فصل: تفسير الآيات رقم (101- 102)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

السلاح‏:‏ معروف وما هو ما يتحصن به الإنسان من سيف ورمح وخنجر ودبوس ونحو ذلك، وهو مفرد مذكر، يجمع على أسلحة، وأفعلة جمع فعال‏.‏ المذكر نحو‏:‏ حمار وأحمرة، ويجوز تأنيثه‏.‏ قال الطرماح‏:‏

يهز سلاحاً لم يرثها كلالة *** يشك بها منها غموض المغابن

وقال الليث‏:‏ يقال للسيف وحده سلاح، وللعصا وحدها سلاح‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ يقال‏:‏ السلاح، والسلح، والمسلح، والمسلحان، يعني‏:‏ على وزن الحمار، والضلع، والنعر، والسلطان‏.‏ ويقال‏:‏ رجل سالح إذا كان معه السلاح‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ السلاح ما قوتل به‏.‏

‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ روى مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ كما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد، وقال المشركون‏:‏ لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر، الضرب في الأرض‏.‏ والظاهر جواز القصر في مطلق السفر، وبه قال أهل الظاهر‏.‏

واختلفت فقهاء الأمصار في حدّ المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق‏:‏ تقصر في أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ مسيرة ثلاث‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ مسيرة يوم تام، وحكاه عن عامة العلماء‏.‏ وقال الحسن والزهري‏:‏ مسيرة يومين‏.‏ وروي عن مالك‏:‏ يوم وليلة‏.‏ وقصر أنس في خمسة عشر ميلاً‏.‏ والظاهر أنه لا يعتبر نوع سفر، بل يكفي مطلق السفر، سواء كان في طاعة أو مباح أو معصية، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة‏.‏ وروي عن ابن مسعود‏:‏ أنه لا يقصر إلا في حج أو جهاد‏.‏ وقال عطاء‏:‏ لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة، وروي عنه‏:‏ أنها تقصر في السفر المباح‏.‏ وأجمعوا على القصر في سفر الحج والعمرة والجهاد وما ضارعها من صلة رحم، وإحياء نفس‏.‏ والجمهور على أنه لا يجوز في سفر المعصية كالباغي، وقاطع الطريق، وما في معناهما‏.‏ والظاهر أنه لا يقصر إلا حتى يتصف بالسفر بالفعل، ولا اعتبار بمسافة معينة، ولا زمان‏.‏ وروي عن الحرث بن أبي ربيعة‏:‏ أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله، والأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء وسليمان بن موسى‏.‏ والجمهور على أنه لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل‏.‏ والظاهر من قوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏ أن القصر مباح‏.‏ وقال مالك في المبسوط‏:‏ سنة‏.‏ وقال حماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، ومحمد بن سحنون، واسماعيل القاضي‏:‏ فرض، وروي عن عمر بن عبد العزيز‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ أن تقصروا، مطلق في القصر، ويحتاج إلى مقدار ما ينقص منها‏.‏ فذهبت جماعة إلى أنه قصر من أربع إلى اثنين‏.‏ وقال قوم‏:‏ من ركعتين في السفر إلى ركعة، والركعتان في السفر تمام‏.‏

‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ ظاهره أنّ إباحة القصر مشروطة بالخوف المذكور، وإلى ذلك ذهب جماعة‏.‏ ومن ذهب إلى أنّ القصر هو من ركعتي السفر إلى ركعة، شرط الخوف، وقال‏:‏ تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها، ويكون للإمام ركعتان‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا يراد بالقصر الصلاة هنا القصر من ركعتيها، وإنما المراد القصر من هيآتها بترك الركوع والسجود في الإيماء، وترك القيام إلى الركوع، وروي فعل ذلك عن ابن عباس وطاووس‏.‏ وذهب آخرون إلى أنّ الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيآتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى ركعتين، ورجح هذا القول الطبري بقوله‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ أي بحدودها وهيآتها الكاملة‏.‏ والحديث الصحيح يدلّ على أنّ هذا الشرط لا مفهوم له، فلا فرق بين الخوف والأمن، وحديث يعلى في ذلك مشهور صحيح‏.‏

والفتنة هنا هي التعرض بما يكره من قتال وغيره‏.‏ ولغة الحجاز‏:‏ فتن، ولغة تميم وربيعة وقيس‏:‏ أفتن رباعياً‏.‏ وقال أبو زيد‏:‏ قصر من صلاته قصر، أنقص من عددها‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ قصر وأقصر‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ أن تقصروا رباعياً، وبه قرأ الضبي عن رجاله‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ تقصروا مشدّداً، ومن للتبعيض‏.‏ وقيل‏:‏ زائدة‏.‏ وقيل‏:‏ الشرط ليس متعلقاً بقصر الصلاة، بل تم الكلام عند قوله‏:‏ أن تقصروا من الصلاة، ثم ابتدأ حكم الخوف‏.‏ ويؤيده على قول‏:‏ أنّ تجاراً قالوا‏:‏ إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي‏؟‏ فنزلت‏:‏ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، ثم انقطع الكلام‏.‏ فلما كان بعد ذلك بسنة في غزاة بني أسد حين صليت الظهر قال بعض العدو‏:‏ هلا شددتم عليهم وقد مكنوكم من ظهورهم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِن خفتم‏}‏-إِلى قَوله- ‏{‏عذاباً مهيناً‏}‏ صلاة الخوف‏.‏ ورجح هذا بأنه إذا علق الشرط بما قبله كان جواز القصر مع الأمن مستفاداً من السنة، ويلزم منه نسخ الكتاب بالسنة‏.‏ وعلى تقدير الاستئناف لا يلزم، ومتى استقام اللفظ وتم المعنى من غير محذور النسخ كان أولى انتهى‏.‏ وليس هذا بنسخ، إنما فيه عدم اعتبار مفهوم الشرط، وهو كثير في كلام العرب‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

عزيز إذا حلّ الخليقان حوله *** بذي لحب لجأته وضواهله

وفي قراءة أبيّ وعبد الله‏:‏ أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم، بإسقاط إن خفتم، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى أي‏:‏ مخافة أن يفتنكم‏.‏

وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد‏.‏

‏{‏إِن الكافرين كانوا لكم عدوّاً مبيناً‏}‏ عدو‏:‏ وصف يوصف به الواحد والجمع‏.‏ قال‏:‏ هم العدو، ومعنى مبيناً‏:‏ أي مظهراً للعداوة، بحيث أنّ عداوته ليست مستورة، ولا هو يخفيها، فمتى قدر على أذية فعلها‏.‏

‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة‏}‏ استدل بظاهر الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم من لا يرى صلاة الخوف بعد الرسول حيث شرط كونه فيهم، وكونه هو المقيم لهم الصلاة‏.‏ وهو مذهب‏:‏ ابن علية، وأبي يوسف‏.‏ لأن الصلاة بإمامته لا عوض عنها، وغيره من العوض، فيصلي الناس بإمامين طائفة بعد طائفة‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ الخطاب له يتناول الأمراء بعده، والضمير في‏:‏ فيهم، عائد على الخائفين‏.‏ وقيل‏:‏ على الضاربين في الأرض‏.‏ والظاهر أنّ صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر، ولا تكون في الحضر، وإن كان خوف‏.‏ وذهب إليه قوم‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنّ الحضر إذا كان خوف كالسفر‏.‏

ومعنى‏:‏ فأقمت لهم الصلاة، أقمت حدودها وهيآتها‏.‏ والذي يظهر أنّ المعنى فأقمت بهم‏.‏ وعبر بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول‏:‏ عن ذلك‏.‏ ومعنى‏:‏ فلتقم هو من القيام، وهو الوقوف‏.‏ وقيل‏:‏ فلتقم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك، من قام بالأمر اهتم به وجعله شغله‏.‏ والظاهر أنّ الضمير في‏:‏ وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير، ولكونها لها فيما بعدها في قوله‏:‏ فإذا سجدوا‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضمير عائد على غيرهم، وهي الطائفة الحارسة التي لم تصل‏.‏ وقال النحاس‏:‏ يجوز أن يكون للجميع، لأنه أهيب للعدو‏:‏ فإذا سجدوا أي‏:‏ هذه الطائفة‏.‏ ومعنى سجدوا‏:‏ صلوا‏.‏ وفيه دليل على أنّ السجود قد يعبر به عن الصلاة، ومنه‏:‏ «إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» أي فليصل ركعتين‏.‏

‏{‏فليكونوا من ورائكم‏}‏‏:‏ ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين، والمعنى‏:‏ أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة فكانوا وراءكم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فليكونوا يعني‏:‏ غير المصلين من ورائكم يحرسونكم، وجوز الوجهين ابن عطية، قال‏:‏ يحتمل أن يكون الذين سجدوا، ويحتمل أن تكون الطائفة القائمة أولاً بإزاء العدوّ‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق‏:‏ فلتقم بكسر اللام‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ وليات بياء بثنتين تحتها على تذكير الطائفة، واختلف عن أبي عمرو، في إدغام التاء في الطاء‏.‏ وفي قوله‏:‏ فلتأت طائفة، دليل على أنهم انقسموا طائفتين‏:‏ طائفة حارسة أولاً، وطائفة مصلية أولاً معه، ثم التي صلت أولاً صارت حارسة، وجاءت الحارسة أولاً فصلت معه‏.‏ والظاهر أنّ الأمر بأخذ الأسلحة واجب، لأنّ فيه اطمئنان المصلي، وبه قال‏:‏ الشافعي وأهل الظاهر‏.‏ وذهب الأكثرون إلى الاستحباب‏.‏

ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أنّ طائفة صلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض صلاة، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه، ولا كيفية إتمامهم، وإنما جاء ذلك في السنة‏.‏

ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار، لأنها مبينة ما أجمل في القرآن‏.‏ الكيفية الأولى‏:‏ صلت طائفة معه، وطائفة وجاه العدو، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ويذهبوا وجاه العدوّ، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدوّ أولاً فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وهذه كانت بذات الرقاع‏.‏ الكيفية الثانية‏:‏ كالأولى، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم، ثم قضت بعد سلامه‏.‏ وهذه مروية في ذات الرقاع أيضاً‏.‏ الكيفية الثالثة‏:‏ صف العسكر خلفه صفين، ثم كبر وكبروا جميعاً، وركعوا معه، ورفعوا من الركوع جميعاً، ثم سجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون الى مصاف المتأخرين، ثم ركعوا معه جميعاً، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه، فلما صلى سجد الآخرون، ثم سلم بهم جميعاً‏.‏ وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته‏.‏ الكيفية الرابعة‏:‏ مثل هذا إلا أنه قال‏:‏ ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين‏.‏ الكيفية الخامسة‏:‏ صلى بإحدى الطائفتين ركعة، والأخرى مواجهة العدوّ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم، ثم قضى بهؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد‏.‏ الكيفية السادسة‏:‏ يصلي بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدوّ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، وتقوم التي معه تقضي، فإذا فرغوا ساروا تجاه العدوّ، وقضت الأخرى‏.‏ الكيفية السابعة‏:‏ صلى بكل طائفة ركعة، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئاً زائداً على ركعة واحدة‏.‏ الكيفية الثامنة‏:‏ صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين، فكانت له أربع، ولكل رجل ركعتان‏.‏ الكيفية التاسعة‏:‏ يصلي بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين، والأخرى بإزاء العدو، ثم تقف هذه بإزاء العدوّ وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة، وتتم صلاتها ثم تحرس، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها، وكذا في المغرب‏.‏ إلا أنه يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة‏.‏ الكيفية العاشرة‏:‏ قامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدوّ وظهورهم إلى القبلة، فكبرت الطائفتان معه، ثم ركع وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك، ثم قام فصارت التي معه إلى إزاء العدوّ، وأقبلت التي كانت بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قائم كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا معه، ثم أقبلت التي بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قاعد، ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعاً‏.‏ وهذه كانت في غزوة نجد‏.‏ الكيفية الحادية عشرة‏:‏ صلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعتين وسلم‏.‏

وهذه كانت ببطن نخل‏.‏ واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله‏:‏ إنه ما صلى الرسول إلا مرتين‏:‏ مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة بعسفان والمشركون بضخيان بينهم وبين القبلة‏.‏ وذكر ابن عباس‏:‏ أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف‏.‏ وقال أبو بكر بن العربي‏:‏ روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعاً وعشرين مرة، يعني كيفية‏.‏ وقال ابن حنبل‏:‏ لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح، فعلى أي حديث صليت أجزأ‏.‏ وكذا قال الطبري‏.‏ وجمع في الأخذ بين الحذر والأسلحة، فإنه جعل الحذر أنه يحترز بها كما يحترز بالأسلحة كما جاء‏:‏ ‏{‏تبوؤا الدار والإيمان‏}‏ جعل الإيمان مستقراً لتمكنهم فيه‏.‏

‏{‏ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة‏}‏ تقدم الكلام في لو بعدود في قوله‏:‏ ‏{‏يود أحدهم لو يعمر‏}‏ أي‏:‏ يشدون عليكم شدة واحدة‏:‏ وقرى‏:‏ وأمتعاتكم، وهو شاذ إذ هو جمع الجمع كما قالوا‏:‏ أشقيات وأعطيات في أشقية وأعطية، جمع شقاء وعطاء‏.‏ وفي هذا الإخبار تنبيه وتحذير من الغفلة، وأفرد المسألة لأنها أبلغ في الإيصال‏.‏

‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضاً فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس‏.‏ ولما كانت هاتان الحالتان مما يشق حمل السلاح فيهما، ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح مما يكره به ويزيد في مرضه، ورخص في ذلك إن كان مطر، لأن المطر مما يثقل العدوّ ويمنعه من خفة الحركة للقتال‏.‏ وقال‏:‏ إن يتأذوا من مطر إلا لحق الكفار من أذاه ما لحق المسلمين غالباً إن كانا متقاربين في المسافة ومرضاً إما لجراحة سبقت، أو لضعف بنية، أو غير ذلك مما يعد مرضاً، وتكرير الأمر بأخذ الحذر في الصلاة‏.‏ وفي هاتين الحالتين مما يدل على توكيد التأهب والاحتراز من العدو، فإنّ الجيش كثيراً ما يصاب من التفريط في الحذر‏.‏ وقال الضحاك في قوله‏:‏ وخذوا حذركم، أي‏:‏ تقلدوا سيوفكم، فإن ذلك حذر الغزاة‏.‏

‏{‏إِن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبة واغترار، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ الله يهين عدوهم، ويخذلهم، وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم، وليعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من الله، كما قال‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 113‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏فإذا قضيت الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ الظاهر‏:‏ أنّ معنى قضيتم الصلاة أي فرغتم منها، والصلاة هنا صلاة الخوف، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وكذا فسره ابن عباس‏.‏ والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حدّ ما أمروا به عند قضاء المناسك بذكر الله، فأمروا بذكر الله من‏:‏ التهليل، والتكبير، والتسبيح، والدعاء بالنصر، والتأييد في جميع الأحوال فإن ما هم فيه من ارتقاب مقارعة العدو، حقيق بالذكر، والالتجاء إلى الله‏.‏ أي‏:‏ فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي أتموها‏.‏ وذهب قوم إلى أنّ معنى قضيتم الصلاة‏:‏ تلبستم بالصلاة وشرعتم فيها‏.‏ ومعنى الأمر بالذكر أي‏:‏ صلوها قياماً في حال المسايفة والاختلاط، وقعوداٍ جاثين على الركب من أنين، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح، فهي هيآت لأحوال على حسب تفصيلها‏.‏ فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم، فأقيموا الصلاة أي‏:‏ فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وهو خلاف الظاهر‏.‏ قال‏:‏ وهذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة، والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها، فإذا اطمأن فعليه القضاء، وأما عند أبي حنيفة فهو معذور في تركها الى أن يطمئن‏.‏ وقيل‏:‏ قوله‏:‏ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا، أنه أمر بالصلاة حاله إلا من بعد الخوف قياماً للأصحاء، وقعوداً للعاجزين عن القيام، وعلى جنوبكم العاجرين عن القعود لزمانة أو جراحة أو مرض لا يستطيع القعود معها، فإذا اطمأننتم أي‏:‏ أمنتم من الخوف قاله‏:‏ قتادة، والسدي‏.‏ فأقيموا الصلاة أي‏:‏ صلوها لا كصلاة الخوف، بل كصلاة الأمن في السفر‏.‏ وقيل فإذا اطمأننتم أي‏:‏ فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً‏.‏

‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ أي واجبة في أوقات معلومة قاله‏:‏ ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابن قتيبة‏.‏ ولم يقل موقوتة، لأن الكتاب مصدر، فهو مذكر‏.‏ وروي عن ابن عباس‏:‏ أن المعنى فرضاً مفروضاً، فهما لفظان بمعنى واحد، والظاهر الأول أي‏:‏ فرضاً منجماً في أوقات‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ أجمل هنا تلك الأوقات وفسرها في أوقات خمساً، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظراً إلى المعقول، لأن الحوادث لها مراتب خمس‏:‏ مرتبة الحدوث، ومرتبة الوقوف، ومرتبة الكهولة وفيها نقصان خفي، ومرتبة الشيخوخة، والخامسة‏:‏ أن تبقى آثاره بعد موته مدّة ثم تمحى‏.‏ وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى‏.‏ ما لخصناه من كلامه وطول هو كثيراً في شيء لا يدل عليه القرآن، ولا تقتضيه لغة العرب، ذكر ذلك في تفسيره فمن أراده فليطالعه فيه‏.‏

‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون‏}‏ قيل‏:‏ تزلت في الجهاد مطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ في انصراف الصحابة من أحد، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه، أمر أن لا يخرج إلا مَن كان معه في أحد، فشكوا بأنّ فيهم جراحات‏.‏ وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة‏}‏ إنما هو قضاء صلاة الخوف‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ تهنوا بفتح الهاء وهي لغة‏.‏ فتحت الهاء كما فتحت دال يدع، لأجل حرف الحلق، والمعنى‏:‏ ولا تضعفوا أو تخوروا جبناً في طلب القوم‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير‏:‏ ولا تهانوا من الإهانة‏.‏ نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهم من كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم‏:‏ «لا أريناك هاهنا»، ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم الحجة، فإنّ ما فيهم من الألم مشترك، وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب وإظهار دينه بوعده الصادق، وهم لا يرجونه، فينبغي أن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن‏.‏ وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل، وهم لا يرجون ثواباً في الآخرة، فأنتم أحرى أن تصبروا‏.‏ ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر‏:‏

قاتلوا القوم يا خداع ولا *** يأخذكم من قتالهم قتل

القوم أمثالكم لهم شعر *** في الرأس لا ينشرون أن قتلوا

والرجاء هنا على بابه، وقيل‏:‏ معناه الخوف الذي تخافون من عذاب الله ما لا تخافون كقوله‏:‏ إذا لسعته النحل لم يرج لسعها، أي‏:‏ لم يخف‏.‏ وزعم الفراء أنّ الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله‏.‏ وقرأ ابن المسيفع‏:‏ تئلمون بكسر التاء‏.‏ وقرأ ابن وثاب ومنصور بن المعتمر‏:‏ تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما، وهي لغة‏.‏

‏{‏وكان الله عليماً حكيماً‏}‏ أي عليماً بنياتكم حكيماً فيما يأمركم به وينهاكم عنه‏.‏

‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏ طوَّل المفسرون في سبب النزول، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره‏.‏ نزلت في طعمة بن أبيرق، سرق درعاً في جرب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي، فحلف طعمة ما لي بها علم، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي، فقال اليهودي‏:‏ دفعها إليّ طعمة‏.‏ وقيل‏:‏ استودع يهودي درعاً فخانه، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري‏.‏ قال السدي‏:‏ وقيل‏:‏ السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة، وأن بني أبريق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر، وأهموا أنَّ فاعل ذلك هو لبيد بن سهل، فشكاهم قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول همَّ أن يجادل عن طعمه، أو عن أبيرق، ويقال فيه‏:‏ طعيمة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ أجمع المفسرون على أنّ هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث، إلا ابن بحر فإنه قال‏:‏ نزلت في المنافقين، وهو متصل بقوله‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ انتهى‏.‏ وفي هذه الآية تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم، وتفويض الأمور إليه بقوله‏:‏ لتحكم بين الناس بما أراك الله‏.‏

ومناسبة هذه الآية لما قبلها‏:‏ أنه لما صرح بأحوال المنافقين، واتصل بذلك أمر المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية، رجع إلى أحوال المنافقين، فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي، فأطلعه الله على ذلك وأمره أن لا يلتفت إليهم، وكان بشير منافقاً ويهجو الصحابة وينحل الشعر لغيره، وأما طعمة فارتد، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أنّ كلها من الله، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قوم‏.‏ أو أنه لما أنه يجاهد الكفار، أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم، وأنّ كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق‏.‏

والكتاب هنا القرآن‏.‏ ومعنى بالحق‏:‏ أي لا عوج فيه ولا ميل‏.‏ والناس هنا عام، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي‏.‏ وقيل‏:‏ بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده، معصوم في الأقوال والأفعال‏.‏ وقيل‏:‏ بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن‏.‏ وعن عمر‏:‏ «لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه، لأن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً، لأن الله تعالى كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال، أو بماله عاقبة حميدة، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل»‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ بالحق أي‏:‏ موافقاً لما هو الحق على العباد، ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك، أو بياناً لأمره‏.‏ وحق كائن ثابت وهو البعث والقيامة، ليتزودوا له‏.‏ أو بما يحمل عليهم فاعله، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل‏.‏ بما أراك الله‏:‏ فيه دليل جواز اجتهاده، واجتهاده كالنص، لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب انتهى كلامه‏.‏

‏{‏ولا تكن للخائنين خصيماً‏}‏ أي‏:‏ مخاصماً، كجليس بمعنى مجالس، قاله‏:‏ الزجاج والفارسي وغيرهما‏.‏ ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم، والخائنون جمع‏.‏ فإنّ بني أبريق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة، فظاهر إطلاق الجمع عليهم وإن كان وحده هو الرّجل الذي خان في الدرع أو سرقها، فجاء الجمع باعتباره واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ومن تابعه ممن زكاه، فكانوا شركاء له في الإثم، خصوصاً من يعلم أنه هو السارق‏.‏

أو جاء الجمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا يخاصم لخائن قط، ولا يحاول عنه‏.‏ وخصيماً يحتاج متعلقاً محذوفاً أي البراء‏.‏ والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب‏:‏ أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدّرع وهو زيد بن السمين، أو أبو مليك الأنصاري‏؟‏ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح، أو لبيد بن سهل‏؟‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ وكان يهودياً‏.‏ وذكر المهدوي أنه كان مسلماً‏.‏ وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة، فدل على إسلامه كما ذكر المهدوي‏.‏ ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة وارتد، ونزل على سلافة فرماها حسان به في شعر قاله ومنه‏:‏

وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت *** ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتمو *** وفينا نبي عنده الوحي واضعه

فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل وقالت‏:‏ ما كنت تأتيني بخير أهديت لي شعر حسان، فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده، ثم نقب بيتاً ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات‏.‏ وقيل‏:‏ اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه‏.‏

‏{‏واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً‏}‏ أي‏:‏ استغفر لأمتك المذنبين المتخاصمين بالباطل‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي‏.‏ وقال الطبري والزجاج‏:‏ واستغفر الله أي من ذنبك في خصامك لأجل الخائنين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ليس بذنب، لأنه عليه السلام إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد برائتهم انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح من غير ذنب أو قصد توبة، كما يقول الرجل‏:‏ استغفر الله‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب صورة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بنو أبيرق‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى واستغفر الله مما هممت به قبل النبوّة‏.‏

‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم‏.‏ واختيان الأنفس هو مما يعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم‏.‏ والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهى ملابساً للمنهى عنه‏.‏ وروى العوفي عن ابن عباس‏:‏ أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاصم عن طعمة، وقام يعذر خطيباً‏.‏ وروى قتادة وابن جبير‏:‏ أنه همّ بذلك ولم يفعله‏.‏

‏{‏إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً‏}‏ أتى بصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدم القصد‏.‏ وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة وارتكاب المآثم‏.‏ وقيل‏:‏ إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أنّ لها أخوات‏.‏ وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وقالت‏:‏ هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال‏:‏ كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة‏.‏

وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم، لأنها سبب للإثم خان فأثم، ولتواخي الفواصل‏.‏

‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول‏}‏ الضمير في يستخفون الظاهر‏:‏ أنه يعود على الذين يختانون، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع، حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس إنْ اطلعوا عليها، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي، ويندرج هؤلاء فيهم، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على من باعتبار المعنى، وتكون الجملة نعتاً‏.‏ وهو معهم أي‏:‏ عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم، وهي جملة حالية‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح انتهى‏.‏ وهذا كقول الشاعر‏:‏

يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ *** قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل

أتى بجامع إيمان لمعصية *** كلا أماني كذب ساقها الأمل

أي أن المعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل الاستخفاء‏:‏ الاستتار‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الاستحياء استحى فاستخفى، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول الذي رموا به البريء، ودافعوا به عن السارق‏.‏ والعامل في إذ العامل في معهم، وتقدّم الكلام في التبييت‏.‏

‏{‏وكان الله بما يعملون محيطاً‏}‏ كناية عن المبالغة في العلم‏.‏ ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول‏:‏ جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم‏.‏ وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ، إذ كان تعالى محيطاً بجميع الأقوال والأعمال، فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها‏.‏

‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمّن يكون عليهم وكيلاً‏}‏ تقدم الكلام على ها أنتم هؤلاء، وعلى الجملة بعدها قراءة وإعراباً في سورة آل عمران والخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة‏.‏ والأظهر أن يكون ذلك خطاباً للمتعصبين في قصة طعيمة، ويندرج فيه مَن عمل عملهم‏.‏ ويقوي ذلك أنَّ هؤلاء إشارة إلى حاضرين‏.‏ وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي‏:‏ عن طعمة‏.‏ وفي قوله‏:‏ فمن يجادل الله عنهم، وعيد محض أي‏:‏ أنّ الله يعلم حقيقة الأمر، فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره‏.‏ ومعنى هذا الاستفهام النفي أي‏:‏ لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه‏.‏

والوكيل‏:‏ الحافظ المحامي، والذي يكل الإنسان إليه أموره‏.‏ وهذا الاستفهام معناه النفي أيضاً، كأنه قال‏:‏ لا أحد يكون وكيلاً عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم‏.‏ وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة‏.‏

‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً‏}‏ الظاهر أنهما غير أنّ عمل السوء القبيح الذي يسوء غيره، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي‏.‏ وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب‏.‏ وقيل‏:‏ ومن يعمل سوءاً من ذنب دون الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ السوء الذنب الصغير، وظلم النفس الذنب الكبير‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ وخص ما يبدي إلى الغير باسم السوء، لأن ذلك يكون في الأكثر لا يكون ضرراً حاضراً، لأنّ الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ السوء هنا السرقة‏.‏ وقيل‏:‏ الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ كل ما يأثم به‏.‏ وقيل‏:‏ ظلم النفس هنا رمي البريء بالتهمة‏.‏ وقيل‏:‏ ما دون الشرك من المعاصي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة‏.‏ والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصي على مجرد الاستغفار وأنه كاف، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة‏.‏ وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة، وخص بعضهم ذلك بأنْ تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه، دون ما بينه وبين العبيد‏.‏ وقيل‏:‏ الاستغفار التوبة‏.‏ وفي لفظة‏:‏ يجد الله غفوراً رحيماً، مبالغة في الغفران‏.‏ كأنّ المغفرة والرحمة معدَّان لطالبهما، مهيآن له متى طلبهما وجدهما‏.‏ وهذه الآية فيها لطف عظيم ووعد كريم للعصاة إذا استغفروا الله، وفيها تطلب توبة بني أبيرق والذابين عنهم واستدعاؤهم لها‏.‏ وعن ابن مسعود‏:‏ أنها من أرجى الآيات‏.‏

‏{‏ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً‏}‏ الإثم‏:‏ جامع للسوء وظلم النفس السابقين والمعنى‏:‏ أنّ وبال ذلك لاحق له لا يتعدّاه إلى غيره، وهو إشارة إلى الجزاء اللاحق له في الآخرة‏.‏ وختمها بصفة العلم، لأنه يعلم جميع ما يكسب، لا يغيب عنه شيء من ذلك‏.‏ ثم بصفة الحكمة لأنه واضع الأشياء مواضعها فيجازى على ذلك الإثم بما تقتضيه حكمته‏.‏ فالصفتان أشارتا إلى علمه بذلك الإثم، وإلى ما يستحق عليه فاعله‏.‏ وفي لفظة‏:‏ على، دلالة استعلاء الإثم عليه، واستيلائه وقهره له‏.‏

‏{‏ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً‏}‏ قيل‏:‏ نزلت في طعمة بن أبيرق حين سرق الدرع ورماها في دار اليهودي‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس‏:‏ أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، إذ رمى عائشة بالإفك‏.‏ وظاهر العطف بأو المغايرة، فقيل‏:‏ الخطيئة ما كان عن غير عمد‏.‏ والإثم‏:‏ ما كان عن عمد، والصغيرة والكبيرة، أو القاصر على فعل والمتعدي إلى غيره‏.‏ وقيل‏:‏ الخطيئة سرقة الدرع، والإثم يمينه الكاذبة‏.‏

وقال ابن السائب‏:‏ الخطيئة يمين السارق الكاذبة، والإثم سرقة الدرع، ورمى اليهودي به‏.‏ وقال الطبري‏:‏ الخطيئة تكون عن عمد وغير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد‏.‏ وقيل‏:‏ هما لفظان بمعنى واحد، كرّرا مبالغة‏.‏ والضمير في‏:‏ به، عائد على الإثم، والمعطوف بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف عليه كقوله‏:‏ انفضوا إليها وعلى المعطوف كهذا‏.‏ وتقدم الكلام في ذلك بأشبع من هذا‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الكسب المفهوم من يكسب‏.‏ وقيل‏:‏ على المكسوب‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو، كأنه قيل‏:‏ ثم يرم بأحد المذكورين‏.‏ وقيل‏:‏ ثم محذوف تقديره‏:‏ ومن يكسب خطيئة ثم يرم به بريئاً أو إثماً ثم يرم به بريئاً، وهذه تخاريج من لم يتحقق بشيء من علم النحو‏.‏

والبريء المتهم بالذنب ولم يذنب‏.‏ ومعنى‏:‏ فقد احتمل بهتاناً، أي برميه البريء، فإنه يبهته بذلك، وإثماً مبيناً أي‏:‏ ظاهراً لكسبه الخطيئة أو الإثم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يستحق عقابين‏:‏ عقاب الكسب، وعقاب البهت‏.‏ وقدم البهت لقربه من قوله‏:‏ ثم يرم به بريئاً، ولأنه ذنب أفظع من كسب الخطيئة أو الإثم‏.‏ ولفظ احتمل أبلغ من حمل، لأنّ افتعل فيه للتسبب كاعتمل‏.‏ ويحتمل أن يكون افتعل فيه كالمجرد كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ‏}‏ فيكون كقدر واقتدر‏.‏ لما كان الوزر يوصف بالفعل، جاء ذكر الحمل والاحتمال وهو استعارة‏.‏ جعل المجني كالجرم المحمول‏.‏ ولفظة‏:‏ ومَن تدل على العموم، فلا ينبغي أن تخصّ ببني أبيرق، بل هم مندرجون فيها‏.‏ وقرأ معاذ بن جبل‏:‏ ومن يكِسّب بكسر الكاف وتشديد السين، وأصله‏:‏ يكتسب‏.‏ وقرأ الزهري‏:‏ خطية بالتشديد‏.‏

‏{‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏}‏ الظاهر‏:‏ أنّ الضمير في منهم عائد على بني ظفر المجادلين والذابين عن بني أبيرق‏.‏ أي‏:‏ فلولا عصمته وإيحاؤه إليك بما كتموه، لهموا بإضلالك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل، مع علمهم بأنّ الجاني هو صاحبهم‏.‏ فقد روي أنّ ناساً منهم كانوا يعلمون حقيقة القصة، هذا فيه بعض كلام الزمخشري، وهو قول ابن عباس من رواية السائب‏:‏ أنها متعلقة بقصة طعمة وأصحابه، حيث لبسوا على الرسول أمر صاحبهم‏.‏

وروى الضحاك عن ابن عباس‏:‏ أنها نزلت في وفد ثقيف قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ جئناك نبايعك على أنْ لا نحشر ولا نعشر، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة، فلم يجبهم فنزلت‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وفق الله نبيه على مقدار عصمته له، وأنها بفضل من الله ورحمته‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ لهمت معناه لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه، وهذا يدل على أنّ الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل الغضب لبني أبيرق، وقد وقع همهم وثبت‏.‏ والمعنى‏:‏ ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك ويجعله همّ نفسه، كما فعل هؤلاء، لكن العصمة تبطل كيد الجمع انتهى‏.‏

والظاهر القول الأول كما ذكرنا، إلا أن الهمّ يحتاج إلى قيد أي‏:‏ لهمت طائفة منهم هما يؤثر عندك‏.‏ ولا بد من هذا القيد، لأنهم هموا حقيقة أعني‏:‏ المجادلين عن بني أبيرق، أو يخصّ الضلال عن الدين فإنّ الهم بذلك أي‏:‏ لهموا بإضلالك عن شريعتك ودينك، وعصمة الله إياك منعتهم أن يخطروا ذلك ببالهم‏.‏ وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء أي‏:‏ وبال ما أقدموا عليه من التعاون على الإثم والبهت، وشهادة الزور، إنما هو يخصهم‏.‏ وما يضرونك من شيء مِن تدل على العموم نصاً أي‏:‏ لا يضرونك قليلاً ولا كثيراً‏.‏ قال القفال‏:‏ وهذا وعد بالعصمة في المستقبل‏.‏

‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة‏}‏ الكتاب‏:‏ هو القرآن‏.‏ والحكمة تقدّم تفسيرها والمعنى‏:‏ إنّ من أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وأهله لذلك، وأمره بتبليغ ذلك، هو معصوم من الوقوع في الضلال والشبه‏.‏

‏{‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏}‏ قال ابن عباس ومقاتل‏:‏ هو الشرع‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ أخبار الأولين والآخرين‏.‏ وذكر الماوردي‏:‏ الكتاب والحكمة، وذكر أيضاً مقدار نفسك النفيسة‏.‏ وقيل‏:‏ خفيات الأمور، وضمائر الصدور التي لا يطلع عليها إلا بوحي‏.‏ وقال القفال‏:‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يُراد ما يتعلق بالدين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان‏}‏ وعلى هذا التقدير‏:‏ وأطلعك على أسرار الكتاب والحكمة، وعلى حقائقهما، مع أنك ما كنت عالماً بشيء، فكذلك بفعل بك في مستأنف أيامك، لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك ولا على استزلالك‏.‏ الثاني‏:‏ ما لم تكن تعلم من أخبار القرون السالفة، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين وكيدهم ما لا يقدر على الاحتراز منه انتهى‏.‏ وفيه بعض تلخيص‏.‏ والظاهر العموم، فيشمل جميع ما ذكروه‏.‏ فالمعنى‏:‏ الأشياء التي لم تكن تعلمها‏.‏ لولا إعلامه إياك إياها‏.‏

‏{‏وكان فضل الله عليك عظيماً‏}‏ قيل‏:‏ المنة بالإيمان‏.‏ وقال أبو سليمان‏:‏ هو ما خصه به تعالى‏.‏ وقال أبو عبدالله الرازي‏:‏ هذا من أعظم الدلائل على أنّ العلم أشرف الفضائل والمناقب‏.‏ وذلك أنّ الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا قليلاً، ونصيب الشخص من علوم الخلائق يكون قليلاً، ثم إنه سمى ذلك القليل عظيماً‏.‏

وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع‏.‏ منها الاستعارة في‏:‏ وإذا ضربتم في الأرض، وفي‏:‏ فيميلون استعار الميل للحرب‏.‏ والتكرار في‏:‏ جناح ولا جناح لاختلاف متعلقهما، وفي‏:‏ فلتقم طائفة‏:‏ ولتأت طائفة، وفي‏:‏ الحذر والأسلحة، وفي‏:‏ الصلاة، وفي‏:‏ تألمون، وفي‏:‏ اسم الله‏.‏ والتجنيس المغاير في‏:‏ فيميلون ميلة، وفي‏:‏ كفروا إن الكافرين، وفي‏:‏ تختانون وخواناً، وفي‏:‏ يستغفروا غفوراً‏.‏ والتجنيس المماثل في‏:‏ فأقمت فلتقم، وفي‏:‏ لم يصلوا فليصلوا، وفي‏:‏ يستخفون ولا يستخفون، وفي‏:‏ جادلتم فمن يجادل، وفي‏:‏ يكسب ويكسب، وفي‏:‏ يضلوك وما يضلون، وفي‏:‏ وعلمك وتعلم‏.‏

قيل‏:‏ والعام يراد به الخاص في‏:‏ فإذا قضيتم الصلاة ظاهره العموم، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة، لأن السياق يدل على ذلك، ولذلك كانت أل فيه للعهد انتهى‏.‏ وإذا كانت أل للعهد فليس من باب العام المراد به الخاص، لأن أل للعموم وأل للعهد فهما قسيمان، فإذا استعمل لأحد القسيمين فليس موضوعاً للآخر‏.‏ والإبهام في قوله‏:‏ بما أراك الله وفي‏:‏ ما لم تكن تعلم‏.‏ وخطاب عين ويراد به غيره وفي‏:‏ ولا تكن للخائنين خصيماً فإنه صلى الله عليه وسلم محروس بالعصمة أن يخاصم عن المبطلين‏.‏ والتتميم في قوله‏:‏ وهو معهم للإنكار عليهم والتغليظ لقبح فعلهم لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده، وأصل المعية في الإجرام، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة‏.‏ وإطلاق وصف الإجرام على المعاني فقد احتمل بهتاناً‏.‏ والحذف في مواضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 126‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏

النجوى مصدر كالدعوى يقال‏:‏ نجوت الرجل أنجوه نجوى إذا ناجيته‏.‏ قال الواحدي‏:‏ ولا تكون النجوى إلا بين اثنين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ النجوى ما انفرد به الجماعة، أو الإثنان سرّاً كان وظاهراً انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ المسارة، وتطلق النجوى على القوم المتناجين، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ نجوى جمع نجي، وتقدم الكلام في هذه المادة، وتكرر هنا لخصوصية البنية‏.‏

مريد من مرد، عتا وعلا في الحذاقة، وتجرد للشر والغواية‏.‏ وقال ابن عيسى‏:‏ وأصله التملس، ومن شجرة مرداء أي ملساء تناثر ورقها، وغلام أمرد لا نبات بوجهه، وصرح ممرد مملس لا يعلق به شيء لملاسته، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل‏.‏ البتك‏:‏ الشق والقطع، بتك يبتك، وبتك للتكثير، والبتك القطع واحدها بتكة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

حتى إذا ما هوت كف الوليد لها *** طارت وفي كفه من ريشها بتك

محيص‏:‏ مفعل من حاص يحيص، زاع بنفور ومنه‏:‏ فحاصوا حيصة حمر الوحش‏.‏ وقول الشاعر‏:‏

ولم ندر أن حصنا من الموت حيصة *** كم العمر باق والمدا متطاول

ويقال جاض بالجيم والضاد المعجمة والمحاص مثل المحيص‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تحيص من حكم المنية جاهداً *** ما للرجال عن المنون محاص

وفي المثل‏:‏ وقعوا في حيص بيص‏.‏ وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه، ويقال‏:‏ حاص يحوص حوصاً وحياصاً إذا نفر وزايل المكان الذي فيه‏.‏ والحوص في العين ضيق مؤخرها‏.‏ الخليل‏:‏ فعيل من الخلة، وهي الفاقة والحاجة‏.‏ أو من الخلة وهي صفاء المودّة، أو من الخلل‏.‏ قال ثعلب‏:‏ سمى خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته‏.‏ وأنشد قول بشار‏:‏

قد تخللت مسلك الروح مني *** وبه سمي الخليل خليلا

‏{‏لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏}‏ الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله‏:‏ ابن عباس وغيره‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر طعمة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هو عائد على الناس أجمع‏.‏

وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحاب النازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى‏.‏ وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدراً، ويمكن اتصاله على حذف مضاف أي‏:‏ إلا نجوى من أمر، وقاله‏:‏ أبو عبيدة‏.‏ وإن كان النجوى المتناجين قيل‏:‏ ويجوز في‏:‏ مِن الخفض من وجهين‏:‏ أن يكون تابعاً لكثير، أو تابعاً للنجوى، كما تقول‏:‏ لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة، وإن شئت اتبعته القوم‏.‏

ويجوز أن يكون مِن أمر مجروراً على البدل من كثير، لأنه في حيز النفي، أو على الصفة‏.‏ وإذا كان منقطعاً فالتقدير‏:‏ لكن مَن أمر بصدقة فالخير في نجواه‏.‏ ومعنى أمر‏:‏ حث وحض‏.‏ والصدقة تشمل الفرض والتطوّع‏.‏ والمعروف عام في كل بر‏.‏ واختاره جماعة منهم‏:‏ أبو سليمان الدمشقي، وابن عطية‏.‏ فيندرج تحته الصدقة والاصلاح‏.‏ لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتماماً، إذ هما عظيما الغذاء في مصالح العباد‏.‏ وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما، حتى صار القسم قسيماً‏.‏ وقيل‏:‏ المعروف الفرض‏.‏ روي ذلك عن ابن عباس ومقاتل‏.‏ وقيل‏:‏ إغاثة الملهوف‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع انتهى‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ «كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له إلا مَن كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى»‏.‏ وحدّث سفيان الثوري بهذا الحديث أقواماً فقال أحدهم‏:‏ ما أشد هذا الحديث‏!‏ فقال له‏:‏ ألم تسمع كل معروف صدقة، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ‏.‏ وقال الحطيئة‏:‏

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس

وظاهر قوله‏:‏ أو إصلاح بين الناس، أنه في كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع‏.‏ وقيل‏:‏ هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين‏.‏ قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه‏:‏ ذكر ثلاثة أنواع، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله‏:‏ أو إصلاح بين الناس‏.‏ أو بإيصال المنفعة إما جسمانياً وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ بصدقة‏.‏ أو روحانياً وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ أو معروف‏.‏

وقال الراغب‏:‏ يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعرفه معروف، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر‏.‏ ووجه ذلك أنه تعالى ركّز في العقول معرفة الخبر والشر، وإليه أشار بقوله‏:‏ ‏{‏صبغة الله‏}‏ ‏{‏وفطرة الله‏}‏ وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى‏.‏ وهذه نزغة اعتزالية في أنّ العقل يحسن ويقبح‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة، وبدأ بأكثرها نفعاً وهو إيصال النفع إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل، والإصلاح بين الناس على سياستهم، وما يؤدي إلى نظم شملهم انتهى‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل‏:‏ بلى يا رسول الله، قال‏:‏ صلاح ذات البين» وخصّ مَن أمر بهذه الأشياء، وفي ضمن ذلك أنّ الفاعل أكثر استحقاقاً من الأمر، وإذا كان الخير في نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى‏.‏‏.‏

‏{‏ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏ لما ذكر أن الخير في مَن أمر ذكر ثواب من فعل، ويجوز أن يريد‏:‏ ومن يأمر بذلك، فيعبر بالفعل عن الأمر، كما يعبر به عن سائر الأفعال‏.‏

وقرأ أبو عمرو وحمزة‏:‏ يؤتيه بالياء، والباقون بالنون على سبيل الالتفات، ليناسب ما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏نوله ما تولى ونصله‏}‏ فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب‏.‏ ومن قرأ بالياء لحظ الإسم الغائب في قوله‏:‏ ابتغاء مرضاة الله، وفي قوله‏:‏ ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة‏.‏

‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً‏}‏ نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته، وبرّأ اليهودي، ارتد وذهب إلى مكة وتقدّم ذلك موته وسببه‏.‏ ومما قيل فيه‏:‏ إنه ركب في سفينة فسرق منها مالاً فعلم به، فألقي في البحر‏.‏ وقيل‏:‏ لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنماً لهم ومات على الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا، ثم ارتدّوا‏.‏ وتقدم معنى المشاقة في قوله‏:‏ ‏{‏فإنما هم في شقاق‏}‏ ومن يشاقق‏:‏ عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى‏:‏ أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية‏.‏ ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة وإطلاعه إياه على ما بيتوه وزوّروه، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم من ذنب الجاهل، لأنّ من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه، أو يعرفه من يصدقه‏.‏ والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته، فهو أعظم جرماً إذا اطلع على الحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى، إذ جعل له نور يهتدي به‏.‏ وسبيل المؤمنين‏:‏ هو الدين الحنيفي الذي هم عليه‏.‏ وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة، ولكنه بدأ بالأعظم في الإثم، وأتبع بلازمه توكيداً‏.‏

واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة‏.‏ وقد طول أهل أصول الفقه في تقرير الدلالة منها، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو دليل على أنّ الإجماع حجة لا يجوز مخالفتها، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول انتهى كلامه‏.‏

وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين، ولذلك كان الفعل معطوفاً على الفعل، ولم يعد معه اسم شرط‏.‏ فلو أعيد اسم الشرط وكان، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهور مّا على ما ادّعوا، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله‏:‏ ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايراً لقوله‏:‏ ومن يشاقق الرسول‏.‏ وقد قلنا‏:‏ إنه ليس بمغاير، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه‏.‏ والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه‏.‏ واستدل بهذه الآية على وجوب عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ما تولى قال ابن عطية‏:‏ وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يجعله بالياء، وما تولى من الضلالة بأن تخذله وتخلى بينه وبين ما اختار انتهى‏.‏ وهذا على منزعه الاعتزالي‏.‏ وقرئ‏:‏ وتصله بفتح النون من صلاه‏.‏ وقرأ ابن أبي عيلة‏:‏ يوله ويصله بالياء فيهما جرياً على قوله‏:‏ فسوف يؤتيه بالياء، وفي هاء نوله ونصله‏:‏ الإشباع والاختلاس والإسكان وقرئ بها‏.‏

‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً‏}‏ تقدّم مثل تفسير هذه الآية، ونزلت قيل‏:‏ في طعمة‏.‏ وقيل‏:‏ في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين‏.‏ وقيل‏:‏ في شيخ قال‏:‏ لم أشرك بالله منذ عرفته، إلا أنه كان يأتي ذنوباً، وأنه ندم واستغفر، إلا أنّ آخر ما تقدّم فقد افترى إثماً عظيماً، وآخر هذه فقد ضل ضلالاً بعيداً ختمت كل آية بما يناسبها‏.‏ فتلك كانت في أهل الكتاب، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباع شريعته، ونسخها لجميع الشرائع، ومع ذلك قد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله تعالى والإيمان بما نزل، فصار ذلك افتراء واختلافاً مبالغاً في العظم والجرأة على الله‏.‏

وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا بالله، فضلوا بذلك ضلالاً يستبعد وقوعه، أو يبعد عن الصواب‏.‏ ولذلك جاء بعده‏:‏ ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً‏}‏ وجاء بعد تلك‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ ولم يختلف أحد من المتأولين في أنّ المراد بهم اليهود، وأن كان اللفظ عاماً‏.‏

ولما كان الشرك من أعظم الكبائر، كان الضلال الناشئ عنه بعيداً عن الصواب، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالاً لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق، لأن له رأس مال يرجع إليه وهو الإيمان، بخلاف المشرك‏.‏ ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ وناسب هنا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً‏}‏ المعنى‏:‏ ما يعبدون من دون الله ويتخذونه إلهاً إلا مسميات تسمية الإناث‏.‏ وكنى بالدعاء عن العبادة، لأنّ من عبد شيئاً دعاه عند حوائجه ومصالحه‏.‏ وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلى، ويسمونها أنثى وإناث، جمع أنثى كرباب جمع ربى‏.‏ قال ابن عباس، والحسن، وقتادة‏:‏ المراد الخشب والحجارة، فهي مؤنثات لا تعقل، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء‏.‏ فيجيء قوله‏:‏ إلا إناثاً، عبارة عن الجمادات‏.‏ وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم‏:‏ كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونايلة‏.‏ ويردّ على هذا بأنها كانت تسمى أيضاً بأسماء مذكرة‏:‏ كهبل، وذي الخلصة‏.‏

وقال الضحاك وغيره‏:‏ المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها، فقيل لهم‏:‏ هذا على إقامة الحجة من فاسد قولهم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان، وفي هذا تعبيرهم بالتأنيث لنقصه وخساسته بالنسبة للتذكير‏.‏ وقال الراغب‏:‏ أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه، وعلى هذا نبه إبراهيم عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر‏}‏ وقرأ أبو رجاء‏:‏ إنْ تدعون بالتاء على الخطاب، ورويت عن عاصم‏.‏ وفي مصحف عائشة رضي الله عنها‏:‏ إلا أوثاناً جمع وثن، وهو الصنم‏.‏ وقرأ بذلك أبو السوار والهناي‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ إلا أنثى على التوحيد‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبو حيوة، والحسن، وعطاء، وأبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القاري‏:‏ أنثاً‏.‏ قال الطبري‏:‏ فيما حكى إناث كثمار وثمر‏.‏ وقال غيره‏:‏ أنث جمع أنيث، كغرير وغرر‏.‏ وقال المغربي‏:‏ إلا إناثاً إلا ضعافاً عاجزين لا قدرة لهم، يقال‏:‏ سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث غير قاطع‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فتخبرني بأن العقل عندي *** جراز لا أقل ولا أنيث

أنث في أمره لان، والأنيث المخنث الضعيف من الرجال‏.‏ وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء‏:‏ إلا وثناً بفتح الواو والثاء من غير همزة‏.‏ وقرأ ابن المسيب، ومسلم بن جندب، ورويت عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء‏:‏ الا أنثا، يريدون وثناً، فأبدل الهمزة واواً، وخرج على أنه جمع جمع إذ أصله وثن، فجمع على وثان كجمل وجمال، ثم وثان على وثن كمثال، ومثل وحمار وحمر‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ هذا خطأ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير، والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع، وإنما يجمع جموع التقليل، والصواب أن يقال‏:‏ وثن جمع وثن دون واسطة، كأسد وأسد انتهى‏.‏ وليس قوله‏:‏ وإنما يجمع جموع التقليل بصواب، كامل الجموع مطلقاً لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل، نص على ذلك النحويون‏.‏ وقرأ أيوب السجستاني‏:‏ الاوثنا بضم الواو والثاء من غير همزة، كشقق‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ الاثنا بسكون الثاء، وأصله وثناً، فاجتمع في هذا اللفظ ثماني قراءات‏:‏ إناثاً، وأنثى، وأنثا، وأوثاناً، ووثناً، ووثنا، واثناً، وأثنا‏.‏

‏{‏وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله‏}‏ المراد به إبليس قاله‏:‏ الجمهور، وهو الصواب، لأن ما قاله بعد ذلك مبين أنه هو‏.‏ وقيل‏:‏ الشيطان المعين بكل صنم‏:‏ أفرد لفظاً وهو مجموع في المعنى الواحد يدل على الجنس‏.‏ قيل؛ كان يدخل في أجواف الأصنام فيكلم داعيها، ويحتمل أن يكون لعنه الله صفة، وأن يكون خبراً عنه‏.‏ وقيل‏:‏ هو دعاء، ولا يتعارض الحصران، لأن دعاء الأصنام ناشئ عن دعائهم الشيطان، لما عبدوا الشيطان أغراهم بعبادة الأصنام، أو لاختلاف الدعاءين، فالأول عبادة، والثاني طواعية‏.‏ وقال ابن عيسى‏:‏ هو مثل‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏ يعني‏:‏ أن نسبة دعائهم الأصنام هو على سبيل المجاز‏.‏ وأما في الحقيقة فهم يدعون الشيطان‏.‏

‏{‏وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً‏}‏ أي نصيباً واجباً اقتطعته لنفسي من قولهم‏:‏ فرض له في العطاء، وفرض الجند رزقهم‏.‏ والمعنى‏:‏ لأستخلصنهم لغوايتي، ولأخصنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ المفروض هنا معناه المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض، وهو الحز في العود وغيره، ويحتمل أن يريد واجباً أن اتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس‏.‏ قال الحسن‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعون قالوا‏:‏ ولفظ نصيب يتناول القليل فقط‏.‏ والنص إنّ أتباع إبليس هم الكثير بدليل‏:‏ ‏{‏لأحتنكن ذريته إلا قليلاً‏}‏ ‏{‏فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين‏}‏ وهذا متعارض‏.‏

وأجيب أن التفاوت إنما يحصل في نوع البشر، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين‏.‏ وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد، نصيبهم عظيم عند الله تعالى‏.‏ والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم‏.‏ انتهى تلخيص ما أحب به‏.‏ والذي أقول‏:‏ إنّ لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ الآية‏.‏ والواو‏:‏ قيل عاطفة، وقيل واو الحال‏.‏

‏{‏ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق الله‏}‏ هذه خمسة أقسم إبليس عليها‏:‏ أحدها‏:‏ اتخاذ نصيب من عباد الله وهو اختياره إياهم‏.‏ والثاني‏:‏ إضلالهم وهو صرفهم عن الهداية وأسبابها‏.‏ والثالث‏:‏ تمنيته لهم وهو التسويل، ولا ينحصر في نوع واحد، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك، وهي كلها أماني كواذب باطلة‏.‏

وقيل‏:‏ الأماني تأخير التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، ونحو ذلك انتهى‏.‏ وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب الله عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله‏.‏ والرابع‏:‏ أمره إياهم الناشئ عنه تبتيك آذان الأنعام، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن‏.‏ وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله‏:‏ عكرمة، وقتادة، والسدي‏.‏ وقيل‏:‏ فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملاً بفطرته، فجعل الإنسان ناقصاً بسوء تدبيره‏.‏ والخامس أمره إياهم الناشئ عنه تغيير خلق الله تعالى‏.‏

قال ابن عباس، وابراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغيرهم‏.‏ أراد تغيير دين الله، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله‏:‏ ‏{‏فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله‏}‏ أي لدين الله‏.‏ والتبديل يقع موقعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه‏.‏ ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر، ومعناه‏:‏ النهي‏.‏ وقالت فرقة منهم الزجاج‏:‏ هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة، وغير ذلك مما عبدوه‏.‏ وقال ابن مسعود، والحسن‏:‏ هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين، فمن ذلك الحديث في‏:‏ «لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ولعن الواصلة والمستوصلة» انتهى‏.‏

وقال ابن عباس أيضاً وأنس، وعكرمة، وأبو صالح، ومجاهد، وقتادة أيضاً‏:‏ هو الخصاء، وهو في بني آدم محظور‏.‏ وكره أنس خصاء الغنم، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل‏.‏ وقيل للحسن‏:‏ إن عكرمة قال؛ هو الخصاء قال‏:‏ كذب عكرمة، هو دين الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ التخنث‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى‏.‏ وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام، فناسب أن يكون التغيير هذا‏.‏ وقيل‏:‏ تغيير خلق الله هو أنَّ كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه‏.‏ وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سبباً للتناسل على وجه مخصوص، فاستعان به في السفاح واللواط، فذلك تغيير خلق الله‏.‏ وكذلك المخنث إذا نتف لحيته، وتقنع تشبهاً بالنساء، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان‏.‏ وكل ما حلله الله فحرموه، أو حرمه تعالى فحللوه‏.‏ وعلى ذلك‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاًً‏}‏ وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، ولهذا قالوا‏:‏ هو تغيير أحكام الله‏.‏

وقيل‏:‏ هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي‏.‏ وقيل‏:‏ خضاب الشيب بالسواد‏.‏ وقيل‏:‏ معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان، وشق المناخر، وكل العيون، وقطع الأنثيين‏.‏ ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما هو خاص في التغيير، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر‏.‏ وفي حديث عياض المجاشعي‏:‏ «وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي»‏.‏ ومفعول أمر الثاني محذوف أي‏:‏ ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن‏.‏ وحذف لدلالة ما بعده عليه‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ولآمرنهم بغير ألف، كذا قاله ابن عطية‏.‏ وقرأ أبي‏:‏ وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى‏.‏ فتكون جملاً مقولة، لا مقسماً عليها‏.‏ وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة، بدأ أولاً باستخلاص الشيطان نصيباً منهم واصطفائه إياهم، ثم ثانياً بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر، ثم ثالثاً بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة، ثم رابعاً بتبتيك آذان الأنعام، هو حكم لم يأذن الله فيه، ثم خامساً بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم‏.‏ وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجاً تحت عموم التغيير، ليكون ذلك استدراجاً لما يكون بعده من التغيير العام، واستيضاحاً من إبليس طواعيتهم في أول شيء يلقيه إليهم، فيعلم بذلك قبولهم له‏.‏ فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه‏:‏ يأمره أولاً بشيء سهل، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه‏.‏ وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها يقتضي علم ذلك، وأنها تقع إمّا لقوله تعالى‏.‏ ‏{‏لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه‏.‏

‏{‏ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً‏}‏ أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من الله‏.‏ وكأنه لما قال إبليس‏:‏ لأتخذن من عبادك نصيباً، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له، فاتخذوه ولياً من دون الله‏.‏ والوليّ هنا قال مقاتل‏:‏ بمعنى الرب‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ من الموالاة، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين، لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته‏.‏ وقوله‏:‏ من دون الله، قيد لازم‏.‏ لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً إلا إذا لم يتخذ الله ولياً، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً ويتخذ الله ولياً، لأنهما طريقان متباينان، لا يجتمعان هدى وضلالة‏.‏ وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان‏.‏

‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ‏}‏ لفظان متقاربان والمعنى‏:‏ أن الذي أقسم عليه مِن أن يمنيهم وقع بإخبار الله تعالى عنه بذلك، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها وظهورها‏.‏

ولما كان الوعد والتمنية من أمور الباطن، أخبر الله عنه بها‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة، وأنه لا ثواب ولا عقاب‏.‏

‏{‏وما يعدهم الشيطان إلا غروراً‏}‏ قرأ الأعمش‏:‏ وما يعدهم يسكون الدال، خفف لتوالي الحركات‏.‏ وتقدّم تفسير الغرور ومعناه‏:‏ هنا الخدع التي تظن نافعة، ويكشف الغيب أنها ضارة‏.‏ واحتمل النصب أن يكون مفعولاً ثانياً، أو مفعولاً من أجله، أو مصدراً على غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يغرهم، ويكون ثم وصف محذوف أي‏:‏ إلا غروراً واضحاً أو نحوه، أو نعتاً لمصدر محذوف أي‏:‏ وعداً غروراً‏.‏ أي‏:‏ ذا غرور‏.‏

‏{‏أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً‏}‏ أخبر تعالى أنّ المكان الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم، وأنهم لا يجدون عنها مراغاً يروغون إليه‏.‏ وعنها‏:‏ لا يجوز أن تتعلق بمحذوف، لأنها لا تتعدّى بعن، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر، فيحتمل أن يكون ذلك تبييناً على إضماراً عني‏.‏ وجوزوا أن يكون حالاً من محيص، فيتعلق بمحيص أي‏:‏ كائناً عنها، ولو تأخر لكان صفة‏.‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً‏}‏ لما ذكر مأوى الكفار، ذكر مأوى المؤمنين، وأسند الفعل إلى نون العظمة، اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة وتشريفاً لهم‏.‏ وقرئ‏:‏ سيدخلهم بالياء‏.‏ ولما رتب تعالى مصير مَن كان تابعاً لإبليس إلى النار لإشراكه وكفره وتغيير أحكام الله تعالى، رتّب هنا دخول الجنة على الإيمان وعمل الصالحات‏.‏

‏{‏وَعْدَ الله حَقّا‏}‏ لما ذكر أنّ وعد الشيطان هو غرور باطل، ذكر أنّ هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه، ولا شك في إنجازه‏.‏ والذين مبتدأ، وسيدخلهم الخبر‏.‏ ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي‏:‏ وسندخل الذين آمنوا سندخلهم‏.‏ وانتصب وعد الله حقاً على أنه مصدر مؤكد لغيره، فوعد الله مؤكداً لقوله‏:‏ سيدخلهم، وحقاً مؤكد لوعد الله‏.‏

‏{‏ومن أصدق من الله قيلاً‏}‏ القيل والقول واحد، أي‏:‏ لا أحد أصدق قولاً من الله‏.‏ وهي جملة مؤكدة أيضاً لما قبلها‏.‏ وفائدة هذه التواكيد المبالغة فيما أخبر به تعالى عباده المؤمنين، بخلاف مواعيد الشيطان وأمانته الكاذبة المخلفة لأمانيه‏.‏

‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏}‏ قال ابن عباس، والضحاك، وأبو صالح، ومسروق، وقتادة، والسدي، وغيرهم‏:‏ الخطاب للأمة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب فقالوا‏:‏ ديننا أقدم من دينكم‏.‏ وأفضل، فنبينا قبل نبيكم‏.‏ وقال المؤمنون‏:‏ كتابنا يقضي على الكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، ونحو هذا من المحاورة فنزلت‏.‏ وقال مجاهد وابن زيد‏:‏ الخطاب لكفار قريش، وذلك أنهم قالوا‏:‏ لن نبعث ولن نعذب، وإنما هي حياتنا لنا فيها النعيم، ثم لا عذاب‏.‏

وقالت اليهود‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه‏.‏ إلى نحو هذا من الأقوال كقولهم

‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ فرد الله تعالى على الفريقين‏.‏

وقال الزمخشري في ليس‏:‏ ضمير وعد الله، أي‏:‏ ليس ينال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏.‏ والخطاب للمسلمين، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به، ولذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان‏.‏ وعن الحسن‏:‏ ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل‏.‏ إنَّ قوماً ألهتم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا‏:‏ نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل‏.‏ ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم‏:‏ إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً، لأوتين مالاً وولداً إن لي عنده للحسنى‏.‏ وكان أهل الكتاب يقولون‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك انتهى‏.‏

وعلى هذه الأقوال وقع الاختلاف في اسم ليس، وأقربها أنَّ الذي يعود الضمير عليه هو الوعد من أنه تعالى يدخلهم الجنة، ويليه أن يعود على الإيمان المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ كما ذهب إليه الحسن، ثم إنه يعود على ما وقعت فيه محاورة المؤمنين وأهل الكتاب، أو ما قالته قريش وأهل الكتاب على ما مر ذكره‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ اسم ليس مضمر فيها على معنى‏:‏ ليس الثواب عن الحسنات ولا العقاب على السيئات بأمانيكم، لأنّ الاستحقاق إنما يكون بالعمل، لا بالأماني‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ليس مضمر فيها ولم يتقدم له ذكر، وإنما دل عليه سبب الآية، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا‏:‏ نحن أصحاب الجنة‏.‏ وقال المشركون‏:‏ لا نبعث‏.‏ فقال‏:‏ ليس بأمانيكم أي‏:‏ ليس ما ادعيتموه بأمانيكم‏.‏ وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة بن نصاح، والحكم، والأعرج‏:‏ بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ساكنة الياء، جمع على فعالل، كما يقال‏:‏ قراقير وقراقر، جمع قرقور‏.‏

‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ قال الجمهور‏:‏ اللفظ عام، والكافر والمؤمن مجازيان بالسوء يعملانه‏.‏ فمجازاة الكافر النار، والمؤمن بنكبات الدنيا‏.‏ فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ لما نزلت قلت‏:‏ يا رسول الله ما أشد هذه الآية جاءت قاصمة الظهر، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما هي المصيبات في الدنيا» وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها‏.‏ وقال به‏:‏ أبي بن كعب، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها فقال له‏:‏ أي ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى، ما يصيب الرجل خدش أو غيره إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر‏.‏

وخصص الحسن، وابن زيد بالكفار يجازون على الصغائر والكبائر‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب، ورأى هؤلاء أن الله تعالى وعد المؤمنين بتكفير السيئات‏.‏ وخصص السوء ابن عباس، وابن جبير بالشرك‏.‏ وقيل‏:‏ السوء عام في الكبائر‏.‏

‏{‏ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً‏}‏ روى ابن بكار عن ابن عامر ولا يجد بالرفع على القطع‏.‏

‏{‏ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة‏}‏ مِن الأولى هي للتبعيض، لأن كل واحد لا يتمكن من عمل كل الصالحات، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه‏.‏ وكم مكلف لا يلزمه زكاة ولا حج ولا جهاد، وسقطت عنه الصلاة في بعض الأحوال على بعض المذاهب‏.‏ وحكى الطبري عن قوم‏:‏ أنّ من زائدة، أي‏:‏ ومن يعمل الصالحات‏.‏ وزيادة من في الشرط ضعيف، ولا سيما وبعدها معرفة‏.‏ ومِن الثانية لتبيين الإبهام في‏:‏ ومن يعمل‏.‏ وتقدم الكلام في أوفى قوله‏:‏ ‏{‏لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى‏}‏ وهو مؤمن‏.‏ جملة حالية، وقيد في عمل الإنسان لأنه لو عمل من الأعمال الصالحة ما عمل فلا ينفعه إلا إن كان مؤمناً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وإذا أبطل الله الأماني وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل الصالح وأن من أصلح عمله فهو الفائز، ومن أساء عمله فهو الهالك، تبين الأمر ووضح، ووجب قطع الأماني وحسم المطامع، والإقبال على العمل الصالح، ولكنه نصح لا تعيه الآذان، ولا تلقى إليه الأذهان انتهى‏.‏ والذي تدل عليه الآية أن الإيمان شرط في الانتفاع بالعمل، لأنّ العمل شرط في صحة الإيمان‏.‏

‏{‏ولا يظلمون نقيراً‏}‏ ظاهره‏:‏ أنه يعود إلى أقرب مذكور وهم المؤمنون، ويكون حكم الكفار كذلك‏.‏ إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر، أنّ كلاهما يجزى بعمله، ولأنّ ظلم المسيء أنه يزاد في عقابه‏.‏ ومعلوم أنه تعالى لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه‏.‏ والمحسن له ثواب، وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل‏.‏ فنفي الظلم دلالة على أنه لا يقع نقص في الفضل‏.‏ ويحتمل أن يعود الضمير في‏:‏ ولا يظلمون إلى الفريقين، عامل السوء، وعامل الصالحات‏.‏ وقرأ‏:‏ يدخلون مبنياً للمفعول هنا، وفي مريم، وأوّلي غافر بن كثير وأبو عمر وأبو بكر‏.‏ وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكرفي ثانية غافر‏.‏ وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر‏.‏ وقرأ الباقون مبنياً للفاعل‏.‏

‏{‏ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن‏}‏ تقدم الكلام على نحوه في قولين من أسلم وجهه لله وهو محسن‏.‏

‏{‏واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً‏}‏ تقدم الكلام على ملة إبراهيم حنيفاً في قوله‏:‏ ‏{‏قل بل ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ واتباعه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ في التوحيد‏.‏ وقال أبو سليمان الدمشقي‏:‏ في القيام لله بما فرضه‏.‏

وقيل‏:‏ في جميع شريعته إلا ما نسخ منها‏.‏

‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله‏.‏ وتقدم اشتقاق الخليل في المفردات‏.‏ والجمهور‏:‏ على أنها من الخلة وهي المودّة التي ليس فيها خلل‏.‏ وقول محمد بن عيسى الهاشمي‏:‏ إنه إنما سمي خليلاً لأنه تخلى عما سوى خليله‏.‏ فإن كان فسر المعنى فيمكن، وإن كان أراد الاشتقاق فلا يصح لاختلاف المادتين‏.‏ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يا جبريل بمَ اتخذ الله ابراهيم خليلاً‏؟‏ قال‏:‏ لإطعامه الطعام» والكرامة التي أكرمه الله بها ذكروها في قصة مطولة عن ابن عباس مضمونها‏:‏ أن الله قلب له غرائر الرمل دقيقاً حواري عجن، وخبز وأطعم الناس منه‏.‏ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اتخذ الله ابراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال‏:‏ وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجييّ» لما أثنى على من اتبع ملة ابراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه، ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه‏.‏ لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببها حنيفية ابراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله‏:‏ ‏{‏وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً‏}‏ أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات‏.‏ ونبه بذلك على أنّ من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه‏.‏ وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة مَن، ولا تصلح هذه للصلة، وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر، أي‏:‏ لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ ما موقع هذه الجملة‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم‏:‏ والحوادث جمة، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته انتهى‏.‏ فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصح قوله، كأنه يقول‏:‏ اعترضت الكلام‏.‏ وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول، وشرط وجزاء، وقسم ومقسم عليه، وتابع ومتبوع، وعامل ومعمول، وقوله‏:‏ كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم‏:‏ والحوادث جمة، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله‏:‏

وقد أدركتني والحوادث جمة *** أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل

ونحو قال الآخر‏:‏

ألا هل أتاها والحوادث جمة *** بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا

ولا نحفظه جاء آخر كلام‏.‏

‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض‏}‏ لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات، أخبر بعظيم ملكه‏.‏

وملكه بجميع ما في السموات، وما في الأرض، والعالم مملوك له، وعلى المملوك طاعة مالكه‏.‏ ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لما ذكرناه، ولما تقدم ذكر الخلة، فذكر أنه مع الخلة عبد الله، وأن الخلة ليست لاحتياج، وإنما هي خلة تشريف منه تعالى لابراهيم عليه السلام مع بقائه على العبودية‏.‏

‏{‏وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ مُّحِيطاً‏}‏ أي‏:‏ عالماً بكل شيء من الجزئيات والكليات، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها، قليلها وكثيرها‏.‏

وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع‏.‏ منها التجنيس المغاير في‏:‏ فقد ضل ضلالاً، وفي‏:‏ فقد خسر خسراناً، وفي‏:‏ ومن أحسن وهو محسن‏.‏ والتكرار في‏:‏ لا يغفر ويغفر، وفي‏:‏ يشرك ومن يشرك، وفي‏:‏ لآمرنهم، وفي‏:‏ اسم الشيطان، وفي‏:‏ يعدهم وما يعدهم، وفي‏:‏ الجلالة في مواضع، وفي‏:‏ بأمانيكم ولا أماني، وفي‏:‏ من يعمل ومن يعمل، وفي‏:‏ ابراهيم‏.‏ والطباق المعنوي في‏:‏ ومن يشاقق والهدى، وفي‏:‏ أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن، وفي‏:‏ سواء والصالحات‏.‏ والاختصاص في‏:‏ بصدقة أو معروف أو إصلاح، وفي‏:‏ وهو مؤمن، وملة ابراهيم، وفي‏:‏ ما في السموات وما في الأرض‏.‏ والمقابلة في‏:‏ من ذكر أو أنثى‏.‏ والتأكيد بالمصدر في‏:‏ وعد الله حقاً‏.‏ والاستعارة في‏:‏ وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي‏:‏ محيطاً عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته‏.‏ والحذف في عدة مواضع‏.‏