فصل: سورة الشمس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


سورة الشمس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما تقدّم القسم ببعض المواضع الشريفة وما بعدها، أقسم هنا بشيء من العالم العلوي والعالم والسفلي، وبما هو آلة التفكر في ذلك، وهو النفس‏.‏ وكان آخر ما قبلها مختتماً بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، فاختتم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا، وفي ذلك بمآلهم في الآخرة إلى النار، وفي الدنيا إلى الهلاك المستأصل‏.‏ وتقدم الكلام على ضحى في سورة طه عند قوله‏:‏ ‏{‏وأن يحشر الناس ضحى‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ هو ارتفاع الضوء وكماله‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ حرها لقوله ‏{‏ولا تضحى‏}‏ وقال قتادة‏:‏ هو النهار كله، وهذا ليس بجيد، لأنه قد أقسم بالنهار‏.‏ والمعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلاً، فإذا زاد فهو الضحاء، بالمد وفتح الضاد إلى الزوال، وقول مقاتل تفسير باللازم‏.‏ وما نقل عن المبرد من أن الضحى مشتق من الضح، وهو نور الشمس، والألف مقلوبة من الحاء الثانية؛ وكذلك الواو في ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية، لعله مختلق عليه، لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا، وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من الأخرى‏.‏

‏{‏والقمر إذا تلاها‏}‏، قال الحسن والفراء‏:‏ تلاها معناه تبعها دأباً في كل وقت، لأنه يستضيء منها، فهو يتلوها لذلك‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ يتلوها في الشهر كله، يتلوها في النصف الأول من الشهر بالطلوع، وفي الآخر بالغروب‏.‏ وقال ابن سلام‏:‏ في النصف الأول من الشهر، وذلك لأنه يأخذ موضعها ويسير خلفها، إذا غابت يتبعها القمر طالعاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إنما ذلك البدر، تغيب هي فيطلع هو‏.‏ وقال الزجاج وغيره‏:‏ تلاها معناه‏:‏ امتلأ واستدار، وكان لها تابعاً للمنزل من الضياء والقدر، لأنه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر‏.‏ وقيل‏:‏ من أول الشهر إلى نصفه، في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو؛ وفي النصف الآخر يتحاوران، وهو أن تغرب هي فيطلع هو‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ تلاها طالعاً عند غروبها أخداً من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر‏.‏

‏{‏والنهار إذا جلاها‏}‏‏:‏ الظاهر أن مفعول جلاها هو الضمير عائد على الشمس، لأنه عند انبساط النهار تنجلي الشمس في ذلك الوقت تمام الإنجلاء‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الظلمة‏.‏ وقيل‏:‏ على الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ على الدنيا، والذي يجلي الظلمة هو الشمس أو النهار، فإنه وإن لم تطلع الشمس لا تبقى الظلمة، والفاعل بجلاها ضمير النهار‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يكون عائداً على الله تعالى، كأنه قال‏:‏ والنهار إذا جلى الله الشمس، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته‏.‏

‏{‏والليل إذا يغشاها‏}‏‏:‏ أي يغشى الشمس، فبدخوله تغيب وتظلم الآفاق، ونسبة ذلك إلى الليل مجاز‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على الأرض، والذي تقتضيه الفصاحة أن الضمائر كلها إلى قوله‏:‏ ‏{‏يغشاها‏}‏ عائدة على الشمس‏.‏

وكما أن النهار جلاها، كان النهار هو الذي يغشاها‏.‏ ولما كانت الفواصل ترتبت على ألف وهاء المؤنث، أتى ‏{‏والليل إذا يغشاها‏}‏ بالمضارع، لأنه الذي ترتب فيه‏.‏ ولو أتى بالماضي، كالذي قبله وبعده، كان يكون التركيب إذا غشيها، فتفوت الفاصلة، وهي مقصودة‏.‏ وقال القفال ما ملخصه‏:‏ هذه الأقسام بالشمس في الحقيقة بحسب أوصاف أربعة‏:‏ ضوءها عند ارتفاع النهار وقت انتشار الحيوان، وطلب المعاش، وتلو القمر لها بأخذه الضوء، وتكامل طلوعها وبروزها وغيبوبتها بمجيء الليل‏.‏ وما في قوله‏:‏ ‏{‏وما بناها *** وما طحاها *** وما سواها‏}‏، بمعنى الذي، قاله الحسن ومجاهد وأبو عبيدة، واختاره الطبري، قالوا‏:‏ لأن ما تقع على أولي العلم وغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ مصدرية، قاله قتادة والمبرد والزجاج، وهذا قول من ذهب إلى أن ما لا تقع على آحاد أولي العلم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ جعلت مصدرية، وليس بالوجه لقوله‏:‏ ‏{‏فألهمها‏}‏، وما يؤدي إليه من فساد النظم والوجه أن تكون موصولة، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل‏:‏ والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم سبحان من سخركن لنا، انتهى‏.‏

أما قوله‏:‏ وليس بالوجه لقوله‏:‏ ‏{‏فألهمها‏}‏، يعني من عود الضمير في ‏{‏فألهمها‏}‏ على الله تعالى، فيكون قد عاد على مذكور، وهو ما المراد به الذي، ولا يلزم ذلك لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام؛ ففي بناها ضمير عائد على الله تعالى، أي وبناها هو، أي الله تعالى، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً فقلت‏:‏ عجبت مما ضرب عمراً تقديره‏:‏ من ضرب عمر‏؟‏ وهو كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير، وقوله‏:‏ وما يؤدي إليه من فساد النظم ليس كذلك، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر، وقوله إنما أوثرت إلخ لا يراد بما ولا بمن الموصولتين معنى الوصفية، لأنهما لا يوصف بهما، بخلاف الذي، فاشتراكهما في أنهما لا يؤديان معنى الوصفية موجود فيهما، فلا ينفرد به ما دون من، وقوله‏:‏ وفي كلامهم إلخ‏.‏ تأوله أصحابنا على أن سبحان علم وما مصدرية ظرفية‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ الأمر في نصب إذا معضل، لأنك إما أن تجعل الواوات عاطفة فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين، وفي نحو قولك‏:‏ مررت أمس بزيد واليوم عمرو؛ وأما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه‏.‏ قلت‏:‏ الجواب فيه أن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادة مسدهما معاً، والواوات العواطف نوائب عن هذه، فحقهن أن يكن عوامل على الفعل والجار جميعاً، كما تقول؛ ضرب زيد عمراً وبكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما، انتهى‏.‏

أما قوله في واوات العطف فتنصب بها وتجر فليس هذا بالمختار، أعني أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه، تم إنا لإنشاء حجة في ذلك‏.‏ وقوله‏:‏ فتقع في العطف على عاملين، ليس ما في الآية من العطف على عاملين، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب على اسمين مجرور ومنصوب، فحرف العطف لم ينب مناب عاملين، وذلك نحو قولك‏:‏ امرر بزيد قائماً وعمرو جالساً‏؟‏ وقد أنشد سيبويه في كتابه‏:‏

فليس بمعروف لنا أن نردها *** صحاحاً ولا مستنكران تعقرا

فهذا من عطف مجرور، ومرفوع على مجرور ومرفوع، والعطف على عاملين فيه أربع مذاهب، وقد نسب الجواز إلى سيبويه وقوله في نحو قولك‏:‏ مررت أمس بزيد واليوم عمرو، وهذا المثال مخالف لما في الآية، بل وزان ما في الآية‏:‏ مررت بزيد أمس وعمرو اليوم، ونحن نجيز هذا‏.‏ وأما قوله على استكراه فليس كما ذكر، بل كلام الخليل يدل على المنع‏.‏ قال الخليل‏:‏ في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى‏}‏ الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان يضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك‏:‏ مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء، انتهى‏.‏ وأما قوله‏:‏ إن واو القسم مطرح معه إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فليس هذا الحكم مجمعاً عليه، بل قد أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو، فتقول‏:‏ أقسم أو أحلف والله لزيد قائم‏.‏ وأما قوله‏:‏ والواوات العواطف نوائب عن هذه الخ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل، وليس هذا بالمختار‏.‏

والذي نقوله‏:‏ إن المعضل هو تقرير العامل في إذا بعد الاقسام، كقوله‏:‏ ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏ ‏{‏والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر‏}‏ ‏{‏والقمر إذا تلاها‏}‏، ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ وما أشبهها‏.‏ فإذا ظرف مستقبل، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف، لأنه فعل إنشائي‏.‏ فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه، أي‏:‏ وطلوع النجم، ومجيء الليل، لأنه معمول لذلك الفعل‏.‏ فالطلوع حال، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل، ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل، سيما إن كان جزماً، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه، ويكون ذلك العامل في موضع الحال وتقديره‏:‏ والنجم كائناً إذا هوى، والليل كائناً إذا يغشى، لأنه لا يلزم كائناً أن يكون منصوباً بالعامل، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً‏.‏

وأيضاً فقد يكون القسم به جثة، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث، كما لا تكون أخباراً‏.‏

‏{‏ونفس وما سواها‏}‏‏:‏ اسم جنس، ويدل على ذلك ما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏فألهمها‏}‏ وما بعده، وتسويتها‏:‏ إكمال عقلها ونظرها، ولذلك ارتبط به ‏{‏فألهمها‏}‏، لأن الفاء تقتضي الترتيب على ما قبلها من التسوية التي هي لا تكون إلا بالعقل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ لم نكرت النفس‏؟‏ قلت‏:‏ فيه وجهان‏:‏ أحدها‏:‏ أن يريد نفساً خاصة من النفوس، وهي نفس آدم، كأنه قال‏:‏ وواحدة من النفوس، انتهى‏.‏ وهذا فيه بعد للأوصاف المذكورة بعدها، فلا تكون إلا للجنس‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها‏}‏، كيف تقتضي التغاير في المزكى وفي المدسى‏؟‏ ‏{‏فألهمها‏}‏، قال ابن جبير‏:‏ ألزمها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ عرفها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ بين لها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وفقها للتقوى، وألهمها فجورها‏:‏ أي خذلها، وقيل‏:‏ عرفها وجعل لها قوة يصح معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ومعنى إلهام الفجور والتقوى‏:‏ إفهامها وإعقالها، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها‏}‏، فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما‏.‏ والتزكية‏:‏ الإنماء، والتدسية‏:‏ النقص والإخفاء بالفجور‏.‏ انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال‏.‏

‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏، قال الزجاج وغيره‏:‏ هذا جواب القسم، وحذفت اللام لطول الكلام، والتقدير‏:‏ لقد أفلح‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب محذوف تقديره لتبعثن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ تقديره ليدمدمن الله عليهم، أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً‏.‏ وأما ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ فكلام تابع لقوله‏:‏ ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، انتهى‏.‏ وزكاؤها‏:‏ ظهورها ونماؤها بالعمل الصالح، ودساها‏:‏ أخفاها وحقرها بعمل المعاصي‏.‏ والظاهر أن فاعل زكى ودسى ضمير يعود على من، وقاله الحسن وغيره‏.‏ ويجوز أن يكون ضمير الله تعالى، وعاد الضمير مؤنثاً باعتبار المعنى من مراعاة التأنيث‏.‏ وفي الحديث ما يشهد لهذا التأويل، كان عليه السلام إذا قرأ هذه الآية قال‏:‏ «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» وقال الزمخشري‏:‏ وأما قول من زعم أن الضمير في زكى ودسى لله تعالى، وأن تأنيث الراجع إلى من لأنه في معنى النفس، فمن تعكيس القدرية الذين يوركون على الله قدراً هو بريء منه ومتعال عنه، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشة ينسبونها إليه تعالى، انتهى‏.‏ فجرى على عادته في سب أهل السنة‏.‏ هذا، وقائل ذلك هو بحر العلم عبد الله بن عباس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «وزكها أنت خير من زكاها»

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏دساها‏}‏ في أهل الخير بالرياء وليس منهم؛ وحين قال‏:‏ ‏{‏وتقواها‏}‏ أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏‏.‏ ولما قال‏:‏ ‏{‏وقد خاب من دساها‏}‏، أعقبه بأهل الجنة‏.‏ ولما ذكر تعالى خيبة من دسى نفسه، ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم‏.‏ ‏{‏بطغواها‏}‏‏:‏ الباء عند الجمهور سببية، أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الطغوى هنا العذاب، كذبوا به حتى نزل بهم لقوله‏:‏ ‏{‏فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بطغواها‏}‏ بفتح الطاء، وهو مصدر من الطغيان، قلبت فيه الياء واواً فصلاً بين الاسم وبين الصفة، قالوا فيها صرنا وحدنا، وقالوا في الاسم تقوى وشروي‏.‏ وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة‏:‏ بضم الطاء، وهو مصدر كالرجعى، وكان قياسها الطغيا بالياء كالسقيا، لكنهم شذوا فيه‏.‏ ‏{‏إذ انبعث‏}‏‏:‏ أي خرج لعقر الناقة بنشاط وحرص، والناصب لإذ ‏{‏كذبت‏}‏، و‏{‏أشقاها‏}‏‏:‏ قدار بن سالف، وقد يراد به الجماعة، لأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز إفراده وإن عنى به جمع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكونوا جماعة، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقال‏:‏ أشقوها، انتهى‏.‏ فأطلق الإضافة، وكان ينبغي أن يقول‏:‏ إلى معرفة، لأن إضافته إلى نكرة لا يجوز فيه إذ ذاك إلا أن يكون مفرداً مذكراً، كحاله إذا كان بمن‏.‏ والظاهر أن الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ عائد على أقرب مذكور وهو ‏{‏أشقاها‏}‏ إذا أريد به الجماعة، ويجوز أن يعود على ‏{‏ثمود‏}‏‏.‏ ‏{‏رسول‏}‏‏:‏ هو صالح عليه السلام‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ناقة الله‏}‏ بنصب التاء، وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله، لأنه قد عطف عليه، فصار حكمه بالعطف حكم المكرر، كقولك‏:‏ الأسد الأسد، أي احذروا ناقة الله وسقياها فلا تفعلوا ذلك‏.‏

‏{‏فكذبوه‏}‏، الجمهور على أنهم كانوا كافرين، وروي أنهم كانوا قد أسلموا قبل ذلك وتابعوا صالحاً بمدة، ثم كذبوا وعقروا، وأسند العقر للجماعة لكونهم راضين به ومتمالئين عليه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فدمدم‏}‏ بميم بعد دالين؛ وابن الزبير‏:‏ قد هدم بهاء بينهما، أي أطبق عليهم العذاب مكرراً ذلك عليهم، ‏{‏بذنبهم‏}‏‏:‏ فيه تخويف من عاقبة الذنوب، ‏{‏فسواها‏}‏، قيل‏:‏ فسوى القبيلة في الهلاك، عاد عليها بالتأنيث كما عاد في ‏{‏بطغواها‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ سوى الدمدمة، أي سواها بينهم، فلم يفلت منهم صغيراً ولا كبيراً‏.‏ وقرأ أبيّ والأعرج ونافع وابن عامر‏:‏ فلا يخاف بالفاء؛ وباقي السبعة ولا بالواو؛ والضمير في يخاف الظاهر عوده إلى أقرب مذكور وهو ربهم، أي لأدرك عليه تعالى في فعله بهم لا يسئل عما يفعل، قاله ابن عباس والحسن، وفيه ذم لهم وتعقبه لآثارهم‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يعود على صالح، أي لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم، إذ كان قد أنذرهم وحذرهم‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ولا يحتمل الضمير الوجهين‏.‏ وقال السدي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي‏:‏ الواو واو الحال، والضمير في يخاف عائد على ‏{‏أشقاها‏}‏، أي انبعث لعقرها، وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه، والعقبى‏:‏ خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه، وهذا فيه بعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها‏.‏

سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 21‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

لما ذكر فيما قبلها ‏{‏قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها‏}‏ ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما تحصل به الخيبة، ثم حذر النار وذكر من يصلاها ومن يتجنبها، ومفعول يغشى محذوف، فاحتمل أن يكون النهار، كقوله‏:‏ ‏{‏يغشي الليل النهار‏}‏ وأن يكون الشمس، كقوله‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشاها‏}‏ وقيل‏:‏ الأرض وجميع ما فيها بظلامه‏.‏ وتجلى‏:‏ انكشف وظهر، إما بزوال ظلمة الليل، وإما بنور الشمس‏.‏ أقسم بالليل الذي فيه كل حيوان يأوي إلى مأواه، وبالنهار الذي تنتشر فيه‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يجلي السرى من وجهه عن صفيحة *** على السير مشراق كثير شحومها

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تجلى‏}‏ فعلاً ماضياً، فاعله ضمير النهار‏.‏ وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير‏:‏ تتجلى بتاءين، يعني الشمس‏.‏ وقرئ‏:‏ تجلى بضم التاء وسكون الجيم، أي الشمس‏.‏

‏{‏وما خلق‏}‏‏:‏ ما مصدرية أو بمعنى الذي، والظاهر عموم الذكر والأنثى‏.‏ وقيل‏:‏ من بني آدم فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته‏.‏ وقال ابن عباس والكلبي والحسن‏:‏ هما آدم وحواء‏.‏ والثابت في مصاحف الأمصار والمتواتر ‏{‏وما خلق الذكر والأنثى‏}‏، وما ثبت في الحديث من قراءة‏.‏ والذكر والأنثى‏:‏ نقل آخاد مخالف للسواد، فلا يعد قرآناً‏.‏ وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ‏:‏ وما خلق الذكر، بجر الذكر، وذكرها الزمخشري عن الكسائي، وقد خرجوه على البدل من على تقدير‏:‏ والذي خلق الله، وقد يخرج على توهم المصدر، أي وخلق الذكر والأنثى، كما قال الشاعر‏:‏

تطوف العفاة بأبوابه *** كما طاف بالبيعة الراهب

بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر، رأى كطواف الراهب بالبيعة‏.‏

‏{‏إن سعيكم‏}‏‏:‏ أي مساعيكم، ‏{‏لشتى‏}‏‏:‏ لمتفرقة مختلفة، ثم فصل هذا السعي‏.‏ ‏{‏فأما من أعطى‏}‏ الآية‏:‏ روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، كان يعتق ضعفة عبيده الذين أسلموا، وينفق في رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، وكان الكفار بضدّه‏.‏ قال عبد الله بن أبي أوفى‏:‏ نزلت هذه السورة في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأبي سفيان بن حرب‏.‏ وقال السدّي‏:‏ نزلت في أبي الدحداح الأنصاري بسبب ما كان يعلق في المسجد صدقة، وبسبب النخلة التي اشتراها من المنافق بحائط له، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ساوم المنافق في شرائها بنخلة في الجنة، وذلك بسبب الأيتام الذين كانت النخلة تشرف على بيتهم، فيسقط منها الشيء فتأخذه الأيتام، فمنعهم المنافق، فأبى عليه المنافق، فجاء أبو الدحداح وقال‏:‏ يا رسول الله أنا أشتري النخلة التي في الجنة بهذه، وحذف مفعولي أعطى، إذ المقصود الثناء على المعطى دون تعرض للمعطى والعطية‏.‏ وظاهره بذل المال في واجب ومندوب ومكرمة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أعطى حق الله‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ أنفق ماله في سبيل الله‏.‏ ‏{‏واتقى‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ اتقى الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ واتقى البخل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ واتقى ما نهي عنه‏.‏ ‏{‏وصدق بالحسنى‏}‏، صفة تأنيث الأحسن‏.‏ فقال ابن عباس وعكرمة وجماعة‏:‏ هي الحلف في الدنيا الوارد به وعد الله تعالى‏.‏ وقال مجاهد والحسن وجماعة‏:‏ الجنة‏.‏ وقال جماعة‏:‏ الثواب‏.‏ وقال السلمي وغيره‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

‏{‏فسنيسره لليسرى‏}‏‏:‏ أي نهيئة للحالة التي هي أيسر عليه وأهون وذلك في الدنيا والآخرة‏.‏ وقابل أعطى ببخل، واتقى باستغنى، لأنه زهد فيما عند الله بقوله‏:‏ ‏{‏واستغنى‏}‏، ‏{‏للعسرى‏}‏، وهي الحالة السيئة في الدنيا والآخرة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فسنخذله ونمنعه الألطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد كقوله‏:‏ ‏{‏يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء‏}‏ إذ سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر، وطريقة الشر العسرى لأن عاقبتها العسر، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار، أي فسنهديهما في الآخرة للطريقين‏.‏ انتهى، وفي أول كلامه دسيسة الاعتزال‏.‏ وجاء ‏{‏فسنيسره للعسرى‏}‏ على سبيل المقابلة لقوله‏:‏ ‏{‏فسنيسره لليسرى‏}‏، والعسرى لا تيسير فيها، وقد يراد بالتيسير التهيئة، وذلك يكون في اليسرى والعسرى‏.‏ ‏{‏وما يغني‏}‏‏:‏ يجوز أن تكون ما نافية واستفهامية، أي‏:‏ وأي شيء يغني عنه ماله‏؟‏ ‏{‏إذا تردى‏}‏‏:‏ تفعل من الرّدى، أي هلك، قاله مجاهد، وقال قتادة وأبو صالح‏:‏ تردى في جهنم‏:‏ أي سقط من حافاتها‏.‏ وقال قوم‏:‏ تردى بأكفانه، من الردى، وقال مالك بن الذئب‏:‏

وخطا بأطراف الأسنة مضجعي *** ورداً على عينيّ فضل ردائيا

وقال آخر‏:‏

نصيبك مما تجمع الدهر كله *** رداآن تلوي فيهما وحنوط

‏{‏إن علينا للهدى‏}‏‏:‏ التعريف بالسبيل ومنحهم الإدراك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلَى الله قصد السبيل‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع‏.‏ ‏{‏وإن لنا للآخرة والأولى‏}‏‏:‏ أي ثواب الدارين، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ وقرأ ابن الزبير وزيد بن عليّ وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير‏:‏ تتلظى بتاءين، والبزي بتاء مشدّدة، والجمهور‏:‏ بتاء واحدة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين، فقيل‏:‏ ‏{‏الأشقى‏}‏، وجعل مختصاً بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏الأتقى‏}‏، وجعل مختصاً بالنجاة وكأن الجنة لم تخلق إلا له‏.‏ وقيل‏:‏ هما أبو جهل، أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه‏.‏ ‏{‏يتزكى‏}‏، من الزكاة‏:‏ أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً، لا يريد به رياء ولا سمعة، أو يتفعل من الزكاة، انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يتزكى‏}‏ مضارع تزكى‏.‏ وقرأ الحسن بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم‏:‏ بإدغام التاء في الزاي، ويتزكى في موضع الحال، فموضعه نصب‏.‏

وأجاز الزمخشري أن لا يكون له موضع من الإعراب لأنه جعله بدلاً من صلة الذي، وهو ‏{‏يؤتي‏}‏، قاله‏:‏ وهو إعراب متكلف، وجاء ‏{‏تجزى‏}‏ مبنياً للمفعول لكونه فاصلة، وكان أصله نجزيه إياها أو نجزيها إياه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إلا ابتغاء‏}‏ بنصب الهمزة، وهو استثناء منقطع لأنه ليس داخلاً في ‏{‏من نعمة‏}‏‏.‏ وقرأ ابن وثاب‏:‏ بالرفع على البدل في موضع نعمة لأنه رفع، وهي لغة تميم، وأنشد بالوجهين قول بشر بن أبي حازم‏:‏

أضحت خلاء قفاراً لا أنيس بها *** إلا الجآذر والظلمات تختلف

وقال الراجز في الرفع‏:‏

وبلدة ليس بها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس

وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ ‏{‏إلا ابتغاء‏}‏، مقصوراً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون ابتغاء وجه الله مفعولاً له على المعنى، لأن معنى الكلام لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمه، انتهى‏.‏ وهذا أخذه من قول الفراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ ونصب على تأويل ما أعطيك ابتغاء جزائك، بل ابتغاء وجه الله‏.‏ ‏{‏ولسوف يرضى‏}‏‏:‏ وعد بالثواب الذي يرضاه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يرضى‏}‏ بفتح الياء، وقرئ‏:‏ بضمها، أي يرضى فعله، يرضاه الله ويجازيه عليه‏.‏

سورة الضحى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ما ودعك‏}‏ بتشديد الدال؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة‏:‏ بخفها، أي ما تركك‏.‏ واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر، وعن اسم فاعلهما بتارك، وعن اسم مفعولهما بمتروك، وعن مصدرهما بالترك، وقد سمع ودع ووذر‏.‏ قال أبو الأسود‏:‏

ليت شعري عن خليلي ما الذي *** غاله في الحب حتى ودعه

وقال آخر‏:‏

وثم ودعنا آل عمرو وعامر *** فرائس أطراف المثقفة السمر

والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك‏.‏ ‏{‏وما قلى‏}‏‏:‏ ما أبغضك، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى، وطيئ تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصاراً في ‏{‏قلى‏}‏، وفي ‏{‏فآوى‏}‏ وفي ‏{‏فهدى‏}‏، وفي ‏{‏فأغنى‏}‏، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ أبطأ الوحي مرة على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، حتى شق ذلك عليه، فقالت أم جميل، امرأة أبي لهب‏:‏ يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك‏؟‏ فنزلت‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ إنما احتبس عنه جبريل عليه السلام لجرو كلب كان في بيته‏.‏

‏{‏وللآخرة خير لك من الأولى‏}‏‏:‏ يريد الدارين، قاله ابن إسحاق وغيره‏.‏ ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها، وعده تعالى بالنصر والظفر، قاله ابن عطية اهتمالاً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف اتصل قوله‏:‏ ‏{‏وللآخرة خير لك من الأولى‏}‏ بما قبله‏؟‏ قلت‏:‏ لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، ولا نعمة أجل منه، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته‏.‏ ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏، قال الجمهور‏:‏ ذلك في الآخرة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم‏.‏ وقيل‏:‏ في الدنيا بفتح مكة وغيره، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر، ولما ادخر له من الثواب‏.‏ واللام في ‏{‏وللآخرة‏}‏ لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، وكذا في ‏{‏ولسوف‏}‏ على إضمار مبتدأ، أي ولأنت سوف يعطيك‏.‏

ولما وعده هذا الموعود الجليل، ذكره بنعمه عليه في حال نشأته‏.‏ ‏{‏ألم يجدك‏}‏‏:‏ يعلمك، ‏{‏يتيماً‏}‏‏:‏ توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو جنين، أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثماني سنين، فكفله عمه أبو طالب فأحسن تربيته‏.‏

وقيل لجعفر الصادق‏:‏ لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه‏؟‏ فقال‏:‏ لئلا يكون عليه حق لمخلوق‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ومن يدع التفاسير أنه من قولهم درّة يتيمة، وأن المعنى‏:‏ ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك، انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فآوى‏}‏ رباعياً؛ وأبو الأشهب العقيلي‏:‏ فأوى ثلاثياً، بمعنى رحم‏.‏ تقول‏:‏ أويت لفلان‏:‏ أي رحمته، ومنه قول الشاعر‏:‏

أراني ولا كفران لله أنه *** لنفسي قد طالبت غير منيل

‏{‏ووجدك ضالاً‏}‏‏:‏ لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، ثم رده الله إلى جده عبد المطلب‏.‏ وقيل‏:‏ ضلاله من حليمة مرضعته‏.‏ وقيل‏:‏ ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، ولبعض المفسرين أقوال فيها بعض ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ولقد رأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور‏:‏ ‏{‏ووجدك‏}‏، أي وجد رهطك، ‏{‏ضالاً‏}‏، فهداه بك‏.‏ ثم أقول‏:‏ على حذف مضاف، نحو‏:‏ ‏{‏وسئل القرية‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عائلاً‏}‏‏:‏ أي فقيراً‏.‏ قال جرير‏:‏

الله نزل في الكتاب فريضة *** لابن السبيل وللفقير العائل

كرر لاختلاف اللفظ‏.‏ وقرأ اليماني‏:‏ عيّلاً، كسيّدٍ، بتشديد الياء المكسورة، ومنه قول أجيحة بن الحلاج‏:‏

وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل

عال‏:‏ افتقر، وأعال‏:‏ كثر عياله‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ‏{‏فأغنى‏}‏ رضاك بما أعطاك من الرزق‏.‏ وقيل‏:‏ أغناك بالقناعة والصبر‏.‏ وقيل‏:‏ بالكفاف‏.‏ ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث، وصاه بثلاث كأنها مقابلة لها‏.‏ ‏{‏فلا تقهر‏}‏، قال مجاهد‏:‏ لا تحتقره‏.‏ وقال ابن سلام‏:‏ لا تستزله‏.‏ وقال سفيان‏:‏ لا تظلمه بتضييع ماله‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لا تمنعه حقه، والقهر هو التسليط بما يؤذي‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تقهر‏}‏ بالقاف؛ وابن مسعود وإبراهيم التيمي‏:‏ بالكاف بدل القاف، وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور‏.‏ ‏{‏وأما السائل‏}‏‏:‏ ظاهره المستعطي، ‏{‏فلا تنهر‏}‏‏:‏ أي تزجره، لكن أعطه أو رده رداً جميلاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لا تغلظ عليه، وهذه في مقابلة ‏{‏ووجدك عائلاً فأغنى‏}‏؛ فالسائل، كما قلنا‏:‏ المستعطي، وقاله الفراء وجماعة‏.‏ وقال أبو الدرداء والحسن وغيرهما‏:‏ السائل هنا‏:‏ السائل عن العلم والدين، لا سائل المال، فيكون بإزاء ‏{‏ووجدك ضالاً فهدى‏}‏‏.‏

‏{‏وأما بنعمة ربك فحدّث‏}‏، قال مجاهد والكلبي‏:‏ معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ هي النبوة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي عموم في جميع النعم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ التحديث بالنعم‏:‏ شكرها وإشاعتها، يريد ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك، انتهى‏.‏ ويظهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة، أمره بثلاثة‏:‏ فذكر اليتيم أولاً وهي البداية، ثم ذكر السائل ثانياً وهو العائل، وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية، فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة، وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة، لأنه بعد اليتيم هو زمان التكليف، وهو عليه الصلاة والسلام معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله عز وجل في القول والفعل والعقيدة، فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتيم وحالة التكليف، وفي الآخر ترقى إلى الأشرف، فهما مقصدان في الخطاب‏.‏

سورة الشرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نشرح‏}‏ بجزم الحاء لدخول الجازم‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ بفتحها، وخرجه ابن عطية في كتابه على أنه ألم نشرحن، فأبدل من النون ألفاً، ثم حذفها تخفيفاً، فيكون مثل ما أنشده أبو زيد في نوادره من قول الراجز‏:‏

من أي يومي من الموت أفر *** أيوم لم يقدر أم يوم قدر

وقال الشاعر‏:‏

أضرب عنك الهموم طارقها *** ضربك بالسيف قونس الفرس

وقال‏:‏ قراءة مرذولة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقد ذكرها عن أبي جعفر المنصور، وقالوا‏:‏ لعله بين الحاء، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها، انتهى‏.‏ ولهذه القراءة تخريج أحسن من هذا كله، وهو أنه لغة لبعض العرب حكاها اللحياني في نوادره، وهي الجزم بلن والنصب بلم عكس المعروف عند الناس‏.‏ وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد، وهو القائم بثأر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما‏:‏

قد كان سمك الهدى ينهد قائمه *** حتى أتيح له المختار فانعمدا

في كل ما هم أمضى رأيه قدماً *** ولم يشاور في إقدامه أحدا

بنصب يشاور، وهذا محتمل للتخريجين، وهو أحسن مما تقدم‏.‏ ‏{‏ووضعنا عنك وزرك‏}‏‏:‏ كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك، كما يقول القائل‏:‏ رفعت عنك مشقة الزيارة، لمن لم يصدر منه زيارة، على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ أنقض الحمل ظهر الناقة، إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل، وسمعت نقيض المرجل‏:‏ أي صريره‏.‏ قال عباس بن مرداس‏:‏

وأنقض ظهري ما تطويت منهم *** وكنت عليهم مشفقاً متحننا

وقال جميل‏:‏

وحتى تداعت بالنقيض حباله *** وهمت بوأي زورة أن نحطها

والنقيض‏:‏ صوت الانقضاض والانفكاك‏.‏ ‏{‏ورفعنا لك ذكرك‏}‏‏:‏ هو أن قرنه بذكره تعالى في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب، وفي غير موضع من القرآن، وفي تسميته نبي الله ورسول الله، وذكره في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به‏.‏ وقال حسان‏:‏

أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله مشهور يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وتعديد هذه النعم عليه صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه تعالى كما أحسن إليك بهذه المراتب، فإنه يحسن إليك بظفرك على أعدائك وينصرك عليهم‏.‏ وكان الكفار أيضاً يعيرون المؤمنين بالفقر، فذكره هذه النعم وقوى رجاءه بقوله‏:‏ ‏{‏فإن مع العسر يسراً‏}‏‏:‏ أي مع الضيق فرجاً‏.‏ ثم كرر ذلك مبالغة في حصول اليسر‏.‏ ولما كان اليسر يعتقب العسر من غير تطاول أزمان، جعل كأنه معه، وفي ذلك تبشيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحصول اليسر عاجلاً‏.‏

والظاهر أن التكرار للتوكيد، كما قلنا‏.‏ وقيل‏:‏ تكرر اليسر باعتبار المحل، فيسر في الدنيا ويسر في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ مع كل عسر يسر، إن من حيث أن العسر معرف بالعهد، واليسر منكر، فالأول غير الثاني‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لن يغلب عسر يسرين» وضم سين العسر ويسراً فيهن ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى، وسكنهما الجمهور‏.‏

ولما عدد تعالى نعمه السابقة عليه صلى الله عليه وسلم، ووعده بتيسير ما عسره، أمره بأن يدأب في العبادة إذا فرغ من مثلها ولا يفتر‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ‏{‏فإذا فرغت‏}‏ من فرضك، ‏{‏فانصب‏}‏ في التنفل عبادة لربك‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ‏{‏فانصب‏}‏ في قيام الليل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قال ‏{‏فإذا فرغت‏}‏ من شغل دنياك، ‏{‏فانصب‏}‏ في عبادة ربك‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ ‏{‏فإذا فرغت‏}‏ من الصلاة، ‏{‏فانصب‏}‏ في الدعاء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏{‏فإذا فرغت‏}‏ من الجهاد، ‏{‏فانصب‏}‏ في العبادة‏.‏ ويعترض قوله هذا بأن الجهاد فرض بالمدينة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فرغت‏}‏ بفتح الراء؛ وأبو السمال‏:‏ بكسرها، وهي لغة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ليست بفصيحة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فانصب‏}‏ بسكون الباء خفيفة، وقوم‏:‏ بشدها مفتوحة من الأنصاب‏.‏ وقرأ آخرون من الإمامية‏:‏ فانصب بكسر الصاد بمعنى‏:‏ إذا فرغت من الرسالة فانصب خليفة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهي قراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم، انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فارغب‏}‏، أمر من رغب ثلاثياً‏:‏ أي اصرف وجه الرغبات إليه لا إلى سواه‏.‏ وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة‏:‏ فرغت، أمر من رغب بشد الغين‏.‏

سورة التين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أقسم تعالى بما أقسم به أنه خلقه مهيأ لقبول الحق، ثم نقله كما أراد إلى الحالة السافلة‏.‏ والظاهر أن التين والزيتون هما المشهوران بهذا الاسم، وفي الحديث‏:‏ «مدح التين وأنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس»، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وشجرة تخرج من طور سيناء‏}‏ قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والنخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي‏.‏ وقال كعب وعكرمة‏:‏ أقسم تعالى بمنابتهما، فإن التين ينبت كثيراً بدمشق، والزيتون بإيليا، فأقسم بالأرضين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هما جبلان بالشام، على أحدهما دمشق وعلى الآخر بيت المقدس، انتهى‏.‏ وفي شعر النابغة ذكر التين وشرح بأنه جبل مستطيل‏.‏ قال النابغة‏:‏

صهب الظلال أبين التين عن عرض *** يزجين غيماً قليلاً ماؤه شبها

وقيل‏:‏ هما مسجدان، واضطربوا في مواضعهما اضطراباً كثيراً ضربنا عن ذلك صفحاً‏.‏ ولم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام، وهو الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه‏.‏ ومعنى ‏{‏سينين‏}‏‏:‏ ذو الشجر‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ حسن مبارك‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سينين‏}‏؛ وابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء‏:‏ بفتح السين، وهي لغة بكر وتميم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء تحريك النون بحركات الإعراب، انتهى‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن‏:‏ سيناء بكسر السين والمد؛ وعمر أيضاً وزيد بن علي‏:‏ بفتحها والمد، وهو لفظ سرياني اختلفت بها لغات العرب‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ سينين‏:‏ شجر واحده سينينة‏.‏

‏{‏وهذا البلد الأمين‏}‏‏:‏ هو مكة، وأمين للمبالغة، أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين، وأمانته حفظه من دخله ولا ما فيه من طير وحيوان، أو من أمن الرجل بضم الميم أمانة فهو أمين، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه‏.‏ ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل‏.‏ كما وصف بالآمن في قوله‏:‏ ‏{‏حرماً آمناً‏}‏ بمعنى ذي أمن‏.‏ ومعنى القسم بهذه الأشياء إبانة شرفها وما ظهر فيها من الخير بسكنى الأنبياء والصالحين‏.‏ فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام ومولد عيسى ومنشأه، والطور هو المكان الذي نودي عليه موسى عليه السلام، ومكة مكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين‏.‏ ‏{‏في أحسن تقويم‏}‏، قال النخعي ومجاهد وقتادة‏:‏ حسن صورته وحواسه‏.‏ وقيل‏:‏ انتصاب قامته‏.‏ وقال أبو بكر بن طاهر‏:‏ عقله وإدراكه زيناه بالتمييز‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ شبابه وقوته، والأولى العموم في كل ما هو أحسن‏.‏ والإنسان هنا اسم جنس، وأحسن صفة لمحذوف، أي في تقويم أحسن‏.‏

‏{‏ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏، قال عكرمة والضحاك والنخعي‏:‏ بالهرم وذهول العقل وتغلب الكبر حتى يصير لا يعلم شيئاً‏.‏

أما المؤمن فمرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا منقطع، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا، بل في الجنس من يعتريه ذلك‏.‏ وقال الحسن ومجاهد وأبو العالية وابن زيد وقتادة أيضاً‏:‏ ‏{‏أسفل سافلين‏}‏ في النار على كفره، ثم استثنى استثناء متصلاً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ سافلين منكراً؛ وعبد الله‏:‏ السافلين معرفاً بالألف واللام‏.‏ وأخذ الزمخشري أقوال السلف وحسنها ببلاغته وانتفاء ألفاظه فقال‏:‏ في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه، ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية، إذ رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، يعني أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة، وهم أصحاب النار‏.‏ وأسفل من سفل من أهل الدركات‏.‏ أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل، حيث نكسناه في خلقه، فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشنن جلده وكان بضاً، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين، وتغير كل شيء فيه، فمشيه دلف، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف،‏.‏ انتهى، وفيه تكثير‏.‏ وعلى أن ذلك الرد هو إلى الهرم، فالمعنى‏:‏ ولكن الصالحين من الهرمي لهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له مثل ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة»، وفيه أيضاً‏:‏ «أن المؤمن إذا رد لأرذل العمر كتب له ما كان يعمل في قوته»، وذلك أجر غير ممنون وممنوع مقطوع، أي محسوب يمن به عليهم‏.‏ والخطاب في ‏{‏فما يكذبك‏}‏ للإنسان الكافر، قاله الجمهور، أي ما الذي يكذبك، أي يجعلك مكذباً بالدين تجعل لله أنداداً وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل‏؟‏ وقال قتادة والأخفش والفراء‏:‏ قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي توجب النظر فيها صحة ما قلت‏.‏ ‏{‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏}‏‏:‏ وعيد للكفار وإخبار بعدله تعالى‏.‏

سورة العلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏(‏1‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏(‏2‏)‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ‏(‏5‏)‏ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ‏(‏6‏)‏ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ‏(‏7‏)‏ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ‏(‏8‏)‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏(‏9‏)‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏(‏10‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏(‏11‏)‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏(‏12‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏(‏14‏)‏ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ‏(‏15‏)‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏(‏16‏)‏ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ‏(‏17‏)‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏(‏18‏)‏ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏اقرأ‏}‏ بهمزة ساكنة؛ والأعشى، عن أبي بكر، عن عاصم‏:‏ بحذفها، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول‏:‏ قرأ يقرا، كسعى يسعى‏.‏ فلما أمر منه قيل‏:‏ اقر بحذف الألف، كما تقول‏:‏ اسع، والظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة، ومفعول اقرأ محذوف، أي اقرأ ما يوحى إليك‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏باسم ربك‏}‏ هو المفعول وهو المأمور بقراءته، كما تقول‏:‏ اقرأ الحمد لله‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى اقرأ في أول كل سورة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ الباء بمعنى على، أي اقرأ على اسم الله، كما قالوا في قوله‏:‏ ‏{‏وقال اركبوا فيها بسم الله‏}‏ أي على اسم الله‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى اقرأ القرآن مبتدئاً باسم ربك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ محل باسم ربك النصب على الحال، أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك، قل بسم الله ثم اقرأ، انتهى‏.‏ وهذا قاله قتادة‏.‏ المعنى‏:‏ اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الباء صلة، والمعنى اذكر ربك‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ الاسم صلة، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه‏.‏ وجاء باسم ربك، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك‏.‏ وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس، أي ليس لك رب غيره‏.‏ ثم جاء بصفة الخالق، وهو المنشئ للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أرباً‏.‏ أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها، ولم يذكر متعلق الخلق أولاً، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق، فاقتصر أو حذف، إذ معناه خلق كل شيء‏.‏

ثم ذكر خلق الإنسان، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه، وهو أشرف‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أشرف ما على الأرض، وفيه دسيسة أن الملك أشرف‏.‏ وقال‏:‏ ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان، كما قال‏:‏ ‏{‏الرحمن علم القرآن خلق الإنسان‏}‏ فقيل‏:‏ الذي خلق مبهماً، ثم فسره بقوله‏:‏ خلق تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته، انتهى‏.‏ والإنسان هنا اسم جنس، والعلق جمع علقة، فلذلك جاء من علق، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به، ولم يذكر أصلهم آدم، لأنه ليس متقرراً عند الكفار فيسبق الفرع، وترك أصل الخلقة تقريباً لأفهامهم‏.‏

ثم جاء الأمر ثانياً تأنيساً له، كأنه قيل‏:‏ امض لما أمرت به، وربك ليس مثل هذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص‏.‏ والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى، ويحلم على الجاني، ويقبل التوبة، ويتجاوز عن السيئة‏.‏ وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال‏:‏ ‏{‏الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم‏}‏، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو‏.‏

وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به‏.‏ ولبعضهم في الأقلام‏:‏

ورواقم رقش كمثل أراقم *** قطف الخطا نيالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجد مسيرها *** إلا إذا لعبت بها بيض المدى

انتهى‏.‏ من كلام الزمخشري‏.‏ ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة لله تعالى‏:‏ الأكرم، والرشيد، وفخر السعداء، وسعيد السعداء، والشيخ الرشيد، فيا لها مخزية على من يدعوهم بها‏.‏ يجدون عقباها يوم عرض الأقوال والأفعال، ومفعولا علم محذوفان، إذ المقصود إسناد التعليم إلى الله تعالى‏.‏ وقدر بعضهم ‏{‏الذي علم‏}‏ الخط، ‏{‏بالقلم‏}‏‏:‏ وهي قراءة تعزى لابن الزبير، وهي عندي على سبيل التفسير، لا على أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف‏.‏ والظاهر أن المعلم كل من كتب بالقلم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إدريس، وقيل‏:‏ آدم لأنه أول من كتب‏.‏ والإنسان في قوله‏:‏ ‏{‏علم الإنسان‏}‏، الظاهر أنه اسم الجنس، عدد عليه اكتساب العلوم بعد الجهل بها‏.‏ وقيل‏:‏ الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏كلا إن الإنسان ليطغى‏}‏‏:‏ نزلت بعد مدة في أبي جهل، ناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة، ونهاه عن الصلاة في المسجد؛ فروي أنه قال‏:‏ لئن رأيت محمداً يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه‏.‏ فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه وانتهره وتوعده، فقال أبو جهل‏:‏ أيتوعدني محمد‏!‏ والله ما بالوادي أعظم نادياً مني‏.‏ ويروى أنه همّ أن يمنعه من الصلاة، فكف عنه‏.‏ ‏{‏كلا‏}‏‏:‏ ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه، ‏{‏إن الإنسان ليطغى‏}‏‏:‏ أي يجاوز الحد، ‏{‏أن رآه استغنى‏}‏‏:‏ الفاعل ضمير الإنسان، وضمير المفعول عائد عليه أيضاً، ورأى هنا من رؤية القلب، يجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول‏:‏ رأيتني صديقك، وفقد وعدم بخلاف غيرها، فلا يجوز‏:‏ زيد ضربه، وهما ضميرا زيد‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أن رآه‏}‏ بألف بعد الهمزة، وهي لام الفعل؛ وقيل‏:‏ بخلاف عنه بحذف الألف، وهي رواية ابن مجاهد عنه، قال‏:‏ وهو غلط لا يجوز، وينبغي أن لا يغلطه، بل يتطلب له وجهاً، وقد حذفت الألف في نحو من هذا، قال‏:‏

وصاني العجاج فيما وصني *** يريد‏:‏ وصاني، فحذف الألف، وهي لام الفعل، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم‏:‏ أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة، وهو حذف لا ينقاس؛ لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها‏.‏

‏{‏إن إلى ربك الرجعى‏}‏‏:‏ أي الرجوع، مصدر على وزن فعلى، الألف فيه للتأنيث، وفيه وعيد للطاغي المستغني، وتحقير لما هو فيه من حيث ما آله إلى البعث والحساب والجزاء على طغيانه‏.‏ ‏{‏أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى‏}‏‏:‏ تقدم أنه أبو جهل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولم يختلف أحد من المفسرين أن الناهي أبو جهل، وأن العبد المصلي وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى‏.‏ وفي الكشاف، وقال الحسن‏:‏ هو أمية بن خلف، كان ينهى سلمان عن الصلاة‏.‏ وقال التبريزي‏:‏ المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر‏.‏ قيل‏:‏ هي أول جماعة أقيمت في الإسلام، كان معه أبو بكر وعليّ وجماعة من السابقين، فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر، فقال له‏:‏ صل جناح ابن عمك وانصرف مسروراً، وأنشأ أبو طالب يقول‏:‏

إن علياً وجعفراً ثقتي *** عند ملم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا *** يخذله من يكون من حسبي

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمّي من بينهم وأبي

ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏ والخطاب في ‏{‏أرأيت‏}‏ الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا ‏{‏أرأيت‏}‏ الثاني، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏أرأيت‏}‏ خطاب للكافر التفت إلى الكافر فقال‏:‏ أرأيت يا كافر، إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله وأمراً بالتقوى، أتنهاه مع ذلك‏؟‏ والضمير في ‏{‏إن كان‏}‏، وفي ‏{‏إن كذب‏}‏ عائد على الناهي‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ومعناه أخبرني عن من ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله، وكان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدّين الصحيح، كما نقول نحن‏.‏

‏{‏ألم يعلم بأن الله يرى‏}‏، ويطلع على أحواله من هداة وضلالة، فيجازيه على حسب ذلك، وهذا وعيد، انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ الضمير في ‏{‏إن كان على الهدى‏}‏ عائد على المصلي، وقاله الفراء وغيره‏.‏ قال الفراء‏:‏ المعنى ‏{‏أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى‏}‏، وهو على الهدى وأمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر، أي فما أعجب هذا ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله‏؟‏ فهذا تقرير وتوبيخ، انتهى‏.‏ وقال‏:‏ من جعل الضمير في ‏{‏إن كان‏}‏ عائداً على المصلي، إنما ضم إلى فعل الصلاة الأمر بالتقوى، لأن أبا جهل كان يشق عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن‏:‏ الصلاة والدعاء إلى الله تعالى، ولأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يوجد إلا في أمرين‏:‏ إصلاح نفسه بفعل الصلاة، وإصلاح غيره بالأمر بالتقوى‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏ألم يعلم بأن الله يرى‏}‏‏:‏ إكمال التوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثلاثة يصلح مع كل واحد منها، يجاء بها في نسق‏.‏ ثم جاء بالوعيد الكافي بجميعها اختصاراً واقتضاباً، ومع كل تقرير تكلمة مقدرة تتسع العبارات فيها، وألم يعلم دال عليها مغن‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ ما متعلق ‏{‏أرأيت‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ ‏{‏الذي ينهى‏}‏ مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين‏.‏ فإن قلت‏:‏ فأين جواب الشرط‏؟‏ قلت‏:‏ هو محذوف تقديره‏:‏ ‏{‏إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى‏}‏، ‏{‏ألم يعلم بأن الله يرى‏}‏، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني‏.‏ فإن قلت‏:‏ فكيف صح أن يكون ‏{‏ألم يعلم‏}‏ جواباً للشرط‏؟‏ قلت‏:‏ كما صح في قولك‏:‏ إن أكرمتك أتكرمني‏؟‏ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه‏؟‏ فإن قلت‏:‏ فما ‏{‏أرأيت‏}‏ الثانية وتوسطها بين مفعولي ‏{‏أرأيت‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ هي زائدة مكررة للتوكيد، انتهى‏.‏

وقد تكلمنا على أحكام ‏{‏أرأيت‏}‏ بمعنى أخبرني في غير موضع منها التي في سورة الأنعام، وأشبعنا الكلام عليها في شرح التسهيل‏.‏ وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه، فمن ذلك أنه ادعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد، والموصول هو الآخر، وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية، كقوله‏:‏ ‏{‏أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى أعنده علم الغيب‏}‏ ‏{‏أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً أطلع الغيب‏}‏ ‏{‏أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه‏}‏ وهو كثير في القرآن، فتخرج هذه الآية على ذلك القانون، ويجعل مفعول ‏{‏أرأيت‏}‏ الأولى هو الموصول، وجاء بعده ‏{‏أرأيت‏}‏، وهي تطلب مفعولين، وأرأيت الثانية كذلك؛ فمفعول ‏{‏أرأيت‏}‏ الثانية والثالثة محذوف يعود على ‏{‏الذي ينهى‏}‏ فيهما، أو على ‏{‏عبداً‏}‏ في الثانية، وعلى ‏{‏الذي ينهى‏}‏ في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب، فنقول‏:‏ حذف المفعول الثاني لأرأيت، وهو جملة الاستفهام الدال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته عليه‏.‏ حذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه‏.‏ وحذفاً معاً لأرأيت الثانية لدلالة الأول على مفعولها الأول، ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر‏.‏ وهؤلاء الطوالب ليس طلبها على طريق التنازع، لأن الجمل لا يصح إضمارها، وإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع‏.‏ وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جواباً للشرط بغير فاء، فلا أعلم أحداً أجازه، بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلباً بوجه مّا، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر‏.‏

‏{‏كلا‏}‏‏:‏ ردع لأبي جهل ومن في طبقته عن نهي عباد الله عن عبادة الله‏.‏ ‏{‏لئن لم ينته‏}‏ عن ما هو فيه، وعيد شديد ‏{‏لنسفعاً‏}‏‏:‏ أي لنأخذن، ‏{‏بالناصية‏}‏‏:‏ وعبر بها عن جميع الشخص، أي سحباً إلى النار لقوله‏:‏ ‏{‏فيؤخذ بالنواصي والأقدام‏}‏ واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة، إذ علم أنها ناصية الناهي‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ بالنون الخفيفة، وكتبت بالألف باعتبار الوقف، إذ الوقف عليها بإبدالها ألفاً، وكثر ذلك حتى صارت روياً، فكتبت ألفاً كقوله‏:‏

ومهما تشأ منه فزارة تمنعا *** وقال آخر‏:‏

بحسبه الجاهل ما لم يعلما *** ومحبوب وهارون، كلاهما عن أبي عمرو‏:‏ بالنون الشديدة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من سفعته النار والشمس، إذا غيرت وجهه إلى حال شديد‏.‏ وقال التبريزي‏:‏ قيل‏:‏ أراد لنسودن وجهه من السفعة وهي السواد، وكفت من الوجه لأنها في مقدمة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ناصية *** خاطئة‏}‏، بجر الثلاثة على أن ناصية بدل نكرة من معرفة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ لأنها وصفت فاستقبلت بفائدة، انتهى‏.‏ وليس شرطاً في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين خلافاً لمن شرط ذلك من غيرهم، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضاً خلافاً لزاعمه‏.‏ وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي‏:‏ بنصب الثلاثة على الشتم؛ والكسائي في رواية‏:‏ برفعها، أي هي ناصبة كاذبة خاطئة، وصفها بالكذب والخطأ مجازاً، والحقيقة صاحبها، وذلك أحرى من أن يضاف فيقال‏:‏ ناصية كاذب خاطئ، لأنها هي المحدث عنها في قوله‏:‏ ‏{‏لنسفعاً بالناصية‏}‏‏.‏ ‏{‏فليدع ناديه‏}‏‏:‏ إشارة إلى قول أبي جهل‏:‏ وما بالوادي أكبر نادياً مني، والمراد أهل النادي‏.‏ وقال جرير‏:‏

لهم مجلس صهب السبال أذلة *** أي أهل مجلس، ولذلك وصف بقوله‏:‏ صهب السبال أذلة، وهو أمر تعجبي، أي لا يقدره الله على ذلك، لو دعا ناديه لأخذته الملائكة عياناً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سندع‏}‏ بالنون مبنياً للفاعل، وكتبت بغير واو لأنها تسقط في الوصل لالتقاء الساكنين‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ سيدعى مبنياً للمفعول الزبانيه رفع‏.‏ ‏{‏كلا‏}‏‏:‏ ردع لأبي جهل، ورد عليه في‏:‏ ‏{‏لا تطعه‏}‏‏:‏ أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه‏.‏ ‏{‏واسجد‏}‏‏:‏ أمر له بالسجود، والمعنى‏:‏ دم على صلاتك، وعبّر عن الصلاة بأفضل الأوصاف التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى، ‏{‏واقترب‏}‏‏:‏ وتقرّب إلى ربك‏.‏ وثبت في الصحيحين سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ وفي هذه السورة، وهي من العزائم عند علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان مالك يسجد فيها في خاصية نفسه‏.‏

سورة القدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‏(‏2‏)‏ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ‏(‏3‏)‏ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ‏(‏4‏)‏ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏، والضمير عائد على ما دل عليه المعنى، وهو ضمير القرآن‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة، ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة‏.‏ وقال الشعبي وغيره‏:‏ إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر‏.‏ وروي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها‏.‏ ولما كانت السورة من القرآن، جاء الضمير للقرآن تفخيماً وتحسيناً، فليست ليلة القدر ظرفاً للنزول، بل على نحو قول عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن‏.‏ وقول عائشة‏:‏ لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل فيّ قرآن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلى مختصاً به، ومن مجيئه بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه‏.‏ انتهى، وفيه بعض تلخيص‏.‏ وسميت ليلة القدر، لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما‏.‏ وقال الزهري‏:‏ معناه ليلة القدر العظيم والشرف، وعظم الشأن من قولك‏:‏ رجل له قدر‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن له قبل، وترده عظيماً عند الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر وخطر‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، لأمة ذات قدر‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه ينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين‏.‏ وقال الخليل‏:‏ لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، كقوله‏:‏ ‏{‏ومن قدر عليه رزقه‏}‏ أي ضيق‏.‏ وقد اختلف السلف والخلف في تعيين وقتها اختلافاً متعارضاً جداً، وبعضهم قال‏:‏ رفعت، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع، وأن العشر الأخير تكون فيه، وأنها في أوتاره، كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة» وفي الصحيح‏:‏ «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»‏.‏ ‏{‏وما أدراك ما ليلة القدر‏}‏‏:‏ تفخيم لشأنها، أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها، ثم بين له ذلك‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ ما كان في القرآن ‏{‏وما أدراك‏}‏، فقد أعلمه، وما قال‏:‏ وما يدريك، فإنه لم يعلمه‏.‏ قيل‏:‏ وأخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها‏.‏ والظاهر أن ‏{‏ألف شهر‏}‏ يراد به حقيقة العدد، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام‏.‏ والحسن‏:‏ في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور، والمراد‏:‏ ‏{‏خير من ألف شهر‏}‏ عار من ليلة القدر، وعلى هذا أكثر المفسرين‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏خير من ألف شهر‏}‏‏:‏ رمضان لا يكون فيها ليلة القدر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى خير من الدهر كله، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يود أحدهم لو يعمر ألف سنة‏}‏ يعني جميع الدهر‏.‏ وعوتب الحسن بن عليّ على تسليمه الأمر لمعاوية فقال‏:‏ إن الله تعالى أرى في المنام نبيه صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على مقبرة نزو القردة، فاهتم لذلك، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وهي خير من مدة ملوك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدر من الزمان‏.‏ قال القاسم بن الفضل الجذامي‏:‏ فعددنا ذلك فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً‏.‏ وخرج قريباً من معناه الترمذي وقال‏:‏ حديث غريب، انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ آخر ملوكهم مروان الجعدي في آخر هذا القدر من الزمان، ولا يعارض هذا تملك بني أمية في جزيرة الأندلس مدة غير هذه، لأنهم كانوا في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، بحيث كان في إقليم العرب إذ ذاك ملوك كثيرون غيرهم‏.‏ وذكر أيضاً في تخصيص هذه المدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي‏.‏ وقيل‏:‏ إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة، إن أحيوها، كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة سنة، فصار ألف شهر، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما‏.‏

‏{‏تنزل الملائكة والروح‏}‏‏:‏ تقدم الخلاف في الروح، أهو جبريل، أم رحمة ينزل بها، أم ملك غيره، أم أشرف الملائكة، أم جند من غيرهم، أم حفظة على غيرهم من الملائكة‏؟‏ والتنزل إما إلى الأرض، وإما إلى سماء الدنيا‏.‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏‏:‏ متعلق بتنزل ‏{‏من كل أمر‏}‏‏:‏ متعلق بتنزل ومن للسبب، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل‏.‏ ‏{‏وسلام‏}‏‏:‏ مستأنف خبر للمبتدأ الذي هو هي، أي هي سلام إلى أول يومها، قاله أبو العالية ونافع المقري والفراء، وهذا على قول من قال‏:‏ إن تنزلهم التقدير‏:‏ الأمور لهم‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ من بمعنى الباء، أي بكل أمر؛ وابن عباس وعكرمة والكلبي‏:‏ من كل امرئ، أي من أجل كل إنسان‏.‏ وقيل‏:‏ يراد بكل امرئ الملائكة، أي من كل ملك تحية على المؤمنين العاملين بالعبادة‏.‏ وأنكر هذا القول أبو حاتم‏.‏ ‏{‏سلام هي‏}‏‏:‏ أي هي سلام، جعلها سلاماً لكثرة السلام فيها‏.‏

قيل‏:‏ لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة‏.‏ وقال منصور والشعبي‏:‏ سلام بمعنى التحية، أي تسلم الملائكة على المؤمنين‏.‏ ومن قال‏:‏ تنزلهم ليس لتقدير الأمور في تلك السنة، جعل الكلام تاماً عند قوله‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏من كل أمر‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏سلام هي‏}‏، أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه هي سلام‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يصيب أحداً فيها داء‏.‏ وقال صاحب اللوامح‏:‏ وقيل معناه هي سلام من كل أمر، وأمري سالمة أو مسلمة منه، ولا يجوز أن يكون سلام بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر‏.‏ كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول، انتهى‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ تم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏، ولفظة ‏{‏هي‏}‏ إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة، انتهى‏.‏ ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس، وإنما هذا من باب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مطلع‏}‏ بفتح اللام؛ وأبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو‏:‏ بخلاف عنه بكسرها، فقيل‏:‏ هما مصدران في لغة بني تميم‏.‏ وقيل‏:‏ المصدر بالفتح، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز‏.‏

سورة البينة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏1‏)‏ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ‏(‏2‏)‏ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ‏(‏7‏)‏ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

لما ذكر إنزال القرآن، وفي السورة التي قبلها ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏ ذكر هنا أن الكفار لم يكونوا منفكين عن ما هم عليه حتى جاءهم الرسول يتلو عليهم ما أنزل عليه من الصحف المطهرة التي أمر بقراءتها، وقسم الكافرين هنا إلى أهل كتاب وأهل إشراك‏.‏ وقرأ بعض القراء‏:‏ والمشركون رفعاً عطفاً على ‏{‏الذين كفروا‏}‏‏.‏ والجمهور‏:‏ بالجر عطفاً على ‏{‏أهل الكتاب‏}‏، وأهل الكتاب اليهود والنصارى، والمشركون عبدة الأوثان من العرب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بيثرب هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا بمكة وحولها والمدينة وحولها‏.‏

قال مجاهد وغيره‏:‏ لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة‏.‏ وقال الفراء وغيره‏:‏ لم يكونوا منفكين عن معرفة صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة، فتفرقوا عند ذلك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث‏:‏ لا ننفك مما نحن فيه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله ما كانوا يقولونه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أنه يكون المراد‏:‏ لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة ويتم على من آمن النعمة، فكأنه قال‏:‏ ما كانوا ليتركوا سدى، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى، انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ لم يكونوا منفكين عن حياتهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة‏.‏ والظاهر أن المعنى‏:‏ لم يكونوا منفكين، أي منفصلاً بعضهم من بعض، بل كان كل منهم مقرّاً الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه، هذا من اعتقاده في شريعته، وهذا من اعتقاده في أصنامه، والمعنى أنه اتصلت مودّتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة‏.‏

وقيل‏:‏ معنى منفكين‏:‏ هالكين، من قولهم‏:‏ انفك صلا المرأة عند الولادة، وأن ينفصل فلا يلتئم، والمعنى‏:‏ لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، انتهى‏.‏ ومنفكين اسم فاعل من انفك، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر‏.‏ وقال بعض النحاة‏:‏ هي الناقصة، ويقدر منفكين‏:‏ عارفين أمر محمد صلى الله عليه وسلم، أو نحو هذا، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصاراً ولا اختصاراً، نص على ذلك أصحابنا، ولهم علة في منع ذلك ذكروها في علم النحو، وقالوا في قوله‏:‏ حين ليس مجير، أي في الدنيا، فحذف الخبر أنه ضرورة، والبينة‏:‏ الحجة الجليلة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏رسول‏}‏ بالرفع بدلاً من ‏{‏البينة‏}‏، وأبيّ وعبد الله‏:‏ بالنصب حالاً من البينة‏.‏

‏{‏يتلو صحفاً‏}‏‏:‏ أي قراطيس، ‏{‏مطهرة‏}‏ من الباطل‏.‏ ‏{‏فيها كتب‏}‏‏:‏ مكتوبات، ‏{‏قيمة‏}‏‏:‏ مستقيمة ناطقة بالحق‏.‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب‏}‏‏:‏ أي من المشركين، وانفصل بعضهم من بعض فقال‏:‏ كل ما يدل عنده على صحة قوله‏.‏ ‏{‏إلا من بعد ما جاءتهم البينة‏}‏‏:‏ وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ أفرد أهل الكتاب، يعني في قوله‏:‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ بعد جمعهم والمشركين، قيل‏:‏ لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه، كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف‏.‏ والمراد بتفرقهم‏:‏ تفرقهم عن الحق، أو تفرقهم فرقاً، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر‏.‏ وقال‏:‏ ليس به ومنهم من عرف وعاند‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته، فلما جاء من العرب حسدوه، انتهى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مخلصين‏}‏ بكسر اللام، والدين منصوب به؛ والحسن‏:‏ بفتحها، أي يخلصون هم أنفسهم في نياتهم‏.‏ وانتصب ‏{‏الدين‏}‏، إما على المصدر من ‏{‏ليعبدوا‏}‏، أي ليدينوا الله بالعبادة الدين، وإما على إسقاط في، أي في الدين، والمعنى‏:‏ وما أمروا، أي في كتابيهما، بما أمروا به إلا ليعبدوا‏.‏ ‏{‏حنفاء‏}‏‏:‏ أي مستقيمي الطريقة‏.‏ وقال محمد بن الأشعب الطالقاني‏:‏ القيمة هنا‏:‏ الكتب التي جرى ذكرها، كأنه لما تقدم لفظ قيمة نكرة، كانت الألف واللام في القيمة للعهد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول‏}‏ وقرأ عبد الله‏:‏ وذلك الدين القيمة، فالهاء في هذه القراءة للمبالغة، أو أنث، على أن عنى بالدين الملة، كقوله‏:‏ ما هذه الصوت‏؟‏ يريد‏:‏ ما هذه الصيحة‏:‏ وذكر تعالى مقر الأشقياء وجزاء السعداء، والبرية‏:‏ جميع الخلق‏.‏ وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع‏:‏ البرئة بالهمز من برأ، بمعنى خلق‏.‏ والجمهور‏:‏ بشد الياء، فاحتمل أن يكون أصله الهمز، ثم سهل بالإبدال وأدغم، واحتمل أن يكون من البراء، وهو التراب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ، وهو اشتقاق غير مرضي، ويعني اشتقاق البرية بلا همز من البرا، وهو التراب، فلا يجعله خطأ، بل قراءة الهمز مشتقة من برأ، وغير الهمز من البرا؛ والقراءتان قد تختلفان في الاشتقاق نحو‏:‏ أو ننساها أو ننسها، فهو اشتقاق مرضي‏.‏ وحكم على الكفار من الفريقين بالخلود في النار وبكونهم شر البرية، وبدأ بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته، وجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به، وشر البرية ظاهره العموم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏شر البريّة‏}‏‏:‏ الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يبعد أن يكون في كفار الأمم هو شر من هؤلاء، كفرعون وعاقر ناقة صالح‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خير البرية‏}‏ مقابل ‏{‏شر البرية‏}‏؛ وحميد وعامر بن عبد الواحد‏:‏ خيار البرية جمع خير، كجيد وجياد‏.‏ وبقية السورة واضحة، وتقدم شرح ذلك إفراداً وتركيباً‏.‏

سورة الزلزلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ‏(‏1‏)‏ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ‏(‏3‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ‏(‏4‏)‏ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ‏(‏6‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‏(‏7‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

لما ذكر فيما قبلها كون الكفار يكونون في النار، وجزاء المؤمنين، فكأن قائلاً قال‏:‏ متى ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ والعامل فيها مضمر، يدل عليه مضمون الجمل الآتية تقديره‏:‏ تحشرون‏.‏ وقيل‏:‏ اذكر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ تحدث، انتهى‏.‏ وأضيف الزلزال إلى الأرض، إذ المعنى زلزالها الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها، ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل؛ والفرق بين أكرمت زيداً كرامة وكرامته واضح‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏زلزالها‏}‏ بكسر الزاي؛ والجحدري وعيسى‏:‏ بفتحها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو مصدر كالوسواس‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المكسور مصدر، والمفتوح اسم، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف، انتهى‏.‏ أما قوله‏:‏ والمفتوح اسم، فجعله غيره مصدراً جاء على فعلال بالفتح‏.‏ ثم قيل‏:‏ قد يجيء بمعنى اسم الفاعل، فتقول‏:‏ فضفاض في معنى مفضفض، وصلصال‏:‏ في معنى مصلصل‏.‏ وأما قوله‏:‏ وليس في الأبنية الخ؛ فقد وجد فيها فعلال بالفتح من غير المضاعف، قالوا‏:‏ ناقة بها خزعان بفتح الخاء وليس بمضاعف‏.‏

‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏‏:‏ جعل ما في بطنها أثقالاً‏.‏ وقال النقاش والزجاج والقاضي منذر بن سعيد‏:‏ أثقالها‏:‏ كنوزها وموتاها‏.‏ ورد بأن الكنوز إنما تخرج وقت الدجال، لا يوم القيامة، وقائل ذلك يقول‏:‏ هو الزلزال يكون في الدنيا، وهو من أشراط الساعة، وزلزال‏:‏ يوم القيامة، كقوله‏:‏ ‏{‏يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة‏}‏ فلا يرد عليه بذلك، إذ قد أخذ الزلزال عاماً باعتبار وقتيه‏.‏ ففي الأول أخرجت كنوزها، وفي الثاني أخرجت موتاها، وصدقت أنها زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها‏.‏ وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله «تلقى الأرض أفلاذ كبدها» أمثال الأسطوان من الذهب والفضة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ موتاها، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية، فهو زلزال يوم القيامة، لا الزلزال الذي هو من الأشراط‏.‏

‏{‏وقال الإنسان ما لها‏}‏‏:‏ يعني معنى التعجب لما يرى من الهول، والظاهر عموم الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة، والمؤمن، وإن كان مؤمناً بالبعث، فإنه استهول المرأى‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ليس الخبر كالعيان» قال الجمهور‏:‏ الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن‏.‏ ‏{‏يومئذ‏}‏‏:‏ أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث، ويومئذ بدل من إذا، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل‏.‏ ‏{‏تحدث أخبارها‏}‏‏:‏ الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكاً، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد، وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما‏.‏ ويشهد له ما جاء في الحديث‏:‏ «بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة»

، وما جاء في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية ثم قال‏:‏ «أتدرون ما أخبارها‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، فقال‏:‏ إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا، قال فهذه أخبارها» هذا حديث حسن صحيح غريب‏.‏

قال الطبري‏:‏ وقوم التحديث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت، ولم لفظت الأموات، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ تحدث بما أخرجت من أثقالها، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة‏.‏ وفي سنن ابن ماجه حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة‏:‏ يا رب هذا ما استودعتني‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك جواباً لهم عند سؤالهم‏.‏ وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين، والأول محذوف، أي تحدث الناس، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة‏.‏

‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏‏:‏ أي بسبب إيحاء الله، فالباء متعلقة بتحدث‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث أخبارها، كما تقول‏:‏ نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين‏.‏ انتهى، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏بأن ربك‏}‏ بدلاً من ‏{‏أخبارها‏}‏، كأنه قيل‏:‏ يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول‏:‏ حدثته كذا وحدثته بكذا، انتهى‏.‏

وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب‏.‏ فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب، ولا اخترت زيداً الرجال الكرام، بنصب الرجال وخفض الكرام‏.‏ وكذلك لا يجوز أن تقول‏:‏ استغفرت من الذنب العظيم، بجر الذنب ونصب العظيم، وكذلك في اخترت‏.‏ فلو كان حرف الجر زائداً، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو، تقول‏:‏ ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن من زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ‏.‏ ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر‏.‏ وعدى أوحى باللام لا بإلى، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل‏.‏ قال العجاج يصف الأرض‏:‏

أوحى لها القرار فاستقرت *** وشدها بالراسيات الثبت

فعداها باللام‏.‏ وقيل‏:‏ الموحى إليه محذوف، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال‏.‏

واللام في لها للسبب، أي من أجلها ومن حيث الأفعال فيها‏.‏ وإذا كان الإيحاء إليها، احتمل أن يكون وحي إلهام، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة‏.‏ ‏{‏يومئذ يصدر الناس‏}‏‏:‏ انتصب يومئذ بيصدر، والصدر يكون عن ورد‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هو كونهم في الأرض مدفونين، والصدر قيامهم للبعث، و‏{‏أشتاتاً‏}‏‏:‏ جمع شت، أي فرقاً مؤمن وكافر وعاص سائرون إلى العرض، ‏{‏ليروا أعمالهم‏}‏‏.‏ وقال النقاش‏:‏ الصدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار، ووردهم هو ورد المحشر‏.‏ فعلى الأول المعنى‏:‏ ليرى عمله ويقف عليه، وعلى قول النقاش‏:‏ ليرى جزاء عمله وهو الجنة والنار‏.‏ والظاهر تعلق ‏{‏ليروا‏}‏ بقوله ‏{‏يصدر‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ بأوحى لها وما بينهما اعتراض‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أشتاتاً‏:‏ متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الأيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أشتاتاً‏:‏ بيض الوجوه آمنين، وسود الوجوه فزعين، انتهى‏.‏ ويحتمل أن يكون أشتاتاً، أي كل واحد وحده، لا ناصر له ولا عاضد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جئتمونا فرادى‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ليروا‏}‏ بضم الياء؛ والحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية‏:‏ بفتحها، والظاهر تخصيص العامل، أي ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً‏}‏ من السعداء، لأن الكافر لا يرى خيراً في الآخرة، وتعميم ‏{‏ومن يعمل مثقال ذرة شراً‏}‏ من الفريقين، لأنه تقسم جاء بعد قوله‏:‏ ‏{‏يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قال هذه الأعمال في الآخرة، فيرى الخير كله من كان مؤمناً، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً لأن خيره قد عجل له في دنياه، والمؤمن تعجل له سيآته الصغائر في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها، وما عمل من شر أو خير رآه‏.‏ ونبه بقوله‏:‏ ‏{‏مثقال ذرة‏}‏ على أن ما فوق الذرة يراه قليلاً كان أو كثيراً، وهذا يسمى مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد، بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم، كقوله‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ والظاهر انتصاب خيراً وشراً على التمييز، لأن مثقال ذرة مقدار‏.‏ وقيل‏:‏ بدل من مثقال‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بفتح الياء فيهما، أي يرى جزاءه من ثواب وعقاب‏.‏ وقرأ الحسين بن علي وابن عباس وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي والكلبي وأبو حيوة وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه‏:‏ بضمها؛ وهشام وأبو بكر‏:‏ بسكون الهاء فيهما؛ وأبو عمرو‏:‏ بضمهما مشبعتين؛ وباقي السبعة‏:‏ بإشباع الأولى وسكون الثانية، والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه، وحكاها الكسائي أيضاً عن بني كلاب وبني عقيل، وهذه الرؤية رؤية بصر‏.‏ وقال النقاش‏:‏ ليست برؤية بصر، وإنما المعنى يصيبه ويناله‏.‏ وقرأ عكرمة‏:‏ يراه بالألف فيهما، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة، حكاها الأخفش؛ أو على توهم أن من موصولة لا شرطية، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر، توهم أن من شرطية لا موصولة، فجزم ويصبر عطفاً على التوهم، والله تعالى أعلم‏.‏

سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

والجمهور من أهل التفسير واللغة على أن العاديات هنا الخيل، تعدو في سبيل الله وتضبح حالة عدوها، وقال عنترة‏:‏

والخيل تكدح حين تضبح *** في حياض الموت ضبحا

وقال أبو عبد الله وعلي وإبراهيم والسدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير‏:‏ العاديات‏:‏ الإبل‏.‏ أقسم بها حين تعدو من عرفة ومن المزدلفة إذا دفع الحاج‏.‏ وبأهل غزوة بدر لم يكن فيها غير فرسين، فرس للزبير وفرس للمقداد، وبهذا حج عليّ رضي الله عنه ابن عباس حين تماريا، فرجع ابن عباس إلى قول علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وقالت صفية بنت عبد المطلب‏:‏

فلا والعاديات غداة جمع *** بأيديها إذا سطع الغبار

وانتصب ضبحاً على إضمار فعل، أي يضبحن ضبحاً؛ أو على أنه في موضع الحال، أي ضابحات؛ أو على المصدر على قول أبي عبيدة أن معناه العدو الشديد، فهو منصوب بالعاديات‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو بالعاديات كأنه قيل‏:‏ والضابحات، لأن الضبح يكون مع العدو، انتهى‏.‏ وإذا كان الضبح مع العدو، فلا يكون معنى ‏{‏والعاديات‏}‏ معنى الضابحات، فلا ينبغي أن يفسر به‏.‏ ‏{‏فالموريات قدحاً‏}‏، والإيراء‏:‏ إخراج النار، أي تقدح بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار لصك بعض الحجارة بعضاً‏.‏ ويقال‏:‏ قدح فأورى، وقدح فأصلد‏.‏ وتسمى تلك النار التي تقدحها الحوافر من الخيل أو الإبل‏:‏ نار الحباحب‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تقدّ السلو في المضاعف نسجه *** وتوقد بالصفاح نار الحباحب

وقيل‏:‏ ‏{‏فالموريات قدحاً‏}‏ مجاز، أو استعارة في الخيل تشعل الحرب، قاله قتادة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله‏}‏ ويقال‏:‏ حمي الوطيس إذا اشتدّ الحرب‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم‏:‏ الموريات‏:‏ الجماعة التي تمكر في الحرب، والعرب تقوله إذا أرادت المكر بالرجل‏:‏ والله لا يكون ذلك، ولأورين لك‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ جماعة الغزاة تكثر النار إرهاباً‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، وتظهر من الحجج والدلائل، وإظهار الحق وإبطال الباطل‏.‏ ‏{‏فالمغيرات صبحاً‏}‏‏:‏ أي تغير على العدو في الصبح، ومن قال هي الإبل، قال العرب تقول‏:‏ أغار إذا عدى جرياً، أي من مزدلفة إلى منى، أو في بدر؛ وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة، لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب‏.‏ والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار، ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر، وإن لم يكن فيها إلا فرسان، لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر، ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أن الإبل جوهد عليها في سبيل الله، بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل الله تعالى إلا على الخيل في شرق البلاد وغربها‏.‏

‏{‏فأثرن‏}‏‏:‏ معطوف على اسم الفاعل الذي هو صلة أل، لأنه في معنى الفعل، إذ تقديره‏:‏ فاللاتي عدون فأغرن فأثرن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، انتهى‏.‏ وتقول أصحابنا‏:‏ هو معطوف على الاسم، لأنه في معنى الفعل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فأثرن‏}‏، ‏{‏فوسطن‏}‏، بتخفيف الثاء والسين؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة‏:‏ بشدّهما؛ وعليّ وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى‏:‏ بشدّ السين‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ فأثرن بالتشديد، بمعنى‏:‏ فأظهرن به غباراً، لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن، وقلب الواو همزة‏.‏ وقرئ‏:‏ فوسطن بالتشديد للتعدية، والباء مزيدة للتوكيد، كقوله‏:‏ ‏{‏فأتوا به‏}‏ وهي مبالغة في وسطن، انتهى‏.‏ أما قوله‏:‏ أو قلب، فتمحل بارد‏.‏ وأما أن التشديد للتعدية، فقد نقلوا أن وسط مخففاً ومثقلاً بمعنى واحد، وأنهما لغتان، والضمير في به عائد في الأول على الصبح، أي هيجن في ذلك الوقت غباراً، وفي به الثاني على الصبح‏.‏ قيل‏:‏ أو على النقع، أي وسطن النقع الجمع، فيكون وسطه بمعنى توسطه‏.‏ وقال علي وعبد الله‏:‏ ‏{‏فوسطن به جمعاً‏}‏‏:‏ أي الإبل، وجمعاً اسم للمزدلفة، وليس بجمع من الناس‏.‏ وقال بشر بن أبي حازم‏:‏

فوسطن جمعهم وأفلت حاجب *** تحت العجاجة في الغبار الأقتم

وقيل‏:‏ الضمير في به معاً يعود على العدو الدال عليه ‏{‏والعاديات‏}‏ أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على المكان الذي يقتضيه المعنى، وإن لم يجر له ذكر، لدلالة والعاديات وما بعدها عليه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالنقع هنا الصياح، والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات، وليست أل فيه للعهد، والمقسم عليه‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «الكنود يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده» وقال ابن عباس والحسن‏:‏ هو الجحود لنعمة الله تعالى‏.‏ وعن الحسن أيضاً‏:‏ هو اللائم لربه، يعد السيئات وينسى الحسنات‏.‏ وقال الفضيل‏:‏ هو الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة، ويعامل الله على عقد عوض‏.‏ وقال عطاء‏:‏ هو الذي لا يغطى في النائبات مع قومه‏.‏ وقيل‏:‏ البخيل‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ أرض كنود‏:‏ لا تنبت شيئاً‏.‏ والظاهر عود الضمير في ‏{‏وإنه‏}‏ على ذلك ‏{‏لشهيد‏}‏، أي يشهد على كنوده، ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره، وقاله الحسن ومحمد بن كعب‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ هو عائد على الله تعالى، أي وربه شاهد عليه، وهو على سبيل الوعيد‏.‏ وقال التبريزي‏:‏ هو عائد على الله تعالى، وربه شاهد عليه هو الأصح، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين، ويكون ذلك كالوعيد والزجر عن المعاصي، انتهى‏.‏ ولا يترجح بالقرب إلا إذا تساويا من حيث المعنى‏.‏ والإنسان هنا هو المحدث عنه والمسند إليه الكنود‏.‏ وأيضاً فتناسق الضمائر لواحد مع صحة المعنى أولى من جعلهما لمختلفين، ولا سيما إذا توسط الضمير بين ضميرين عائدين على واحد‏.‏

‏{‏وإنه‏}‏‏:‏ أي وإن الإنسان، ‏{‏لحب الخير‏}‏‏:‏ أي المال، ‏{‏لشديد‏}‏‏:‏ أي قوي في حبه‏.‏ وقيل‏:‏ لبخيل بالمال ضابط له، ويقال للبخيل‏:‏ شديد ومتشدد‏.‏ وقال طرفة‏:‏

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي *** عقيلة مال الفاحش المتشدد

وقال قتادة‏:‏ الخير من حيث وقع في القرآن هو المال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عند الملوك ونحوه، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك‏.‏ فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفور‏.‏ وقال الفراء‏:‏ نظم الآية أن يقال‏:‏ وإنه لشديد الحب للخير‏.‏ فلما تقدم الحب قال لشديد، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره، ولرءوس الآي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في يوم عاصف‏}‏ والعصوف‏:‏ للريح لا للأيام، كأنه قال‏:‏ في يوم عاصف الريح، انتهى‏.‏ وقال غيره ما معناه‏:‏ لأنه ليس أصله ذلك التركيب، بل اللام في ‏{‏لحب‏}‏ لام العلة، أي وإنه لأجل حب المال لبخيل؛ أو وإنه لحب المال وإيثاره قوي مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف متقاعس‏.‏ تقول‏:‏ هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقاً له ضابطاً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو أراد‏:‏ وإنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنه شديد منقبض‏.‏

‏{‏أفلا يعلم‏}‏‏:‏ توقيف إلى ما يؤول إليه الإنسان، ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف، أي أفلا يعلم مآ له‏؟‏ ‏{‏إذا بعثر‏}‏، وقال الحوفي‏:‏ إذا ظرف مضاف إلى بعثر والعامل فيه يعلم‏.‏ انتهى، وليس بمتضح لأن المعنى‏:‏ أفلا يعلم الآن‏؟‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بعثر بالعين مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ عبد الله‏:‏ بالحاء‏.‏ وقرأ الأسود بن زيد‏:‏ بحث‏.‏ وقرأ نضر بن عاصم‏:‏ بحثر على بنائه للفاعل‏.‏ وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي سعدان‏:‏ وحصل مبنياً للفاعل؛ والجمهور‏:‏ مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ ابن يعمر أيضاً ونصر بن عاصم أيضاً‏:‏ وحصل مبنياً للفاعل خفيف الصاد، والمعنى جمع ما في المصحف، أي أظهر محصلاً مجموعاً‏.‏ وقيل‏:‏ ميز وكشف ليقع الجزاء عليه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ ‏{‏لخبير‏}‏ باللام‏:‏ هو استئناف إخبار، والعامل في ‏{‏بهم‏}‏، وفي ‏{‏يومئذ لخبير‏}‏، وهو تعالى خبير دائماً لكنه ضمن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم‏.‏ وقرأ أبو السمال والحجاج‏:‏ بفتح الهمزة وإسقاط اللام‏.‏ ويظهر في هذه القراءة تسلط يعلم على إن، لكنه لا يمكن إعمال خبير في إذا لكونه في صلة أن المصدرية، لكنه لا يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام، فإنه قال‏:‏ يجزيهم إذا بعثر، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يعلم معلقه عن العمل في قراءة الجمهور، وسدت مسد المعمول في إن، وفي خبرها اللام ظاهر، إذ هي في موضع نصب بيعلم‏.‏ وإذا العامل فيها من معنى مضمون الجملة تقديره‏:‏ كما قلنا يجزيهم إذا بعثر‏.‏