام المنسخب على النفي، أي بلى نجمهعا‏.‏ وذكر العظام، وإن كان المعنى إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة، لأن العظام هي قالب الخلق‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قادرين‏}‏ بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع‏:‏ قادرون، أي نحن قادرون‏.‏ ‏{‏على أن نسوي بنانه‏}‏‏:‏ وهي الأصابع، أكثر العظام تفرّقاً وأدقها أجزاء، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها، وهذا عند البعث‏.‏ وقال ابن عباس والجمهور‏:‏ المعنى نجعلها في حياته هذه بعضة، أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه، أي في الدنيا فتقل منفعته بها، وهذا القول فيه توعد، والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام‏.‏ وذكر الزمخشري هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته في حكاية أقوال المتقدمين‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏قادرين‏}‏ منصوب على خبر كان، أي بلى كنا قادرين في الابتداء‏.‏

‏{‏بل يريد الإنسان بل‏}‏‏:‏ إضراب، وهو انتقال من كلام إلى كلام من غير إبطال‏.‏ والظاهر أن ‏{‏يريد‏}‏ إخبار عن ما يريده الإنسان‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏بل يريد‏}‏ عطف على ‏{‏أيحسب‏}‏، فيجوز أن يكون قبله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب‏.‏ انتهى‏.‏ وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر، وهي متكلفة، بل المعنى‏:‏ الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة، وهي نجمعها قادرين، لنبين ما هو عليه الإنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته؛ ومفعول ‏{‏يريد‏}‏ محذوف يدل عليه التعليل في ‏{‏ليفجر‏}‏‏.‏ قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي‏:‏ معنى الآية‏:‏ أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته‏.‏ قال السدي أيضاً‏:‏ ليظلم على قدر طاقته، وعلى هذا فالضمير في ‏{‏أمامه‏}‏ عائد على الإنسان، وهو الظاهر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ما يقضي أن الضمير عائد على يوم القيامة أن الإنسان في زمان وجوده أمام يوم القيامة، وبين يديه يوم القيامة خلفه، فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة، وهو لا يعرف القدر الذي هو فيه؛ والأمام ظرف مكان استعير هنا للزمان، أي ليفجر فيما بين يديه ويستقبله من زمان حياته‏.‏

‏{‏يسأل أيان يوم القيامة‏}‏‏:‏ أي متى يوم القيامة‏؟‏ سؤال استهزاء وتكذيب وتعنت‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏برق‏}‏ بكسر الراء؛ وزيد بن ثابت ونصر بن عاصم وعبد الله بن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وابن مقسم ونافع وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب، كلاهما عن أبي عمرو، والحسن والجحدري‏:‏ بخلاف عنهما بفتحها‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ برق بالفتح‏:‏ شق‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ خفت عند الموت‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هذا عند الموت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو يوم القيامة‏.‏ وقرأ أبو السمال‏:‏ بلق باللام عوض الراء، أي انفتح وانفرج، يقال‏:‏ بلق الباب وأبلقته وبلقته‏:‏ فتحته، هذا قول أهل اللغة إلا الفراء فإنه يقول‏:‏ بلقه وأبلقه إذا أغلفه‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ أخطأ الفراء في ذلك، إنما هو بلق الباب وأبلقه إذا فتحه‏.‏ انتهى‏.‏ ويمكن أن تكون اللام بدلاً من الراء، فهما يتعاقبان في بعض الكلام، نحو قولهم‏:‏ نثرة ونثلة، ووجر ووجل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وخسف‏}‏ مبنياً للفاعل؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب وزيد بن علي‏:‏ مبنياً للمفعول‏.‏ يقال‏:‏ خسف القمر وخسفه الله، وكذلك الشمس‏.‏ قال أبو عبيدة وجماعة من أهل اللغة‏:‏ الخسوف والكسوف بمعنى واحد‏.‏ وقال ابن أبي أويس‏:‏ الكسوف ذهاب بعض الضوء، والخسوف جميعه‏.‏

‏{‏وجمع الشمس والقمر‏}‏‏:‏ لم تلحق علامة التأنيث، لأن تأنيث الشمس مجان، أو لتغليب التذكير على التأنيث‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ حمل على المعنى، والتقدير‏:‏ جمع النوران أو الضياءآن، ومعنى الجمع بينهما، قال عطاء بن يسار‏:‏ يجمعان فيلقيان في النار، وعنه يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى‏.‏ وقيل‏:‏ يجمع بينهما في الطلوع من المغرب، فيطلعان أسودين مكورين‏.‏ وقال علي وابن عباس‏:‏ يجعلان في نور الحجب، وقيل‏:‏ يجتمعان ولا يتفرقان، ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر، فكأن المعنى‏:‏ يجمع حرهما‏.‏ وقيل‏:‏ يجمع بينهما في ذهابه الضوء، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏المفر‏}‏ بفتح الميم والفاء، أي أين الفرار‏؟‏ وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب، والحسن بن زيد، وابن عباس والحسن وعكرمة وأيوب السختياني وكلثوم بن عياض ومجاهد وابن يعمر وحماد بن سلمة وأبو رجاء وعيسى وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزهري‏:‏ بكسر الفاء، وهو موضع الفرار‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ بكسر الميم وفتح الفاء، ونسبها ابن عطية للزهري، أي الجيد الفرار، وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل، نحو قوله‏:‏

مكر مفر مقبل مدبر معاً *** والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر‏}‏ من تمام قول الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ هو من كلام الله تعالى، لا حكاية عن الإنسان‏.‏ ‏{‏كلا‏}‏‏:‏ ردع عن طلب المفر، ‏{‏لا وزر‏}‏‏:‏ لا ملجأ، وعبر المفسرون عنه بالجبل‏.‏ قال مطرف بن الشخير‏:‏ هو كان وزر فرار العرب في بلادهم، فلذلك استعمل؛ والحقيقة أنه الملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غيره‏.‏ ‏{‏إلى ربك يومئذ‏}‏‏:‏ أي إلى حكمه يومئذ تقول أين المفر، ‏{‏المستقر‏}‏‏:‏ أي الاستقرار، أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى، يدخل من شاء الجنة، ويدخل من شاء النار‏.‏ ‏{‏بما قدم وأخر‏}‏، قال عبد الله وابن عباس‏:‏ بما قدم في حياته وأخر من سنة يعمل بها بعده‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ بما قدم من المعاصي وأخر من الطاعات‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ بما قدم من ماله لنفسه، وبما أخر منه للوارث‏.‏ وقال النخعي ومجاهد‏:‏ بأول عمله وآخره‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ بما قدم من فرض وأخر من فرض؛ والظاهر حمله على العموم، أي يخبره بكل ما قدم وكل ما أخر مما ذكره المفسرون ومما لم يذكروه‏.‏ ‏{‏بصيرة‏}‏‏:‏ خبر عن الإنسان، أي شاهد، قاله قتادة، والهاء للمبالغة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هو كقولك‏:‏ فلان عبرة وحجة‏.‏ وقيل‏:‏ أنث لأنه أراد جوارحه، أي جوارحه على نفسه بصيرة‏.‏ وقيل‏:‏ بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف، أي عين بصيرة، وعلى نفسه الخبر‏.‏ والجملة في موضع خبر عن الإنسان، والتقدير عين بصيرة، وإليه ذهب الفراء وأنشد‏:‏

كأن على ذي العقل عيناً بصيرة *** بمقعده أو منظر هو ناظره

يحاذر حتى يحسب الناس كلهم *** من الخوف لا تخفى عليهم سرائره

وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلاً بالجار والمجرور، وهو الخبر عن الإنسان‏.‏ ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبراً عن الإنسان‏؟‏ وعلى هذا فالتاء للتأنيث‏.‏ وتأول ابن عباس البصيرة بالجوارح أو الملائكة الحفظة‏.‏ والمعاذير عند الجمهور الأعذار، فالمعنى‏:‏ لو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه فإنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها‏.‏ وقيل‏:‏ المعاذير جمع معذرة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ قياس معذرة معاذر، فالمعاذير ليس بجمع معذرة، إنما هو اسم جمع لها، ونحو المناكير في المنكر‏.‏ انتهى‏.‏ وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع، وإنما هو من أبنية جمع التكسير، فهو كمذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر؛ ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع، بل قيل‏:‏ هما جمع للمحة وذكر على قياس، أو هما جمع لمفرد لم ينطق به، وهو مذكار وملمحة‏.‏ وقال السدي والضحاك‏:‏ المعاذير‏:‏ الستور بلغة اليمن، واحدها معذار، وهو يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب‏.‏ وقاله الزجاج أيضاً، أي وإن رمى مستورة يريد أن يخفي عمله، فنفسه شاهدة عليه‏.‏

وأنشدوا في أن المعاذير الستور قول الشاعر‏:‏

ولكنها ضنت بمنزل ساعة *** علينا وأطت فوقها بالمعاذر

وقيل‏:‏ البصيرة‏:‏ الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر، أي وإن تستر بالستور؛ وإذا كانت من العذر، فمعنى ‏{‏ولو ألقى‏}‏‏:‏ أي نطق بمعاذيره وقالها‏.‏ وقيل‏:‏ ولو رمى بأعذاره واستسلم‏.‏ وقال السدي‏:‏ ولو أدلى بحجة وعذر‏.‏ وقيل‏:‏ ولو أحال بعضهم على بعض، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا أنتم لكنا مؤمنين‏}‏ والعذرة والعذرى‏:‏ المعذرة، قال الشاعر‏:‏

ها إن ذي عذرة إن لا تكن نفعت *** وقال فيها‏:‏ ولا عذر لمجحود‏.‏ ‏{‏لا تحرك به لسانك‏}‏‏:‏ الظاهر والمنصوص الصحيح في سبب النزول أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على ما سنذكر إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال القفال‏:‏ هو خطاب للإنسان المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏ينبأ الإنسان‏}‏ وذلك حال تنبئه بقبائح أفعاله، يعرض عليه كتابه فيقال له‏:‏ اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏.‏ فإذا أخذ في القراءة تلجلج من شدّة الخوف وسرعة القراءة، فقيل له‏:‏ ‏{‏لا تحرك به لسانك لتعجل به‏}‏، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك‏.‏ ‏{‏فإذا قرأناه‏}‏ عليك، ‏{‏فاتبع قرآنه‏}‏ بأنك فعلت تلك الأفعال‏.‏ ‏{‏ثم إن علينا بيانه‏}‏‏:‏ أي بيان أمره وشرح عقوبته‏.‏ وحاصل قول هذا القول أنه تعالى يقرر الكافر على جميع أفعاله على التفصيل، وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة‏.‏

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج من التنزيل شدّة، وكان بما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه، فنزلت‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ السبب أنه كان عليه الصلاة والسلام كان يخاف أن ينسى القرآن، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق، فنزلت‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ كان لحرصه عليه الصلاة والسلام على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة الله ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى‏.‏ والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية‏.‏ ‏{‏إن علينا جمعه‏}‏‏:‏ أي في صدرك، ‏{‏وقرآنه‏}‏‏:‏ أي قراءتك إياه، والقرآن مصدر كالقراءة، قال الشاعر‏:‏

ضحوا بأشمط عنوان السجود به *** يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

وقيل‏:‏ وقرآنه‏:‏ وتأليفه في صدرك، فهو مصدر من قرأت‏:‏ أي جمعت، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد‏:‏ ما قرأت سلاقط، وقال الشاعر‏:‏

ذراعي بكرة أدماء بكر *** هجان اللون لم تقرأ جنينا

‏{‏فإذا قرأناه‏}‏‏:‏ أي الملك المبلغ عنا، ‏{‏فاتبع‏}‏‏:‏ أي بذهنك وفكرك، أي فاستمع قراءته، قاله ابن عباس‏.‏ وقال أيضاً هو قتادة والضحاك‏:‏ فاتبع في الأوامر والنواهي‏.‏ وفي كتاب ابن عطية، وقرأ أبو العالية‏:‏ فإذا قرته فاتبع قرته، بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر، أي إن علينا جمعه وقراءته، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها فبقي قرته كما ترى‏.‏

وأمّا الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته، أي أردت قراءته؛ فسكن الهمزة فصار قرأته، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ، كما حذفت في قول العرب‏:‏ ولو تر ما الصبيان، يريدون‏:‏ ولو ترى ما الصبيان، وما زائدة‏.‏ وأمّا اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول، أي فإذا قرأته، أي أردت قراءته، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل‏.‏ ‏{‏ثم إن علينا بيانه‏}‏، قال قتادة وجماعة‏:‏ أن نبينه لك ونحفظكه‏.‏ وقيل‏:‏ أن تبنيه أنت‏.‏ وقال قتادة أيضاً‏:‏ أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره‏.‏

وفي التحرير والتحبير قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏إن علينا جمعه‏}‏‏:‏ أي حفظه في حياتك، وقراءته‏:‏ تأليفه على لسانك‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نثبته في قلبك بعد جمعه لك‏.‏ وقيل‏:‏ جمعه بإعادة جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك‏.‏ ‏{‏فإذا قرأناه‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ أنزلناه إليك، فاستمع قراءته، وعنه أيضاً‏:‏ فإذا يتلى عليك فاتبع ما فيه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ فاتبع حلاله واجتنب حرامه‏.‏ وقد نمق الزمخشري بحسن إيراده تفسير هذه الآية فقال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه وحيه، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ‏.‏ ‏{‏لتعجل به‏}‏‏:‏ لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك، ثم علل النهي عن العجلة بقوله‏:‏ ‏{‏إن علينا جمعه‏}‏ في صدرك وإثبات قراءته في لسانك‏.‏ ‏{‏فإذا قرأناه‏}‏‏:‏ جعل قراءة جبريل قراءته، والقرآن القراءة، فاتبع قراءته‏:‏ فكن مقفياً له فيه ولا تراسله، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه‏.‏ ‏{‏ثم إن علينا بيانه‏}‏‏:‏ إذا أشكل عليك شيء من معانيه، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه‏.‏ انتهى‏.‏

وذكر أبو عبد الله الرازي في تفسيره‏:‏ أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك‏.‏ ثم ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضاً عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله ومن يرغب عنها‏.‏

وبضدها تتميز الأشياء *** ولما كان عليه الصلاة والسلام، لمثابرته على ذلك، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه‏.‏ كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة‏.‏ لما فرغ من خطابه عليه الصلاة والسلام، رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة، إذ هو منكر لذلك‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بل تحبون العاجلة وتذرون‏}‏ بتاء الخطاب، لكفار قريش المنكرين البعث، و‏{‏كلا‏}‏‏:‏ رد عليهم وعلى أقوالهم، أي ليس كما زعمتم، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ ردع، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه‏.‏ وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو‏:‏ بياء الغيبة فيهما‏.‏

ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ ناضرة‏}‏، وعبر بالوجه عن الجملة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ناضرة‏}‏ بألف، وزيد بن علي‏:‏ نضرة بغير ألف‏.‏ وقرأ ابن عطية‏:‏ ‏{‏وجوه‏}‏ رفع بالابتداء، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ و‏{‏ناضرة‏}‏ خبر ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ جملة هي في موضع خبر بعد خبر‏.‏ انتهى‏.‏ وليس ‏{‏يومئذ‏}‏ تخصيصاً للنكرة، فيسوغ الابتداء بها، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة، إنما يكون ‏{‏يومئذ‏}‏ معمول لناضرة‏.‏ وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل، و‏{‏ناضرة‏}‏ الخبر، و‏{‏ناضرة‏}‏ صفة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ناضرة‏}‏ نعت لوجوه، و‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ الخبر، وهو قول سائغ‏.‏ ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين، أهل السنة وأهل الاعتزال، فلا نطيل بذكر ذلك هنا‏.‏ ولما كان الزمخشري من المعتزلة، ومذهبه أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص، قال هنا‏:‏ ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع الله فيه الخلائق، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس‏:‏ أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، يريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل‏:‏

وإذا نظرت إليك من ملك *** والبحر دونك زدتني نعماء

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون مقائلهم تقول‏:‏ عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم، والمعنى‏:‏ أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه‏.‏

انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ذهبوا، يعني المعتزلة، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة، أو إلى ثوابه أو ملكه، فقدروا مضافاً محذوفاً، وهذا وجه سائغ في العربية‏.‏ كما تقول‏:‏ فلان ناظر إليك في كذا‏:‏ أي إلى صنعك في كذا‏.‏ انتهى‏.‏ والظاهر أن إلى في قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربها‏}‏ حرف جر يتعلق بناظرة‏.‏ وقال بعض المعتزلة‏:‏ إلى هنا واحد الآلاء، وهي النعم، وهي مفعول به معمول لناظرة بمعنى منتظرة‏.‏ ‏{‏ووجوه يومئذ باسرة‏}‏‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏وجوه‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏باسرة‏}‏ وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر‏.‏ والفاقرة قال ابن المسيب قاصمة الظهر، وتظن بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع ‏{‏أن يفعل بها فاقرة‏}‏‏:‏ فعل هو في شدة داهية تقصم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ فاقرة من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار‏.‏ ‏{‏كلا‏}‏‏:‏ ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة، والضمير في ‏{‏بلغت‏}‏ عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام، كقول حاتم‏:‏

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

وتقول العرب‏:‏ أرسلت، يريدون جاء المطر، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء‏.‏ وذكرهم تعالى بصعوبة الموت، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها‏.‏ وقيل‏:‏ مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون القائل حاضروا المريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي، وغير ذلك مما يتمناه له أهله، قاله ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة، وهو استفهام حقيقة‏.‏ وقيل‏:‏ هو استفهام إبعاد وإنكار، أي قد بلغ مبلغاً لا أحد يرقيه، كما عند الناس‏:‏ من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت قاله عكرمة وابن زيد‏.‏ واحتمل أن يكون القائل الملائكة، أي من يرقي بروحه إلى السماء‏؟‏ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب‏؟‏ قاله ابن عباس أيضاً وسليمان التيمي‏.‏ وقيل‏:‏ إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها، ويدل عليه قوله بعد‏:‏ ‏{‏فلا صدق ولا صلى‏}‏ الآية‏.‏ ووقف حفص على ‏{‏من‏}‏، وابتدأ ‏{‏راق‏}‏، وأدغم الجمهور‏.‏ قال أبو علي‏:‏ لا أدري ما وجه قراءته‏.‏ وكذلك قرأ‏:‏ ‏{‏بل ران‏}‏ انتهى‏.‏ وكان حفصاً قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة، فسكت سكت لطيفاً ليشعر أنهما كلمتان‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ إن النون تدغم في الراء، وذلك نحو من راشد؛ والإدغام بغنة وبغير غنة، ولم يذكر البيان‏.‏ ولعل ذلك من نقل غيره من الكوفيين، وعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالماً بالنحو‏.‏ وأمّا ‏{‏بل ران‏}‏ فقد ذكر سيبويه أن اللام البيان فيها، والإدغام مع الراء حسنان، فلما أفرط في شأن البيان في ‏{‏بل ران‏}‏، صار كالوقف القليل‏.‏ ‏{‏وظن‏}‏، أي المريض، ‏{‏أنه‏}‏‏:‏ أي ما نزل به، ‏{‏الفراق‏}‏‏:‏ فراق الدنيا التي هي محبوبته، والظن هنا على بابه‏.‏

وقيل‏:‏ فراق الروح الجسد‏.‏

‏{‏والتفت الساق بالساق‏}‏، قال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد‏:‏ استعارة لشدّة كرب الدنيا في آخر يوم منها، وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها، لأنه بين الحالين قد اختلطا به، كما يقول‏:‏ شمرت الحرب عن ساق، استعارة لشدتها‏.‏ وقال ابن المسيب والحسن‏:‏ هي حقيقة، والمراد ساقا الميت عندما لفا في الكفن‏.‏ وقال الشعبي وقتادة وأبو مالك‏:‏ التفافهما لشدّة المرض، لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أسوق حاضريه من الإنس والملائكة؛ هؤلاء يجهزونه إلى القبر، وهؤلاء يجهزون روحه إلى السماء‏.‏ وقيل‏:‏ التفافهما‏:‏ موتهما أولاً، إذ هما أول ما تخرج الروح منهما فتبردان قبل سائر الأعضاء‏.‏ وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر‏.‏

‏{‏إلى ربك يومئذ المساق‏}‏‏:‏ المرجع والمصير، والمساق مفعل من السوق، فهو اسم مصدر، إمّا إلى جنة، وإمّا إلى نار‏.‏ ‏{‏فلا صدق ولا صلى‏}‏، الجمهور‏:‏ إنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله‏:‏ ‏{‏يتمطى‏}‏‏.‏ فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم، وكان يكثر منها‏.‏ وتقدم أيضاً أنه قيل في قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ أنها نزلت في أبي جهل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يعني الإنسان في قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن يترك سدى‏}‏، وهو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏يسأل أيان يوم القيامة‏}‏‏:‏ أي لا يؤمن بالبعث‏؟‏ ‏{‏فلا صدق‏}‏ بالرسول والقرآن، ‏{‏ولا صلى‏}‏‏.‏ ويجوز أن يراد‏:‏ فلا صدق ماله، يعني فلا زكاة‏.‏ انتهى‏.‏ وكون ‏{‏فلا صدق‏}‏ معطوفاً على قوله‏:‏ ‏{‏يسأل‏}‏ فيه بعد، ولا هنا نفت الماضي، أي لم يصدق ولم يصل؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه، ومثله قوله‏:‏

وأي جميس لا أتانا نهابه *** وأسيافنا يقطرن من كبشه دما

وقال الراجز‏:‏

إن تغفر اللهم تغفر جماً *** وأيّ عبد لك لا ألما

وصدق‏:‏ معناه برسالة الله‏.‏ وقال يوم‏:‏ هو من الصدقة، وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب، كقوله‏:‏ ‏{‏لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين‏}‏ وحمل ‏{‏فلا صدق‏}‏ على نفي التصديق بالرسالة، فيقتضي أن يكون ‏{‏ولكن كذب‏}‏ تكراراً‏.‏ ولزم أن يكون لكن استدراكاً بعد ‏{‏ولا صلى‏}‏ لا بعده ‏{‏فلا صدق‏}‏، لأنه كان يتساوى الحكم في ‏{‏فلا صدق‏}‏ وفي ‏{‏كذب‏}‏، ولا يجوز ذلك، إذ لا يقع لكن بعد متوافقين‏.‏ ‏{‏وتولى‏}‏‏:‏ أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب بما جاء به‏.‏ ‏{‏وتولى ثم ذهب إلى أهله‏}‏‏:‏ أي قومه، ‏{‏يتمطى‏}‏‏:‏ يبختر في مشيته‏.‏ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبب أبا جهل يوماً في البطحاء وقال له‏:‏

«إن الله يقول لك أولى فأولى لك» فنزل القرآن على نحوها، وقالت الخنساء‏:‏

هممت بنفسي كل الهمو *** م فأولى لنفسي أولى لها

وتقدم الكلام على ‏{‏أولى‏}‏ شرحاً وإعراباً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولى لهم طاعة وقول معروف‏}‏ في سورة القتال، وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد‏.‏ ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا، قرر له أحواله في بدايته ليتأمّلها، فلا ينكر معها جواز البعث من القبور‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ألم يك‏}‏ بياء الغيبة؛ والحسن‏:‏ بتاء الخطاب على سبيل الالتفات‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تمنى، أي النطفة يمنيها الرجل؛ وابن محيصن والجحدري وسلام ويعقوب وحفص وأبو عمر‏:‏ بخلاف عنه بالياء، أي يمنى هو، أي المني، فخلق الله منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة‏.‏ ‏{‏فسوى‏}‏‏:‏ أي سواه شخصاً مستقلاً‏.‏ ‏{‏فجعل منه الزوجين‏}‏‏:‏ أي النوعين أو المزدوجين من البشر، وفي قراءة زيد بن عليّ‏:‏ الزّوجان بالألف، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله‏.‏ وقرأ أيضاً‏:‏ يقدر مضارعاً، والجمهور‏:‏ ‏{‏بقادر‏}‏ اسم فاعل مجرور بالباء الزائدة‏.‏

‏{‏أليس ذلك‏}‏‏:‏ أي الخالق المسوي، ‏{‏بقادر‏}‏، وفيه توقيف وتوبيخ لمنكر البعث‏.‏ وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان‏:‏ بسكون الياء من قوله‏:‏ ‏{‏أن يحيِي‏}‏، وهي حركة إعراب لا تنحذف إلا في الوقف، وقد جاء في الشعر حذفها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بفتحها‏.‏ وجاء عن بعضهم يحيي بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء‏.‏ قال ابن خالويه‏:‏ لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي، قالوا لسكون الياء الثانية، ولا يعتدون بالفتحة في الياء لأنها حركة إعراب غير لازمة‏.‏ وأما الفراء فاحتج بهذا البيت‏:‏

تمشي بسده بينها فتعيى *** يريد‏:‏ فتعيي، والله تعالى أعلم‏.‏

سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏هل‏}‏ حرف استفهام، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد، لأن قد من خواص الفعل، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ هي هنا بمعنى قد‏.‏ قيل‏:‏ لأن الأصل أهل، فكأن الهمزة حذفت واجتزئ بها في الاستفهام، ويدل على ذلك قوله‏:‏

سائل فوارس يربوع لحلتها *** أهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم

فالمعنى‏:‏ أقد أتى على التقدير والتقريب جميعاً، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب حين من الدهر لم يكن كذا، فإنه يكون الجواب‏:‏ أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكور‏.‏ وما تليت عند أبي بكر، وقيل‏:‏ عند عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ليتها تمت، أي ليت تلك الحالة تمت، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف‏.‏ والإنسان هنا جنس بني آدم، والحين الذي مرّ عليه، إما حين عدمه، وإما حين كونه نطفة‏.‏ وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه، فإنه في تلك المدة لا ذكر له، وسمي إنساناً باعتبار ما صار إليه‏.‏ وقيل‏:‏ آدم عليه الصلاة والسلام، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نفخ فيه الروح‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ بقي طيناً أربعين سنة، ثم صلصالاً أربعين، ثم حمأ مسنوناً أربعين، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة، وسمي إنساناً باعتبار ما آل إليه‏.‏ والجملة من ‏{‏لم يكن‏}‏ في موضع الحال من الإنسان، كأنه قيل‏:‏ غير مذكور، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً، أي لم يكن فيه‏.‏

‏{‏إنا خلقنا الإنسان‏}‏‏:‏ هو جنس بني آدم لأن آدم لم يخلق ‏{‏من نطفة أمشاج‏}‏‏:‏ أخلاط، وهو وصف للنطفة‏.‏ فقال ابن مسعود وأسامة بن زيد عن أبيه‏:‏ هي العروق التي في النطفة‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد والربيع‏:‏ هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما‏.‏ وقال الحسن‏:‏ اختلاط النطفة بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة وقتادة‏:‏ أمشاج منتقلة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى إنشائه إنساناً‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً والكلبي‏:‏ هي ألوان النطفة‏.‏ وقيل‏:‏ أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء، والنطفة أريد بها الجنس، فلذلك وصفت بالجمع كقوله‏:‏ ‏{‏على رفرف خضر‏}‏ أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ نطفة أمشاج، كبرمة إعسار، وبرد أكياس، وهي ألفاظ مفرد غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد‏.‏ ويقال أيضاً‏:‏ نطفة مشج، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه‏.‏ ‏{‏نبتليه‏}‏‏:‏ نختبره بالتكليف في الدنيا؛ وعن ابن عباس‏:‏ نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة، فعلى هذا هي حال مصاحبة، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتلياً له بالتكليف في ذلك الوقت‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا معنى قول ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ نبتليه بالإيحان والكون في الدنيا، فهي حال مقارنة‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير الأصل‏.‏ ‏{‏فجعلناه سميعاً بصيراً‏}‏ نبتليه، أي جعله سميعاً بصيراً هو الابتلاء، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير، والمعنى يصح بخلافه، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين، وهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب لذلك، وهما أشرف الحواس، تدرك بهما أعظم المدركات‏.‏

ولما جعله بهذه المثابة، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل، أي أرشده إلى الطريق، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك، إذ أرشدناه طريق الهدى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ سبيل السعادة والشقاوة‏.‏ وقال السدي‏:‏ سبيل الخروج من الرحم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة‏.‏ انتهى، وهو على طريق الإلتزام‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أما‏}‏ بكسر الهمزة فيهما؛ وأبو السمال وأبو العاج، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك‏:‏ بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا‏:‏

يلحقها إما شمال عرية *** وإما صبا جنح العشي هبوب

وقال الزمخشري‏:‏ وهي قراءة حسنة، والمعنى‏:‏ إما شاكراً بتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره‏.‏ انتهى‏.‏ فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط، ولذلك تلقاها بفاء الجواب، فصار كقول العرب‏:‏ إما صديقاً فصديق؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في ‏{‏هديناه‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، كقوله‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً‏.‏ انتهى‏.‏ ولما كان الشكر قل من يتصف به قال شاكراً‏:‏ ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفوراً بصيغة المبالغة‏.‏ ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد‏.‏ وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة‏:‏ ‏{‏سلاسل‏}‏ ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً‏.‏ وقيل عن حمزة وأبي عمر‏:‏ الوقف بالألف‏.‏ وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف، واختلف عنهم في الوقف، وكذا عن البزي‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً، وهي قراءة الأعمش، قيل‏:‏ وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء، ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا‏:‏ صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف، وقال بعض الرجاز‏:‏

والصرف في الجمع أتى كثيراً *** حتى ادعى قوم به التخييرا

والصرف ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة، وفي مصحف أبي وعبد الله، وكذا قوارير‏.‏ وروى هشام عن ابن عامر‏:‏ سلاسل في الوصل، وسلاسلاً بألف دون تنوين في الوقف‏.‏ وروي أن من العرب من يقول‏:‏ رأيت عمراً بالألف في الوقف‏.‏ ‏{‏من كأس‏}‏‏:‏ من لابتداء الغاية، ‏{‏كان مزاجها كافوراً‏}‏، قال قتادة‏:‏ يمزج لهم بالكافور، ويختم لهم بالمسك‏.‏ وقيل‏:‏ هو على التشبيه، أي طيب رائحة وبرد كالكافور‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كافوراً اسم عين في الجنة، وصرفت لتوافق الآي‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ قافوراً بالقاف بدل الكاف، وهما كثيراً ما يتعاقبان في الكلمة، كقولهم‏:‏ عربي قح وكح، و‏{‏عيناً‏}‏ بدل من ‏{‏كافوراً‏}‏ مفعولاً بيشربون، أي ماء عين، أو بدل من محل من كأس على حذف مضاف، أي يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص‏.‏ ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن؛ وفي ‏{‏يشرب بها‏}‏‏:‏ أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق، والمعنى‏:‏ يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول‏:‏ شربت الماء بالعسل، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء‏.‏ وقيل‏:‏ الباء زائدة والمعنى يشرب بها، وقال الهذلي‏:‏

شربن بماء البحر ثم ترفعت *** متى لجج خضر لهن نئيج

قيل‏:‏ أي شربن ماء البحر‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ بشربها؛ وعباد الله هنا هم المؤمنون، ‏{‏يفجرونها‏}‏‏:‏ يثقبونها بعود قصب ونحوه حيث شاءوا، فهي تجري عند كل واحد منهم، هكذا ورد في الأثر‏.‏ وقيل‏:‏ هي عين في دار رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين‏.‏ ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ في الدنيا، وكانوا يخافون‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏يوفون‏}‏ جواب من عسى يقول ما لهم يرزقون ذلك‏.‏ انتهى‏.‏ فاستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بعد عسى بالمضارع غير مقرون بأن، وهو قليل أو في شعر‏.‏ والظاهر أن المراد بالنذر ما هو المعهود في الشريعة أنه نذر‏.‏ قال الأصم وتبعه الزمخشري‏:‏ هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان لما أوجبه الله تعالى عليه أوفى‏.‏ وقيل‏:‏ النذر هنا عام لما أوجبه الله تعالى، وما أوجبه العبد فيدخل فيه الإيمان وجمع الطاعات‏.‏ ‏{‏على حبه‏}‏‏:‏ أي على حب الطعام، إذ هو محبوب للفاقة والحاجة، قاله ابن عباس ومجاهد؛ أو على حب الله‏:‏ أي لوجهه وابتغاء مرضاته، قاله الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني‏.‏

والأول أمدح، لأن فيه الإيثار على النفس؛ وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ على حب الطعام، أي محبين في فعلهم ذلك، لا رياء فيه ولا تكلف‏.‏ ‏{‏مسكيناً‏}‏‏:‏ وهو الطواف المنكسر في السؤال، ‏{‏ويتيماً‏}‏‏:‏ هو الصبي الذي لا أب له، ‏{‏وأسيراً‏}‏‏:‏ والأسير معروف، وهو من الكفار، قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ من المسلمين تركوا في بلاد الكفار رهائن وخرجوا لطلب الفداء‏.‏ وقال ابن جبير وعطاء‏:‏ هو الأسير من أهل القبلة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وأسيراً‏}‏ استعارة وتشبيه‏.‏ وقال مجاهد وابن جبير وعطاء‏:‏ هو المسجون‏.‏ وقال أبو حمزة اليماني‏:‏ هي الزوجة؛ وعن أبي سعيد الخدري‏:‏ هو المملوك والمسجون‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك»‏.‏ ‏{‏إنما نطعمكم لوجه الله‏}‏‏:‏ هو على إضمار القول، ويجوز أن يكونوا صرحوا به خطاباً للمذكورين، منعاً منهم وعن المجازاة بمثله أو الشكر، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله تعالى، فلا معنى لمكافأة الخلق، وهذا هو الظاهر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أما أنهم ما تكلموا به، ولكن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم به‏.‏ ‏{‏لا نريد منكم جزاء‏}‏‏:‏ أي بالأفعال، ‏{‏ولا شكوراً‏}‏‏:‏ أي ثناء بالأقوال؛ وهذه الآية قيل نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جداً ظاهرة الاختلاف، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير، يخاطبون بها ببيت النبوة، وإشعار لفاطمة رضي الله عنها تخاطب كل واحد منهم، ظاهرها الاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسفاطة معانيها‏.‏ ‏{‏يوماً عبوساً‏}‏‏:‏ نسبة العبوس إلى اليوم مجاز‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فوقاهم‏}‏ بخفة القاف؛ وأبو جعفر‏:‏ بشدها؛ ‏{‏ولقاهم نضرة‏}‏‏:‏ بدل عبوس الكافر، ‏{‏وسروراً‏}‏‏:‏ فرحاً بدل حزنه، لا تكاد تكون النظرة إلا مع فرح النفس وقرة العين‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وجزاهم‏}‏؛ وعليّ‏:‏ وجازاهم على وزن فاعل، ‏{‏جنة وحريراً‏}‏‏:‏ بستاناً فيه كل مأكل هنيء، ‏{‏وحريراً‏}‏ فيه ملبس بهي، وناسب ذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على الجوع والغذاء‏.‏ ‏{‏لا يرون فيها‏}‏‏:‏ أي في الجنة، ‏{‏شمساً‏}‏‏:‏ أي حر شمس ولا شدة برد، أي لا شمس فيها فترى فيؤذي حرها، ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته، أي هي معتدلة الهواء‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر» وقيل‏:‏ لا يرون فيها شمساً ولا قمراً، والزمهرير في لغة طيء القمر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ودانية‏}‏، قال الزجاج‏:‏ هو حال عطفاً على ‏{‏متكئين‏}‏‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ويجوز أن يكون صفة للجنة، فالمعنى‏:‏ وجزاهم جنة دانية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ما معناه أنها حال معطوفة على حال وهي لا يرون، أي غير رائين، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل‏:‏ وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏:‏ ودانية بالرفع، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد، نحو قولك‏:‏ قائم الزيدون، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون ‏{‏ظلالها‏}‏ مبتدأ ‏{‏ودانية‏}‏ خبر له‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ ودانياً عليهم، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏خاشعةً أبصارهم‏}‏ وقرأ أبيّ‏:‏ ودان مرفوع، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش‏.‏ ‏{‏وذللت قطوفها‏}‏، قال قتادة ومجاهد وسفيان‏:‏ إن كان الإنسان قائماً، تناول الثمر دون كلفة؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك، فهذا تذليلها، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك‏.‏ فأما على قراءة الجمهور‏:‏ ‏{‏ودانية‏}‏ بالنصب، كان ‏{‏وذللت‏}‏ معطوفاً على دانية لأنها في تقدير المفرد، أي ومذللة، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية‏.‏ ويجوز أن تكون في موضع الحال، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 31‏]‏

‏{‏وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم، ذكر شرابهم، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها، والآنية جمع إناء، وتقدم شرح الأكواب‏.‏ وقرأ نافع والكسائي‏:‏ قواريراً قواريراً بتنوينهما وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص‏:‏ بمنع صرفهما؛ وابن كثير‏:‏ بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة، وفي الثاني لاتباعه الأول‏.‏ انتهى‏.‏ وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلاً بالتنوين‏:‏ إنه بدل من حرف الإطلاق، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعاراً بترك الترنم، كما قال الراجز‏:‏

يا صاح ما هاج الدموع الذرّفن *** فهذه النون بدل من الألف، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق‏.‏ ‏{‏من فضة‏}‏‏:‏ أي مخلوقة من فضة، ومعنى ‏{‏كانت‏}‏‏:‏ أنه أوجدها تعالى من قوله‏:‏ ‏{‏كن فيكون‏}‏ تفخيماً لتلك الخقلة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها، ومن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏كان مزاجها كافوراً‏}‏‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ قوارير من فضة بالرفع، أي هو قرارير‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏قدروها‏}‏ مبنياً للفاعل، والضمير للملائكة، أو للطواف عليهم، أو المنعمين، والتقدير‏:‏ على قدر الأكف، قاله الربيع؛ أو على قدر الري، قاله مجاهد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏قدروها‏}‏ صفة لقرارير من فضة، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروها‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويطاف عليهم‏}‏، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته، لا يفضل عنها ولا يعجز‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ لا يفيض ولا يغيض‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ عليّ وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن عليّ والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان، والأصمعي عن أبي عمرو، وابن عبد الخالق عن يعقوب‏:‏ قدروها مبنياً للمفعول‏.‏ قال أبو علي‏:‏ كأن اللفظ قدروا عليها، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال‏:‏ قدرت عليهم، فهي مثل قوله‏:‏ ‏{‏ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة‏}‏ ومثل قول العرب‏:‏ إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ووجهه أن يكون من قدر منقولاً من قدر، تقول‏:‏ قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادراً عليه، ومعناه‏:‏ جعلوا قادرين لها كما شاءوا، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ قدرت الأواني على قدر ريهم، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا، قال‏:‏ فيه حذف على حذف، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها، ثم حذف على فصار قدر ريهم مفعول لم يسم فاعله، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل‏.‏

انتهى‏.‏ والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف وهو الذي، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير‏:‏ قدروا منها؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور‏.‏

والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل، والعرب تستلذة وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء، كما أنشدنا لهم في الكلام على المفردات‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ تسمى العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها‏.‏ انتهى‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الزنجبيل اسم لعين في الجنة، يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج لسائر أهل الجنة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يسقى بجامين، الأول مزاجه الكافور، والثاني مزاجه الزنجبيل‏.‏ وعيناً بدل من كأس على حذف، أي كأس عين، أو من زنجبيل على قول قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب على الاختصاص‏.‏ والظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلاً بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة، لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية‏.‏ وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف، جعله علماً لها، فإن كان علماً فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل، كما قال ذلك بعضهم في سلاسلاً وقواريراً؛ ويحسن ذلك أنه لغة بعض العرب، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية‏.‏ انتهى‏.‏ وكان قد ذكر فقال‏:‏ شراب سلسل وسلسال وسلسيل، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد، لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو؛ وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا في سلسال، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفاً في المادة‏.‏

وقال بعض المعربينّ‏:‏ سلسبيلاً أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها، وقد نسبوا هذا القول إلى علي كرم الله وجهه، ويجب طرحه من كتب التفسير‏.‏ وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته، ويذكر نسبته إلى عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هي عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ عين سلس ماؤها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عين جديرة الجرية سلسلة سهلة المساغ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا وتقدّم شرح ‏{‏مخلدون‏}‏ وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون‏.‏ وقيل‏:‏ شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس‏.‏

وجواب ‏{‏إذا رأيتهم‏}‏‏:‏ ‏{‏نعيماً‏}‏، ومفعول فعل الشرط محذوف، حذف اقتصاراً، والمعنى‏:‏ وإذا رميت ببصرك هناك، وثم ظرف العامل فيه رأيت‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ وإذا رأيت ما ثم، فحذف ما كما حذف في قوله‏:‏ ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ أي ما بينكم‏.‏ وقال الزجاج، وتبعه الزمخشري فقال‏:‏ ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ، لأن ثم صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة‏.‏ انتهى‏.‏ وليس بخطأ مجمع عليه، بل قد أجاز ذلك الكوفيون، وثم شواهد من لسان العرب كقوله‏:‏

فمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء

أي‏:‏ ومن يمدحه، فحذف الموصول وأبقى صلته‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه، التقدير‏:‏ رأيت ما ثم حذفت ما‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا فاسد، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف، أي ما استقر ثم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ثم بفتح الثاء؛ وحميد الأعرج‏:‏ ثم بضم التاء حرف عطف، وجواب إذا على هذا محذوف، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً؛ والملك الكبير قيل‏:‏ النظر إلى الله تعالى‏.‏ وقال السدّي‏:‏ استئذان الملائكة عليهم‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ الملك الكبير‏:‏ اتساع مواضعهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كبيراً عريضاً يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقاله عبد الله بن عمر، وقال‏:‏ ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه‏.‏ وقال الترمذي، وأظنه الترمذي الحكيم لا أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع‏:‏ هو ملك التكوين والمشيئة، إذا أراد شيئاً كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم ما يشاءون فيها‏}‏ وقيل غير هذه الأقوال‏.‏

وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة‏:‏ ‏{‏عاليهم‏}‏ بفتح الياء؛ وابن عباس‏:‏ بخلاف عنه؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة‏:‏ بسكونها، وهي رواية أبان عن عاصم‏.‏ وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ‏:‏ بالياء مضمومة؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم‏:‏ بفتح الياء‏.‏ وقرأ‏:‏ عليهم حرف جر، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها‏:‏ علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً، فثياب فاعل‏.‏ ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال، وهو حال من المجرور في ‏{‏ويطوف عليهم‏}‏، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في ‏{‏يطوف عليهم‏}‏، أو في ‏{‏حسبتهم‏}‏، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب‏.‏ ويجوز أن يراد‏:‏ رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب‏.‏ انتهى‏.‏ إما أن يكون حالاً من الضمير في ‏{‏حسبتهم‏}‏، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهذا عائد على ‏{‏ولدان‏}‏، ولذلك قدر عاليهم بقوله‏:‏ عالياً لهم، أي للولدان، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله‏:‏ ‏{‏وحلوا وسقاهم‏}‏، وإن هذا كان لكم جزاء، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز‏.‏

وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم‏.‏ انتهى‏.‏ وعال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس‏.‏

وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة‏:‏ عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، برفع الثلاثة، برفع سندس بالصفة لأنه جنس، كما تقول‏:‏ ثوب حرير، تريد من حرير؛ وبرفع خضر بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها؛ ورفع استبرق بالعطف عليها، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره‏:‏ وثياب استبرق، أي من استبرق‏.‏ وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص‏:‏ خضر برفعهما‏.‏ وقرأ العربيان ونافع في رواية‏:‏ خضر بالرفع صفة لثياب، وإستبرق جر عطفاً على سندس‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو بكر‏:‏ بجر خضر صفة لسندس، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب‏.‏ وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو‏:‏ بخلاف عنهما؛ وحمزة والكسائي‏:‏ ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينشئ السحاب الثقال‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏والنخل باسقات‏}‏ فجعل الحال جمعاً، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع، كقولهم‏:‏ أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، حيث جمع وصفهما ليس بسديد، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح‏.‏

وقرأ ابن محيصن‏:‏ ‏{‏وإستبرق‏}‏، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هنا وقرئ واستبرق نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول‏:‏ الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب‏.‏ وقرئ‏:‏ واستبرق، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضاً لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبره‏.‏ انتهى‏.‏ ودل قوله‏:‏ إلا أن يزعم ابن محيصن، وقوله‏:‏ بعد وقرئ واستبرق بوصل الألف والفتح، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف؛ والمنقول عنه في كتب القراءات أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ لا يجوز، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة‏.‏

انتهى‏.‏ ونقول‏:‏ إن ابن محيصن قارئ جليل مشهور بمعرفة العربية، وقد أخذ عن أكابر العلماء، ويتطلب لقراءته وجه، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق‏.‏ وتقول‏:‏ برق واستبرق، كعجب واستعجب‏.‏

ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏خضر‏}‏ يدل على الخضرة، وهي لون ذلك السندس، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش، أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشته‏.‏ فاستبرق فعل ماض، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله‏:‏ ‏{‏خضر‏}‏‏.‏ وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة ‏{‏أساور من فضة‏}‏، وفي موضع آخر ‏{‏من ذهب‏}‏ أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما، كما يقع للنساء في الدنيا‏.‏ قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران، سوار من ذهب وسوار من فضة‏.‏ انتهى‏.‏ فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن، وإما أن يكون بدلاً منه، وإمّا أن يكون مفعول أحسن، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور‏.‏ فإن كان الأول، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب، لا تقول‏:‏ ما أحسن بزيد، تريد‏:‏ ما أحسن زيداً، وإن كان الثاني، ففي مثل هذا الفصل خلاف‏.‏ والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف‏.‏

‏{‏وسقاهم ربهم شراباً طهوراً‏}‏، طهور صفة مبالغة في الطهارة، وهي من فعل لازم؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة، ولم تمس بيد وضرة، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه‏.‏ ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال‏:‏ أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة، لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي، قالوا‏:‏ لا تنقلب إلى البول، بل تكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك‏.‏ ‏{‏إن هذا‏}‏‏:‏ أي النعيم السرمدي، ‏{‏كان لكم جزاء‏}‏‏:‏ أي لأعمالكم الصالحة، ‏{‏وكان سعيكم مشكوراً‏}‏‏:‏ أي مقبولاً مثاباً‏.‏ قال قتادة‏:‏ لقد شكر الله سعياً قليلاً، وهذا على إضمار يقال لهم‏.‏ وهذا القول لهم هو على سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب‏:‏ إن هذا بعملك الرديء، فيزداد غماً وحزناً‏.‏

ولما ذكر أولاً حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع، ذكر ما شرف به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا عليك القرآن‏}‏، وأمره بالصبر بحكمه، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدول المخبر عنه، وأكد الفعل بالمصدر‏.‏ ‏{‏ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً‏}‏، قال قتادة‏:‏ نزلت في أبي جهل، قال‏:‏ إن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطع‏}‏ الآية‏.‏

والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما، لأنه يستلزم النهي عن أحدهما، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما‏.‏ ولو قال‏:‏ لا تضرب زيداً وعمراً، لجاز أن يكون نهياً عن ضربهما جميعاً، لا عن ضرب أحدهما‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أو بمعنى الواو، والكفور، وإن كان إثماً، فإن فيه مبالغة في الكفر‏.‏ ولما كان وصف الكفور مبايناً للموصوف لمجرّد الإثم، صلح التغاير فحسن العطف‏.‏ وقيل‏:‏ الآثم عتبة، والكفور الوليد، لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق؛ وكان الوليد غالباً في الكفر، شديد الشكيمة في العتوّ‏.‏

‏{‏واذكر اسم ربك بكرة‏}‏‏:‏ يعني صلاة الصبح، ‏{‏وأصيلاً‏}‏‏:‏ الظهر والعصر‏.‏ ‏{‏ومن الليل‏}‏‏:‏ المغرب والعشاء‏.‏ وقال ابن زيد وغيره‏:‏ كان ذلك فرضاً ونسخ، فلا فرض إلا الخمس‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو محكم على وجه الندب‏.‏ ‏{‏إن هؤلآء‏}‏‏:‏ إشارة إلى الكفرة‏.‏ ‏{‏يحبون العاجلة‏}‏‏:‏ يؤثرونها على الدنيا‏.‏ ‏{‏ويذرون وراءهم‏}‏‏:‏ أي أمامهم، وهو ما يستقبلون من الزمان‏.‏ ‏{‏يوماً ثقيلاً‏}‏‏:‏ استعير الثقل لليوم لشدته، وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب حامله‏.‏ وتقدم شرح الأسر في سورة القتال‏.‏ ‏{‏وإذا شئنا‏}‏‏:‏ أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم، ‏{‏بدلنا أمثالهم‏}‏ ممن يطيع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وحقه أن يجيء بإن لا بإذا، كقوله‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم‏}‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ انتهى‏.‏ يعني أنهم قالوا إن إذا للمحقق وإن للممكن، وهو تعالى لم يشأ، لكنه قد توضع إذا موضع إن، وإن موضع إذا، كقوله‏:‏ ‏{‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏

‏{‏إن هذه‏}‏‏:‏ أي السورة، أو آيات القرآن، أو جملة الشريعة ليس على جهة التخيير، بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لمن شاء ممن اختار الخير لنفسه والعاقبة، واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة‏.‏ ‏{‏وما تشاءون‏}‏‏:‏ الطاعة، ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏، يقسرهم عليها‏.‏ ‏{‏إن الله كان عليماً‏}‏ بأحوالهم وما يكون منهم، ‏{‏حكيماً‏}‏ حيث خلقهم مع علمه بهم‏.‏ انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال‏.‏ وقرأ العربيان وابن كثير‏:‏ وما يشاءون بياء الغيبة؛ وباقي السبعة‏:‏ بتاء الخطاب؛ ومذهب أهل السنة أنه نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما محل ‏{‏أن يشاء الله‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ النصب على الظرف، وأصله‏:‏ إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قرأ ابن مسعود‏:‏ إلا ما يشاء الله، لأن ما مع الفعل كان معه‏.‏ انتهى‏.‏ ونصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح به، كقولك‏:‏ أجيئك صياح الديك، ولا يجيزون‏:‏ أجيئك أن يصيح الديك، ولا ما يصيح الديك؛ فعلى هذا لا يجوز ما قاله الزمخشري‏.‏

‏{‏يدخل من يشاء في رحمته‏}‏‏:‏ وهم المؤمنون‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏والظالمين‏}‏ نصباً بإضمار فعل يفسره قوله‏:‏ ‏{‏أعد لهم‏}‏، وتقديره‏:‏ ويعذب الظالمين، وهو من باب الاشتغال، جملة عطف فعلية على جملة فعلية‏.‏ وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة‏:‏ والظالمون، عطف جملة اسمية على فعلية، وهو جائز حسن‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ وللظالمين بلام الجر، وهو متعلق بأعد لهم توكيداً، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده، فيكون التقدير‏:‏ وأعد للظالمين أعدّ لهم، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو، فتقول‏:‏ بزيد مررت به، ويكون التقدير‏:‏ مررت بزيد مررت به، ويكون من باب الاشتغال‏.‏ والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر، وما أشبهه من جهة المعنى فعلاً ماضياً‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 28‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو صالح ومقاتل والفرّاء‏:‏ ‏{‏والمرسلات‏}‏‏:‏ الملائكة، أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي، فبالتعاقب على العباد طرفي النهار‏.‏ وقال ابن عباس وجماعة‏:‏ الأنبياء، ومعنى عرفاً‏:‏ إفضالاً من الله تعالى على عباده، ومنه قول الشاعر‏:‏

لا يذهب العرف بين الله والناس *** وانتصابه على أنه مفعول له، أي أرسلن للإحسان والمعروف، أو متتابعة تشبيهاً بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل‏.‏ وتقول العرب‏:‏ الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه، وانتصابه على الحال‏.‏ وقال ابن مسعود أيضاً وابن عباس أيضاً ومجاهد وقتادة‏:‏ الرّياح‏.‏ وقال الحسن‏:‏ السحاب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عرفاً‏}‏ بسكون الراء، وعيسى‏:‏ بضمها‏.‏

‏{‏فالعاصفات‏}‏، قال ابن مسعود‏:‏ الشديدات الهبوب‏.‏ وقيل‏:‏ الملائكة تعصف بأرواح الكفار، أي تزعجها بشدّة، أو تعصف في مضيها كما تعصف الرّياح تحققاً في امتثال أمره‏.‏ وقيل‏:‏ هي الآيات المهلكة، كالزلازل والصواعق والخسوف‏.‏ ‏{‏والناشرات‏}‏، قال السدّي وأبو صالح ومقاتل‏:‏ الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال‏.‏ وقال الربيع‏:‏ الملائكة تنشر الناس من قبورهم‏.‏ وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة‏:‏ الرّياح تنشر رحمة الله ومطره‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ الأمطار تحيي الأرض بالنبات‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، فعلى هذا تكون الناشرات على معنى النسب، أي ذات النشر‏.‏ ‏{‏فالفارقات‏}‏، قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك‏:‏ الملائكة تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام‏.‏ وقال قتادة والحسن وابن كيسان‏:‏ آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام‏.‏ وقال مجاهد أيضاً‏:‏ الرّياح تفرق بين السحاب فتبدّده‏.‏ وقيل‏:‏ الرسل، حكاه الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ السحاب الماطر تشبيهاً بالناقة الفاروق، وهي الحامل التي تجزع حين تضع‏.‏ وقيل‏:‏ العقول تفرق بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد‏.‏ ‏{‏فالملقيات ذكراً‏}‏، قال ابن عباس وقتادة والجمهور‏:‏ الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وقال قطرب‏:‏ الرسل تلقي ما أنزل عليها إلى الأمم‏.‏ وقال الرّبيع‏:‏ آيات القرآن ألقيت على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

واختار الزمخشري من الأقوال أن تكون ‏{‏والمرسلات‏}‏ إلى آخر الأوصاف‏:‏ إما للملائكة، وإما للرّياح‏.‏ فللملائكة تكون عذراً للمحققين، أو نذراً للمبطلين؛ وللرّياح يكون المعنى‏:‏ فألقين ذكراً، إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها، وإما إنذاراً للذين يغفلون عن الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن، أو كفرت، قاله الزمخشري‏.‏ والذي أراه أن المقسم به شيئان، ولذلك جاء العطف بالواو في ‏{‏والناشرات‏}‏، والعطف بالواو يشعر بالتغاير، بل هو موضوعه في لسان العرب‏.‏ وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات، فيدل على أنها راجعة إلى العاديات، وهي الخيل؛ وكقوله‏:‏

يا لهف زيابة للحارث فالصا *** بح فالغانم فالآيب

فهذه راجعة لموصوف واحد وهو الحارث‏.‏ فإذا تقرر هذا، فالظاهر أنه أقسم أولاً بالرياح، فهي مرسلاته تعالى، ويدل عليه عطف الصفة بالفاء، كما قلنا، وأن العصف من صفات الريح في عدّة مواضع من القرآن‏.‏ والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة، ويكون ‏{‏فالفارقات‏}‏، ‏{‏فالملقيات‏}‏ من صفاتهم، كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم الذكر، وهو ما أنزل الله، يصح إسناده إليهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فالملقيات‏}‏ اسم فاعل خفيف، أي نطرقه إليهم؛ وابن عباس‏:‏ مشدد من التلقية، وهي أيضاً إيصال الكلام إلى المخاطب‏.‏ يقال‏:‏ لقيته الذكر فتلقاه‏.‏ وقرأ أيضاً ابن عباس، فيما ذكره المهدوي‏:‏ بفتح اللام والقاف مشددة اسم مفعول، أي تلقته من قبل الله تعالى‏.‏

وقرأ إبراهيم التيمي والنحويان وحفص‏:‏ ‏{‏عذراً أو نذراً‏}‏ بسكون الذالين؛ وزيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن‏:‏ بخلاف؛ والأعشى، عن أبي بكر‏:‏ بضمهما؛ وأبو جعفر أيضاً وشيبة وزيد بن علي والحرميان وابن عامر وأبو بكر‏:‏ بسكونها في عذراً وضمها في نذراً، فالسكون على أنهما مصدران مفردان، أو مصدران جمعان‏.‏ فعذراً جمع عذير بمعنى المعذرة، ونذراً جمع نذير بمعنى الإنذار‏.‏ وانتصابهما على البدل من ‏{‏ذكراً‏}‏، كأنه قيل‏:‏ فالملقيات عذراً أو نذراً، أو على المفعول من أجله، أو على أنهما مصدران في موضع الحال، أي عاذرين أو منذرين‏.‏ ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه‏.‏ وقيل‏:‏ يصح انتصاب ‏{‏عذراً أو نذراً‏}‏ على المفعول به بالمصدر الذي هو ‏{‏ذكراً‏}‏، أي فالملقيات، أي فذكروا عذراً، وفيه بعد لأن المصدر هنا لا يراد به العمل، إنما يراد به الحقيقة لقوله‏:‏ ‏{‏أألقي عليه الذكر‏}‏‏.‏ والإعذار هي بقيام الحجة على الخلق، والإنذار هو بالعذاب والنقمة‏.‏ ‏{‏إنما توعدون‏}‏‏:‏ أي من الجزاء بالثواب والعقاب، ‏{‏لواقع‏}‏‏:‏ وما موصولة، وإن كانت قد كتبت موصولة بأن‏.‏ وهذه الجملة هي المقسم عليها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أو نذراً‏}‏ بواو التفصيل؛ وإبراهيم التيمي‏:‏ ونذراً بواو العطف‏.‏

‏{‏فإذا النجوم طمست‏}‏‏:‏ أي أذهب نورها فاستوت مع جرم السماء، أو عبر عن إلحاق ذواتها بالطمس، وهو انتثارها وانكدارها، أو أذهب نورها ثم انتثرت ممحوقة النور‏.‏ ‏{‏وإذا السماء فرجت‏}‏‏:‏ أي صار فيها فروج بانفطار‏.‏ وقرأ عمرو بن ميمون‏:‏ طمست، فرجت، بشد الميم والراء؛ والجمهور‏:‏ بخفهما‏.‏ ‏{‏وإذا الجبال نسفت‏}‏‏:‏ أي فرقتها الرياح، وذلك بعد التسيير وقبل كونها هباء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أقتت‏}‏ بالهمز وشد القاف؛ وبتخفيف القاف والهمز النخعي والحسن وعيسى وخالد‏.‏ وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وعيسى أيضاً وأبو عمرو‏:‏ بالواو وشد القاف‏.‏ قال عيسى‏:‏ وهي لغة سفلى مضر‏.‏ وعبد الله والحسن وأبو جعفر‏:‏ بواو واحدة وخف القاف؛ والحسن أيضاً‏:‏ ووقتت بواوين على وزن فوعلت، والمعنى‏:‏ جعل لها وقت منتظر فحان وجاء، أو بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة، والواو في هذا كله أصل والهمزة بدل‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ومعنى توقيت الرسل‏:‏ تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم، وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره‏:‏ إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون‏.‏ ‏{‏لأي يوم أجلت‏}‏‏:‏ تعظيم لذلك اليوم، وتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة‏.‏ والتأجيل من الأجل، أي ليوم عظيم أخرت، ‏{‏ليوم الفصل‏}‏‏:‏ أي بين الخلائق‏.‏ ‏{‏ويل‏}‏‏:‏ تقدم الكلام فيه في أول ثاني حزب من سورة البقرة، يومئذ‏:‏ يوم إذ طمست النجوم وكان ما بعدها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نهلك الأولين‏}‏ بضم النون، وقتادة‏:‏ بفتحها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ من هلكه بمعنى أهلكه‏.‏ قال العجاج‏:‏

ومهمه هالك من تعرجا *** انتهى‏.‏

وخرج بعضهم هالك من تعرجاً على أن هالكاً هو من اللازم، ومن موصول، فاستدل به على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل قد يكون معمولهاً موصولاً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نتبعهم‏}‏ بضم العين على الاستئناف، وهو وعد لأهل مكة‏.‏ ويقوي الاستئناف قراءة عبد الله‏:‏ ثم سنتبعهم، بسين الاستقبال؛ والأعرج والعباس عن أبي عمرو‏:‏ بإسكانها؛ فاحتمل أن يكون معطوفاً على ‏{‏نهلك‏}‏، واحتمل أن يكون سكن تخفيفاً، كما سكن ‏{‏وما يشعركم‏}‏، فهو استئناف‏.‏ فعلى الاستئناف يكون الأولين الأمم التي تقدمت قريشاً أجمعاً، ويكون الآخرين من تأخر من قريش وغيرهم‏.‏ وعلى التشريك يكون الأولين قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن كان معهم، والآخرين قوم فرعون ومن تأخر وقرب من مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والإهلاك هنا إهلاك العذاب والنكال، ولذلك جاء ‏{‏كذلك نفعل بالمجرمين‏}‏، فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذاب وهي الإجرام‏.‏

ولما ذكر إفناء الأولين والآخرين، ذكر ووقف على أصل الخلقة التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث، ‏{‏من ماء مهين‏}‏‏:‏ أي ضعيف هو مني الرجل والمرأة، ‏{‏في قرار مكين‏}‏‏:‏ وهو الرحم، ‏{‏إلى قدر معلوم‏}‏‏:‏ أي عند الله تعالى، وهو وقت الولادة‏.‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب‏:‏ فقدرنا بشد الدال من التقدير، كما قال‏:‏ ‏{‏من نطفة خلقه فقدره‏}‏؛ وباقي السبعة‏:‏ بخفها من القدرة‏؟‏ وانتصب ‏{‏أحياء وأمواتاً‏}‏ بفعل يدل عليه ما قبله، أي يكفت أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها‏.‏ واستدل بهذا من قال‏:‏ إن النباش يقطع، لأن بطن الأرض حرز للكفن، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ نكفتكم أحياء وأمواتاً، فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏رواسي‏}‏‏:‏ جبالاً ثابتات، ‏{‏شامخات‏}‏‏:‏ مرتفعات، ومنه شمخ بأنفه‏:‏ ارتفع، شبه المعنى بالجرم‏.‏ ‏{‏وأسقيناكم‏}‏‏:‏ جعلناه سقياً لمزراعكم ومنافعكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 50‏]‏

‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقال للمكذبين‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون‏}‏‏:‏ أي من العذاب‏.‏ ‏{‏انطلقوا إلى ظل‏}‏‏:‏ أمر، قراءة الجمهور تكراراً أو بيان للمنطلق إليه‏.‏ وقرأ رويس عن يعقوب‏:‏ بفتح اللام على معنى الخبر، كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا، إذ لا يمكنهم التأخير، إذ صاروا مضطرين إلى الانطلاق؛ ‏{‏ذي ثلاث شعب‏}‏، قال عطاء‏:‏ هو دخان جهنم‏.‏ وروي أنه يعلو من ثلاثة مواضع، يظن الكفار أنه مغن من النار، فيهرعون إليه فيجدونه على أسوإ وصف‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يقال ذلك لعبدة الصليب‏.‏ فالمؤمنون في ظل الله عز وجل، وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب، والشعب‏:‏ ما تفرق من جسم واحد‏.‏ ‏{‏لا ظليل‏}‏‏:‏ نفي لمحاسن الظل، ‏{‏ولا يغني‏}‏‏:‏ أي ولا يغني عنهم من حر اللهب شيئاً‏.‏ ‏{‏إنها ترمي بشرر‏}‏‏:‏ الضمير في إنها لجهنم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بشرر‏}‏، وعيسى‏:‏ بشرار بألف بين الراءين، وابن عباس وابن مقسم كذلك، إلا أنه كسر الشين، فاحتمل أن يكون جمع شرر، أي بشرار من العذاب، وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها، أي بشرار من الناس، كما تقول‏:‏ قوم شرار جمع شر غير أفعل التفضيل، وقوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل؛ ويؤنث هذا فيقال للمؤنث شرة وخيرة بخلافهما، إذا كانا للتفضيل، فلهما أحكام مذكورة في النحو‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏كالقصر‏}‏؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحسن وابن مقسم‏:‏ بفتح القاف والصاد؛ وابن جبير أيضاً والحسن أيضاً‏:‏ كالقصر، بكسر القاف وفتح الصاد؛ وبعض القراء‏:‏ بفتح القاف وكسر الصاد؛ وابن مسعود‏:‏ بضمهما، كأنه مقصور من القصور، كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور، قال الراجز‏:‏

فيها عنابيل أسود ونمر *** وتقدم شرح أكثر هذه القراءات في المفردات‏.‏ وقرأ الجمهور، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏جمالات‏}‏ بكسر الجيم وبالألف والتاء، جمع جمال جمع الجمع وهي الإبل، كقولهم‏:‏ رجالات قريش؛ وابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء‏:‏ بخلاف عنهم كذلك، إلا أنهم ضموا الجيم، وهي جمال السفن، الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات والقوى، ثم جمع على جمل وجمال، ثم جمع جمال ثانياً جمع صحة فقالوا‏:‏ جمالات‏.‏ وقيل‏:‏ الجمالات‏:‏ قلوص الجسور‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي، وهارون عنه‏:‏ جمالة بكسر الجيم، لحقت جمالاً التاء لتأنيث الجمع، كحجر وحجارة‏.‏ وقرأ ابن عباس والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو نحرية وابن أبي عبلة ورويس‏:‏ كذلك، إلا أنهم ضموا الجيم‏.‏ قال ابن عباس وابن جبير‏:‏ الجمالات‏:‏ قلوص السفن، وهي حباله العظام، إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ الجمالات‏:‏ قطع النحاس الكبار، وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ صفر، بضم الفاء؛ والجمهور‏:‏ بإسكانها، شبه الشرر أولاً بالقصر، وهو الحصن من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء؛ وثانياً بالجمال لبيان التشبيه‏.‏ ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان، وهي القصور‏؟‏ قال الشاعر‏:‏

فوقفت فيها ناقتي فكأنها *** فدن لأقصى حاجة المتلوم

ومن قرأ بضم الجيم، فالتشبيه من جهة العظم والطول‏.‏ والصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر، قاله الجمهور‏:‏ وقيل‏:‏ صفر سود، وقيل‏:‏ سود تضرب إلى الصفرة‏.‏ وقال عمران بن حطان الرقاشي‏:‏

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم *** بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية‏:‏ ‏{‏هذا يوم لا ينطقون‏}‏، بفتح الميم؛ والجمهور‏:‏ برفعها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء، وهي في موضع رفع‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ قال عيسى‏:‏ هي لغة سفلى مضر، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ‏.‏ انتهى‏.‏ والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه، وإنما هذا مذهب كوفي‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ويجوز أن يكون نصباً صحيحاً على الظرف، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم، ورميها بالشرر في يوم لا ينطقون، فيكون يومئذ كلام معترض لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول، كما كانت ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان *** ذواتا أفنان‏}‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون ظرفاً، وتكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ونصبه الأعمش، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، وهنا نفي نطقهم‏.‏ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم نطقوا في مواضع من هذا اليوم، وذلك باعتبار طول اليوم، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت ويثبت في وقت، أو نفي نطقهم بحجة تنفع وجعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق‏.‏

وقرأ القراء كلهم فيما أعلم‏:‏ ‏{‏ولا يؤذن‏}‏ مبنياً للمفعول‏.‏ وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ‏:‏ ولا يأذن، مبنياً للفاعل، أي الله تعالى، ‏{‏فيعتذرون‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏ولا يؤذن‏}‏ داخل في حيز نفي الإذن، أي فلا إذن فاعتذار، ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الإذن فينصب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي، والوجهان جائزان‏.‏ انتهى‏.‏ فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال‏:‏ والوجهان جائزان، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسبباً بل صريح عطف، والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا‏.‏ وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعياً للأكثر في كلام العرب، وجعل دليله ذلك، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره‏.‏

‏{‏هذا يوم الفصل جمعناكم‏}‏ للكفار، ‏{‏والأولين‏}‏‏:‏ قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء‏.‏ ‏{‏فإن كان لكم كيد‏}‏‏:‏ أي في هذا اليوم، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه، ‏{‏فكيدون‏}‏ اليوم، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ‏.‏ ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزراً من أحوال الكفار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏في ظلال‏}‏ جمع ظل؛ والأعمش‏:‏ في ظلل جمع ظلة‏.‏ ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏‏:‏ خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول، ويدل عليه ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏‏.‏ ‏{‏كلوا وتمتعوا‏}‏‏:‏ خطاب للكفار في الدنيا، ‏{‏قليلاً‏}‏‏:‏ أي زماناً قليلاً، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم‏.‏

‏{‏وإذا قيل لهم اركعوا‏}‏‏:‏ من قال إنها مكية، قال هي في قريش؛ ومن قال إن هذه الآية مدنية، قال هي في المنافقين‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في ثقيف، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة، فأبى وقال‏:‏ «لا خير في دين لا صلاة فيه» ومعنى اركعوا‏:‏ اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه‏.‏ وقيل‏:‏ الركوع هنا عبارة عن الصلاة؛ وخص من أفعالها الركوع، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود‏.‏ وجاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله‏:‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏، لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة‏.‏ والضمير في ‏{‏بعده‏}‏ عائد على القرآن، والمعنى أنه قد تضمن من الإعجاز والبلاغة والإخبار المغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي، فإذا كانوا مكذبين به، فبأي حديث بعده يصدقون به‏؟‏ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يؤمنون‏}‏ بياء الغيبة؛ ويعقوب وابن عامر في رواية‏:‏ بتاء الخطاب‏.‏