فصل: تفسير الآيات رقم (36- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏ فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

أزل‏:‏ من الزلل، وهو عثور القدم‏.‏ يقال‏:‏ زلت قدمه، وزلت به النعل‏.‏ والزلل في الرأي والنظر مجاز، وأزال‏:‏ من الزوال، وأصله التنحية‏.‏ والهمزة في كلا الفعلين للتعدية‏.‏ الهبوط‏:‏ هو النزول، مصدر هبط، ومضارعه يهبط ويهبط بكسر الباء وضمها، والهبوط بالفتح‏:‏ موضع النزول‏.‏ وقال المفضل‏:‏ الهبوط‏:‏ الخروج عن البلدة، وهو أيضاً الدخول فيها من الأضداد، ويقال في انحطاط المنزلة مجازاً، ولهذا قال الفراء‏:‏ الهبوط‏:‏ الذل، قال لبيد‏:‏

إن يقنطوا يهبطوا يوماً وإن أُمروا *** بعض‏:‏ أصله مصدر بعض يبعض بعضاً، أي قطع، ويطلق على الجزء، ويقابله كل، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام، قالوا‏:‏ مررت ببعض قائماً، وبكل جالساً، وينوي فيهما الإضافة، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام، ولذلك خطئوا أبا القاسم الزجاجي في قوله‏:‏ ويبدل البعض من الكل، ويعود الضمير على بعض، إذا أريد به جمع مفرداً ومجموعاً‏.‏ وكذلك الخبر والحال والوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه‏.‏ العدو‏:‏ من العداوة، وهي مجاوزة الحدّ، يقال‏:‏ عدا فلان طوره إذا جاوزه، وقيل‏:‏ العداوة، التباعد بالقلوب من عدوى الجبل، وهما طرفاه، سميا بذلك لبعد ما بينهما، وقيل‏:‏ من عدا‏:‏ أي ظلم، وكلها متقاربة في المعنى‏.‏ والعدو يكون للواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث، وقد جمع فقيل‏:‏ أعداء، وقد أنث فقالوا‏:‏ غدوة، ومنه‏:‏ أي عدوات أنفسهن‏.‏ وقال الفراء‏:‏ قالت العرب للمرأة‏:‏ عدوة الله، وطرح بعضهم الهاء‏.‏ المستقر‏:‏ مستفعل من القرار، وهو اللبث والإقامة، ويكون مصدراً وزماناً ومكاناً لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف، فيكون لما ذكر بصورة المفعول، ولذلك سميت الأرض‏:‏ القرارة، قال الشاعر‏:‏

جادت عليه كل عين ثرّة *** فتركن كل قرارة كالدرهم

واستفعل فيه‏:‏ بمعنى فعل استقر وقرّ بمعنى‏.‏ المتاع‏:‏ البلغة، وهو مأخوذ من متع النهار إذا ارتفع، فينطلق على ما يتحصل للإنسان من عرض الدنيا، ويطلق على الزاد وعلى الانتفاع بالنساء، ومنه، ‏{‏فما استمتعتم به منهن‏}‏، ‏{‏ونكاح المتعة‏}‏، ‏{‏وعلى الكسوة‏}‏، ‏{‏ومتعوهن‏}‏، وعلى التعمير، ‏{‏يمتعكم متاعاً حسناً‏}‏ قالوا‏:‏ ومنه أمتع الله بك، أي أطال الله الإيناس بك، وكله راجع لمعنى البلغة، الحين‏:‏ الوقت والزمان، ولا يتخصص بمدة، بل وضع المطلق منه‏.‏ تلقى‏:‏ تفعل من اللقاء، نحو تعدى من العدو، قالوا‏:‏ أو بمعنى استقبل، ومنه‏:‏ تلقى فلان فلاناً استقبله‏.‏ ويتلقى الوحي‏:‏ أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه، وخرجنا نتلقى الحجيج‏:‏ نستقبلهم، وقال الشماخ‏:‏

إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين

وقال القفال‏:‏ التلقي التعرض للقاء، ثم يوضع موضع القبول والأخذ، ومنه وإنك لتلقى القرآن، تلقيت هذه الكلمة من فلان‏:‏ أخذتها منه‏.‏ الكلمة‏:‏ اللفظة الموضوعة المعنى، والكلمة‏:‏ الكلام، والكلمة‏:‏ القصيدة سميت بذلك لاشتمالها على الكلمة والكلام، ويجمع بحذف التاء فيكون اسم جنس، نحو‏:‏ نبقة ونبق‏.‏

التوبة‏:‏ الرجوع، تاب يتوب توباً وتوبة ومتاباً، فإذا عدى بعلى ضمن معنى العطف‏.‏ تبع‏:‏ بمعنى لحق، وبمعنى تلا، وبمعنى اقتدى‏.‏ والخوف‏:‏ الفزع، خاف، يخاف خوفاً وتخوف تخوفاً، فزع، ويتعدى بالهمز وبالتضعيف، ويكون للأمر المستقبل‏.‏ وأصل الحزن‏:‏ غلظ الهم، مأخوذ من الحزن‏:‏ وهو ما غلظ من الأرض، يقال‏:‏ حزن يحزن حزناً وحزناً، ويعدى بالهمزة وبالفتحة، نحو‏:‏ شترت عين الرجل، وشترها الله، وفي التعدية بالفتحة خلاف، ويكون للأمر الماضي‏.‏ الآية‏:‏ العلامة، ويجمع آيا وآيات، قال النابغة‏:‏

توهمت آيات لها فعرفتها *** لستة أعوام وذا العام سابع

ووزنها عند الخليل وسيبويه‏:‏ فعلة، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس‏.‏ وعند الكسائي‏:‏ فاعلة، حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة، فتثقل، وعند الفراء‏:‏ فعلة، فأبدلت العين ألفاً استثقالاً للتضعيف، كما أبدلت في قيراط وديوان، وعند بعض الكوفيين‏:‏ فعلة‏:‏ استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفاً لانكسارها وتحرك ما قبلها، وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف‏.‏ الصحبة‏:‏ الاقتران، صحب يصحب، والأصحاب‏:‏ جمع صاحب، وجمع فاعل‏:‏ على أفعال شاذ، والصحبة والصحابة‏:‏ أسماء جموع، وكذا صحب على الأصح خلافاً للأخفش، وهي لمطلق الاقتران في زمان ما‏.‏

‏{‏فأزلهما الشيطان عنها‏}‏‏:‏ الهمزة‏:‏ كما تقدم في أزل للتعدية، والمعنى‏:‏ جعلهما زلا بإغوائه وحملهما على أن زلاً وحصلا في الزلة، هذا أصل همزة التعدية‏.‏ وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل، فلا يقع إذ ذاك الفعل‏.‏ تقول‏:‏ أضحكت زيداً فما ضحك وأبكيته فما بكى، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البكاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه، والأصل هو الأول، وقال الشاعر‏:‏

كميت يزل اللبد عن حال متنه *** كما زلت الصفواء بالمتنزل

معناه‏:‏ فيما يشرح الشراح، يزل اللبد‏:‏ يزلقه عن وسط ظهره، وكذلك قوله‏:‏ يزل الغلام الخف عن صهواته‏:‏ أي يزلقه‏.‏ وقيل أزلهما‏:‏ أبعدهما‏.‏ تقول‏:‏ زل عن مرتبته، وزل عني ذاك، وزل من الشهر كذا‏:‏ أي ذهب وسقط، وهو قريب من المعنى الأول، لأن الزلة هي سقوط في المعنى، إذ فيها خروج فاعلها عن طريق الاستقامة، وبعده عنها‏.‏ فهذا جاء على الأصل من تعدية الهمزة‏.‏ وقرأ الحسن وأبو رجاء وحمزة‏:‏ فأزالهما، ومعنى الإزالة‏:‏ التنحية‏.‏ وروي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة فأزالهما‏.‏ والشيطان‏:‏ هو إبليس بلا خلاف هنا‏.‏ وحكوا أن عبد الله قرأ، فوسوس لهما الشيطان عنها، وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، فينبغي أن يجعل تفسيراً، وكذا ما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف‏.‏ وأكثر قراءات عبد الله إنما تنسب للشيعة‏.‏ وقد قال بعض علمائنا‏:‏ إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد الله على غير ما ينقل عنه مما وافق السواد، فتلك إنما هي آحاد، وذلك على تقدير صحتها، فلا تعارض ما ثبت بالتواتر‏.‏

وفي كيفية توصل إبليس إلى إغوائهما حتى أكلا من الشجرة أقاويل‏:‏ قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور‏:‏ شافههما بدليل، وقاسمهما، قيل‏:‏ فدخل إبليس الجنة على طريق الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل‏:‏ دخل في جوف الحية‏.‏ وذكروا كيف كانت خلقة الحية وما صارت إليه، وكيف كانت مكالمة إبليس لآدم‏.‏ وقد قصها الله تعالى أحسن القصص وأصدقه في سورة الأعراف وغيرها‏.‏ وقيل‏:‏ لم يدخل إبليس الجنة، بل كان يدنو من السماء فيكلمهما‏.‏ وقيل‏:‏ قام عند الباب فنادى‏.‏ وقيل‏:‏ لم يدخل الجنة بل كان ذلك بسلطانه الذي ابتلى به آدم وذريته، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وقيل‏:‏ خاطبه من الأرض ولم يصعد إلى السماء بعد الطرد واللعن، وكان خطابه وسوسة، وقد أكثر المفسرون في نقل قصص كثير في قصة آدم وحواء والحية، والله أعلم بذلك، وتكلموا في كيفية حاله حين أكل من الشجرة، أكان ذلك في حال التعمد، أم في حال غفلة الذهن عن النهي بنسيان، أم بسكر من خمر الجنة، كما ذكروا عن سعيد بن المسيب‏.‏ وما أظنه يصح عنه، لأن خمر الجنة، كما ذكر الله تعالى، ‏{‏لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون‏}‏ إلا إن كانت الجنة في الأرض، على ما فسره بعضهم، فيمكن أن يكون خمرها يسكر‏.‏ والذين قالوا‏:‏ بالعمد، قالوا‏:‏ كان النهي نهي تنزيه، وقيل‏:‏ كان معه من الفزع عند إقدامه ما صير هذا الفعل صغيرة‏.‏ وقيل‏:‏ فعله اجتهاداً، وخالف لأنه تقدم الإشارة إلى الشخص لا إلى النوع، فتركها وأكل أخرى‏.‏ والاجتهاد في الفروع لا يوجب العقاب‏.‏ وقيل كان الأكل كبيرة، وقيل‏:‏ أتاهما إبليس في غير صورته التي يعرفانها، فلم يعرفاه، وحلف لهما أنه ناصح‏.‏ وقيل‏:‏ نسي عداوة إبليس، وقيل‏:‏ يجوز أن يتأول آدم ‏{‏ولا تقربا‏}‏ أنه نهي عن القربان مجتمعين، وأنه يجوز لكل واحد أن يقرب، والذي يسلك فيما اقتضى ظاهره بعض مخالفة تأويله على أحسن محمل، وتنزيه الأنبياء عن النقائص‏.‏ وسيأتي الكلام على ما يرد من ذلك، وتأويله على الوجه الذي يليق، إن شاء الله‏.‏

وفي ‏(‏المنتخب‏)‏ للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه‏:‏ منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا الفضيلية من الخوارج، قالوا‏:‏ وقد وقع منهم ذنوب، والذنب عندهم كفر، وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية، واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يجوز عمداً ولا سهواً، ومن الناس من جوز ذلك سهواً وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمداً واختلفوا في السهو‏.‏ وأما أفعالهم فقالت الحشوية‏:‏ يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد‏.‏

وقال أكثر المعتزلة‏:‏ بجواز الصغائر عمداً إلا في القول، كالكذب‏.‏ وقال الجبائي‏:‏ يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل‏.‏ وقيل‏:‏ يمتنعان عليهم، إلا على جهة السهو والخطأ، وهم مأخوذون بذلك، وإن كان موضوعاً عن أمتهم‏.‏ وقالت الرافضة‏:‏ يمتنع ذلك على كل جهة‏.‏ واختلف في وقت العصمة فقالت الرافضة‏:‏ من وقت مولدهم، وقال كثير من المعتزلة‏:‏ من وقت النبوة‏.‏ والمختار عندنا‏:‏ أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة، لا الكبيرة ولا الصغيرة، لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة، لعظيم شرفهم، وذلك محال‏.‏ ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم، ولئلا يقتدى بهم في ذلك، ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب، ولئلا يفعلون ضد ما أمرون به، لأنهم مصطفون، ولأن إبليس استثناهم في الاغواء‏.‏ انتهى ما لخصناه من المنتخب‏.‏

والقول في الدلائل لهذه المذاهب، وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين‏.‏ عنها‏:‏ الضمير عائد على الشجرة، وهو الظاهر، لأنه أقرب مذكور‏.‏ والمعنى‏:‏ فحملهما الشيطان على الزلة بسببها‏.‏ وتكون عن إذ ذاك للسبب، أي أصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما فعلته من أمري‏}‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏ وقيل‏:‏ عائد على الجنة، لأنها أول مذكور، ويؤيده قراءة حمزة وغيره‏:‏ فأزالهما، إذ يبعد فأزالهما الشيطان عن الشجرة‏.‏ وقيل‏:‏ عائد على الطاعة، قالوا بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وعصى آدم ربه‏}‏ فيكون إذ ذاك الضمير عائداً على غير مذكور، إلا على ما يفهم من معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربا‏}‏ لأن المعنى‏:‏ أطيعاني بعدم قربان هذه الشجرة‏.‏ وقيل‏:‏ عائد على الحالة التي كانوا عليها من التفكه والرفاهية والتبوّء من الجنة، حيث شاءا، ومتى شاءا، وكيف شاءا بدليل، ‏{‏وكلا منها رغداً‏}‏ وقيل‏:‏ عائد على السماء وهو بعيد‏.‏

‏{‏فأخرجهما مما كانا فيه‏}‏ من الطاعة إلى المعصية، أو من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا، أو من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب، أو رضوان الله، أو جواره‏.‏ وكل هذه الأقوال متقاربة‏.‏ قال المهدوي‏:‏ إذا جعل أزلهما من زل عن المكان، فقوله‏:‏ ‏{‏فأخرجهما مما كانا فيه‏}‏ توكيد‏.‏ إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، انتهى‏.‏ والأولى أن يكون بمعنى كسبهما الزلة لا يكون بإلقاء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره‏:‏ فأكلا من الشجرة، ويعني أن المحذوف يتقدر قبل قوله‏:‏ ‏{‏فأزلهما الشيطان‏}‏، ونسب الإزلال والإزالة والإخراج لإبليس على جهة المجاز، والفاعل للأشياء هو الله تعالى‏.‏

‏{‏وقلنا اهبطوا‏}‏‏:‏ قرأ الجمهور بكسر الباء، وقرأ أبو حياة‏:‏ اهبطوا بضم الباء، وقد ذكرنا أنهما لغتان‏.‏ والقول في‏:‏ ‏{‏وقلنا اهبطوا‏}‏ مثل القول في‏:‏ ‏{‏وقلنا يا آدم اسكن‏}‏ ولما كان أمراً بالهبوط من الجنة إلى الأرض، وكان في ذلك انحطاط رتبة المأمور، لم يؤنسه بالنداء، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه‏.‏

والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وقلنا يا آدم اسكن‏}‏، والمخاطب بالأمر آدم وحوّاء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، أو هؤلاء وإبليس، قاله السدي عن ابن عباس، أو آدم وإبليس، قاله مجاهد، أو هما وحواء، قاله مقاتل، أو آدم وحواء فحسب‏.‏ ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع على التثنية نحو‏:‏ ‏{‏وكنا لحكمهم شاهدين‏}‏ ذكره ابن الأنباري، أو آدم وحواء والوسوسة، قاله الحسن، أو آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء، أو آدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، ورجحه الزمخشري قال‏:‏ لأنهما لما كانا أصل الأنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم‏.‏ والدليل عليه قوله‏:‏ ‏{‏قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ‏}‏ ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فمن تبع هداي‏}‏ الآية، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم، انتهى‏.‏ وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد، لأن ذريتهما كانت إذ ذاك غير موجودة‏.‏ وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف، لأنه كان خرج قبلهما، ويجوز على ضرب من التجوز‏.‏ قال كعب ووهب‏:‏ أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس، قيل بالأبلة، وحواء بجدّة، وآدم بالهند، وقيل‏:‏ بسرنديب بجبل يقال له‏:‏ واسم‏.‏ وقيل‏:‏ كان غذاؤه جوز الهند، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع‏.‏ وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعاً‏.‏

وروي عن ابن عباس‏:‏ أن الحية أهبطت بنصيبين‏.‏ وروى الثعلبي‏:‏ بأصبهان، والمسعودي‏:‏ بسجستان، وهي أكثر بلاد الله حيات‏.‏ وقيل‏:‏ بيسان‏.‏ وقيل‏:‏ كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة، علق بشجرها وأوديتها، فامتلأ ما هناك طيباً، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام‏.‏ وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحاً عن ذكرها، قال‏:‏ وأدخل آدم في الجنة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، والنصف خمسمائة عام، مما يعد أهل الدنيا، والأشبه أن قوله‏:‏ اهبطوا أمر تكليف، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة، لأن التشديد في التكليف يكون بسبب الثواب‏.‏ فكيف يكون عقاباً مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك، وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في جنة ونار‏.‏ وكانت تلك الأكلة سبب هبوطه، والله يفعل ما يشاء‏.‏ وأمره بالهبوط إلى الأرض بعد أن تاب عليه لقوله ثانية‏:‏ ‏{‏قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو‏}‏، إن كان المخاطبون آدم وحواء وذريتهما، كما قال مجاهد، فالمراد ما عليه الناس من التعادي وتضليل بعضهم لبعض، والبعضية موجودة في ذريتهما، لأنه ليس كلهم يعادي كلهم، بل البعض يعادي البعض‏.‏

وإن كان معهما إبليس أو الحية، كما قاله مقاتل، فليس بعض ذريتهما يعادي ذرية آدم، بل كلهم أعداء لكل بني آدم‏.‏ ولكن بتحقق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئاً واحداً وجزّؤوا أجزاء، فكل جزء منها جزء من الذين هبطوا، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير‏:‏ كل جنس منكم معاد للجنس المباين له‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ إبليس عدوّ للمؤمنين وهم أعداؤه‏.‏ وقيل معناه‏:‏ عداوة نفس الإنسان له وجوارحه، وهذا فيه بعد، وهذه الجملة في موضع الحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا‏.‏ فصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالاً أكثر من انفراد الضمير‏.‏ وفي كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة‏}‏ وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذاً، خلافاً للفراء ومن واقفه كالزمخشري‏.‏ وقد روى سيبويه عن العرب كلمته‏:‏ فوه إلى فيّ، ورجع عوده على بدئه، وخرجه على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر، والجملة حال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها، فلا يكون ذلك شاذاً‏.‏ وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة مستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ، فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأموراً به، أو كالمأمور‏.‏ ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكاً كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوباً بالحال فيكون مأموراً بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور به‏؟‏ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك، لأن الفعل إذا كان مأموراً به من يسند إليه في حال من أحواله، لم تكن تلك الحال مأموراً بها، لأن النسبة الحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية‏.‏ فلو كانت مأموراً بها إذا كان العامل فيها امراً، فلا يسوغ ذلك هنا، لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد، ولا يمكن خلافه، لم يكن ذلك القيد مأموراً به، لأنه ليس داخلاً في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا النوع، قل يلزم أن يكون الله أمر بها، وهذه الحال من الأحوال اللازمة‏.‏ وقوله‏:‏ لبعض متعلق بقوله عدوّ، واللام مقوية لوصول عدوّ إليه، وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد‏.‏

‏{‏ولكن في الأرض مستقر‏}‏‏:‏ مبتدأ وخبر‏.‏ لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، ولا يجوز ‏{‏في الأرض‏}‏ أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد، أو المصدر، أي استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر الموصول لا يجوّز بعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبراً، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه، أو في موضع الحال من مستقر، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر، وهو عامل معنوي، والحال متقدمة على جزأي الإسناد، فلا يجوز ذلك، وصار نظير‏:‏ قائماً زيد في الدار، أو قائماً في الدار زيد، وهو لا يجوز بإجماع‏.‏

مستقرّ‏:‏ أي مكان استقراركم حالتي الحياة والموت، وقيل‏:‏ هو القبر، أو استقرار، كما تقدم شرحه‏.‏

‏{‏ومتاع‏}‏‏:‏ المتاع ما استمتع به من المنافع، أو الزاد، أو الزمان الطويل، أو التعمير‏.‏ ‏{‏إلى حين‏}‏‏:‏ إلى الموت، أو إلى قيام الساعة، أو إلى أجل قد علمه الله، قاله ابن عباس‏.‏ ويتعلق إلى بمحذوف، أي ومتاع كائن إلى حين، أو بمتاع، أي واستمتاع إلى حين، وهو من باب الأعمال، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول، لأن متعلقه فضلة، فالأولى حذفه، ولا جائز أن يكون من أعمال الأول، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن على الأولى‏.‏ والأفصح لا يقال إنه لا يجوز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان كل من مستقرّ ومتاع يقتضيه من جهة المعنى بسبب أن الأول لا يجوز أن يتعلق به إلى حين، لأنه يلزم من ذلك الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف، والمصدر موصول فلا يفصل بينه وبين معموله، لأن المصدر هنا لا يكون موصولاً، وذلك أن المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر بحرف مصدري مع الفعل، وهذا هو الموصول، وإنما كان موصولاً باعتبار تقديره بذلك الحرف الذي هو موصول بالفعل، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدر لا يكون موصولاً، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث، نحو قوله‏:‏ لزيد معرفة بالنحو، وبصر بالطب، وله ذكاء ذكاء الحكماء‏.‏ فمثل هذا لا يتقدر بحرف مصدري والفعل، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف لم يحكم على الاسم بعده، لا برفع ولا بنصب، قالوا‏:‏ فإذا قلت‏:‏ يعجبني قيام زيد، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد، وممكن أن زيداً يعرا منه القيام، ولا يقصد فيه إلى إفادة المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى، أو يفعله فيما يستقبل، بل تكون النية في الإخبار كالنية في‏:‏ يعجبني خاتم زيد المحدود المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر‏.‏ على هذه الطريقة لا يقضى عليه برفع، ولا يؤكد، ولا ينعت، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما يستعمل مع المخفوضات الصحاح، انتهى‏.‏

فأنت ترى تجويزهم أن لا يكون موصولاً مع المصدر الذي يمكن أن يكون موصولاً، وهو قولهم‏:‏ يعجبني قيام زيد، فكيف مع ما لا يجوز أن يكون موصولاً نحو‏:‏ ما مثلنا به من قوله‏:‏ له ذكاء ذكاء الحكماء، وبصر بالطب، ونحو ذلك، فكذلك يكون مستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولاً‏.‏

ولا يمتنع أن يعمل في الجار والمجرور، وإن لم يكن موصولاً، كما مثلنا في قوله‏:‏ له معرفة بالنحو، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح الأفعال، حتى الأسماء الأعلام، نحو قولهم‏:‏ أنا أبو المنهال بعض الأحيان، وأنا ابن ماوية إذ جدّ النقر‏.‏ وأما أن تعمل في الفاعل، أو المفعول به فلا‏.‏ وأما إذا قلنا بمذهب الكوفيين، وهو أن المصدر إذا نوّن، أو دخلت عليه الألف واللام، تحققت له الاسمية وزال عنه تقدير الفعل، فانقطع عن أن يحدث إعراباً، وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب، فيمكن أيضاً أن يخرج عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مستقر ومتاع إلى حين‏}‏، ولا يبعد على هذا التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما، لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في الظرف أو المجرور من الاسم العلم‏.‏ ويمكن أن يفسر قوله‏:‏ ‏{‏مستقر متاع إلى حين‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون‏}‏ وفي قَوله ‏{‏إلى حين‏}‏ دليل على عدم البقاء في الأرض، ودليل على المعاد‏.‏ وفي هذه الآية التحذير عن مخالفة أمر الله بقصد أو تأويل، وأن المخالفة تزيل عن مقام الولاية‏.‏

‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات‏}‏، تلقى‏:‏ تفعل من اللقاء، وهو هنا بمعنى التجرد، أي لقي آدم، نحو قولهم‏:‏ تعداك هذا الأمر، بمعنى عداك، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل، وهي سبعة عشر معنى مطاوعة فعل، نحو‏:‏ كسرته فتكسر، والتكلف نحو‏:‏ تحلم، والتجنب نحو‏:‏ تجنب، والصيرورة نحو‏:‏ تألم، والتلبس بالمسمى المشتق منه نحو‏:‏ تقمص، والعمل فيه نحو‏:‏ تسحر، والاتخاذ نحو‏:‏ تبنيت الصبي، ومواصلة العمل في مهلة نحو‏:‏ تفهم، وموافقة استفعل نحو‏:‏ تكبر، وموافقة المجرد نحو‏:‏ تعدى الشيء، أي عداه، والإغناء عنه نحو‏:‏ تكلم، والإغناء عن فعل نحو‏:‏ توبل، وموافقة فعل نحو‏:‏ تولى، أي ولى، والختل، نحو‏:‏ تعقلته، والتوقع نحو‏:‏ تخوفه، والطلب نحو‏:‏ تنجز حوائجه، والتكثير نحو‏:‏ تعطينا‏.‏ ومعنى تلقي الكلمات‏:‏ أخذها وقبولها، أو الفهم، أو الفطانة، أو الإلهام أو التعلم والعمل بها، أو الاستغفار والاستقالة من الذنب‏.‏ وقول من زعم أن أصله‏:‏ تلقن، فأبدلت النون ألفاً ضعيف، وإن كان المعنى صحيحاً، لأن ذلك لا يكون إلا مما كان عينه ولامه من جنس واحد نحو‏:‏ تظني، وتقضى، وتسرّى، أصله‏:‏ تظنن، وتقضض، وتسرر‏.‏ ولا يقال في تقبل‏:‏ تقبى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ برفع آدم ونصب الكلمات، وعكس ابن كثير‏.‏ ومعنى تلقي الكلمات لآدم‏:‏ وصولها إليه، لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال‏:‏ فجاءت آدم من ربه كلمات‏.‏

وظاهر قوله‏:‏ كلمات، أنها جملة مشتملة على كلم، أو جمل من الكلام قالها آدم، فلذلك قدروا بعد قوله‏:‏ كلمات، جملة محذوفة وهي فقالها فتاب عليه‏.‏ واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال، وقد طولوا بذكرها، ولم يخبرنا الله بها إلا مبهمة، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعب وعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد‏:‏ هي ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا‏}‏ الآية‏.‏

وروي عن ابن ابن مسعود، أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبو ناحين‏:‏ «اقترف الخطيئة سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»‏.‏ وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال‏:‏ يقول ما قاله أبواه‏:‏ «ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي» وما قاله يونس‏:‏ «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»‏.‏ وروي عن ابن عباس ووهب أنها‏:‏ «سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك خير الغافرين»‏.‏ وقال محمد بن كعب هي‏:‏ «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم»‏.‏ وحكى السدّي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «رب ألم تخلقني بيدك‏؟‏» قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ألم تنفخ فيّ من روحك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ألم تسبق رحمتك غضبك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ ألم تسكني جنتك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة‏؟‏ قال‏:‏ «نعم»‏.‏ وزاد قتادة في هذا‏:‏ «وسبقت رحمتك إليّ قبل غضبك‏؟‏ قيل له بلى، قال‏:‏ رب هل كتبت هذا عليّ قبل أن تخلقني‏؟‏ قيل له‏:‏ نعم، فقال‏:‏ رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة‏؟‏ قيل له‏:‏ «نعم»‏.‏ وقال قتادة هي‏:‏ «أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التوّاب الرحيم»‏.‏ وقال عبيد بن عمير، قال‏:‏ «يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني‏؟‏ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي‏؟‏ قال‏:‏ بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال‏:‏ «فكما كتبت عليّ فاغفر لي»‏.‏ وقيل إنها‏:‏ «سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور»‏.‏ وقيل‏:‏ رأى مكتوباً على ساق العرش محمد رسول الله، فتشفع بذلك فهي الكلمات‏.‏ وقيل‏:‏ قوله حين عطس‏:‏ «الحمد لله»‏.‏ وقيل‏:‏ هي الدعاء والحياء والبكاء‏.‏ وقيل‏:‏ الاستغفار والندم والحزن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وسماها كلمات، مجازاً لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي‏:‏ «كن في كل واحدة منهن»، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

‏{‏فتاب عليه‏}‏‏:‏ أي تفضل عليه بقبول توبته وأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة، لأنه هو المواجه بالأمر والنهي، وهي تابعة له في ذلك‏.‏

فكملت القصة بذكره وحده، كما جاء في قصة موسى والخضر، إذ جاء ‏{‏حتى إذا ركبا في السفينة‏}‏ فحملاها بغير نول، وكان مع موسى يوشع، لكنه كان تابعاً لموسى فلم يذكره ولم يجمع معهما في الضمير، أو اكتفى بذكر أحدهما، إذ كان فعلهما واحداً، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏}‏ ‏{‏فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى‏}‏ أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله‏:‏ ‏{‏وعصى آدم ربه فغوى‏}‏

وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة، وقد ذكرها في قوله‏:‏ ‏{‏قالا ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏ وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانت كافرتين، وقد ضرب بهما المثل للكفار، لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش‏.‏ والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه، بل ينادي عليه ليكون ذلك أخزى له وأحط لدرجته‏.‏ وحوّاء ليست كذلك، ولأن معصيتهما تكرّرت واستمرّ منهما الكفر والإصرار على ذلك، والتوبة متعذرة لما سبق في علم الله أنهما لا يتوبان، وليست حوّاء كذلك لخفة ما وقع منها، أو لرجوعها إلى ربها، ولأن التبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع، وهذا المعنى معقود فيهما، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما‏.‏ وتوبة العبد‏:‏ رجوعه عن المعصية، وتوبة الله على العبد‏:‏ رجوعه عليه بالقبول والرحمة‏.‏ واختلف في التوبة المطلوبة من العبد، فقال قوم‏:‏ هي الندم، أخذاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الندم توبة» وقال قوم‏:‏ شروطها ثلاثة‏:‏ الندم على ما فات، والإقلاع عنه، والعزم على أن لا يعود‏.‏ وتأولوا‏:‏ الندم توبة على معظم التوبة نحو‏:‏ الحج عرفة، وزاد بعضهم في الشروط، يرد المظالم إذا قدر على ردها، وزاد بعضهم‏:‏ المطعم الحلال، وقال القفال‏:‏ لا بد مع تلك الشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك، وذلك أنه مأمور بالتوبة، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كما لزمه، فيكون خائفاً‏.‏ ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه‏.‏

روي عن ابن عباس أن آدم وحوّاء بكيا على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة‏.‏ وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئاً يفوت الحصر كثرة‏.‏ وقال شهر بن حوشب‏:‏ بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى‏.‏ وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏إنه‏}‏‏:‏ بكسر الهمزة، وقرأ نوفل بن أبي عقرب‏:‏ أنه بفتح الهمزة، ووجهه أنه فتح على التعليل، التقدير‏:‏ لأنه، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع، وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقل الثابت، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها، كما جاءت في‏:‏

‏{‏وما أبرئ نفسي إن النفس لأمَّارة‏}‏ ‏{‏اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏}‏ ‏{‏وصلّ عليهم إن صلاتك‏}‏، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها، وقالوا‏:‏ إن إن إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه، فإن قطع بأحد الأمرين، فليس من مظانها، فإن وجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهراً، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما، وسيأتي الكلام على ذلك في نحو‏:‏ ‏{‏ثم إنكم بعد ذلك لميتون‏}‏ إن شاء الله‏.‏

ولما دخلت للتأكيد في قوله‏:‏ ‏{‏إنه هو التواب الرحيم‏}‏، قوي التأكيد بتأكيد آخر، وهو لفظه‏:‏ ‏{‏هو‏}‏‏.‏ وقد ذكرنا فائدته في قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ وبولغ أيضاً في الصفتين بعده، فجاء التواب‏:‏ على وزن فعال، والرحيم‏:‏ على وزن فعيل، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة‏.‏ وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرّجوع إلى الطاعة، واطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه‏.‏ والتواب من أسمائه تعالى، وهو الكثير القبول لتوبة العبد، أو الكثير الإعانة عليها‏.‏ وقد ورد هذا الإسم في كتاب الله معرفاً ومنكراً، ووصف به تعالى نفسه، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى‏.‏ وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزاً، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد، وذلك لاختلاف صلتيهما‏.‏ ألا ترى‏:‏ فتاب عليه، وتوبوا إلى الله‏؟‏ فالتوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه، ومن العبد هي الرّجوع إلى طاعته تعالى، لطلب ثواب، أو خشية عقاب، أو رفع درجات‏.‏ وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة، لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده، وتقدم التواب لمناسبة فتاب عليه، ولحسن ختم الفاصلة بقوله‏:‏ ‏{‏الرّحيم‏}‏‏.‏ وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها، فأغنى ذلك عن إعادته‏.‏

‏{‏قلنا هبطوا‏}‏، كرّر القول، إما على سبيل التأكيد المحض، لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة، فكرّر تنبيهاً على ذلك، أو لاختلاف متعلقيهما، لأن الأول علق به العداوة، والثاني علق بإتيان الهدى‏.‏ وأما لا على سبيل التأكيد، بل هما هبوطان حقيقة، الأول من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض‏.‏ وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر‏}‏، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني، فكان ينبغي الاستقرار أن يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما‏.‏

‏{‏جميعاً‏}‏‏:‏ حال من الضمير في اهبطوا، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعاً وأنها تقتضي التعميم في الحكم، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط‏.‏ وأبعد ابن عطية في قوله‏:‏ كأنه قال هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً، فجعله نعتاً لمصدر محذوف، أو لاسم فاعل محذوف، كل منهما يدل عليه الفعل‏.‏ قال‏:‏ لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره، لأنه قال‏:‏ أولاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا‏.‏ فإذا كان حالاً من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولاً، فكيف يقدر ثانياً‏؟‏ كأنه قال‏:‏ هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً‏.‏ فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره‏.‏ وأبعد غيره أيضاً في زعمه أن التقدير‏:‏ وقلنا اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعاً، فجعل ثم حالاً محذوفة لدلالة جميعاً عليها، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا عليه‏.‏ ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول‏:‏ أي فقلنا‏:‏ إما يأتينكم‏.‏

وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط، وعلى تقدير أن يكون هبوطاً ثانياً، فقيل يخص آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخصا بخطاب الجمع تشريفاً لهما‏.‏ وقيل‏:‏ يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد، والنون في يأتينكم نون التوكيد، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن‏:‏ ‏{‏فإما ترين‏}‏ ‏{‏وإما ينزغنك‏}‏ ‏{‏فإما تذهبن‏}‏ قال أبو العباس المهدوي‏:‏ إن‏:‏ هي، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت، يعني ما لم تدخل النون، فما تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره‏.‏ وتبعه ابن عطية في هذا فقال‏:‏ فإن هي للشرط، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون، انتهى كلامه‏.‏ وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما، هو مذهب المبرد والزجاج، زعما أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو‏:‏ والله لأخرجن‏.‏ وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة‏.‏ وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها، وإن كان الإثبات أحسن‏.‏ وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون، قال سيبويه‏:‏ في هذه المسألة وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بما، انتهى كلامه‏.‏ وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما، قال الشنفري‏:‏

فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً *** على رقة أحفى ولا أتنعل

وقال آخر‏:‏

يا صاح إما تجدني غير ذي جدة *** فما التخلي عن الإخوان من شيمي

وقال آخر‏:‏

زعمت تماضر أنني إما أمت *** تسدد أبينوها الأصاغر خلتي

والقياس يقبله، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون، نحو قول الشاعر‏:‏

إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلا *** فالله يحفظ ما تبقى وما تذر

فكما جاءت هنا زائدة بعد أن، فكذلك في نحو‏:‏ إما تقم يأتينكم، مبني مفتوح الآخر‏.‏ واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين‏:‏ وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى ‏(‏بالتكميل لشرح التسهيل‏)‏‏.‏ ‏{‏مني‏}‏‏:‏ متعلق بيأتينكم، وهذا شبيه بالالتفات، لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع، أو المعظم نفسه، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد‏.‏ وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في‏:‏ قلنا، عند شرح قوله‏:‏ ‏{‏وقلنا يا آدم اسكن‏}‏ وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى‏.‏ وفي قوله‏:‏ مني، إشارة إلى أن الخير كله منه، ولذلك جاء‏:‏ ‏{‏قد جاءكم برهان من ربكم‏}‏ ‏{‏وقد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء‏}‏ فأتى بكلمة‏:‏ من، الدالة على الابتداء في الأشياء، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى، وأتى بأداة الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏فإما يأتينكم مني هدى‏}‏، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه، والذي أنبهم زمان وقوعه، وإتيان الهدى واقع لا محالة، لأنه أنبهم وقت الإتيان، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطاً فيه إتيان رسل منه، ولا إنزال كتب بذلك، بل لو لم يبعث رسلاً، ولا أنزل كتباً، لكان الإيمان به واجباً، وذلك لما ركب فيهم من العقل، ونصب لهم من الأدلة، ومكن لهم من الاستدلال، كما قال‏:‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

قال معناه الزمخشري غير إنشاد الشعر‏.‏ ‏{‏هدى‏}‏‏:‏ تقدم الكلام على الهدى في قوله‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ونكره لأن المقصود هو المطلق، ولم يسبق عهد فيه فيعرّف‏.‏ والهدى المذكور هنا‏:‏ الكتب المنزلة، أو الرسل، أوالبيان، أو القدرة على الطاعة، أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقوال‏.‏ فمن تبع‏:‏ الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله‏:‏ ‏{‏فإما يأتينكم‏}‏‏.‏ وقال السجاوندي‏:‏ الجواب محذوف تقديره فاتبعوه، انتهى‏.‏ فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده‏:‏ ‏{‏فمن تبع هداي‏}‏‏.‏ وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن‏:‏ من، في قوله‏:‏ فمن تبع، شرطية، وأن جواب هذا الشرط هو قوله‏:‏ ‏{‏فلا خوف‏}‏، فتكون الآية فيها شرطان‏.‏ وحكى عن الكسائي أن قوله‏:‏ ‏{‏فلا خوف‏}‏ جواب للشرطين جميعاً، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في ‏(‏كتاب التكميل‏)‏، ولا يتعين عندي أن تكون من شرطية، بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا‏}‏، فأتى به موصولاً، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فلا خوف‏}‏ جملة في موضع الخبر‏.‏

وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً، فإن الشروط المسوّغة لذلك موجودة هنا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فمن تبع هداي‏}‏، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به، فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه، وهو الهدى، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن‏.‏ وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معزّفاً بالألف واللام، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله‏:‏ ‏{‏إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول‏}‏ والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ هداي بسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين، كقراءة من قرأ‏:‏ ومحياي، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف‏.‏ وقرأ عاصم الجحدري وعبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر‏:‏ هديّ، بقلب الألف ياء وإدغمها في ياء المتكلم، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء، لأنه حرف لا يقبل الحركة، وهي لغة هذيل، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم، وقال شاعرهم‏:‏

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم *** فتخرموا ولكل قوم مصرع

‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏‏:‏ قرأ الجمهور بالرفع والتنوين، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏، فرفعوا للتعادل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والرفع على إعمالها إعمال ليس، ولا يتعين ما قاله، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً، ويمكن النزاع في صحته، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه‏.‏ والثاني‏:‏ حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما‏.‏ ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم، فينفي كل فرد من مدلول الخوف، وأما الرفع فيجوزه وليس نصاً، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر‏.‏ وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال‏.‏ وقد ذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس، فالأولى أن يكون مبتدأ، كما ذكرناه، إذا كان مرفوعاً منوناً، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون عري من التنوين لأنه على نية الألف واللام، فيكون التقدير‏:‏ فلا الخوف عليهم، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب‏:‏ سلام عليكم، بغير تنوين‏.‏ قالوا‏:‏ يريدون السلام عليكم، ويكون هذا التخريج أولى، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي، وتأوله النحاة وهو‏:‏

وحلت سواء القلب لا أنا باغياً *** سواها ولا في حبها متراخيا

وقد لحنوا أبا الطيب في قوله‏:‏

فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً *** وكنى بقوله‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ عن الاستيلاء والإحاطة، ونزل المعنى منزلة الجرم، ونفى كونه معتلياً مستولياً عليهم‏.‏ وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم‏؟‏ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوف انتفاء الخوف في كل حال، ولذلك قال بعض المفسرين‏:‏ ليس في قوله‏:‏ ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة، إلا أنها مخففة عن المطيعين‏.‏ فإذا صاروا إلى رحمته، فكأنهم لم يخافوا، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة في قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن، وأن غيرهم يحزن، ولو لم يشر إلى هذا المعنى لكان‏:‏ ولا يحزنون، كافياً‏.‏ ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين سبقت لهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة‏}‏ ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختص بالذين سبقت لهم من الله الحسنى، وفي قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن‏}‏ فدل هذا كله على أن غيرهم يحزنه الفزع، ولا يذهب عنهم الحزن‏.‏

وحكى عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت‏.‏ الثاني‏:‏ لا يتوقعون مكروهاً في المستقبل، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال‏.‏ الثالث‏:‏ لا خوف عليهم فيما يستقبلهم، ولا هم يحزنون فيما خلفه‏.‏ الرابع‏:‏ لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا‏.‏ الخامس‏:‏ لا خوف عليهم من عقاب، ولا هم يحزنون على فوات ثواب‏.‏ السادس‏:‏ إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوات محبوب‏.‏ السابع‏:‏ لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها‏.‏ الثامن‏:‏ لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون فيها‏.‏ التاسع‏:‏ أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن، لا خوف عليهم فيها ولا حزن‏.‏ العاشر‏:‏ ما قاله ابن زيد‏:‏ لا خوف عليهم أمامهم، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم الله منه، ثم سلاهم عن الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا‏.‏

الحادي عشر‏:‏ لا خوف حين أطبقت النار، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط، فقيل لأهل الجنة والنار‏:‏ خلود لا موت‏.‏ الثاني عشر‏:‏ لا خوف ولا حزن على الدوام‏.‏

وهذه الأقوال كلها متقاربة، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم، لكن يخص بما بعد الدنيا، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك‏.‏‏.‏

‏{‏والذين كفروا‏}‏‏:‏ قسيم لقوله‏:‏ ‏{‏فمن تبع هداي‏}‏، وهو أبلغ من قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يتبع هداي‏}‏ وإن كان التقسيم اللفظي يقتضيه، لأن نفي الشيء يكون بوجوه، منها‏:‏ عدم القابلية بخلقة أو غفلة، ومنها تعمد ترك الشيء، فأبرز القسيم بقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏ في صورة ثبوتية ليكون مزيلاً للاحتمال الذي يقتضيه النفي، ولما كان الكفر قد يعني كفر النعمة وكفر المعصية بين‏:‏ أن المراد هنا الشرك بقوله‏:‏ ‏{‏وكذبوا بآياتنا‏}‏، وبآياتنا متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وكذبوا‏}‏، وهو من إعمال الثاني، إن قلنا‏:‏ إن كفروا، يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا‏:‏ لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال، ويحتمل الوجهين‏.‏ والآيات هنا‏:‏ الكتب المنزلة على جميع الأمم، أو معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأو القرآن، أو دلائل الله في مصنوعاته، أقوال‏.‏ و‏{‏أولئك‏}‏‏:‏ مبتدأ، ‏{‏وأصحاب‏}‏‏:‏ خبر عنه، والجملة خبر عن قوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏، وجوزوا أن يكون أولئك بدلاً وعطف بيان، فيكون أصحاب النار، إذ ذاك، خبراً عن الذين كفروا‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار‏}‏ دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار‏.‏ فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة‏.‏ وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه، وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن، وهو صاحب النار‏.‏ فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى، فصار نظير قوله الشاعر‏:‏

وإني لتعروني لذكرك فترة *** كما انتفض العصفور بلله القطر

وفي قوله‏:‏ أولئك، إشارة إلى الذوات المتصفة بالكفر والتكذيب، وكأن فيها تكريراً وتوكيداً لذكر المبتدأ السابق‏.‏ والصحبة معناها‏:‏ الاقتران بالشيء، والغالب في العرف أن ينطلق على الملازمة، وإن كان أصلها في اللغة‏:‏ أن تنطلق على مطلق الاقتران‏.‏ والمراد بها هنا‏:‏ الملازمة الدائمة، ولذلك أكده بقوله‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏ ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية، كما جاء في مكان آخر‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها‏}‏ فيكون، إذ ذاك، لها موضع من الإعراب نصب‏.‏ ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما أنبهم في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار‏}‏، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران، بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك موضع من الإعراب‏.‏ ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي هو‏:‏ أولئك، فيكون قد أخبر عنه بخبرين‏:‏ أحدهما مفرد، والآخر جملة، وذلك على مذهب من يرى ذلك، فيكون في موضع رفع‏.‏ وقد تقدم الكلام على الخلود، وهل هو المكث زماناً لا نهاية له، أو زماناً له نهاية‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

ابن‏:‏ محذوف اللام، وقيل‏:‏ الياء خلاف، وفي وزنه على كلا التقديرين خلاف، فقيل‏:‏ فعل، وقيل‏:‏ فعل‏.‏ فمن زعم أن أصله ياء جعله مشتقاً من البناء، وهو وضع الشيء على الشيء‏.‏ والابن فرع عن الأب، فهو موضوع عليه، وجعل قولهم‏:‏ البنوّة شاذ كالفتوّة، ومن زعم أن أصله واو، وإليه ذهب الأخفش، جعل البنوّة دليلاً على ذلك، ولكون اللام المحذوفة واواً أكثر منها ياء‏.‏ وجمع ابن جمع تكسير، فقالوا‏:‏ أبناء، وجمع سلامة، فقالوا‏:‏ بنون، وهو جمع شاذ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد، فلم يقولوا‏:‏ ابنون، ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع التكسير، فألحقت التاء في فعله، كما ألحقت في فعل جمع التكسير، قال النابغة‏:‏

قالت بنو عامر خالو بني أسد *** يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام

وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغراً، قال يسدد‏:‏

أبينوها الأصاغر خلتي *** وهو شاذ أيضاً‏.‏

إسرائيل‏:‏ اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، وقد ذكروا أنه مركب من إسرا‏:‏ وهو العبد، وإيل‏:‏ اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه عبد الله، وذلك باللسان العبراني، فيكون مثل‏:‏ جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ معنى إسرا‏:‏ صفوة، وايل‏:‏ الله تعالى، فمعناه‏:‏ صفوة الله‏.‏ روي ذلك عن ابن عباس وغيره، وقال بعضهم‏:‏ إسرا مشتق من الأسر، وهو الشد، فكأن إسرائيل معناه‏:‏ الذي شدّه الله وأتقن خلقه‏.‏ وقيل‏:‏ أسري بالليل مهاجراً إلى الله تعالى فسمي بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ أسر جنياً كان يطفئ سرج بيت المقدس، وكان اسم الجني‏:‏ إيل، فسمي إسرائيل، وكان يخدم بيت المقدس، وكان أول من يدخل، وآخر من يخرج، قاله كعب‏.‏ وقيل‏:‏ أسرى بالليل هارباً من أخيه عيصو إلى خاله، في حكاية طويلة ذكروها، فأطلق ذلك عليه‏.‏ وهذه أقاويل ضعاف، وفيه تصرفات للعرب بقوله‏:‏ إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها، وهي قراءة الجمهور‏.‏ وإسراييل بياءين بعد الألف، وهي قراءة أبي جعفر والأعشى وعيسى بن عمر‏.‏ وإسرائل بهمزة بعد الألف ثم لام، وهو مروي عن ورش‏.‏ وإسراءل بهمزة مفتوحة بعد الراء ولام، وإسرئل بهمزة مكسورة بعد الراء، وإسرال بألف ممالة بعدها لام خفيفة، واسرال بألف غير ممالة، قال أمية‏:‏

لا أرى من يعيشني في حياتي *** غير نفسي إلا بني إسرالا

وهي رواية خارجة عن نافع، وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وغيرهم‏:‏ وإسرائن بنون بدل اللام، قال الشاعر‏:‏

يقول أهل السوء لما جينا *** هذا ورب البيت إسرائينا

كما قالوا‏:‏ سجيل، وسجين، ورفلّ، ورفنّ، وجبريل، وجبرين، أبدلت بالنون كما أبدلت النون بها في أصيلان قالوا‏:‏ أصيلال، وإذا جمعته جمع تكسير قلت‏:‏ أساريل، وحكي‏:‏ أسارلة وأسارل‏.‏

الذكر‏:‏ بكسر الذال وضمها لغتان بمعنى واحد، وقال الكسائي‏:‏ يكون باللسان، والذكر بالقلب فبالكسر ضده‏:‏ الصمت، وبالضم ضده‏:‏ النسيان، وهو بمعنى التيقظ والتنبه، ويقال‏:‏ اجعله منك على ذكر‏.‏ النعمة‏:‏ اسم للشيء المنعم به، وكثيراً ما يجيء فعل بمعنى المفعول‏:‏ كالذبح، والنقص، والرعي، والطحن، ومع ذلك لا ينقاس‏.‏ أوفى، ووفى، ووفى‏:‏ لغى ثلاث في معنى واحد، وتأتي أوفى بمعنى‏:‏ ارتفع، قال‏:‏

ربما أوفيت في علم *** ترفعن ثوبي شمالات

والميفات‏:‏ مكان مرتفع، وقال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ أوفيت، وأهل نجد يقولون‏:‏ وفيت بغير ألف، وقال الزجاج‏:‏ وفي بالعهد، وأوفى به، قال الشاعر‏:‏

أما ابن طوق فقد أوفى بذمته *** كما وفى بقلاص النجم حاديها

وقال ابن قتيبة‏:‏ يقال وفيت بالعهد، وأوفيت به، وأوفيت الكيل لا غير‏.‏ وقال أبو الهيثم‏:‏ وفي الشيء‏:‏ تم، ووفى الكيل وأوفيته‏:‏ أتممته، ووفى ريش الطائر‏:‏ بلغ التمام، ودرهم واف‏:‏ أي تام كامل‏.‏ الرهب، والرهب، والرهب، والرهبة‏:‏ الخوف، مأخوذ من الرهابة، وهو عظم الصدر يؤثر فيه الخوف‏.‏ والرهب‏:‏ النصل، لأنه يرهب منه، والرهبة والخشية والمخافة نظائر‏.‏ التصديق‏:‏ اعتقاد حقيقة الشيء ومطابقته للمخبر به، والتكذيب يقابله‏.‏

أول‏:‏ عند سيبويه‏:‏ أفعل، وفاؤه وعينه واوان، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد، لم يحفظ منه إلا‏:‏ ددن، وققس، وببن، وبابوس‏.‏ وقيل‏:‏ إن بابوساً أعجمي، وعند الكوفيين أفعل من وأل إذا لجأ، فأصله أوأل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام، وهذا تخفيف غير قياسي، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ هو أفعل من آل يؤل، فأصله أأول، ثم قلب فصار أوأل أعفل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام‏.‏ وهذان القولان ضعيفان، ويستعمل أول استعمالين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يجري مجرى الأسماء، فيكون مصروفاً، وتليه العوامل نحو‏:‏ أفكل، وإن كان معناه معنى قديم، وعلى هذا قول العرب‏:‏ مما تركت له أولاً ولا آخراً، أي ما تركت له قديماً ولا حديثاً‏.‏ والاستعمال الثاني‏:‏ أن يجري مجرى أفعل التفضيل، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظاً بها، أو مقدرة، وبالألف واللام، وبالإضافة‏.‏ وقالت العرب‏:‏ ابدأ بهذا أول، فهذا مبني على الضم باتفاق، والخلاف في علة بنائه ذلك لقطعه عن الإضافة، والتقدير‏:‏ أول الأشياء، أم لشبه القطع عن الإضافة، والتقدير‏:‏ أول من كذا‏.‏ والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة، والخلاف إذا بني، أهو ظرف أو اسم غير ظرف‏؟‏ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفاً، أو لا يشترط ذلك فيه، وكل هذا مستوفى في علم النحو‏.‏ الثمن‏:‏ العوض المبذول في مقابلة العين المبيعة، وقال‏:‏

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها *** فما أصبت بترك الحج من ثمن

أي من عوض‏.‏

القليل‏:‏ يقابله الكثير، واتفقا في زنة اسم الفاعل، واختلفا في زنة الفعل، فماضي القليل فعل، وماضي الكثير فعل، وكان القياس أن يكون اسم الفاعل من قل على فاعل نحو‏:‏ شذ يشذ، فهو شاذ، لكن حمل على مقابله‏.‏ ومثل قلّ فهو قليل، صح فهو صحيح‏.‏ اللبس‏:‏ الخلط، تقول العرب‏:‏ لبست الشيء بالشيء‏:‏ خلطته، والتبس به‏:‏ اختلط، وقال العجاج‏:‏

لما لبسن الحق بالتجني *** وجاء ألبس بمعنى لبس‏.‏

وقال آخر‏:‏

وكتيبة ألبستها بكتيبة *** حتى إذا التبست نفضت لها يدي

الكتم، والكتمان‏:‏ الإخفاء، وضده‏:‏ الإظهار، ومنه الكتم‏:‏ ورق يصبغ به الشيب‏.‏ الركوع‏:‏ له معنيان في اللغة‏:‏ أحدهما‏:‏ التطامن والانحناء، وهذا قول الخليل وأبي زيد، ومنه قول لبيد‏:‏

أخبر أخبار القرون التي مضت *** أدبّ كأني كلما قمت راكع

والثاني‏:‏ الذلة والخضوع، وهو قول المفضل والأصمعي، قال الأضبط السعدي‏:‏

لا تهين الضعيف علك أن *** تركع يوماً والدهر قد رفعه

‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏ هذا افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب، وأن فيه هدى للمؤمنين، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة، ثم بذكر المنافقين، وذكر جمل من أحوالهم، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى، ثم ذكر إعجاز القرآن، إلى غير ذلك مما ذكره، ثم نبههم بذكر أصلهم آدم، وما جرى له من أكله من الشجرة بعد النهي عنه، وأن الحامل له على ذلك إبليس‏.‏ وكانت هاتان الطائفتان‏:‏ أعني اليهود والنصارى، أهل كتاب، مظهرين اتباع الرسل والاقتداء بما جاء عن الله تعالى‏.‏ وقد اندرج ذكرهم عموماً في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا‏}‏ فجرد ذكرهم هنا خصوصاً، إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين، وبقي الكلام مع اليهود والنصارى، فتكلم معهم هنا، وذكروا ما يقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب، كما آمنوا بكتبهم السابقة، إلى آخر الكلام معهم على ما سيأتي جملة مفصلة‏.‏ وناسب الكلام معهم قصة آدم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لأنهم بعدما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، المذكور ذلك في التوراة والإنجيل، من الإيفاء بالعهد والإيمان بالقرآن، ظهر منهم ضد ذلك بكفرهم بالقرآن ومن جاء به، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد عليهم من الأوامر والنواهي، نحو قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا‏}‏ ‏{‏ويا آدم اسكن‏}‏

وقد تقدم الإشارة إلى ذلك، وأضافهم إلى لفظ إسرائيل، وهو يعقوب، ولم يقل‏:‏ يا بني يعقوب، لما في لفظ إسرائيل من أن معناه عبد الله أو صفوة الله، وذلك على أحسن تفاسيره، فهزهم بالإضافة إليه، فكأنه قيل‏:‏ يا بني عبد الله، أو يا بني صفوة الله، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير، كما تقول‏:‏ يا ابن الرجل الصالح أطع الله، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله، لأن الإنسان يحب أن يقتفى أثر آبائه، وإن لم يكن بذلك محموداً، فكيف إذا كان محموداً‏؟‏ ألا ترى‏:‏

‏{‏إنا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏ ‏{‏بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل‏}‏ دليل على أن من انتمى إلى شخص، ولو بوسائط كثيرة، يطلق عليه أنه ابنه، وعليه ‏{‏يا بني آدم‏}‏ ويسمى ذلك أباً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ملة أبيكم إبراهيم‏}‏ وفي إضافتهم إلى إسرائيل تشريف لهم بذكر نسبتهم لهذا الأصل الطيب، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن‏.‏ ونقل عن أبي الفرج بن الجوزي‏:‏ أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إسمان إلا يعقوب، فإنه يعقوب، وهو إسرائيل‏.‏ ونقل الجوهري في صحاحه‏:‏ أن المسيح اسم علم لعيسى، لا اشتقاق له‏.‏ وذكر البيهقي عن الخليل بن أحمد خمسة من الأنبياء ذوو اسمين‏:‏ محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا‏}‏ من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما والاها من بني إسرائيل، أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم، أقوال ثلاثة‏:‏ والأقرب الأول، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له‏:‏ ‏{‏وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم‏}‏، إلا على ضرب بعيد من التأويل، ولأن من آمن منهم لا يقال له‏:‏ ‏{‏وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به‏}‏، إلا بمجاز بعيد‏.‏ ويحتمل قوله‏:‏ اذكروا الذكر باللسان والذكر بالقلب‏:‏ فعلى الأول يكون المعنى‏:‏ أمرّوا النعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى‏.‏ وعلى الثاني يكون المعنى‏:‏ تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها‏.‏ وفي النعمة المأمور بشكرها أو بحفظها أقوال‏:‏ ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون وإهلاك عدوهم وإيتائهم التوراة ونحو ذلك، قاله الحسن والزجاج، أو إدراكهم مدة النبي صلى الله عليه وسلم، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال‏.‏ وأظهر هذه الأقوال ما اختص به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله‏:‏ ‏{‏التي أنعمت عليكم‏}‏، ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكاً، وأنزل عليهم الكتب المعظمة، وظلل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أعطاهم عموداً من النور ليضء لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى‏.‏

وإنما ذكروا بهذه النعم لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو‏:‏ التوراة والإنجيل والزبور، ولئن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول الله والقرآن، ولأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالقة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة‏.‏ وهذه النعم، وإن كانت على آبائهم، فهي أيضاً نعم عليهم، لأن هذه النعم حصل بها النسل، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد‏.‏ قال بعض العارفين‏:‏ عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكر المنعم فقال‏:‏ ‏{‏اذكروني أذكركم‏}‏ فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، وفي قوله‏:‏ ‏{‏نعمتي‏}‏، نوع التفات، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله‏:‏ ‏{‏آياتنا‏}‏ إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك‏.‏ وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها، ويجوز في الياء من نعمتي الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح‏.‏ وأنعمت‏:‏ صلة التي، والعائد محذوف، التقدير‏:‏ أنعمتها عليكم‏.‏

‏{‏وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم‏}‏‏.‏ العهد‏:‏ تقدم تفسيره لغة في قوله‏:‏ ‏{‏الذين ينقضون عهد الله‏}‏ ويحتمل العهد أن يكون مضافاً إلى المعاهد وإلى المعاهد‏.‏ وفي تفسير هذين العهدين أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة‏.‏ الثاني‏:‏ ما أمرهم به وعهدهم ما وعدهم به، قاله ابن عباس‏.‏ الثالث‏:‏ ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ الرابع‏:‏ أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها‏.‏ الخامس‏:‏ ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر‏.‏ السادس‏:‏ إصلاح الدين وعهدهم إصلاح آخرتهم‏.‏ السابع‏:‏ مجاهدة النفوس وعهدهم المعونة على ذلك‏.‏ الثامن‏:‏ إصلاح السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر‏.‏ التاسع‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏، قاله الحسن‏.‏ العاشر‏:‏ ‏{‏وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس ولا يكتمونه‏}‏ الحادي عشر‏:‏ الإخلاص في العبادات وعهدهم إيصالهم إلى منازل الرعايات‏.‏ الثاني عشر‏:‏ الإيمان به وطاعته، وعهدهم ما وعدهم عليه من حسن الثواب على الحسنات‏.‏ الثالث عشر‏:‏ حفظ آداب الظواهر وعهدهم في السرائر‏.‏ الرابع عشر‏:‏ عهد الله على لسان موسى عليه السلام لبني إسرائيل‏:‏ إني باعث من بني إسرائيل نبياً فمن اتبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، قاله الكلبي‏.‏ الخامس عشر‏:‏ شرط العبودية وعهدهم شرط الربوبية‏.‏ السادس عشر‏:‏ أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربى ورؤيتي، قاله الثوري‏.‏ السابع عشر‏:‏ لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة، قاله إسماعيل بن زياد‏.‏

الثامن عشر‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا‏}‏ الآية، قاله ابن جريج، وعهدهم إدخالهم الجنة‏.‏ التاسع عشر‏:‏ أوامره ونواهيه ووصاياه، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة، قاله الجمهور‏.‏ العشرون‏:‏ أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعهدكم في كفاية المهمات، قاله أبو عثمان‏.‏ الحادي والعشرون‏:‏ أوفوا بعهدي في حفظ حدودي ظاهراً وباطناً أوف بعهدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري‏.‏ الثاني والعشرون‏:‏ عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة، قاله القشيري‏.‏ الثالث والعشرون‏:‏ أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم أخذ الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق‏.‏ الرابع والعشرون‏:‏ أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوف بعهدكم أرض عنكم بكم‏.‏ فهذه أقوال السلف في تفسير هذين العهدين‏.‏

والذي يظهر، والله أعلم، أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى، وترتيب إنجاز ما وعدهم به عهداً على سبيل المقابلة، أو إبرازاً لما تفضل به تعالى في صورة المشروط الملتزم به فتتوفر الدواعي على الإيفاء بعهد الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أوفى بعهده من الله‏}‏ ‏{‏إلا من اتخذ عند الرحمن عهداًً‏}‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فإن له عهداً عند الله أن يدخله الجنة» وقرأ الزهري‏:‏ أوف بعهدكم مشدّداً‏.‏ ويحتمل أن يراد به التكثير، وأن يكون موافقاً للمجرّد‏.‏ فإن أريد به التكثير فيكون في ذلك مبالغة على لفظ أوف، وكأنه قيل‏:‏ أبالغ في إيفائكم، فضمن تعالى إعطاء الكثير على القليل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏}‏ وانجزام المضارع بعد الأمر نحو‏:‏ اضرب زيداً يغضب، يدل على معنى شرط سابق، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئاً آخر، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول‏:‏ أضرب زيداً، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلاً، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه‏.‏ وقد اختلف النحويون في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط، فإذا قلت‏:‏ اضرب زيداً يغضب، ضمن اضرب معنى‏:‏ أن تضرب، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط، ومعنى النيابة أنه كان التقدير‏:‏ اضرب زيداً، إن تضرب زيداً يغضب، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها‏.‏ وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنى إن‏.‏ وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية، وفي الحقيقة، العمل إنما هو للشرط المقدر، وهو اختيار الفارسي والسيرافي، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل‏.‏ والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو‏.‏

‏{‏وإياي فارهبون‏}‏‏.‏ إياي‏:‏ منصوب بفعل محذوف مقدراً بعده لانفصال الضمير، وإياي ارهبوا، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله، وهم من السجاوندي، إذ قدره وارهبوا إياي، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله، لأن قبله أمر، ولأن فيه تأكيداً، إذ الكلام مفروغ في قالب جملتين‏.‏

ولو كان ضمير رفع لجاز، لكن يفوت هذان المعنيان‏.‏ وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل، قال الزمخشري‏:‏ وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد‏.‏ ومعنى ذلك أن الكلام جملتان في التقدير، وإياك نعبد، جملة واحدة، والاختصاص مستفاد عنده من تقديم المعمول على العامل‏.‏ وقد تقدم الكلام معه في ذلك، وأنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه من ذلك‏.‏ والفاء في قوله‏:‏ فارهبون، دخلت في جواب أمر مقدّر، والتقدير‏:‏ تنبهوا فارهبون‏.‏ وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه‏:‏ تقول‏:‏ كل رجل يأتيك فاضرب، لأن يأتيك صفة ههنا، كأنك قلت‏:‏ كل رجل صالح فاضرب، انتهى‏.‏ قال ابن خروف‏:‏ قوله كل رجل يأتيك فاضرب، بمنزلة زيداً فاضرب، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل، فانتصب كل وهو أحسن من‏:‏ زيداً فاضرب، انتهى‏.‏ ولا يظهر لي وجه إلا حسنية التي أشار إليها ابن خروف، والذي يدل على أن هذا التركيب، أعني‏:‏ زيداً فاضرب، تركيب عربي صحيح، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الله فاعبد‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا *** قال بعض أصحابنا‏:‏ الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في‏:‏ زيداً فاضرب، تنبه‏:‏ فاضرب زيداً، ثم حذف تنبه فصار‏:‏ فاضرب زيداً‏.‏ فلما وقعت الفاء صدراً قدّموا الاسم إصلاحاً للفظ، وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، انتهى ما لخص من كلامه‏.‏ وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون التقدير وإياي ارهبوا، تنبهوا فارهبون، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر، وليست مؤخرة من تقديم‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أن يكون التقدير وتنبهوا فارهبون، ثم قدّم المفعول فانفصل، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف، فالتقى بعد حذفه حرفان‏:‏ الواو العاطفة والفاء، التي هي جواب أمر، فتصدّرت الفاء، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحاً للفظ، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولاً لفعل محذوف، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به، ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو‏:‏ ضربتك إياك، والمعنى‏:‏ ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا قول ابن عباس‏.‏ وقيل معنى فارهبون‏:‏ أن لا تنقضوا عهدي، وفي الأمر بالرهبة وعيد بالغ، وليس قول من زعم أن هذا الأمر معناه التهديد والتخويف والتهويل، مثل قوله تعالى‏:‏

‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ تشديد لأن هذا في الحقيقة مطلوب، واعملوا ما شئتم غير مطلوب فافترقا‏.‏ وقيل‏:‏ الخوف خوفان، خوف العقاب، وهو نصيب أهل الظاهر، ويزول، وخوف جلال، وهو نصيب أهل القلب، ولا يزول‏.‏ وقال السلمي‏:‏ الرهبة‏:‏ خشية القلب من رديء خواطره‏.‏ وقال سهل‏:‏ ‏{‏وإياي فارهبون‏}‏، موضع اليقين بمعرفته، ‏{‏وإياي فاتقون‏}‏، موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج‏.‏ وقال القشيري‏:‏ أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد‏.‏

‏{‏وآمنوا بما أنزلت‏}‏‏:‏ ظاهره أنه أمر لبني إسرائيل، لأن المأمورين قبل هم، وهذا معطوف على ما قبله، فظاهره اتحاد المأمور‏.‏ وقيل‏:‏ أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، علماء اليهود ورؤسائهم، والظاهر الأول، ويندرج فيه كعب ومن معه‏.‏ وما في قوله‏:‏ ‏{‏بما أنزلت‏}‏ موصولة، أي بالذي أنزلت، والعائد محذوف تقديره‏:‏ أنزلته، وشروط جواز الحذف فيه موجودة، والذي أنزل تعالى هو القرآن، والذي معهم هو التوراة والإنجيل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المراد ‏{‏بما أنزلت‏}‏‏:‏ من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وأبعد من جعل ما مصدرية، وأن التقدير‏:‏ وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام‏.‏ ‏{‏مصدّقاً‏}‏‏.‏ وعلى القول الأول يكون ‏{‏لما معكم‏}‏ من تمام ‏{‏مصدقاً‏}‏، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية، كهي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعال لما يريد‏}‏ وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله‏:‏ ‏{‏لما معكم‏}‏‏.‏ ولا نقول‏:‏ يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية، فهو كالحرف الزائد، وصار نظير‏:‏ زيد ضارب، مجردة لهند، التقدير‏:‏ ضارب هنداً مجردة، ثم تقدمت هذه الحال، وهذا جائز عندنا، ويبعد أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر‏.‏ والوجه الثاني‏:‏ أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به، ويراد به المنزل، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعدياً للمفعول‏.‏ والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف، وهي حال مؤكدة، والعامل فيها أنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ حال من ما في قوله‏:‏ بما أنزلت، وهي حال مؤكدة أيضاً‏.‏

‏{‏ولا تكونوا أوّل كافر به‏}‏‏:‏ أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة، فإنه يبقى مفرداً مذكراً، والنكرة تطابق ما قبلها، فإن كان مفرداً كان مفرداً، وإن كان تثنية كان تثنية، وإن كان جمعاً كان جمعاً، فتقول‏:‏ زيد أفضل رجل، وهند أفضل امرأة، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال‏.‏ ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا‏.‏ وأجاز أبو العباس‏:‏ إخوتك أفضل رجل، بالإفراد، ومنع ذلك الجمهور‏.‏

وإن كانت صفة، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد، قال الشاعر‏:‏ أنشده الفراء‏:‏

وإذا هم طعموا فألأم طاعم *** وإذا هم جاعوا فشرّ جياع

فأفرد بقوله‏:‏ طاعم، وجمع بقوله‏:‏ جياع‏.‏ وإذا أفردت النكرة الصفة، وقبل أفعل التفضيل جمع، فهو عند النحويين متأوّل، قال الفراء‏:‏ تقديره من طعم، وقال غيره‏:‏ يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنى جمع، كأنه قال‏:‏ فألأم طاعم، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ يكون التجوز في الجمع، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم، فالمعنى‏:‏ كل واحد من الزيدين أفضل عالم‏.‏ وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع‏.‏ وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى، فإذا قلت‏:‏ أبوك أفضل عالم، فتقديره‏:‏ عندهم أبوك الأفضل العالم، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى‏.‏ وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو‏.‏ وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر، أو أول حزب كفر، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر‏.‏ والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانياً أو آخراً، فمفهوم الصفة هنا غير مراد‏.‏ ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة، والتقدير‏:‏ ولا تكونوا كافرين به، وهذا ضعيف جداً‏.‏ وزعم بعضهم أن ثم محذوفاً معطوفاً تقديره‏:‏ ولا تكونوا أوّل كافر به ولا آخر كافر، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش، لما فيها من الابتداء بها، وهذا شبيه بقول الشاعر‏:‏

من أناس ليس في أخلاقهم *** عاجل الفحش ولا سوء جزع

لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً، بل أراد لافحش عندهم، لا عاجلاً، ولا آجلاً، وتأوله بعضهم على حذف مضاف، أي‏:‏ ولا تكونوا مثل أول كافر به، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة موصوفاً مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له، وبعضهم على صفة محذوفة، أي أول كافر به من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى، التقدير‏:‏ ولا تكونوا أول كافر به مع المعرفة، لأن كفر قريش كان مع الجهل، وهذا القول شبيه بالذي قبله‏.‏ وبعضهم قدر صلة غير هذه، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه‏.‏ وقيل‏:‏ ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به، لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به، فلما بعث كان أمرهم على العكس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏

وقال القشيري‏:‏ لا تسنوا الكفر سنة، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون‏.‏ والضمير في به عائد على الموصول في بما أنزلت، وهو القرآن، قاله ابن جريج، أو على محمد صلى الله عليه وسلم، ودل عليه المعنى، لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه، قاله أبو العالية، أو على النعمة على معنى الإحسان، ولذلك ذكر الضمير، قاله الزجاج، أو على الموصول في لما معكم، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه، فقد كفروا به، والأرجح الأول، لأنه أقرب، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه، بخلاف الأقوال الثلاثة‏.‏

‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏‏.‏ الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال، كما قال‏:‏

كما اشترى المسلم إذ تنصرا *** وقال آخر‏:‏

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل *** ولما كان المعنى على الاستبدال، جاز أن تدخل الباء على الآيات، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمناً، لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك، لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل، وما دخلت عليه الباء هو الزائل، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك‏:‏ بدلت أو أبدلت درهماً بدينار معناه‏:‏ أخذت الدينار بدلاً عن الدرهم، والمعنى، والله أعلم‏:‏ ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة‏.‏ ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى، إذ كان يصير المعنى‏:‏ أنهم هم بذلوا ثمناً قليلاً وأخذوا الآيات‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن، وكذلك كلّ ما لا عين فيه، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن، قاله الفراء‏.‏ انتهى كلام المهدوي ومعناه‏:‏ أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمناً ومثمناً، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن، فلا تدخل عليه الباء، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء، ونفس الآيات لا يشترى بها، فاحتيج إلى حذف مضاف، فقيل تقديره‏:‏ بتعليم آياتي، قاله أبو العالية، وقيل‏:‏ بتغيير آياتي، قاله الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ بكتمان آياتي، قاله السدي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحتاج إلى حذف مضاف، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي‏.‏

وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات، ما أنزل من الكتب، أو القرآن، أو ما أوضح من الحجج والبراهين، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر، والقول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله‏:‏ ثمناً قليلاً‏.‏ فمن قال‏:‏ إن المضاف هو التعليم، قال‏:‏ الثمن القليل هو الأجرة على التعليم، وكان ذلك ممنوعاً منه في شريعتم، أو الراتب المرصد لهم على التعليم، فنهوا عنه، ومن قال‏:‏ هو التغيير، قال الثمن القليل هو الرّياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي، جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمرالله به واجتناب ما نهى عنه، ووصف الثمن بالقليل، لأن ما حصل عوضاً عن آيات الله كائناً ما كان لا يكون إلا قليلاً، وإن بلغ ما بلغ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏}‏ فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات، إذ لا يكون إلا قليلاً‏.‏ ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره‏:‏ ثمناً قليلاً ولا كثيراً، فحذف لدلالة المعنى عليه‏.‏ وقد استدل بعض أهل العلم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏ على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم‏.‏ وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح، وقد صح أنهم قالوا‏:‏ يا رسول الله، إنا نأخذ على كتاب الله أجراً، فقال‏:‏ «إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله»‏.‏ وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة، لكون ذلك عبادة بدنية، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية، وقد مرّ تفسيرها‏.‏

‏{‏وإيّاي فاتقون‏}‏‏:‏ الكلام عليه إعراباً، كالكلام على قوله‏:‏ ‏{‏وإيّاي فارهبون‏}‏، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة‏.‏ قال صاحب المنتخب‏:‏ والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجرم بحصول ما يتقي منه، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم، انتهى كلامه‏.‏ ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا‏:‏ أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك، فقيل في ذلك‏:‏ ‏{‏فارهبون‏}‏، وقيل في هذا‏:‏ ‏{‏فاتقون‏}‏، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به‏.‏ والأحسن أن لا يقيد ارهبون واتَّقون بشيء، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولاً واضحاً، فكان المعنى‏:‏ ارهبون، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي، واتقون، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشترتيتم بآياتي ثمناً قليلاً‏.‏

‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏‏:‏ أي الصدق بالكذب، قاله ابن عباس، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام، قاله مجاهد، أو التوراة بما كتبوه بأيديهم فيها من غيرها، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد، أو الأمانة بالخيانة لأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله، أو الإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم، قاله أبو العالية، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم، أو صفة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الدجال‏.‏

وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق، كقولك‏:‏ خلطت الماء باللبن، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يتيمز الحق من الباطل، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة، كهي في كتبت بالقلم، قال‏:‏ كان المعنى‏:‏ ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك‏.‏

‏{‏وتكتموا الحق‏}‏‏:‏ مجزوم عطفاً على تلبسوا، والمعنى‏:‏ النهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا‏:‏ لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالجزم نهياً عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوباً على إضمار أن، وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف‏.‏ والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو، وهذا مذكور في علم النحو‏.‏ وما جوزوه ليس بظاهر، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحباً على الجمع بين الفعلين، كما إذا قلت‏:‏ لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه‏:‏ النهي عن الجمع بينهما، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما، وذلك منهي عنه، فلذلك رجح الجزم‏.‏

وقرأ عبد الله‏:‏ ‏{‏وتكتمون الحق‏}‏، وخرج على أنها جملة في موضع الحال، وقدره الزمخشري‏:‏ كاتمين، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع، إذا وقعت حالاً لا تدخل عليها الواو، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره‏:‏ وأنتم تكتمون الحق، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك أن يقال‏:‏ لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي، على من يرى جواز ذلك، وهو سيبويه وجماعة، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، وكلا التخريجين تخريج شذوذ‏.‏ والحق الذي كتموه هو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو العالية، والسدّي، ومقاتل، أو الإسلام، قاله الحسن، أو يكون الحق عامًّا فيندرج فيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، وما جاء به صلى الله عليه وسلم وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه‏.‏

‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ جملة حالية، ومفعول تعلمون محذوف اقتصاراً، إذ المقصود‏:‏ وأنتم من ذوي العلم، فلا يناسب من كان عالماً أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل، وقد قدروا حذفه حذف اختصار، وفيه أقاويل ستة‏:‏ أحدها‏:‏ وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ وأنتم تعلمون البعث والجزاء‏.‏ الثالث‏:‏ وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة‏.‏ الرابع‏:‏ وأنتم تعلمون الحق من الباطل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين، قال‏:‏ وهو أقبح، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه، انتهى‏.‏ فكان ما قدّره هو على حذف مضاف، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم، وقال ابن عطية‏:‏ وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، انتهى‏.‏ ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق، كأنه قال‏:‏ ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه، لأن المكتوم قد يكون حقاً وغير حق، فإذا كان حقاً وعلم أنه حق، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنباً، لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق، قال‏:‏ ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، انتهى‏.‏ يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله‏:‏ وتكتمون‏.‏

والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلاً من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار، إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه‏.‏ وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقاً أو باطلاً، وإنما فائدتها‏:‏ أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها‏.‏ وقال القشيري‏:‏ لا تتوهموا، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين، فإما مبسوطة بحق، وإما مربوطة بحط، ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏، تدليس، ‏{‏وتكتمو الحق‏}‏ تلبيس، ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ أن حق الحق تقديس، انتهى‏.‏ وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره، ويحرم عليه كتمانه‏.‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏‏:‏ تقدّم الكلام على مثل هذا في أوّل السورة في قوله‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة‏}‏، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم، فقيل‏:‏ هي الصلاة المفروضة، وقيل‏:‏ جنس الصلاة والزكاة‏.‏

قيل‏:‏ أراد المفروضة، وقيل‏:‏ صدقة الفطر، وهو خطاب لليهود، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة‏.‏ قال القشيري‏:‏ وأقيموا الصلاة‏:‏ احفظوا أدب الحضرة، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة، وآتوا الزكاة، زكاة الهمم، كما تؤدى زكاة النعم، قال قائلهم‏:‏

كلّ شيء له زكاة تؤدّى *** وزكاة الجمال رحمة مثلي

‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏‏:‏ خطاب لليهود، ويحتمل أن يراد بالركوع‏:‏ الانقياد والخضوع، ويحتمل أن يراد به‏:‏ الركوع المعروف في الصلاة، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجاً في الصلاة التي أمروا بإقامتها، لأنه ركوع في صلاتهم، فنبه بالأمر به، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسليمن‏.‏ وقيل‏:‏ كنى بالركوع عن الصلاة‏:‏ أي وصلوا مع المصلين، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكلّ بالجزء، ويكون في قوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلاً لم يكن فيها إيقاعها في جماعة‏.‏ والراكعون‏:‏ قيل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقيل‏:‏ أراد الجنس من الراكعين‏.‏

وفي هذه الجمل، وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيباً ترتيب عجيب، من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض، وذلك أنه تعالى أمرهم أوّلاً بذكر النعمة التي أنعمها عليهم، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته، ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان، وأمر بالخوف من العصيان، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص، وهو ما أنزل من القرآن، ورغب في ذلك بأنه مصدّق لما معهم، فليس أمراً مخالفاً لما في أيديهم، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف‏.‏ ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم تعالى باتقائه، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق، فكان الأمر بالإيمان أمراً بترك الضلال، والنهي عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركاً للإضلال‏.‏ ولما كان الضلال ناشئاً عن أمرين‏:‏ إما تمويه الباطل حقاً إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية، والزكاة آكد العبادات المالية‏.‏ ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين‏.‏

فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم، وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية‏.‏ وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام، وهذه الأوامر والنواهي، وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل، فإنهم هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى، فيجب على كل مكلف ذكر نعمة الله، والإيفاء بالعهد وسائر التكاليف المذكورة بعد هذا‏.‏