فصل: تفسير الآيات رقم (142- 147)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 147‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏142‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏143‏)‏ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏144‏)‏ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏145‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏146‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

القبلة‏:‏ الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة‏.‏ وقال قطرب‏:‏ يقولون في كلامهم ليس له قبلة، أي جهة يأوي إليها‏.‏ وقال غيره‏:‏ إذا تقابل رجلان، فكل واحد منهما قبلة الآخر‏.‏ وجاءت القبلة، وإن أريد بها الجهة، على وزن الهيئات، كالقعدة والجلسة‏.‏ الوسط‏:‏ اسم لما بين الطرفين وصف به، فأطلق على الخيار من الشيء، لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، ولكونه اسماً كان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد‏.‏ وقال حبيب‏:‏ كانت هي الوسط المحميّ، فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً‏.‏ ووسط الوادي‏:‏ خير موضع فيه، وأكثره كلأً وماء‏.‏ ويقال‏:‏ فلان من أوسط قومه، وأنه لواسطة قومه، ووسط قومه‏:‏ أي من خيارهم، وأهل الحسب فيهم‏.‏ وقال زهير‏:‏

وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وقد وسط سطة ووساطة، وقال‏:‏

وكن من الناس جميعاً وسطاً *** وأما وسط، بسكون السين، فهو طرف المكان، وله أحكام مذكورة في النحو‏.‏ أضاع الرجل الشيء‏:‏ أهمله ولم يحفظه، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعاً، وضاع المسك يضوع‏:‏ فاح‏.‏ الانقلاب‏:‏ الانصراف والارتجاع، وهو للمطاوعة، قلبته فانقلب‏.‏ عقب الرجل‏:‏ معروف، والعقب‏:‏ النسل، ويقال‏:‏ عقب، بسكون القاف‏.‏ الرأفة والرحمة‏:‏ متقاربان في المعنى‏.‏ وقيل‏:‏ الرأفة أشد الرحمة، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول، كضروب، وجاء على فعل، كحذر، وجاء على فعل، كندس، وجاء على فعل، كصعب‏.‏ التقلب‏:‏ التردّد، وهو للمطاوعة، قلبته فتقلب‏.‏ الشطر‏:‏ النصف، والجزء من الشيء والجهة، قال الشاعر‏:‏

ألا من مبلغ عني رسولاً *** وما تغني الرسالة شطر عمرو

أي نحوه، وقال الشاعر‏:‏

أقول لأمّ زنباع أقيمي *** صدور العيس شطر بني تميم

وقال‏:‏

وقد أظلكم من شطر ثغركم *** هول له ظلم يغشاكم قطعا

وقال ابن أحمر‏:‏

تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة *** قد كارب العقد من إيقاده الحقبا

وقال آخر‏:‏

وأظعن بالقوم شطر الملوك *** أي نحوهم، وقال‏:‏

إن العشير بها داء مخامرها *** وشطرها نظر العينين مسجور

ويقال‏:‏ شطر عنه‏:‏ بعد، وشطر إليه‏:‏ أقبل، والشاطر من الشباب‏:‏ البعيد من الجيران، الغائب عن منزله‏.‏ يقال‏:‏ شطر شطوراً، والشطير‏:‏ البعيد، منزل شطير‏:‏ أي بعيد‏.‏ الحرام والحرم والحرم‏:‏ الممتنع، وقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وهو محرم عليكم إخراجهم‏}‏ الامتراء‏:‏ افتعال من المرية، وهي الشك‏.‏ امترى في الشيء‏:‏ شك فيه، ومنه المراء‏.‏ ماريته أي جادلته وشاككته فيما يدعيه‏.‏ وافتعل‏:‏ بمعنى تفاعل‏.‏ تقول‏:‏ تمارينا وامترينا فيه، كقولك‏:‏ تحاورنا واحتورنا‏.‏ وجهة، قال قوم، منهم المازني والمبرد والفارسي‏:‏ إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلاً، إذ هو اسم غير مصدر‏.‏

قال سيبويه‏:‏ ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت عدة‏.‏ وذهب قوم، منهم المازني، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه‏.‏ قال، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر، وقد أثبتوا فقالوا‏:‏ وجهة في الجهة، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذاً، منبهة على الأصل المتروك في المصادر‏.‏ والذي سوّغ عندي إقرار الواو، وإن كان مصدراً، أنه مصدر ليس بجار على فعله، إذ لا يحفظ وجه يجه، فيكون المصدر جهة‏.‏ قالوا‏:‏ وعد يعد عدة، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر‏.‏ ولما فقد يجه، ولم يسمع، لم يحذف من وجهة، وإن كان مصدراً، لأنه ليس مصدراً ليجه، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد، لأن الفعل منه‏:‏ توجه واتجه‏.‏ فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول‏.‏

الاستباق‏:‏ افتعال من السبق، وهو الوصول إلى الشيء أولاً، ويكون افتعل منه، إما لموافقة المجرد، فيكون معناه ومعنى سبق واحداً، أو لموافقة تفاعل، فيكون استبق وتسابق بمعنى واحد‏.‏ الخيرات‏:‏ جمع خيرة، ويحتمل أن يكون بناء على فعلة، أو بناء على فيعلة، فحذف منه، كالميتة واللينة‏.‏ وقد تقدّم القول في هذا الحذف، قالوا‏:‏ رجل خير، وامرأة خيرة، كما قالوا‏:‏ رجل شر، وامرأة شرّة، ولا يكونان إذ ذاك أفعل التفضيل‏.‏ الجوع‏:‏ القحط، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها‏:‏ الغرث‏.‏ يقال‏:‏ غرث يغرث غرثاً، فهو غرث وغرثان، قال‏:‏

مغرّثة زرقاً كأن عيونها *** من الذمر والإيحاء نوّار عضرس

وقد استعمل المحدثون في الغرث‏:‏ الجوع اتساعاً‏.‏

‏{‏سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏}‏‏:‏ سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري، عن البراء بن عازب قال‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ الآية‏.‏ فقال‏:‏ السفهاء من الناس، وهم اليهود، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لله المشرق والمغرب‏}‏ الآية‏.‏ ومناسبة هذه الآية لما قبلها‏:‏ أن اليهود والنصارى قالوا‏:‏ إن إبراهيم، ومن ذكر معه، كانوا يهوداً ونصارى‏.‏ ذكروا ذلك طعناً في الإسلام، لأن النسخ عند اليهود باطل، فقالوا‏:‏ الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه، فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل لله المشرق والمغرب‏}‏ الآية، فبين ما كان هداية، وما كان سفهاً‏.‏ وسيقول، ظاهر في الاستقبال، وأنه إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، أنه يصدر منهم هذا القول في المستقبل، وذلك قبل أن يؤمروا باستقبال الكعبة، وتكون هذه الآية متقدمة في النزول على الآية المتضمنة الأمر باستقبال الكعبة، فتكون من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ليكون ذلك معجزاً، إذ هو إخبار بالغيب‏.‏

ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعد له، فيكون أقل تأثيراً منه إذا فاجأ، ولم يتقدم به علم، وليكون الجواب مستعداً لمنكر ذلك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قل لله المشرق والمغرب‏}‏‏.‏ وإلى هذا القول ذهب الزمخشري وغيره‏.‏ وذهب قوم إلى أنها متقدمة في التلاوة، متأخرة في النزول، وأنه نزل قوله‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك‏}‏ الآية، ثم نزل‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏}‏‏.‏ نص على ذلك ابن عباس وغيره‏.‏ ويدل على هذا ويصححه حديث البراء المتقدم، الذي خرجه البخاري‏.‏ وإذا كان كذلك، فمعنى قوله‏:‏ سيقول، أنهم مستمرون على هذا القول، وإن كانوا قد قالوه، فحكمة الاستقبال أنهم، كما صدر عنهم هذا القول في الماضي، فهم أيضاً يقولونه في المستقبل‏.‏ وليس عندنا من وضع المستقبل موضع الماضي‏.‏ وإن معنى سيقول‏:‏ قال، كما زعم بعضهم، لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه‏.‏ ولو كان عارياً من السين، لقرب ذلك وكان يكون حكاية حال ماضية‏.‏ والسفهاء‏:‏ اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وابن جبير‏.‏ وأهل مكة قالوا‏:‏ اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، واختاره الزجاج‏.‏ أو المنافقون قالوا‏:‏ ذلك استهزاء بالمسلمين، ذكره السدي، عن ابن مسعود‏.‏ وقد جرى تسمية المنافقين بالسفهاء في قوله‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم السفهاء‏}‏ أو الطوائف الثلاث الذين تقدم ذكرهم من الناس‏.‏ قال ابن عطية وغيره‏:‏ وخص بقوله من الناس، لأن السفه أصله الخفة، يوصف به الجماد‏.‏ قالوا‏:‏ ثوب سفيه، أي خفيف النسج والهلهلة، ورمح سفيه‏:‏ أي خفيف سريع النفوذ‏.‏ ويوصف به الحيوانات غير الناس، فلو اقتصر، لاحتمل الناس وغيرهم، لأن القول ينسب إلى الناس حقيقة، وإلى غيرهم مجازاً، فارتفع المجاز بقوله‏:‏ ‏{‏من الناس ما ولاهم‏}‏، أي ما صرفهم، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين عن قبلتهم‏.‏ أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمناً طويلاً، فصحت الإضافة‏.‏

وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة‏.‏ هكذا ذكر بعض المفسرين، وليس ذلك إجماعاً، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة، وأنه كان يصلي إليها عندما فرضت الصلاة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم‏.‏ فلما توجه إلى بيت المقدس، قال أهل مكة، زارّين عليه وعائبين ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا على حذف مضاف، أي على استقبالها‏.‏ والاستعلاء هنا مجاز، وحكمته الهم لمواظبتهم على امتثال أمر الله في المحافظة على الصلوات‏.‏

صارت القبلة لهم كالشيء المستعلى عليه، الملازم دائماً‏.‏ وفي وصف القبلة بقوله‏:‏ ‏{‏التي كانوا عليها‏}‏، ما يدل على تمكن استقبالها، وديمومتهم على ذلك‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ قبلتهم وكانوا، ضمير المؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون الضمير عائداً على السفهاء، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود، وهي إلى المغرب، وقبلة النصارى، وهي إلى المشرق، والعرب لم يكن لهم صلاة، فيتوجهون إلى شيء من الجهات‏.‏ فلما توجه نحو الكعبة، استنكروا ذلك فقالوا‏:‏ كيف يتوجه إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين‏؟‏ واختلفوا في استقبال بيت المقدس، أكان بوحي متلوّ‏؟‏ أو بأمر من الله غير متلو‏؟‏ أو بتخيير الله رسوله في النواحي‏؟‏ فاختار بيت المقدس، قاله الربيع؛ أو باجتهاده بغير وحي، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية‏.‏ أقوال‏:‏ الأول‏:‏ عن ابن عباس، روي عنه أنه قال‏:‏ أول ما نسخ من القرآن القبلة‏:‏ وكذلك اختلفوا في المدة التي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إلى بيت المقدس، فقيل‏:‏ ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً‏.‏ وقيل‏:‏ تسعة، أو عشرة أشهر‏.‏ وقيل‏:‏ ثلاثة عشر شهراً‏.‏ وقيل‏:‏ من وقت فرض الخمس وائتمامه بجبريل، إثر الإسراء، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، ثم هاجر في ربيع الأول، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس، إلى رجب من سنة اثنتين‏.‏ وقيل‏:‏ إلى جمادى‏.‏ وقيل‏:‏ إلى نصف شعبان‏.‏ وروي أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الظهر، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة، وقد استدل بهذه الآية على جواز نسخ السنة بالقرآن، إذ صلاته إلى بيت المقدس ليس فيها قرآن، واستدل بها أيضاً على بطلان قول من يزعم أنه النسخ بداء‏.‏

‏{‏قل لله المشرق والمغرب‏}‏‏:‏ الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تعليم له صلى الله عليه وسلم كيف يبطل مقالتهم، ورد عليهم إنكارهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الجهات كلها لله تعالى، يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها، وأن تجعل قبلة‏.‏ وقد تقدم الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏لله المشرق والمغرب‏}‏، فأغنى عن الإعادة هنا‏.‏ وقد شرح المشرق ببيت المقدس، والمغرب بالكعبة، لأن الكعبة غربي بيت المقدس، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها‏.‏ ‏{‏يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏:‏ أي من يشاء هدايته‏.‏ وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ فأغنى عن إعادته‏:‏ وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه، وهنا عدى بإلى‏.‏ وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها، فقيل‏:‏ الصبح، وقيل‏:‏ الظهر، وقيل‏:‏ العصر‏.‏ وكذلك أكثروا الكلام في الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع، ولا قاد نحوها العقل، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا، على عادتنا في ذلك‏.‏

ومن طلب للوضعيات تعاليل، فأحرى بأن يقلّ صوابه ويكثر خطؤه‏.‏ وأما ما نص الشرع على حكمته، أو أشار، أو قاد إليه النظر الصحيح، فهو الذي لا معدل عنه، ولا استفادة إلا منه‏.‏ وقد فسر قوله‏:‏ ‏{‏صراط مستقيم‏}‏ بأنه القبلة التي هي الكعبة‏.‏ والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه، فالكعبة من بعض مشروعاته‏.‏

‏{‏وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً‏}‏‏:‏ الكاف‏:‏ للتشبيه، وذلك‏:‏ اسم إشارة، والكاف في موضع نصب، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف، وإما لكونه حالاً‏.‏ والمعنى‏:‏ وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك، لكن تقدم لفظ يهدي، وهو دال على المصدر، وهو الهدى، وتبين أن معنى ‏{‏يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏:‏ يجعله على صراط مستقيم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم‏}‏ قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم، إذ ذلك الجعل هو الهداية، فكذلك معنى الهدى هنا هو ذلك الجعل‏.‏ وتبين أيضاً من قوله‏:‏ ‏{‏قل لله المشرق والمغرب‏}‏ إلى آخره، أن الله جعل قبلتهم خيراً من قبلة اليهود والنصارى، أو وسطاً‏.‏ فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك‏.‏ فقيل‏:‏ المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي، أي جعلناكم أمة خياراً مثل ما هديناكم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الحق‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بجعلهم على الصراط المستقيم، أي جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجعل الغريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية، لأنه قال‏:‏ ‏{‏يهدي من يشاء‏}‏، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل، جعلناكم خير الأمم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب، جعلناكم أمة وسطاً‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً، دون الأنبياء، وفوق الأمم، وأبعد من ذهب إلى أن ذلك إشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد اصطفيناه في الدنيا‏}‏ أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً‏.‏ ومعنى وسطاً‏:‏ عدولاً، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تظاهرت به عبارة المفسرين‏.‏ وإذا صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب المصير في تفسير الوسط إليه‏.‏ وقيل‏:‏ خيار، أو قيل‏:‏ متوسطين في الدين بين المفرط والمقصر، لم يتخذوا واحداً من الأنبياء إلهاً، كما فعلت النصارى، ولا قتلوه، كما فعلت اليهود‏.‏ واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا‏:‏ أخبر الله عن عدالة هذه الأمة وعن خيرتهم، فلو أقدموا على شيء، وجب أن يكون قولهم حجة‏.‏

‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏‏:‏ تقدم شرح الشهادة في قوله‏:‏ ‏{‏وادعوا شهداءكم‏}‏ وفي شهادتهم هنا أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره‏.‏ وقال في المنتخب‏:‏ وقد طعن القاضي في الحديث من وجوه، وذكروا وجوهاً ضعيفة، وأظنه عنى بالقاضي هنا القاضي عبد الجبار المعتزلي، لأن الطعن في الحديث الثابت الصحيح لا يناسب مذاهب أهل السنة‏.‏ وقيل‏:‏ الشهادة تكون في الدنيا‏.‏ واختلف قائلوا ذلك، فقيل‏:‏ المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا، فقال الرسول‏:‏ «وجبت»، يعني الجنة والنار، «أنتم شهداء الله في الأرض» ثبت ذلك في مسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الشهادة الاحتجاج، أي لتكونوا محتجين على الناس، حكاه الزّجاج‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتكون على بمعنى اللام، كقوله‏:‏ ‏{‏وما ذبح على النصب‏}‏ أي للنصب‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ليكون إجماعكم حجة، ويكون الرسول عليكم شهيداً، أي محتجاً بالتبليغ‏.‏ وقيل‏:‏ لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ شهداء على الناس في الدنيا، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار‏.‏ وأسباب هذه الشهادة، أي شهادة هذه العدول أربعة‏:‏ بمعاينة، كالشهادة على الزنا، وبخبر الصادق، كالشهادة على الشهادة؛ وبالاستفاضة، كالشهادة على الأنساب؛ وبالدلالة، كالشهادة على الأملاك، وكتعديل الشاهد وجرحه‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ الإشهاد أربعة‏:‏ الملائكة بإثبات أعمال العباد، والأنبياء، وأمة محمد، والجوارح‏.‏ انتهى‏.‏ ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة، سمي إدراك البصيرة‏:‏ مشاهدة وشهوداً، وسمي العارف‏:‏ شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلالة على الشيء‏:‏ شهادة عليه، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً‏.‏ وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات‏.‏ قالوا‏:‏ وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة، وهو مذهب أبي حنيفة، واستدل بقوله‏:‏ ‏{‏أمة وسطاً‏}‏، أي عدولاً خياراً‏.‏ وقال بقية العلماء‏:‏ العدالة وصف عارض لا يثبت إلا ببينة، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور، لتغير أحوال الناس، ولما غلب عليهم في هذا الوقت، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص‏.‏

‏{‏ويكون الرسول عليكم شهيداً‏}‏‏:‏ لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي شهادته أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه‏.‏ الثاني‏:‏ شهادته عليهم بإيمانهم‏.‏ الثالث‏:‏ يكون حجة عليهم‏.‏

الرابع‏:‏ تزكيته لهم وتعديله إياهم، قاله عطاء، قال‏:‏ هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين، والرسول شهيد معدل مزك لهم‏.‏ وروي في ذلك حديث‏.‏ وقد تقدم أيضاً ما روى البخاري في ذلك‏.‏ واللام في قوله‏:‏ لتكونوا هي، لام كي، أو لام الصيروة عن من يرى ذلك، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً، أو عدولاً ظاهراً‏.‏ وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً، فظاهر أيضاً، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية، أو بأي معنى فسرت شهادته، ففي ذلك الشرف التامّ لهم، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليه‏.‏ ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له، جيء بكلمة على، وتأخر حرف الجر في قوله‏:‏ على الناس، عما يتعلق به‏.‏ جاء ذلك على الأصل، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول‏.‏ وأما في قوله‏:‏ ‏{‏عليكم شهيداً‏}‏ فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله‏:‏ عليكم، فكان قوله‏:‏ شهيداً، تمام الجملة، ومقطعها دون عليكم‏.‏ وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم؛ وتأخير على‏:‏ لاختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم، فهو مبني على مذهبه‏:‏ أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص‏.‏ وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان‏.‏ وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطاً بكونهم شهداء، وتأخر التعليل بشهادة الرسول، لأنه كذلك يقع‏.‏ ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم، ثم يشهد الرسول عليهم، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ، يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمّته، فيزكيهم ويشهد بصدقهم‏؟‏ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس‏.‏ وأتى بلفظ الرسول، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمّته‏.‏ وأتى بجمع فعلاء، الذي هو جمع فعيل وبشهيد، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله‏:‏ شاهدين، أو إشهاداً، أو شاهداً‏.‏ وقد استدل بقوله‏:‏ ‏{‏ويكون الرسول عليكم شهيداً‏}‏ على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة، فإن أكثر المفسرين قالوا‏:‏ معنى شهيداً‏:‏ مزكياً لكم، قالوا‏:‏ وعليكم تكون بمعنى‏:‏ لكم‏.‏

‏{‏وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه‏}‏‏:‏ جعل هنا‏:‏ بمعنى صير، فيتعدى لمفعولين‏:‏ أحدهما القبلة، والآخر ‏{‏التي كنت عليها‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم صار يصلي إلى الكعبة‏.‏

وتكون القبلة‏:‏ هو المفعول الثاني، والتي كنت عليها‏:‏ هو المفعول الأول، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال‏.‏ فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني‏.‏ ألا ترى أنك تقول‏:‏ جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً‏؟‏ والمعنى هنا على هذا التقدير‏:‏ وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس، قبلتك الآن إلا لنعلم‏.‏ ووهم الزمخشري في ذلك، فزعم أن التي كنت عليها‏:‏ هو المفعول الثاني لجعل، قال‏:‏ التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل‏.‏ تريد‏:‏ وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة، تألفاً لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة، فيقول‏:‏ وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة، يعني‏:‏ وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً، انتهى ما ذكره‏.‏

وقد أوضحنا أن التي كنت عليها‏:‏ هو المفعول الأول‏.‏ وقيل‏:‏ هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة‏.‏ والمعنى‏:‏ وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم، فيكون ذلك على معنى‏:‏ أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ‏.‏ وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله‏:‏ التي كنت عليها، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين‏.‏ وقيل‏:‏ التي كنت عليها صفة للقبلة، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني، فقيل‏:‏ تقديره‏:‏ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك على حذف مضاف، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله‏:‏ لنعلم، كما تقول‏:‏ ضرب زيد للتأديب، أي كائن وموجود للتأديب، أي بسبب التأديب‏.‏ وعلى كون التي صفة، يحتمل أن يراد بالقبلة‏:‏ الكعبة، ويحتمل أن يراد بيت المقدس، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ القبلة في الآية‏:‏ الكعبة، وكنت بمعنى‏:‏ أنت، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏ بمعنى‏:‏ أنتم‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا من ابن عباس، إن صح تفسير معنى، لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد‏.‏ وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير، ما نقله النحويون، أن كان تكون بمعنى صار، ومن صار إلى شيء واتصف به، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه‏.‏ فإذا قلت‏:‏ صرت عالماً، صح أن تقول‏:‏ أنت عالم، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه‏.‏ فتفسير ابن عباس‏:‏ كنت بأنت، هو من هذا القبيل، فهو تفسير معنى، لا تفسير إعراب‏.‏

وكذلك من صار خير أمّة، صح أن يقال فيه‏:‏ أنتم خير أمّة‏.‏

‏{‏إلا لنعلم‏}‏‏:‏ استثناء مفرّغ من المفعول له، وفيه حصر السبب، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ لنعلم، ابتداء العلم، وليس المعنى على الظاهر، إذ يستحيل حدوث علم الله تعالى‏.‏ فأول على حذف مضاف، أي ليعلم رسولنا والمؤمنون، وأسند علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى لديه‏.‏ فيكون هذا من مجاز الحذف، أو على إطلاق العلم على معنى التمييز، لأن بالعلم يقع التمييز، أي لنميز التابع من الناكص، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يميز الخبيث من الطيب‏}‏ ويكون هذا من مجاز إطلاق السبب، ويراد به المسبب‏.‏ وحكي هذا التأويل عن ابن عباس، أو على أنه أراد ذكر علمه وقت موافقتهم الطاعة أو المعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب‏.‏ فليس المعنى لنحدث العلم، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجوداً، إذ الله قد علم في القدم من يتبع الرسول‏.‏ واستمر العلم حتى وقع حدوثهم، واستمرّ في حين الاتباع والانقلاب، واستمر بعد ذلك‏.‏ والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم، ويكون هذا قد كنى فيه بالعلم عن تعلق العلم، أي ليتعلق علمنا بذلك في حال وجوده‏.‏ أو على أنه أراد بالعلم التثبيت، أي لنثبت التابع، ويكون من إطلاق السبب، ويراد به المسبب، لأن من علم الله أنه متبع للرسول، فهو ثابت الاتباع‏.‏ أو على أنه أريد بالعلم الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيراً ما يقع التهديد في القرآن، وفي كلام العرب، بذكر العلم، كقولك‏:‏ زيد عصاك، والمعنى‏:‏ أنا أجازيه على ذلك، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي، التقدير‏:‏ لما علمنا، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف‏.‏ فهذه كلها تأويلات في قوله‏:‏ لنعلم، فراراً من حدوث العلم وتجدّده، إذ ذلك على الله مستحيل‏.‏ وكل ما وقع في القرآن، مما يدل على ذلك، أوّل بما يناسبه من هذه التأويلات‏.‏ ونعلم هنا متعدّ إلى واحد، وهو الموصول، فهو في موضع نصب، والفعل بعده صلته‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ نعلم هنا متعلقة، كما تقول‏:‏ علمت أزيد في الدر أم عمرو، حكاه الزمخشري‏.‏ وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء، ويتبع في موضع الجر، والجملة في موضع المفعول بنعلم‏.‏ وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم، لم يبق لقوله‏:‏ ‏{‏ممن ينقلب‏}‏، ما يتعلق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بقوله‏:‏ ‏{‏يتبع‏}‏، الذي هو خبر عن من الاستفهامية، لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما المعنى على أن يتعلق بنعلم، كقولك‏:‏ علمت من أحسن إليك ممن أساء‏.‏ وهذا يقوى أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن‏.‏

وقرأ الزهري‏:‏ ليعلم، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى، فحذف وبنى الفعل للمفعول، وعلم غير الله تعالى حادث، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث، وكان التقدير‏:‏ ليعلم الرسول والمؤمنون‏.‏ وأتى بلفظ الرسول، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏كنت عليها‏}‏، فكان يكون الكلام من يتبعك، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة‏.‏ وجاء الخطاب مكتنفاً بذكر الرسول مرّتين، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة‏.‏ ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة، أتى بلفظ الرسول، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض‏.‏ ولما كان التوجه إلى الكعبة توجهاً إلى المكان الذي ألفه الإنسان، وله إلى ذلك نزوع، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة، فقيل‏:‏ ‏{‏التي كنت عليها‏}‏، فهذه، والله أعلم، حكمة الالتفات هنا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ينقلب على عقبيه‏}‏ كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل‏.‏ والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه كان متلبساً بالإيمان، فلما حوّلت القبلة، ارتاب فعاد إلى الكفر، فهذا انقلاب معنوي، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏على عقبيه‏}‏ في موضع الحال، أي ناكصاً على عقبيه، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الحالة الأولى التي كان عليها، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه، ومشى أدراجه التي تقدّمت له، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلاً‏.‏ قالوا‏:‏ وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها‏.‏ فقيل‏:‏ بالأول، لأنه كان يصلي إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث أنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم‏.‏ وقال الأكثرون بالقول الثاني، قالوا‏:‏ لو كان محمد على يقين من أمره، لما تغير رأيه‏.‏ وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا‏:‏ مرة هنا ومرة هنا، وهذا أشبه، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة، وقد وصفها الله بالكبر في قوله‏:‏ ‏{‏وإن كانت لكبيرة‏}‏‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق‏:‏ على عقبيه، بسكون القاف وتسكين عين فعل، اسماً كان أو فعلاً، لغة تميمية، وقد تقدّم ذكر ذلك‏.‏

‏{‏وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله‏}‏‏:‏ اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏وما جعلنا القبلة‏}‏، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها، وهي بيت المقدس، قبل التحويل، قاله أبو العالية والأخفش‏.‏

وقيل‏:‏ يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس‏.‏ ومعنى كبيرة‏:‏ أي شاقة صعبة، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف للعادة، لأن من ألف شيئاً، ثم انتقل عنه، صعب عليه الانتقال، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه‏.‏ وإن هنا هي المخففة من الثقيلة، دخلت على الجملة الناسخة‏.‏ واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق، أم هي لام اجتلبت للفرق‏؟‏ في ذلك خلاف، هذا مذهب البصريين والكسائي والفراء وقطرب في إن التي يقول البصريون إنها مخففة من الثقيلة، خلاف مذكور في النحو‏.‏ وقراءة الجمهور‏:‏ لكبيرة بالنصب، على أن تكون خبر كانت‏.‏ وقرأ اليزيدي‏:‏ لكبيرة بالرفع، وخرج ذلك الزمخشري على زيادة كانت، التقدير‏:‏ وإن هي لكبيرة، وهذا ضعيف، لأن كان الزائدة لا عمل لها، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه، ولذلك استكن فيها‏.‏ وقد خالف أبو سعيد، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها، أي كان هو، أي الكون‏.‏ وقد ردّ ذلك في علم النحو‏.‏ وكذلك أيضاً نوزع من زعم أن كان زائدة في قوله‏:‏

وجيران لنا كانوا كرام *** لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون لكبيرة خبر مبتدأ محذوف، والتقدير‏:‏ لهي كبيرة‏.‏ ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير، تلك الجملة خبر لكانت، وهذا التوجيه ضعيف أيضاً، وهو توجيه شذوذ‏.‏ ‏{‏إلا على الذين هدى الله‏}‏، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف، إذ التقدير‏:‏ وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى الله، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ، لأنه لم يسبقه نفي أو شبهه، إنما سبقه إيجاب‏.‏ ومعنى هدى الله، أي هداهم لاتباع الرسول، أو عصمهم واهتدوا بهدايته، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان‏.‏ وهذه أقوال متقاربة، وفيه إسناد الهداية إلى الله، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من الله، لا من ذوات أنفسهم، فهو الذي وفقهم لهدايته‏.‏

‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ السائل أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور مع جماعة، وهذا مشكل، لأنه قد روي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة‏.‏

وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى بيت المقدس، وكذلك ذكره البخاري والترمذي، وقال ذلك ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه، وهي من شعبه العظيمة‏.‏ ويحتمل أن يقرّ الإيمان على مدلوله، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى بيت المقدس، وفي وقت التحويل‏.‏ وذكر الإيمان، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى بيت المقدس، لأنه هو العمدة، والذي تصح به الأعمال‏.‏ وقد كان لهم ثابتاً في حال توجههم إلى بيت المقدس وغيره، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم، فاندرج تحته متعلقاته التي لا تصح إلا به‏.‏ وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة، لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس، وأتى بلفظ الخطاب، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب، لأن المصلين إلى بيت المقدس لم يكونوا كلهم ماتوا‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ ليضيع، بفتح الضاد وتشديد الياء، وأضاع وضيع الهمزة، والتضعيف، كلاهما للنقل، إذ أصل الكلمة ضاع‏.‏ وقال في المنتخب‏:‏ لولا ذكر سبب نزول هذه الآية‏:‏ لما اتصل الكلام بعضه ببعض‏.‏ ووجه تقرير الإشكال، أن الذين لا يجوّزون النسخ إلا مع البداء يقولون‏:‏ إنه لما تغير الحكم، وجب أن يكون الحكم مفسدة، أو باطلاً، فوقع في قلوبهم، بناء على هذا السؤال، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة‏.‏ فأجاب الله تعالى عن هذا الإشكال، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة، ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم‏.‏ انتهى‏.‏

وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوّز البداء على الله، فكيف يليق ذلك بالصحابة‏؟‏ والجواب‏:‏ أنه لا يقع إلا من منافق، فأخبر عن جواب سؤال المنافق، أو جوِوب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل‏.‏ وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية، لما اتصل الكلام بعضه ببعض، ليس بصحيح، بل هو كلام متصل، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه‏}‏، كان ذلك تقسيماً للناس حالة الجعل إلى قسمين‏:‏ متبع للرسول، وناكص‏.‏ فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع، بل عمله وتصديقه، قبل أن تحول القبلة، وبعد أن تحوّل لا يضيعه الله، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف، فمن امتثلها، فهو لا يضيع أجره‏.‏ ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين، أخبر تعال أنه لا يضيعه، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود، لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود‏.‏

فقولك‏:‏ ما كان زيد ليقوم، أبلغ مما‏:‏ كان زيد يقوم، لأن في المثال الأول‏:‏ هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام، وفي الثاني‏:‏ هو نفي للقيام‏.‏ ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ‏.‏ وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن وكلام العرب‏.‏ وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب البصريين، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف، وأن اللام بعدها إن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف، وقد صرّح بذلك الخبر في قول بعضهم‏:‏

سموت ولم تكن أهلاً لتسمو *** ومذهب الكوفيين‏:‏ أن اللام هي الناصبة، وليست أن مضمرة بعده، وأن اللام بعدها للتأكيد، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان، فلا فرق بين‏:‏ ما كان زيد يقوم، وما كان زيد ليقوم، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام‏.‏ والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو‏.‏

‏{‏إن الله بالناس لرءوف رحيم‏}‏‏:‏ ختم هذه الآية بهذه الجملة ظاهر، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها، أي للطف رأفته وسعة رحمته، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم، أو لا يضيع إيمان من آمن، وهذا الأخير أظهر‏.‏ والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس، كما قال‏:‏ ‏{‏الله لطيف بعباده‏}‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏ ‏{‏وسعت كل شيء رحمة وعلماً‏}‏ ويحتمل العهد، فيكون المراد بالناس المؤمنين‏.‏ وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص‏:‏ لرؤوف، مهموزاً على وزن فعول حيث وقع، قال الشاعر‏:‏

نطيع رسولنا ونطيع رباً *** هو الرحمن كان بنا رؤوفاً

وقرأ باقي السبعة‏:‏ لرؤوف، مهموزاً على وزن ندس، قال الشاعر‏:‏

يرى للمسلمين عليه حقاً *** كحق الوالد الرؤوف الرحيم

وقال الوليد بن عقبة‏:‏

وشر الظالمين فلا تكنه *** يقابل عمه الرؤوفُ الرحيمُ

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع‏:‏ لروف، بغير همزٍ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله، ساكنة كانت أو متحركة‏.‏ ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغاً فيها من حيث لام الجحود، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغاً فيها، فبولغ فيها بأن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة‏.‏ وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة، وتقدّم المجرور اعتناء بالمرؤوف بهم‏.‏ وقال القشيري‏:‏ من نظر الأمر بعين التفرقة، كبر عليه أمر التحويل؛ ومن نظر بعين الحقيقة، ظهر لبصيرته وجه الصواب‏.‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏‏:‏ أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد، فالمختلفات من الأحوال له واحدة، فسواء غير، أو قرّر، أو أثبت، أو بدل، أو حقق، أو حوّل، فهم به له في جميع الأحوال‏.‏

قال قائلهم‏:‏

حيثما دارت الزجاجة درنا *** يحسب الجاهلون أنا جننا

‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏‏:‏ تقدّم حديث البراء، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء‏}‏‏:‏ أيهما نزل قبل‏؟‏ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد، في بعض المواضع، ومنه‏:‏ ‏{‏قد يعلم ما أنتم عليه‏}‏ ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك‏}‏ ‏{‏قد يعلم الله المعوقين منكم‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم *** مرابط للأمهار والعكر الدثر

قال الزمخشري‏:‏ قد نرى‏:‏ ربما نرى، ومعناه‏:‏ كثرة الرؤية، كقوله‏:‏

قد أترك القرن مصفراً أنامله *** انتهى‏.‏ وشرحه هذا على التحقيق متضادّ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى‏.‏ ورب، على مذهب المحققين من النحويين، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه، أو لتقليل نظيره‏.‏ ثم قال‏:‏ ومعناه كثرة الرؤية، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور‏.‏ ثم هذا المعنى الذي ادّعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة‏.‏ هذا التركيب، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي، ولا غير المضي، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة، لا يقال فيه‏:‏ قلب بصره في السماء، وإنما يقال‏:‏ قلب إذا ردّد‏.‏ فالتكثير، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب، نحو‏:‏ قطعته فتقطع، وكسرته فتكسر، وما طاوع التكثير ففيه التكثير‏.‏ والوجه هنا قيل‏:‏ أريد به مدلول ظاهره‏.‏ قال قتادة والسدّي وغيرهما‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة‏.‏ وقيل‏:‏ كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل‏.‏ انتهى كلامه، وهو كلام الناس قبله‏.‏ فالأول‏:‏ قول ابن عباس، وهو ليصيب قبلة إبراهيم‏.‏ والثاني‏:‏ قول السدّي والربيع، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة‏.‏ والثالث‏:‏ قول مجاهد، وهو قول اليهود‏:‏ ما علم محمد دينه حتى اتبعنا، فأراد مخالفتهم‏.‏ وقيل‏:‏ كنى بالوجه عن البصر، لأنه أشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب‏.‏ تقول‏:‏ بذلت وجهي في كذا، وفعلت لوجه فلان‏.‏ وقال‏:‏

رجعت بما أبغي ووجهي بمائه *** وهو من الكناية بالكل عن الجزء، ولا يحسن أن يقال‏:‏ إنه على حذف مضاف، ويكون التقدير بصر وجهك، لأن هذا لا يكاد يستعمل، إنما يقال‏:‏ بصرك وعينك وأنفك؛ لا يكاد يقال‏:‏ أنف وجهك، ولا خد وجهك‏.‏

في السماء‏:‏ متعلق بالمصدر، وهو تقلب، وهو يتعدى بفي، فهي على ظاهرها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرّّنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏}‏ أي في نواحي السماء، في هذه الجهة، وفي هذه الجهة‏.‏ وقيل‏:‏ في بمعنى إلى‏.‏ وقيل‏:‏ في السماء متعلق بنرى، وفي‏:‏ بمعنى من، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان‏.‏ وذكرت الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه، لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها، ويكون كما جاء‏:‏ بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة، والظاهر الأول، وهو تعلق المجرور بالمصدر، وأن في على حقيقتها‏.‏ واختص التقلب بالسماء، لأن السماء جهة تعود منها الرحمة، كالمطر والأنوار والوحي، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم، ولأن السماء قبلة الدعاء، ولأنه كان ينتظر جبريل، وكان ينزل من السماء‏.‏

‏{‏فلنولينك قبلة ترضاها‏}‏‏:‏ هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة، التقدير‏:‏ قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها‏.‏ وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها‏.‏ وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة، ثم بإنجاز الوعد، فيتوالى السرور مرتين، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب‏.‏ ونكر القبلة، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة، فتعرف بالألف واللام‏.‏ وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين، لأن متعلق الرضا هو القلب، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة، وإن كان لا يصرّح بذلك‏.‏ قالوا‏:‏ ورضاه لها، إما لميل السجية، أو لاشتمالها على مصالح الدين‏.‏ والمعنى‏:‏ لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك، ولنمكننك من ذلك‏.‏

‏{‏فولّ وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏‏:‏ أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة‏.‏ وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس‏.‏ قالوا‏:‏ وإنما لم يذكر في الصلاة، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها‏.‏ ومن قال نزلت في غير الصلاة، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك، أعني‏:‏ التوجه في الصلاة‏.‏ وأقول‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فلنولينك قبلة ترضاها‏}‏ ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة‏.‏ وأراد بالوجه‏:‏ جملة البدن، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن‏.‏ وكنى بالوجه عن الجملة، لأنه أشرف الأعضاء، وبه يتميز بعض الناس عن بعض‏.‏ وقد يطلق ويراد به نفس الشيء، ولأن المقابلة تقتضي ذلك، وهو أنه قابل قوله‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فولّ وجهك‏}‏‏.‏ وتقدّم أن الشطر يطلق ويراد به النصف، ويطلق ويراد به النحو‏.‏

وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه، وهو اختيار الشافعي‏.‏ وقال الجبائي، وهو اختيار القاضي‏:‏ المراد منه وسط المسجد ومنتصفه، لأن الشطر هو النصف، والكعبة بقعة في وسط المسجد‏.‏ والواجب هو التوجه إلى الكعبة، وهي كانت في نصف المسجد، فحسن أن يقال‏:‏ ‏{‏فولّ وجهك شطر المسجد‏}‏، يعني النصف من كل جهة، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة‏.‏ ويدل على صحة ما ذكرناه‏.‏ أن المصلي خارج المسجد متوجهاً إلى المسجد، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة، لم تصح صلاته‏.‏ وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب، لم يكن لذكره فائدة، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت كله‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ إنما وجه هو وأمّته حيال ميزاب الكعبة، والميزاب هو قبلة المدينة والشام، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق، وفي حرف عبد الله، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام‏.‏ والقائلون بأن معنى الشطر‏:‏ النحو، اختلفوا، فقال ابن عباس‏:‏ البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك‏.‏ وقال آخرون‏:‏ القبلة هي الكعبة، والظاهر أن المقصود بالشطر‏:‏ النحو والجهة، لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً على من خرج لبعده عن مسامتتها‏.‏ وفي ذكر المسجد الحرام، دون ذكر الكعبة، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة، لا مراعاة عينها‏.‏ واستدل مالك من قوله‏:‏ ‏{‏فولّ وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏، على أن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، خلافاً للثوري والشافعي والحسن بن حيّ، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده، وخلافاً لشريك القاضي، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى موضع حجره‏.‏ قال الحافظ أبو بكر بن العربي‏:‏ إنما قلنا ينظر أمامه، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس، وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج، ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ‏{‏وحيثما كنتم‏}‏‏:‏ هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان، أي في أيّ موضع كنتم، وهو شرط وجزاء، والفاء جواب الشرط، وكنتم في موضع جزم‏.‏ وحيث‏:‏ هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية، الخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال، والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة فينا في اسم الشرط، لأن الشرط مبهم‏.‏ فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط، وجوزي بها، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال‏.‏

وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها، وخلاف الفراء في ذلك‏.‏ ‏{‏فولوا وجوهكم شطره‏}‏‏:‏ وهذا أمر لأمّة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما تقدّم أمره بذلك، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد، مع مزيد عموم في الأماكن، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، فبين أنهم في أيما حصلوا من بقاع الأرض، وجب أن يستقبلوا شطر المسجد‏.‏ ولما كان صلى الله عليه وسلم هو المتشوف لأمر التحويل، بدأ بأمره أولاً ثم أتبع أمر أمته ثانياً لأنهم تبع له في ذلك، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي حرف عبد الله‏:‏ فولوا وجوهكم قبله‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ فولوا وجوهكم تلقاءه، وهذا كله يدل على أن المراد بالشطر‏:‏ النحو‏.‏‏.‏

‏{‏وإن الذين أوتوا الكتاب‏}‏‏:‏ أي رؤساء اليهود والنصارى وأحبارهم‏.‏ وقال السدّي‏:‏ هم اليهود‏.‏ ‏{‏ليعلمون أنه‏}‏‏:‏ أي التوجه إلى المسجد الحرام، ‏{‏الحق‏}‏‏:‏ الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته‏.‏ وقال قتادة والضحاك‏:‏ إن القبلة هي الكعبة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ الضمير يعود على الشطر، وهو قريب من القول الثاني، لأن الشطر هو الجهة‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون صدقه ونبوّته، قاله قتادة أيضاً ومجاهد‏.‏ ومفسر هذه الضمائر متقدم‏.‏ فمفسر ضمير التحويل والتوجه قوله‏:‏ ‏{‏فولّ وجهك‏}‏، فيعود على المصدر المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏فولوا‏}‏، ومفسر ضمير القبلة قوله‏:‏ ‏{‏قبلة ترضاها‏}‏، ومفسر ضمير الشطر قوله‏:‏ ‏{‏شطر المسجد الحرام‏}‏، ومفسر ضمير الرسول ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فعلى هذا الوجه يكون التفاتان‏.‏ والعلم هنا يحتمل أن يكون مما يتعدى إلى اثنين، ويحتمل أن يكون مما يتعدى إلى واحد، لأن معموله هو أن وصلتها، فيحتمل الوجهين، وعلمهم بذلك، إما لأن في كتابهم التوجه إلى الكعبة، قاله أبو العالية، وإما لأن في كتابهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي صادق، فلا يأمر إلا بالحق، وإما لجواز النسخ، وإما لأن في بشارة الأنبياء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين‏.‏ ‏{‏من ربهم‏}‏‏:‏ جار ومجرور في موضع الحال، أي ثابتاً من ربهم‏.‏ وفي ذلك دليل على أن التحول من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن باجتهاد، إنما هو بأمر من الله تعالى‏.‏ وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الحق من ربك‏}‏‏.‏

‏{‏وما الله بغافل عما يعملون‏}‏‏:‏ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب‏.‏ فيحتمل أن يراد به المؤمنون لقوله‏:‏ ‏{‏فولوا وجوهكم شطره‏}‏، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب، فتكون من باب الالتفات‏.‏ ووجهه أن في خطابهم بأن الله لا يغفل عن أعمالهم، تحريكاً لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر‏.‏

ومن قرأ بالياء، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة‏.‏ وعلى كلتا القراءتين، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد، ولا يغفل عنها، وهو متضمن الوعيد‏.‏

‏{‏ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك‏}‏ هذه تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له‏.‏ أعلمه أولاً أنهم يعلمون أنه الحق، وهم يكتمونه، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه‏.‏ ثم سلاه عن قبولهم الحق، بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبة، لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق، ما تبعوك ولا سلكوا طريقك‏.‏ وإذا كانوا لا يتبعونك، مع مجيئك لهم بجميع المعجزات، فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزة واحدة‏.‏ والمعنى‏:‏ بكل آية يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق‏.‏ واللام في‏:‏ ولئن، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم‏.‏ فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف، والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم وهو قوله‏:‏ ‏{‏ما تبعوا‏}‏، ولذلك لم تدخله الفاء‏.‏ وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل‏.‏ المعنى‏:‏ أي ما يتبعون قبلتك، لأن الشرط قيد في الجملة، والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي‏.‏ ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون‏}‏ التقدير‏:‏ ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جواباً للقسم المحذوف، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل، فهو ماضٍ من حيث اللفظ، مستقبل من حيث المعنى، لأن الشرط قيد فيه، كما ذكرنا‏.‏ وجواب الشرط في الآيتين محذوف، سد مسده جواب القسم، ولذلك أتى فعل الشرط ماضياً في اللفظ، لأنه إذا كان الجواب محذوفاً، وجب مضي فعل الشرط لفظاً، إلا في ضرورة الشعر، فقد يأتي مضارعاً‏.‏ وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو، ولذلك كانت ما في الجواب، فجعل ما تبعوا جواباً لإن، لأن إن بمعنى لو، فكما أن لو تجاب بما، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو، لم يكن جوابها مصدراً بما، بل لا بد من الفاء‏.‏ تقول‏:‏ إن تزرني فما أزورك، ولا يجوز‏:‏ ما أزورك‏.‏ وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة جواب إن عليه‏.‏ وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط، جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم‏.‏ وليس هذا مذهب البصريين، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو‏.‏

واستعمال إن بمعنى لو قليل، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وجاء جواب لئن كجواب لو، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي والوقوع، وإن تطلب الاستقبال، لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم‏.‏ فالجواب إنما هو للقسم، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد، لأن أوله يقتضي أن الجواب لإن، وقوله بعد‏:‏ فالجواب إنما هو للقسم، يدل على أن الجواب ليس لإن، والتعليل بعد بقوله، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، لا يصلح أن يعلل به قوله‏:‏ فالجواب إنما هو للقسم، بل يصلح أن يكون تعليلاً، لأن الجواب لإن، وأجريت في ذلك مجرى لو‏.‏ وأما قوله‏:‏ هذا قول سيبويه، فليس في كتاب سيبويه، إلا أن ما تبعوا جواب القسم، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وقالوا لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل‏.‏ وقال أيضاً‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد بعده‏}‏ أي ما يمسكهما‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ كل واحدة من‏:‏ لئن ولو، تقوم مقام الأخرى، ويجاب بما يجاب به، ومنه‏:‏ ‏{‏ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا‏}‏ لأن معناه‏:‏ ولو أرسلنا ريحاً‏.‏ وكذلك لو يجاب جواب لئن، كقولك‏:‏ لو أحسنت إليّ أحسن إليك، هذا قول الأخفش والفرّاء والزّجاج‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى، لأن معناهما مختلف، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال، تقدير‏:‏ لا يتبعون، وليظلن‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وتلخص من هذا كله أن في قوله‏:‏ ‏{‏ما تبعوا‏}‏ قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها جواب قسم محذوف، وهو قول سيبويه‏.‏ والثاني‏:‏ أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏أوتوا الكتاب‏}‏‏:‏ العموم، وقد قال به هنا قوم‏.‏ وقال الأصم‏:‏ المراد علماؤهم المخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم الذين أوتوا الكتاب، وفي الآية المتأخرة‏.‏ ويدل على خصوص ذلك خصوص ما تقدم، وخصوص ما تأخر، فكذلك المتوسط والإخبار بإصرارهم، وهو شأن المعاند، وأنه قد آمن به كثير من أهل الكتاب وتبعوا قبلته‏.‏ واختلفوا في قوله‏:‏ ‏{‏ما تبعوا قبلتك‏}‏‏.‏ قال الحسن والجبائي‏:‏ أراد جميعهم، كأنه قال‏:‏ لا يجتمعون على اتباع قبلتك، على نحو‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لجمعهم على الهدى‏}‏ ويكون إذ ذاك إخباراً عن المجموع، من حيث هو مجموع، لا حكم على الأفراد‏.‏ وقال الأصم‏:‏ بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن‏.‏ وقد تقدم أن من قول الأصم‏:‏ أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص، فكأنه قال‏:‏ كل فرد فرد من أولئك المختصين بالعناد، المستمرّين على جحود الحق، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك‏.‏ وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه‏.‏

قيل‏:‏ واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته، فلو اتبعوا قبلته، لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وعلمه جهلاً، وهو محال، وما استلزم المحال فهو محال‏.‏ وأضاف تعالى القبلة إليه، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها‏.‏ أيأس الله نبيه من اتباعهم قبلته، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح، ولا عن شبهة عرضت، وإنما ذلك على سبيل العناد، ومن نازع عناداً فلا يرجى منه انتزاع‏.‏

‏{‏وما أنت بتابع قبلتهم‏}‏‏:‏ هذه جملة خبرية‏.‏ قيل‏:‏ ومعناها النهي، أي لا تتبع قبلتهم، ومعناها‏:‏ الدوام على ما أنت عليه، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ هي باقية على معنى الخبر، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة، فجاءت هذه الجملة رفعاً لتجويز النسخ، أو قطع بذلك رجاء أهل الكتاب، فإنهم قالوا‏:‏ يا محمد، عد إلى قبلتنا، ونؤمن بك ونتبعك، مخادعة منهم، فأيأسهم الله من اتباعه قبلتهم، أو بين بذلك حصول عصمته، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة، أي ما هم بتاركي باطلهم، وما أنت بتارك حقك‏.‏ وأفرد القبلة في قوله‏:‏ قبلتهم، وإن كانت مثناة، إذ لليهود قبلة، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين، فصار الإثنان واحداً من جهة البطلان، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ، لأن قبله ‏{‏ما تبعوا قبلتك‏}‏‏.‏ وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله‏:‏ ‏{‏بتابع‏}‏، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها، لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم‏.‏ وقرأ بعض القراء‏:‏ بتابع قبلتهم على الإضافة، وكلاهما فصيح، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته، وقد تقدم في أيهما أقيس‏.‏

‏{‏وما بعضهم بتابع قبله بعض‏}‏‏:‏ الضمير في بعضهم عائد على أهل الكتاب‏.‏ والمعنى‏:‏ أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تنتصّر، وإلى أن النصارى لا تتهود، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض‏.‏ وقد رأينا اليهود والنصارى كثيراً ما يدخلون في ملة الإسلام، ولم يشاهد يهودياً تنصر، ولا نصرانياً تهوّد‏.‏ والمراد بالبعضين‏:‏ من هو باق على دينه من أهل الكتاب، هذا قول السدي وابن زيد، وهو الظاهر‏.‏ وقيل‏:‏ أحد البعضين من آمن من أهل الكتاب، والبعض الثاني من كان على دينه منهم، لأن كلاً منهما يسفه حلم الآخر ويكفره، إذ تباينت طريقتهما‏.‏

ألا ترى إلى مدح اليهود عبد الله بن سلام قبل أن يعلموا بإسلامه وبهتهم له بعد ذلك‏؟‏ وتضمنت هذه الجمل‏:‏ أن أهل الكتاب، وإن اتفقوا على خلافك، فهم مختلفون في القبلة، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس‏.‏

‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏، اللام أيضاً مؤذنة بقسم محذوف، ولذلك جاء الجواب بقوله‏:‏ إنك، وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط‏.‏ يقول الرجل لامرأته‏:‏ إن صعدت إلى السماء فأنت طالق، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء‏.‏ وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم‏:‏ أنهم ‏{‏لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين‏}‏ وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع‏.‏ وفهم من ذلك الاستحالة، لأن المعلق على المستحيل مستحيل‏.‏ ويصير معنى هذه الجملة، التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع، ويصير المعنى‏:‏ لا يعد ظالماً، ولا تكونه، لأنك لا تتبع أهواءهم، وكذلك لا يحبط عملك، لأن إشراكك ممتنع، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم، لأنه لا يدعي أنه إله‏.‏ وقالوا‏:‏ ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه، فهو محمول على إرادة أمته، ومن يمكن وقوع ذلك منه، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر، والتفخيم لشأنه، حتى يحصل التباعد منه‏.‏ ونظير ذلك قولهم‏:‏ إياك أعني‏:‏ واسمعي يا جارة‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏، بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله‏:‏ ‏{‏وما أنت بتابع قبلتهم‏}‏، كلام وارد على سبيل الفرض، والتقدير بمعنى‏:‏ ولئن اتبعتهم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر، إنك إذاً لمن المرتكبين الظلم الفاحش‏.‏ وفي ذلك لطف للسامعين، وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى، وإلهاب للثبات على الحق‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وقال في المنتخب‏:‏ اختلفوا في هذا الخطاب‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هو للرسول، وقال بعضهم‏:‏ هو للرسول وغيره‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو لغير الرسول، لأنه علم تعالى أن الرسول لا يفعل ذلك، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب‏.‏ أهواءهم‏:‏ تقدّم أنه جمع هوى، ولا يجمع على أهوية، وأكثر استعمال الهوى فيما لا خير فيه، وقد يستعمل في الخير، وأصله الميل والمحبة، وجمع، وإن كان أصله المصدر، لاختلاف أغراضهم ومتعلقاتها وتباينها‏.‏

‏{‏من بعد ما جاءك من العلم‏}‏‏:‏ أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله، فأطلق اسم الأثر على المؤثر‏.‏ سمى تلك الدلائل علماً، مبالغة وتعظيماً وتنبيهاً على أن العلم من أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة‏.‏ ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم‏.‏

وقد فسر العلم هنا بالحق، يعني أن ما جاءه من تحويل القبلة هو الحق‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ العلم هنا‏:‏ البيان، وجاء في هذا المكان‏:‏ ‏{‏من بعد ما جاءك‏}‏، وقال قبل هذا‏:‏ ‏{‏بعد الذي جاءك‏}‏ وجاء في الرعد‏:‏ ‏{‏بعد ما جاءك‏}‏ فاختص موضعاً بالذي، وموضعين بما، وهذا الموضع بمن‏.‏ والذي نقوله في هذا‏:‏ أنه من اتساع العبارة وذكر المترادف، لأن ما والذي موصولان، فأياً منهما ذكرت، كان فصيحاً حسناً‏.‏ وأما المجيء بمن، فهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء، وأما قوله‏:‏ بعد، فهو على معنى من، والتبعدية مقيدة بها من حيث المعنى، وإن كان إطلاق بعد لا يقتضيها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ في الجواب عن ذلك دخول ما مكان الذي، لأن الذي أخص، وما أشد إبهاماً، فحيث خص بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين، الذي هو الإسلام، المانع من ملتي اليهود والنصارى، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه، لأنه علم بكل أصول الدين، وخص بلفظ ما، ما أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين، أحدهما القبلة، والآخر الكتاب، لأنه أشار إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن الأحزاب من ينكر بعضه‏}‏ قال‏:‏ وأما دخول من، ففائدته ظاهرة، وهي بيان أول الوقت الذي وجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالف أهل الكتاب في أمر القبلة، أي ذلك الوقت الذي أمرك الله فيه بالتوجه فيه إلى نحو القبلة، إن اتبعت أهواءهم، كنت ظالماً واضعاً الباطل في موضع الحق‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

‏{‏إنك إذاً لمن الظالمين‏}‏‏:‏ قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف الذي أدنت بتقديره اللام في لئن، ودل على جواب الشرط، لا يقال‏:‏ إنه يكون جواباً لهما، لامتناع ذلك لفظاً ومعنى‏.‏ أما المعنى، فلأن الاقتضاء مختلف‏.‏ فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه، لأن القسم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له‏.‏ وأما اللفظ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم، لم يحتج إلى مزيد رابط، وإذا كانت جواب شرط، احتاجت لمزيد رابط، وهو الفاء‏.‏ ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معاً‏.‏ ودخلت إذاً بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر‏.‏ فلم تتقدّم، لأنه سبق قسم وشرط، والجواب هو للقسم‏.‏ فلو تقدمت، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم يتأخر، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي‏:‏ فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة‏.‏ وتحرير معنى إذن صعب، وقد اضطرب الناس في معناها، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء‏.‏

واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه، وقد أمعنا الكلام في ذلك في ‏(‏كتاب التكميل‏)‏ من تأليفنا، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان مسبباً عما قبلها، فهي في ذلك على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها‏.‏ مثال ذلك أزورك فتقول‏:‏ إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك‏.‏ وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها مذكورة في النحو‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وذلك نحو‏:‏ إن تأتني إذن آتك، ووالله إذن لأفعلن‏.‏ فلو أسقطت إذن، لفهم الارتباط‏.‏ ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو‏:‏ أزورك فتقول‏:‏ إذن أنا أكرمك، وجاز توسطها نحو‏:‏ أنا إذاً أكرمك، وتأخرها‏.‏ وإذا تقرر هذا، فجاءت إذاً في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه‏.‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏‏:‏ هم علماء اليهود والنصارى، أو من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، كابن سلام وغيره، أو من آمن به مطلقاً، أقوال‏.‏ والكتاب‏:‏ التوراة، أو الإنجيل، أو مجموعهما، أو القرآن‏.‏ أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا، لإسناد الإيتاء إلى الله تعالى، معبراً عنه بنون العظمة، وكذا ما يجيء من نحو هذا، مراداً به الإكرام نحو‏:‏ هدينا، واجتبينا، واصطفينا‏.‏ قيل‏:‏ ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة‏}‏ وإذا أريد بالكتاب أكثر من واحد، فوحد، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر‏.‏

‏{‏يعرفونه‏}‏‏:‏ جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم، وجوز أن يكون الذين مجروراً على أنه صفة للظالمين، أو على أنه بدل من الظالمين، أو على أنه بدل من ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏ في الآية التي قبلها، ومرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، ومنصوباً على إضمار، أعني‏:‏ وعلى هذه الأعاريب يكون قوله‏:‏ ‏{‏يعرفونه‏}‏، جملة في موضع الحال، إما من المفعول الأول في آتيناهم، أو من الثاني الذي هو الكتاب، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما‏.‏ والظاهر هو الإعراب الأول، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏إنك إذاً لمن الظالمين‏}‏‏.‏

والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما‏.‏ وروي عن ابن عباس، واختاره الزجاج، ورجحه التبريزي، وبدأ به الزمخشري فقال‏:‏ يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص‏.‏ قال الزمخشري وغيره‏:‏ واللفظ للزمخشري، وجاز الإضمار، وإن لم يسبق له ذكر، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوم بغير إعلام‏.‏ انتهى‏.‏ وأقول‏:‏ ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر‏:‏ بل هذا من باب الالتفات، لأنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ولئن أتيت الذين‏}‏ إلى آخر الآية، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة‏.‏ وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب، أقبل على الناس فقال‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ واخترناهم لتحمل العلم والوحي، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه، لا يشكون في معرفته، ولا في صدق أخباره، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة، لما في كتابهم من ذكره ونعته، والنص عليه يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل‏.‏ فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر، وأنه من باب الالتفات، وتبينت حكمة الالتفات‏.‏ ويؤيد كون الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام، رضي الله عنهما، وقال‏:‏ إن الله قد أنزل على نبيه‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه‏}‏ الآية، فكيف هذه المعرفة‏؟‏ فقال عبد الله‏:‏ يا عمر، لقد عرفته حين رأيته، كما أعرف ابني، ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشدّ من معرفتي بابني‏.‏ فقال عمر‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ أشهد أنه رسول الله حقاً، وقد نعته الله في كتابنا، ولا أدري ما يصنع النساء‏.‏ فقال عمر‏:‏ وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت، وقد روي هذا الأثر مختصراً بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها، وفيه‏:‏ فقبل عمر رأسه‏.‏ وإذا كان الضمير للرسول، فقيل‏:‏ المراد معرفة الوجه وتميزه، لا معرفة حقيقة النسب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يعرفون صدقه ونبوّته‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على الحق الذي هو التحوّل إلى الكعبة، قاله ابن عباس وقتادة أيضاً، وابن جريج والربيع‏.‏ وقيل‏:‏ عائد على القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ على العلم‏.‏ وقيل‏:‏ على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء، لأنه قال‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏، فإن تعلقت المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون حصولها بالرؤية والوصف، أو بالقرآن، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن، وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته، أو بالقبلة، أو التحويل، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق‏.‏

‏{‏كما يعرفون أبناءهم‏}‏، الكاف‏:‏ في موضع نصب، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفاناً مثل عرفانهم‏.‏ أبناءهم‏:‏ أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف، كان التقدير‏:‏ يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم‏.‏ وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى، ومعرفة متعلقها المحسوس‏.‏ وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور، فيكونون قد خصوا بذلك، لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوب الآباء‏.‏ ويحتمل أن يراد بالأبناء‏:‏ الأولاد، فيكون ذلك من باب التغليب‏.‏ وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس، لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه، بخلاف الأبناء، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه‏.‏

‏{‏وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق‏}‏‏:‏ أي من الذين آتيناهم الكتاب، وهم المصرّون على الكفر والعناد، من علماء اليهود النصارى، على أحسن التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى، الذين قيل فيهم‏:‏ ‏{‏ومنهم أمّيون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ‏}‏ للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به، ولوصف الأمّيين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ‏.‏ والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة ومجاهد، والتوجه إلى الكعبة، أو أن الكعبة هي القبلة، أو أعم من ذلك، فيندرج فيه كل حق‏.‏

‏{‏وهم يعلمون‏}‏‏:‏ جملة حالية، أي عالمين بأنه حق‏.‏ ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم‏.‏ وقيل‏:‏ متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة‏.‏

‏{‏الحق من ربك‏}‏‏:‏ قرأ الجمهور‏:‏ برفع الحق على أنه مبتدأ، والخبر هو من ربك، فيكون المجرور في موضع رفع‏.‏ أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق من ربك، والضمير عائد على الحق المكتوم، أي ما كتموه هو الحق من ربك، ويكون المجرور في موضع الحال، أو خبراً بعد خبر‏.‏ وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره‏:‏ الحق من ربك يعرفونه‏.‏ والألف واللام في الحق للعهد، وهو الحق الذي عليه الرسول، أو الحق الذي كتموه، أو للجنس على معنى‏:‏ أن الحق هو من الله، لا من غيره، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله، كالذي عليه الرسول، وما لم تثبت حقيقته، فليس من الله، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب‏.‏

وقرأ علي بن أبي طالب‏:‏ الحق بالنصب، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم، فيكون التقدير‏:‏ يكتمون الحق من ربك، قاله الزمخشري؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون، قاله ابن عطية، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل، كقوله‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** أي يسبقه شيء‏.‏ وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره‏:‏ الزم الحق من ربك، ويدل عليه الخطاب بعده‏:‏ ‏{‏فلا تكونن من الممترين‏}‏‏.‏

والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة‏.‏ ودل الممترين على وجودهم، ونهى أن يكون منهم، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل‏.‏ فقولك‏:‏ لا تكن ظالماً، أبلغ من قولك‏:‏ لا تظلم، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم‏.‏ وقولك‏:‏ لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة‏.‏ والنهي عن الكون على صفة، أبلغ من النهي عن تلك الصفة، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة‏.‏ والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة‏.‏ وفرق بين ما يدل على عموم، ويستلزم عموماً، وبين ما يدل على عموم فقط، فلذلك كان أبلغ، ولذلك كثر النهي عن الكون‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تكوننّ من الجاهلين‏}‏ ‏{‏ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله‏}‏ ‏{‏فلا تكن في مرية منه‏}‏ والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تظلم في كل أكوانك، أي في كل فرد فرد من أكوانك، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم، فتصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان، بخلاف لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان‏.‏ وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة‏.‏ والمعنى‏:‏ فلا تكونن من الذين يشكون في الحق، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك‏.‏