فصل: تفسير الآيات رقم (111- 126)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 126‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

قبل‏:‏ جمع قبيل كرغيف ورغف، ومعناه جماعة أو كقبل أو مفرد بمعنى قبل، أي مواجهة ومقابلة ويكون قبل ظرف أيضاً‏.‏

الزخرف الزينة، قاله الزجاج‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ كل ما حسنته وزينته وهو باطل فهو زخرف انتهى‏.‏ والزخرف الذهب‏.‏ صغوت وصغيت وصغيت بكسر الغين فمصدر الأول صغوا والثاني صغا، والثالث صغا، ومضارعها يصغي بفتح الغين، وهي لازمة، وأصغى مثلها لازم ويأتي متعدّياً بكون الهمزة فيه للنقل، قال الشاعر في اللازم‏:‏

ترى السفيه به عن كل محكمة *** زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء

وقال في المتعدّي‏:‏

أصاخ من نبأة أصغى لها أذنا *** صماخها بدسيس الذوق مستور

وأصله الميل يقال‏:‏ صغت النجوم‏:‏ مالت للغروب‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «فأصغى لها الإناء»‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ ويقال‏:‏ صغوه معك وصغوه وصغاه‏.‏ ويقال‏:‏ أكرموا فلاناً في صاغيته أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده‏.‏

اقترف اكتسب وأكثر ما يكون في الشر والذنوب‏.‏ ويقال‏:‏ خرج يقترف لأهله‏:‏ أي يكتسب لهم، وقارف فلان الأمر‏:‏ أي واقعه وقرفه بكذا رماه بريبة، واقترف كذباً وأصله اقتطاع قطعة من الشيء‏.‏

خرص حزر وقال بغير تيقن ولا علم ومنه خرص بمعنى كذب وافتى خرصاً وخروصاً‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ وأصله التظني فيما لا يستيقن‏.‏

الشرح البسط والتوسعة‏.‏

قال الليث يقال‏:‏ شرح الله صدره فانشرح‏.‏

وقال ابن الأعرابي‏:‏ الشرح الفتح‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ ومنه شرحت لك الأمر وشرحت اللحم فتحته‏.‏

الضيق فيعل من ضاق الشيء انضمت أجزاؤه إذا كان مجوفاً‏.‏

الحرج‏:‏ اسم فاعل من حرج إذا اشتد ضيقه، وبالفتح المصدر، قاله الزجاج وأبو علي‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هما بمنزلة الواحد والوحد والفرد، والفرد والدنف والدنف يعني أنهما وصفان انتهى‏.‏ وأصله من الحرجة وهي شجرة تحف بها الأشجار حتى تمنع الداعي أن يصل إليها‏.‏

وقال أبو الهيثم‏:‏ الحراج غياض من شجر السلم ملتفة واحدها حرجة لا يقدر أحد أن يدخل فيها أو ينفذ‏.‏

‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله‏}‏ أي لو أتيناهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة في قولهم ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ وتكليم الموتى إياه في قولهم ‏{‏فأتوا بآبائنا‏}‏ وفي قولهم أخي قصي بن كلاب وجدعان بن عمرو، وهما أمينا العرب، والوسطان فيهم‏.‏ وحشر كل شيء عليهم من السباع والدواب والطيور وشهادتهم بصدق الرسول‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وحشرنا عليهم كل شيء‏}‏ قالوا‏:‏ ‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبلاً‏}‏ وقرأ نافع وابن عامر قبلاً بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه مقابلة أي عياناً ومشاهدة‏.‏ قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، ونصبه على الحال‏.‏

وقال المبرد‏:‏ معناه ناحية كما تقول‏:‏ زيد قبلك، ولي قبل فلان دين، فانتصابه على الظرف وفيه بعد‏.‏

وقرأ باقي السبعة قبلاً بضم القاف والباء‏.‏ فقال مجاهد وابن زيد وعبد الله بن يزيد‏:‏ جمع قبيل وهو النوع، أي نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً‏.‏

وقال الفراء والزجاج‏:‏ جمع قبيل بمعنى كفيل أي‏:‏ كفلاً بصدق محمد‏.‏ يقال قبلت الرجل أقبله قبالة، أي كفلت به والقبيل والكفيل والزعيم والأدين والحميل والضمين بمعنى واحد‏.‏ وقيل قبلاً بمعنى قبلاً أي مقابلة ومواجهة‏.‏ ومنه أتيتك قبلاً لا دبراً‏.‏ أي من قبل وجهك‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن كان قميصه قدّ من قبل‏}‏ وقرئ لقبل عدتهن‏:‏ أي لاستقبالها ومواجهتها‏.‏ وهذا القول عندي أحسن لاتفاق القراءتين‏.‏

وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة، قبلاً بضم القاف وسكون الباء على جهة التخفيف من الضم‏.‏

وقرأ أبيّ والأعمش ‏{‏قبيلاً‏}‏ بفتح القاف وكسر الباء وياء بعدها، وانتصابه في هذه القراءة على الحال‏.‏

وقرأ ابن مصرّف بفتح القاف وسكون الباء وجواب ‏{‏لو‏}‏ ‏{‏ما كانوا ليؤمنوا‏}‏ وقدره الحوفي لما كانوا قال‏:‏ وحذفت اللام وهي مرادة، وليس قوله بجيد لأن المنفي بما إذا وقع جواباً للو فالأكثر في لسان العرب، أن لا تدخل اللام على ما وقل دخولها على ما، فلا تقول إن اللام حذفت منه بل إنما أدخلوها على ما تشبيهاً للمنفى بما بالموجب، ألا ترى أنه إذا كان النفي بلم لم تدخل اللام على لم فدل على أن أصل المنفي أن لا تدخل عليه اللام و‏{‏ما كانوا ليؤمنوا‏}‏ أبلغ في النفي من لم يؤمنوا لأن فيه نفي التأهل والصلاحية للإيمان، ولذلك جاءت لام الجحود في الخبر وإلا أن يشاء الله استثناء متصل من محذوف هو علة‏.‏ وسبب التقدير ‏{‏ما كانوا ليؤمنوا‏}‏ لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله‏.‏ وقدره بعضهم في كل حال إلا في حال مشيئة الله ومن ذهب إلى أنه استثناء منقطع كالكرماني وأبي البقاء والحوفي‏.‏ فقوله فيه بعد إذ هو ظاهر الاتصال أو علق إيمانهم بمشيئة الله دليل على ما يذهب إليه أهل السنة من أن إيمان العبد واقع بمشيئة الله، وحمل ذلك المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقهر‏.‏ ولذلك قال الزمخشري‏:‏ مشيئة إكراه واضطرار، والظاهر أن الضمير في ‏{‏أكثرهم‏}‏ عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل من الكفار أي يجهلون الحق، أو يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة، أو يجهلون أن كلاًّ من الإيمان والكفر هو بمشيئة الله وقدره‏.‏

وقال الزمخشري يجهلون فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات‏.‏ قال أو لكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة‏.‏

وقال غيره من المعتزلة يجهلون أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآيات التي اقترحوها‏.‏

وقال الجبائي ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ يدل على حدوث مشيئة الله إذ لو كانت قديمة لم يجز أن يعلق عليها الحادث لأنها شرط ويلزم من حصول المشروط حصول الشرط والحسن دل على حدوث الإيمان فوجب كون الشرط حادثاً وهو المشيئة‏.‏

وأجاب أبو عبد الله الرازي بأن المشيئة وإن كانت قديمة تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحالة إضافة حادثة انتهى‏.‏ وهذه الآية مؤيسة من إيمان هؤلاء الذين اقترحوا الآيات إلا من شاء الله منهم‏.‏ ولذلك جاء قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ وهم من ختم له بالسعادة فآمن منهم‏.‏

‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏}‏ المعنى مثل ما جعل هؤلاء الكفار المقترحين الآيات وغيرهم أعداء لك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء شياطين الإنس والجن أي متمردي الصنفين ‏{‏يوحى‏}‏ يلقي في خفية بعضهم إلى بعض، أي بعض الصنف الجني إلى بعض الصنف الإنسي، أو يوحي شياطين الجن إلى شياطين الإنس زخرف القول، أي محسنه ومزينه، وثمرة هذا الجعل الامتحان فيظهر الصبر على ما منوا به ممن يعاديهم فيعظم الثواب والأجر وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأس بمن تقدمه من الأنبياء وأنك لست منفرداً بعداوة من عاصرك، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء‏.‏ وعدو كما قلنا قبل في معنى أعداء‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

إذ أنا لم أنفع صديقي بودّه *** فإن عدوّي لن يضرهم بغضي

وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء هنا كإعرابهم ‏{‏وجعلوا لله شركاء الجن‏}‏ وجوّزوا في شياطين البدلية من عدواً، كما جوّزوا هناك بدلية الجن من شركاء وقد رددناه عليهم‏.‏ والظاهر أن قوله ‏{‏شياطين الإنس والجن‏}‏ هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الإنس والجن الشياطين فيلزم أن يكون من الإنس شياطين ومن الجن شياطين، والشيطان هو المتمرّد من الصنفين كما شرحناه‏.‏ وهذا قول قتادة ومجاهد والحسن، وكذا فهم أبو ذر من قول الرسول له‏:‏ «هل تعوّذت من شياطين الجن والإنس» قلت‏:‏ يا رسول الله وهل للإنس من شياطين‏؟‏ قال‏:‏ «نعم وهم شر من شياطين الجن»‏.‏ وقال مالك بن دينار شيطان الإنس عليّ أشد من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس بجيئني ويجرني إلى المعاصي عياناً‏.‏

وقال عطاء‏:‏ أما أعداء النبي صلى الله عليه وسلم من شياطين الإنس‏:‏ فالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو جهل بن هشام والعاصي بن عمرو، وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد الأسد وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وعتبة بن أبي معيط والوليد بن عتبة وأبيّ وأمية ابنا خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وعتبة بن عبد العزى، ومعتب بن عبد العزى‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قيل‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «ولا أنا إلا أن الله عافاني وأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ‏"‏‏.‏ وقيل‏:‏ الإضافة ليست من باب إضافة الصفة للموصوف بل هي من باب غلام زيد أي شياطين الإنس والجن، أي متمردين مغوين لهم‏.‏ وعلى هذا فسره عكرمة والضحاك والسدّي والكلبي قالوا‏:‏ ليس من الإنس شياطين والمعنى شياطين الإنس التي مع الإنس، وشياطين الجن التي مع الجن، قسم إبليس جنده فريقاً إلى الإنس وفريقاً إلى الجنّ، يتلاقون فيأمر بعض بعضاً أن يضل صاحبه بما أضل هو به صاحبه، ورجحت هذه الإضافة بأن أصل الإضافة المغايرة بين المضاف والمضاف إليه، ورجحت الإضافة السابقة بأن المقصود التسلّي والائتسا بمن سبق من الأنبياء، إذ كان في أممهم من يعاديهم كما في أمّة محمد من كان يعاديه، وهم شياطين الإنس والظاهر في جعلنا أنه تعالى هو مصيرهم أعداء للأنبياء والعداوة للأنبياء معصية وكفر، فاقتضى أنه خالق ذلك وتأول المعتزلة هذا الظاهر‏.‏

فقال الزمخشري وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم يمنعهم من العداوة انتهى‏.‏

وهذا قول الكعبي قال‏:‏ خلي بينه وبينه‏.‏

وقال الجبائي‏:‏ الجعل هنا الحكم والبيان يقال كفره حكم بكفره وعدله أخبر عن عدالته‏.‏ ولما بين للرسول كونهم أعداء لهم قال جعلهم أعداء لهم‏.‏

وقال أبو بكر الأصم لما أرسله الله إلى العالمين وخصه بالمعجزات حسدوه وصار الجسد مبيناً للعداوة القوية، فلهذا التأويل قال جعلهم له أعداء كما قال الشاعر‏:‏

فأنت صيرتهم لي حسداً *** وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء، وانتصب غروراً على أنه مفعول له وجوّزوا أن يكون مصدراً ليوحي لأنه بمعنى يغرّ بعضهم بعضاً أو مصدراً في موضع الحال أي غارّين‏.‏

‏{‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏}‏ أي ما فعلوا العداوة أو الوحي أو الزخرف، أو القول أو الغرور أوجه ذكروها‏.‏

‏{‏فذرهم وما يفترون‏}‏ أي اتركهم وما يفترون من تكذيبك ويتضمن الوعيد والتهديد‏.‏

قال ابن عباس يريد ما زين لهم إبليس وما غرّهم به انتهى‏.‏ وظاهر الأمر الموادعة وهي منسوخة بآيات القتال‏.‏

وقال قتادة كل ذر في كتاب الله فهو منسوخ بالقتال وما بمعنى الذي أو موصوفة أو مصدرية‏.‏

‏{‏ولتصغي له أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون‏}‏ أي ولتميل إليه الضمير يعود على ما عاد عليه في فعلوه، وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الآثام‏.‏ واللام لام كي وهي معطوفة على قوله غروراً لما كان معناه للغرور، فهي متعلقة بيوحي ونصب غرور الاجتماع شروط النصب فيه، وعدى يوحى إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو بعضهم وفاعل تصغى هو ‏{‏أفئدة‏}‏، وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل فكأن كل واحد مسبب عما قبله‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ولتصغي‏}‏ جوابه محذوف تقديره، وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً على أن اللام لام الصيرورة، والضمير في ‏{‏إليه‏}‏ راجع إلى ما يرجع إليه الضمير في فعلوه أي ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار انتهى‏.‏ وتسمية ما تتعلق به اللام جواباً اصطلاح غريب، وما قاله هو قول الزجاج، قال‏:‏ تقديره ‏{‏ولتصغي إليه‏}‏ فعلوا ذلك فهي لام صيرورة‏.‏ وذهب الأخفش إلى أن لام ‏{‏ولتصغي‏}‏ هي لام كي وهي جواب لقسم محذوف تقديره‏.‏ والله ‏{‏ولتصغي‏}‏ موضع ولتصغين فصار جواب القسم من قبيل المفرد فتقول والله ليقوم زيد التقدير أقسم بالله لقيام زيد واستدل على ذلك بقول الشاعر‏:‏

إذا قلت قدني قال الله حلفة *** لتغني عني ذا أنائك أجمعا

وبقوله‏:‏ ‏{‏ولتصغي‏}‏ والرد عليه مذكور في كتب النحو‏.‏

وقرأ النخعي والجراح بن عبد الله ‏{‏ولنصغي‏}‏ من أصغى رباعياً‏.‏

وقرأ الحسن بسكون اللام في الثلاثة‏.‏

وقيل عنه في ليرضوه وليقترفوا بالكسر في ‏{‏ولتصغي‏}‏‏.‏

وقال أبو عمرو الداني قراءة الحسن، إنما هي ‏{‏ولتصغي‏}‏ بكسر الغين انتهى، وخمرج سكون اللام في الثلاثة على أنه شذوذ في لام كي وهي لام كي في الثلاثة‏.‏ وهي معطوفة على غرور أو سكون لام كي في نحو هذا شاذ في السماع قوي في القياس قاله أبو الفتح‏.‏

وقال غيره‏:‏ هي لام الأمر في الثلاثة ويبعد ذلك في ‏{‏ولتصغي‏}‏ بإثبات الياء وإن كان قد جاء ذلك في قليل من الكلام‏.‏

قرأ قنبل أنه من يتقي ويصبر على أنه يحتمل التأويل‏.‏

وقيل هي في ‏{‏ولتصغي‏}‏ لام كي سكنت شذوذاً، وفي ‏{‏ليرضوه وليقترفوا‏}‏ لام الأمر مضمناً التهديد والوعيد، كقوله‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ما هم مقترفون‏}‏ أنها تفيد التعظيم والتبشيع لما يعملون، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فغشيهم من اليم ما غشيهم‏}‏ ‏{‏أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً‏}‏ قال مشركو قريش للرسول‏:‏ اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود، وإن شئت من أساقفة النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت‏.‏ ووجه نظمها بما قبلها أنه لما حكى حلف الكفار وأجاب بأنه لا فائدة في إظهار الآيات المقترحة لهم أنهم لا يبقون مصرين على الكفر بين الدليل على نبوته بإنزال القرآن عليه، وقد عجز الخلق عن معارضته وحكم فيه بنبوته، وباشتمال التوراة والإنجيل على أنه رسول حق، وأن القرآن كتاب من عند الله حق‏.‏ ووجه آخر وهو أنه لما ذكر العداوة وتهددهم قالوا ما ذكرناه في سبب النزول‏.‏

وكان من عادتهم إذا التبس عليهم أمر واختلفوا فيه جعلوا بينهم كاهناً حكماً فأمره الله أن يقول‏:‏ ‏{‏أفغير الله أبتغي حكماً‏}‏ وهذا استفهام معناه النفي أي لا أبتغي حكماً غير الله‏.‏ قال الكرماني‏:‏ والحكم أبلغ من الحاكم لأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى، والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة‏.‏ وقال إسماعيل‏:‏ الضرير الفرق بينهما أن الحكم لا يحكم إلا بالحق والحاكم يحكم بالحق وبغير الحق‏.‏ وقال ابن عطية نحوه‏.‏ قال الحكم‏:‏ أبلغ من الحاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام، والحاكم جار على الفعل وقد يقال للجائر؛ انتهى‏.‏ وكأنه إشارة إلى حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات، أو حكمه بأن جعل للأنبياء أعداء وحكماً أي فاصلاً بين الحق والباطل، وجوزوا في إعراب غير أن يكون مفعولاً بأبتغي وحكماً حال وعكسه وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غيرهم كقولهم‏:‏ إن لنا غيرها إبلاً وهو متجه‏.‏ وحكاه أبو البقاء فالكتاب القرآن ومفصلاً موضحاً مزال الإشكال أو مفضلاً بالوعد والوعيد أو مفصلاً مفرقاً على حسب المصالح أي لم ينزله مجموعاً أو مفصلاً فيه الأحكام من النهي والأمر والحلال والحرام والواجب والمندوب والضلال والهدى، أو مفصلاً مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء أقوال خمسة وبهذه الآية خاصمت الخوارج علياً في تكفيره بالتحكيم وهذه الجملة حالية‏.‏

‏{‏والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق‏}‏ أي والذين أعطيناهم علم التوراة والإنجيل والزبور والصحف، والمراد علماء أهل الكتاب فهو عام بمعنى الخصوص وهذه الجملة تكون استئنافاً وتتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم، والعضد في الدلالة بأن القرآن حق يعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه كتبهم وموافقته لها‏.‏

‏{‏فلا تكونن من الممترين‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ الخطاب للرسول خطاب لأمته‏.‏ وقيل‏:‏ لكل سامع أي إذا ظهرت الدلالة فلا ينبغي أن يمتري فيه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من باب التهييج والإلهاب كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكونن من المشركين‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فلا تكونن من الممترين‏}‏ في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم‏.‏ وقرأ ابن عباس وحفص ‏{‏منزل‏}‏ بالتشديد والباقون بالتخفيف‏.‏

‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً‏}‏ لما تقدّم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث والطعن على مخالفي ذلك وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص، ناسب ذكر هذه الآيات هنا أي تمت أقضيته وأقداره قاله ابن عباس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كلماته هو القرآن، وقال الزمخشري‏:‏ كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ صدقاً في الوعد وعدلاً في الوعيد‏.‏ وقيل‏:‏ في ما تضمن من خبر وحكم أو فيما كان وما يكون، أو فيما أمر وما نهى أو في الترغيب والترهيب أو فيما قال‏:‏ هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار أو في الثواب والعقاب أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه، أو في نصرة الرسول ببدر وإهلاك أعدائه أو في الإرشاد والإضلال أو في الغفران والتعذيب، أو في الفضل والمنع أو في توسيع الرزق وتقتيره أو في إعطائه وبلائه وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل، وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء ‏{‏صدقاً وعدلاً‏}‏ مصدرين في موضع الحال والطبري تمييزاً وجوزه أبو البقاء‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ هو غير صواب وزاد أبو البقاء مفعولاً من أجله وليس المعنى في ‏{‏تمت‏}‏ أنها كان بها نقص فكملت وإنما المعنى استمرت وصحت كما جاء في الحديث‏:‏ «وتم حمزة على إسلامه»‏.‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم‏}‏ أي استمرت وهي عبارة عن نفوذ أقضيته‏.‏ وقرأ الكوفيون هنا كلمة بالإفراد ونافع جميع ذلك ‏{‏كلمات‏}‏ بالجمع تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا‏.‏

‏{‏لا مبدل لكلماته‏}‏ أي لا مغير لأقضيته ولا مبدل لكلمات القرآن فلا يلحقها تغيير، لا في المعنى ولا في اللفظ وفي حرف أبي لا مبدل لكلمات الله‏.‏

‏{‏وهو السميع العليم‏}‏ أي السميع لأقوالكم العليم بالضمائر‏.‏

‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله‏}‏ أي وإن توافق فيما هم عليه من عبادة غير الله وشرع ما شرعوه بغير إذن الله أكثر لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفاراً، والأرض هنا الدنيا قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ أكثر من في الأرض رؤساء مكة والأرض خاص بأرض مكة وكثيراً ما ذم الأكثر في كتابه والغالب أنه لا يقال الأكثر إلا للذين يتبعون أهواءهم‏.‏

‏{‏إن يتبعون إلا الظن‏}‏ أي ليسوا راجعين في عقائدهم إلى علم ولا فيما شرعوه إلى حكم الله‏.‏

‏{‏وإن هم لا يحرصون‏}‏ أي يقدرون ويحزرون وهذا تأكيد لما قبله‏.‏ ومن المفسرين من خص هذه الطاعة واتباعهم الظن وتخرصهم بأمر الذبائح، وحكي أن سبب النزول مجادلة المشركين الرسول في أمر الذبائح وقولهم‏:‏ نأكل ما تقتل ولا نأكل ما قتل الله فنزلت مخبرة أنهم يقدرون بظنونهم وبخرصهم‏.‏

‏{‏إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏ لما ذكر تعالى يضلوك عن سبيل الله أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي، والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإنهم الضالون وأنت المهتدي و‏{‏من‏}‏ قيل في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضرب السيف أي بالسيف‏.‏ وقال أبو الفتح‏:‏ في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، وقال أبو علي‏:‏ في موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد

وأضرب منا بالسيوف القوانسا *** أي تضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها ‏{‏يضل‏}‏ وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل‏.‏ وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي في موضع رفع وهي استفهامية مبتدأ والخبر ‏{‏يضل‏}‏ والجملة في موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله ‏{‏لنعلم أي الحزبين‏}‏ وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو‏.‏ وقرأ الحسن وأحمد أبي شريح ‏{‏يضل‏}‏ بضم الياء وفاعل ‏{‏يضل‏}‏ ضمير من ومفعوله محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجده ضالاً أو يخلق فيه الضلال، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما‏.‏

‏{‏فكلوا مما ذكر اسم عليه إن كنتم بآياته مؤمنين‏}‏ ذكر أن السبب في نزولها أنهم قالوا للرسول‏:‏ من قتل الشاة التي ماتت‏؟‏ قال الله‏:‏ قالوا فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتله الصقر والكلب حلال وما قتله الله حرام‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لما أنزل تحريم الميتة كتب مجوس فارس إلى مشركي قريش فكانوا أولياءهم في الجاهلية وبينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يبتغون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا مما‏}‏ ولما تضمنت الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال وكانوا يسمون في كثير مما يذكرونه اسم آلهتهم أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته اسم الله لا غيره من آلهتهم أمر إباحة وما ذكر اسم الله عليه فهو المذكى لإمامات حتف أنفه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏فكلوا‏}‏ متسبب عن إنكار اتباع المضلين وعلق أكل ما سمي الله على ذكاته بالإيمان كما تقول‏:‏ أطعني إن كنت ابني أي أنتم مؤمنون فلا تخالفوا أمر الله وهو حث على أكل ما أحل وترك ما حرم‏.‏

‏{‏وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه‏}‏ أي وأي غرض لكم في الامتناع من أكل ما ذكر اسم الله عليه‏؟‏ وهو استفهام يتضمن الأنكار على من امتنع من ذلك أي لا شيء يمنع من ذلك ‏{‏وقد فصل لكم‏}‏ في هذه السورة لأنها على ما نقل مكية، ونزلت في مرة واحدة فلا يناسب أن تكون ‏{‏وقد فصل‏}‏ راجعاً إلى تفصيل البقرة والمائدة لتأخيرهما في النزول عن هذه السورة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏قد فصل لكم ما حرم عليكم‏}‏ مما لم يحرم عليكم وهو قوله‏:‏

‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ انتهى‏.‏ وذكرنا أن تفصيل التحريم بما في البقرة والمائدة لا يناسب ودعوى زيادة لا هنا لا حاجة إليها والمعنى على كونها نافية صحيح واضح، و‏{‏أن لا تأكلوا‏}‏ أصله في أن لا تأكلوا فحذف في المتعلقة بما تعلق به لكم الواقع خبراً لما الاستفهامية ونفى ‏{‏أن لا تأكلوا‏}‏ على الخلاف أهو منصوب أو مجرور ومن ذهب إلى ‏{‏أن لا تأكلوا‏}‏ في موضع الحال أي تاركين الأكل فقوله‏:‏ ضعيف لأن أن ومعمولها لا يقع حالاً وهذا منصوص عليه من سيبويه، ولا نعلم مخالفاً له ممن يعتبر وله علة مذكورة في النحو والجملة من قوله‏:‏ ‏{‏وقد فصل‏}‏ في موضع الحال‏.‏ وقرأ العربيان وابن كثير ‏{‏فصل‏}‏ و‏{‏حرم‏}‏ مبنياً للمفعول ونافع وحفص ‏{‏فصل‏}‏ و‏{‏حرم‏}‏ على بنائهما للفاعل والأخوان وأبو بكر ‏{‏فصل‏}‏ مبنياً للفاعل و‏{‏حرم‏}‏ مبنياً للمفعول وعطية كذلك إلا أنه خفف الصاد ومعنى ‏{‏إلا ما اضطررتم إليه‏}‏ من ‏{‏ما حرم عليكم‏}‏ في حالة الاختيار فإنه حلال لكم في حالة الاضطرار‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وما يريد بها جميع ما حرم كالميتة وغيرها قال هو والحوفي، وهي في موضع نصب بالاستثناء أو الاستثناء منقطع‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ في موضع نصب على الاستثناء من الجنس من طريق المعنى كأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقاً‏.‏

‏{‏وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم‏}‏ أي وإن كثيراً من الكفار المجادلين في المطاعم وغيرها ليضلون بالتحريم والتحليل وبأهوائهم وشهواتهم بغير علم، أي بغير شرع من الله بل بمجرد أهوائهم كعمرو بن لحي ومن دونه من المشركين كأبي الأحوص بن مالك الجشمي وبديل بن ورقاء الخزاعي وحليس بن يزيد القرشي الذين اتخذوا البحائر والسوائب‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏ليضلون‏}‏ بفتح الياء هنا وفي يونس ‏{‏ربنا ليضلوا‏}‏ وفي إبراهيم ‏{‏أنداداً ليضلوا‏}‏ وفي الحج ‏{‏ثاني عطفه ليضل‏}‏ وفي لقمان ‏{‏ليضل عن سبيل الله‏}‏ وفي الزمر ‏{‏أَنداداً ليضل‏}‏ وضمها الكوفيون في الستة وافقهم الصاحبان إلا في يونس وهنا ففتح‏.‏

‏{‏إن ربك هو أعلم بالمعتدين‏}‏ أي بالمجاوزين الحد في الاعتداء فيحللون ويحرمون من غير إذن الله وهذا إخبار يتضمن الوعيد الشديد لمن اعتدى أي فيجازيهم على اعتدائهم‏.‏

‏{‏وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏}‏ ‏{‏الإثم‏}‏ عام في جميع المعاصي لما عتب عليهم في ترك أكل ما سمي الله عليه أمروا بترك ‏{‏الإثم‏}‏ ما فعل ظاهراً وما فعل في خفية فكأنه قال‏:‏ اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها قاله أبو العالية ومجاهد وقتادة وعطاء وابن الأنباري والزجاج‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ظاهره الزنا‏.‏ وقال السدي‏:‏ الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله وباطنه اتخاذ الأخدان‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ ظاهره ما نص الله على تحريمه بقوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم‏}‏ الآية ‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء‏}‏ الآية، والباطن الزنا‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ظاهره نزع أثوابهم إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة وباطنه الزنا‏.‏

وقيل‏:‏ ظاهره عمل الجوارح وباطنه عمل القلب من الكبر والحسد والعجب وسوء الاعتقاد وغير ذلك من معاصي القلب‏.‏ وقيل‏:‏ ظاهره الخمر وباطنه النبيذ، وقال مجاهد أيضاً‏:‏ ظاهره الزنا وباطنه ما نواه‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ الأليق أن يحمل ظاهر ‏{‏الإثم وباطنه‏}‏ على أكل الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه، وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏الإثم‏}‏ هنا الشرك وقال غيره جميع الذنوب سوى الشرك، وكل هذه الأقوال تخصصات لا دليل عليها والظاهر العموم في المعاصي كلها من الشرك وغيره، ظاهرها وخفيها ويدخل في هذا العموم كل ما ذكروه‏.‏

‏{‏إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون‏}‏ أي يكسبون الإثم في الدنيا سيجزون في الآخرة وهذا وعيد وتهديد للعصاة‏.‏

‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق‏}‏ قال السخاوي قال مكحول‏:‏ وروي عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت مثل ذلك وأجاز ذبائح أهل الكتاب وإن لم يذكر اسم الله عليها، وذهب جماعة إلى أن الآية محكمة ولا يجوز لنا أن نأكل من ذبائحهم إلا ما ذكر عليه اسم الله، وروي ذلك عن علي وعائشة وابن عمر؛ انتهى‏.‏ ولا يسمى هذا نسخاً بل هو تخصيص ولما أمر بأكل ما سمي الله عليه وكان مفهومه أنه لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه أكد هذا المفهوم بالنص عليه، والظاهر تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمداً كان ترك التسمية أو نسياناً وبه قال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن يزيد الخطيمي وابن سيرين والشعبي ونافع وأبو ثور وداود في رواية‏.‏ وقال أبو هريرة وابن عباس أيضاً في رواية وأبو عياض وأبو رافع وعطاء وابن المسيب والحسن وجابر وعكرمة وطاووس والنخعي وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وربيعة ومالك في رواية، والشافعي والأصم‏:‏ يحل أكل متروك التسمية عمداً كان الترك أو نسياناً‏.‏ وقال مجاهد وطاووس أيضاً وابن شهاب وابن جبير وعطاء في رواية وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حيي والحسن بن صالح وإسحاق ومالك في رواية، وأحمد في رواية وابن أبي القاسم وعيسى وأصبغ‏:‏ يؤكل إن كان الترك ناسياً وإن كان عمداً لم يؤكل واختاره النحاس وقال‏:‏ لا يسمى فاسقاً إذا كان ناسياً وروي عن علي وابن عباس جواز أكل ذبيحة الناسي للتسمية، وقال ابن عطية‏:‏ وهذا قول الجمهور، وقال أشهب والطبري‏:‏ تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمداً إلا أن يكون مستخفاً‏.‏ وقال أبو بكر الآيذي‏:‏ يكره أكل ذبيحة تارك التسمية عمداً وتحتاج هذه التخصيصات إلى دلائل‏.‏ والظاهر أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏ ظاهره لعموم الآية وهو متروك التسمية‏.‏ وقال ابن عباس في رواية‏:‏ إنه الميتة وعنه أنه الميتة والمنخنقة إلى وما ذبح على النصب، وقال عطاء‏:‏ ذبائح للأوثان كانت العرب تفعل ذلك، وقال ابن بحر‏:‏ صيد المشركين لأنهم لا يسمون عند إرسال السهم ولا هم من أهل التسمية‏.‏

قال الحسن‏:‏ ‏{‏لفسق‏}‏ لكفر، قال الكرماني‏:‏ يريد مع الاستحلال وقال غيره لفسق المعصية والضمير في ‏{‏وإنه‏}‏ عائد إلى المصدر الدال عليه تأكلوا أي وإن الأكل قاله الزمخشري، واقتصر عليه وجوز معه الحوفي في أن يعود على ما من قوله‏:‏ ‏{‏مما لم يذكر‏}‏ وجوز معه ابن عطية أن يعود على الذكر الذي تضمنه قوله ‏{‏لم يذكر‏}‏، انتهى‏.‏ ومعنى إنه عائد على المصدر المنفي كأنه قيل‏:‏ وإن ترك الذكر لفسق وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب وتضمنت معنى التعليل فكأنه قيل لفسقه‏.‏

‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم‏}‏ أي وإن شياطين الجن قاله ابن عباس وعبد الله بن كثير‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ مردة الإنس من مجوس فارس وتقدم ذكر كتابتهم إلى قريش أي ليوسوسون إلى كفار قريش بإلهامهم تلك الحجة في أمر الذبائح التي تقدّم ذكرها، أو على ألسنة الكهان في زمانهم ليجادلوكم‏.‏ قال الزمخشري بقولهم‏:‏ ولا تأكلون ما قتله الله، وبهذا ترجح تأويل من تأول بالميتة؛ انتهى‏.‏ والأحسن حمل الآية على عدم التخصيص بما ذكروه بل هذا إخبار أن ما صدر من جدال الكفار للمؤمنين ومنازعتهم فإنما هو من الشياطين يوسوسون لهم بذلك ولذلك ختم بقوله‏:‏

‏{‏وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏ أي وإن أطعتم أولياء الشياطين إنكم لمشركون لأن طاعتهم طاعة للشياطين وذلك إشراك ولا يكون مشركاً حقيقة حتى يطيعه في الاعتقاد، وأما إذا أطاعه في الفعل وهو سليم الاعتقاد فهو فاسق وهذه الجملة إخبار يتضمن الوعيد وأصعب ما على المؤمن أن يشبه المشرك فضلاً أن يحكم عليه بالشرك‏.‏ وحكي عن ابن عباس أن الذين جادلوا بتلك الحجة قوم من اليهود وضعف بأن اليهود لا تأكل الميتة اللهم إلا أن قالوا ذلك على سبيل المغالطة وإجابتهم عن العرب فيمكن وجواب الشرط‏.‏ زعم الحوفي أنه ‏{‏إنكم لمشركون‏}‏ على حذف الفاء أي فإنكم وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في القرآن وإنما الجواب محذوف و‏{‏إنكم لمشركون‏}‏ جواب قسم محذوف التقدير والله ‏{‏إن أطعتموهم‏}‏ لقوله‏:‏ ‏{‏وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن‏}‏ وأكثر ما يستعمل هذا التركيب بتقدير اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على إن الشرطية، كقوله‏:‏ ‏{‏لئن أخرجوا لا يخرجون معهم‏}‏ وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه‏.‏

‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في حمزة وأبي جهل رمي الرسول بفرث فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس، وكان لم يسلم فغضب فعلاً بها أبا جهل وهو يتضرع إليه ويقول‏:‏ سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا، فقال حمزة‏:‏ ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله وأسلم‏.‏

وعن ابن عباس أيضاً أنها نزلت في عمار وأبي جهل‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ في عمر وأبي جهل لما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثل تعالى بأن شبه المؤمن بعد أن كان كافراً بالحي المجعول له نور يتصرف به كيف سلك، والكافر بالمختلط في الظلمات المستقر فيها دائماً ليظهر الفرق بين الفريقين والموت والحياة والنور والظلمة مجاز فالظلمة مجاز عن الكفر والنور مجاز عن الإيمان والموت مجاز عن الكفر‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ الموت مجاز عن كونه في ظلمة البطن لا يبصر ولا يعقل شيئاً ثم أخرج فأبصر وعقل، نقول‏:‏ لا يستوي من أخرج من الظلمات ومن ترك فيها فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحق ويعمل به، والكافر الذي لا يبصر ونحو منه قول ابن بحر قال‏:‏ أو من كان نطفة أو علقة أو مضغة فصورناه ونفخنا فيه الروح، انتهى؛ وأما النور فهو نور الحكمة أو نور الدين أو القرآن أقوال‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ الحياة الاستعداد لقبول المعارف فتحصل له علوم كلية أولية وهي المسماة بالعقل والنور ما توصل إليه تركيب تلك البديهيات من المجهولات النظرية ومشيه في الناس كونه صار محضراً للمعارف القدسية والجلايا الروحانية ناظراً إليها، ويمكن أن يقال‏:‏ الحياة الاستعداد القائم بجوهر الروح والنور اتصال نور الوحي والتنزيل به فالبصيرة لا بد فيها من أمرين‏:‏ سلامة حاسة العقل، وطلوع نور الوحي كما أن البصر لا بد فيه من أمرين‏:‏ سلامة الحاسة وطلوع الشمس؛ انتهى، ملخصاً‏.‏ وهو بعيد من مناحي كلام العرب ومفهوماتها ولما ذكر صفة الإحسان إلى العبد المؤمن نسب ذلك إليه فقال‏:‏ ‏{‏فأحييناه وجعلنا له نوراً‏}‏ وفي صفة الكافر لم ينسبها إلى نفسه بل قال‏:‏ ‏{‏كمن مثله في الظلمات‏}‏ ولما كانت أنواع الكفر متعددة قال ‏{‏في الظلمات‏}‏ ولما ذكر جعل النور للميت قال‏:‏ ‏{‏يمشي به في الناس‏}‏ أي يصحبه كيف تقلب، وقال‏:‏ ‏{‏في الناس‏}‏ إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس فذكر أن منفعة المؤمن ليست مقتصرة على نفسه وقابل تصرفه بالنور وملازمة النور له باستقرار الكافر ‏{‏في الظلمات‏}‏ وكونه لا يفارقها، وأكد ذلك بدخول الباء في خبر ليس ويبعد قول من قال‏:‏ إن النور والظلمة هما يوم القيامة إشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم‏}‏ وإلى ظلمة جهنم وتقدم الكلام على مثل في قوله ‏{‏كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ وقرأ طلحة أفمن الفاء بدل الواو‏.‏

‏{‏كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون‏}‏ الإشارة بذلك إلى إحياء المؤمن أو إلى كون الكافر في الظلمات أي كما أحيينا المؤمن زين للكافر أو ككينونة الكافر في الظلمات، زين للكافرين والفاعل محذوف‏.‏

قال الحسن‏:‏ هو الشيطان، وقال غيره‏:‏ الله تعالى وجوز الوجهين الزمخشري، وتقدم الكلام في التزيين وقيل‏:‏ المزين الأكابر الأصاغر‏.‏

‏{‏وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها‏}‏ أي كما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية، وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين للرسول إذ حالهم حال من تقدمهم من نظرائهم الكفار‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نزلت في المستهزئين يعني أن التمثيل لهم وقيل‏:‏ هو معطوف على ‏{‏كذلك زين‏}‏ فتكون الإشارة فيه إلى ما أشير إليه بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك زين‏}‏ و‏{‏جعلنا‏}‏ بمعنى صيرنا ومفعولها الأول ‏{‏أكابر مجرميها‏}‏ ‏{‏وفي كل قرية‏}‏ المفعول الثاني و‏{‏أكابر‏}‏ على هذا مضاف إلى ‏{‏مجرميها‏}‏، وأجاز أبو البقاء أن يكون ‏{‏مجرميها‏}‏ بدلاً من ‏{‏أكابر‏}‏ وأجاز ابن عطية أن يكون ‏{‏مجرميها‏}‏ المفعول الأول و‏{‏أكابر‏}‏ المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر، وما أجازه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظاً بها أو مقدرة أو مضافة إلى نكرة كان مفرداً مذكراً دائماً سواء كان لمذكر أو مؤنث، مفرد أو مثنى أو مجموع، فإذا أنث أو ثنى أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين‏:‏ إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة، وإذا تقرر هذا فالقول بأن ‏{‏مجرميها‏}‏ بدل من ‏{‏أكابر‏}‏ أو أن ‏{‏مجرميها‏}‏ مفعول أول خطأ لالتزامه أن يبقى ‏{‏أكابر‏}‏ مجموعاً وليس فيه ألف ولام ولا هو مضاف إلى معرفة وذلك لا يجوز، وقد تنبه الكرماني لهذه القاعدة فقال‏:‏ أضاف الأكابر إلى مجرميها لأن أفعل لا يجمع إلا مع الألف واللام أو مع الإضافة؛ انتهى‏.‏ وكان ينبغي أن يقيد فيقول‏:‏ أو مع الإضافة إلى معرفة وقدر بعضهم المفعول الثاني محذوفاً أي فساقاً ‏{‏ليمكروا فيها‏}‏ وهو ضعيف جداً لا يجوز أن يحمل القرآن عليه، وقال ابن عطية‏:‏ ويقال أكابرة كما قالوا أحمر وأحامرة ومنه قول الشاعر‏:‏

إن الأحامرة الثلاثة أهلكت *** مالي وكنت بهنّ قدماً مولعا

انتهى، ولا أعلم أحداً أجاز في الأفاضل أن يقال الأفاضلة بل الذي ذكره النحويون أن أفعل التفضيل يجمع للمذكر على الأفضلين أو الأفاضل، وخص الأكابر لأنهم أقدر على الفساد والتحيل والمكر لرئاستهم وسعة أرزاقهم واستتباعهم الضعفاء والمحاويج‏.‏ قال البغوي‏:‏ سنة الله أنه جعل أتباع الرسل الضعفاء كما قال‏:‏ ‏{‏واتبعك الأرذلون‏}‏ وجعل فساقهم أكابرهم، وكان قد جلس على طريق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الإيمان بالرسول يقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فإنه ساحر كاهن كذاب وهذه الآية تسلية للرسول إذ حاله في أن كان رؤساء قومه يعادونه كما كان في كل قرية من يعاند الأنبياء، وقرأ ابن مسلم أكبر مجرميها وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد كقوله‏:‏

‏{‏ولتجدنهم أحرص الناس على حياة‏}‏ وتحرير هذا وتفصيله وخلافه مذكور في علم النحو، ولام ‏{‏ليمكروا‏}‏ لام كي‏.‏ وقيل‏:‏ لام العاقبة والصيرورة‏.‏

‏{‏وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون‏}‏ أي وباله يحيق بهم كما قال ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ‏{‏وما يشعرون‏}‏ يحيق ذلك بهم ولا يعني شعورهم على الإطلاق وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم‏.‏

‏{‏وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ قال مقاتل‏:‏ روي أن الوليد بن المغيرة قال‏:‏ لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً‏.‏ روي أن أبا جهل قال‏:‏ زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا‏:‏ منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ونحوه، ‏{‏بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة‏}‏ والآية العلامة على صدق الرسول والضمير في ‏{‏جاءتهم‏}‏ عائد على الأكابر قاله الزجاج‏.‏ وقال غيره‏:‏ يعود على المجادلين في أكل الميتة وتغيية إيمانهم بقوله‏:‏ ‏{‏حتى نؤتى‏}‏ دليل على تمحلهم في دعواهم واستبعاد منهم أن الإيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم، وقولهم‏:‏ ‏{‏رسل الله‏}‏ ليس فيه إقرار بالرسل من الله وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله والمثلية كونهم يجري على أيديهم المعجزات فتحيى لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك، كما جرت على أيدي الرسل أو النبوّة أو جبريل والملائكة أو انشقاق القمر أو الدخان أو آية من القرآن تأمرهم بالإيمان أقوال آخرها للحسن وابن عباس، وفيه تأمرهم باتباع الرسول وأولاها النبوّة والرسالة لقوله‏:‏ ‏{‏الله أعلم‏}‏ حيث يجعل رسالاته فظاهره يدل على أنه المثلية هي في الرسالة‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ أخبر عن غاية سفههم وأنهم ينكرون رسالته عن علم بها ولولا ذلك ما تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي انتهى؛ ولم يتمنوا ذلك إنما أخبروا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا مثل ما أوتي الرسل فعلقوا ذلك على ممتنع وقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون البتة‏.‏

‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ هذا استئناف إنكارعليهم وأنه تعالى لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما‏.‏ وقيل‏:‏ الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعث مطاعين في قومهم لأنهم إن كانوا مطاعين قبل اتبعوا لأجل الطاعة السابقة وقالوا‏:‏ حيث لا يمكن إقرارها على الظرفية هنا‏.‏

قال الحوفي‏:‏ لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان فإذا لم تكن ظرفاً كانت مفعولاً على السعة والمفعول على السعة لا يعمل فيه أعلم لأنه لا يعمل في المفعولات فيكون العامل فيه فعل دل عليه أعلم‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ والتقدير يعلم موضع رسالاته وليس ظرفاً لأنه يصير التقدير يعلم في هذا المكان كذا وليس المعنى عليه، وكذا قدره ابن عطية‏.‏ وقال التبريزي‏:‏ ‏{‏حيث‏}‏ هنا اسم لا ظرف انتصب انتصاب المفعول كما في قول الشماخ‏:‏

وحلأها عن ذي الأراكة عامر *** أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحر

فجعل مفعولاً به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئاً حيث تكوى النواحر، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع؛ انتهى‏.‏ وما قاله من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو، لأن النحاة نصوا على أن ‏{‏حيث‏}‏ من الظروف التي لا تتصرف وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالياء ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفاً وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب ‏{‏حيث‏}‏ على المفعول به لا على السعة ولا على غيرها، والذي يظهر لي يجعل رسالته إقرار ‏{‏حيث‏}‏ على الظرفية المجازية على أن تضمن ‏{‏أعلم‏}‏ معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علماً ‏{‏حيث يجعل رسالاته‏}‏ أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته، والظرفية هنا مجاز كما قلنا وروى ‏{‏حيث‏}‏ بالفتح‏.‏ فقيل‏:‏ حركة بناء‏.‏ وقيل‏:‏ حركة إعراب ويكون ذلك على لغة بني فقعس فإنهم يعربون ‏{‏حيث‏}‏ حكاها الكسائي‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص رسالته بالتوحيد وباقي السبعة على الجمع‏.‏

‏{‏سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون‏}‏ هذا وعيد شديد وعلق الإصابة بمن أجرم ليعم الأكابر وغيرهم، والصغار الذل والهوان يقال‏:‏ منه صغر يصغر وصغر يصغر صغراً وصغاراً واسم الفاعل صاغر وصغير وأرض مصغر لم يطل نبتها، عن ابن السكيت وقابل الأكبرية بالصغار والعذاب الشديد من الأسر والقتل في الدنيا والنار في الآخرة وإصابة ذلك لهم بسبب مكرهم في قوله‏:‏ ‏{‏ليمكروا فيها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما يمكرون إلا أنفسهم‏}‏ وقدّم الصغار على العذاب لأنهم تمرّدوا عن اتباع الرسول وتكبروا طلباً للعز والكرامة فقوبلوا أوّلاً بالهوان والذل، ولما كانت الطاعة ينشأ عنها التعظيم ثم الثواب عليها نشأ عن المعصية الإهانة ثم العقاب عليها ومعنى ‏{‏عند الله‏}‏ قال الزجاج‏:‏ في عرصة قضاء الآخرة‏.‏ وقال الفراء‏:‏ في حكم الله كما يقول عند الشافعي أي في حكمه‏.‏ وقيل‏:‏ في سابق علمه‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجزية توضع عليهم لا محالة وأن حكم الله بذلك مثبت عنده بأنه سيكون ذلك فيهم‏.‏ وقال إسماعيل الضرير‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير أي صغار ‏{‏وعذاب شديد‏}‏ عند الله في الآخرة، وانتصب عند ‏{‏سيصيب‏}‏ أو بلفظ ‏{‏صغار‏}‏ لأنه مصدر فيعمل أو على أنه صفة لصغار فيتعلق بمحذوف، وقدّره الزجاج ثابت عند الله و‏{‏ما‏}‏ الظاهر أنها مصدرية أي بكونهم ‏{‏يمكرون‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ موصولة بمعنى الذي‏.‏

‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في الرسول صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل، والهداية هنا مقابلة الضلالة والشرح كناية عن جعله قابلاً للإسلام متوسعاً لقبول تكاليفه، ونسبة ذلك إلى صدره مجاز عن ذات الشخص ولذلك قالوا‏:‏ فلان واسع الصدر إذا كان الشخص محتملاً ما يرد عليه من المشاق والتكاليف، ونسبة إرادة الهدى والضلال إلى الله إسناد حقيقي لأنه تعالى هو الخالق ذلك والموجد له والمريد له وشرح الصدر تسهيل قبول الإيمان عليه وتحسينه وإعداده لقبوله‏:‏ وضمير فاعل الهدى عائد على الله أي يشرح الله صدره‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الهدى المنسبك من ‏{‏أن يهديه‏}‏ أي يشرح الهدى صدره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأعمال؛ انتهى‏.‏ وفي الحديث السؤال عن كيفية هذا الشرح وأنه إذا وقع النور في القلب انشرح الصدر وأمارته الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الفوت والضيق والحرج كناية عن ضد الشرح واستعارة لعدم قبول الإيمان والحرج الشديد الضيق، والضمير في ‏{‏يجعل‏}‏ عائد على ‏{‏الله‏}‏ ومعنى يجعل يصير لأن الإنسان يخلق أوّلاً على الفطرة وهي كونه مهيأ لما يلقى إليه ولما يجعل فيه فإذا أراد الله إضلاله أضله وجعله لا يقبل الإيمان ويحتمل أن يكون ‏{‏يجعل‏}‏ بمعنى يخلق وينتصب ‏{‏ضيقاً حرجاً‏}‏ على الحال أي يخلقه على هذه الهيئة فلا يسمع الإيمان ولا يقبله ولاعتزال أبي عليّ الفارسي ذهب إلى أن يجعل هنا بمعنى يسمى قال كقوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً‏}‏ قال‏:‏ أي سموهم أو بمعنى يحكم له بالضيق كما تقول‏:‏ هذا يجعل البصرة مصراً أي يحكم لها بحكمها فراراً من نسبة خلق ذلك إلى الله تعالى، أو تصييره وجوباً على مذهبه الاعتزالي ونحو منه في خروج اللفظ عن ظاهره‏.‏ قول الزمخشري ‏{‏أن يهديه‏}‏ أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف بشرح صدره للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه، ‏{‏ومن يرد أن يضله‏}‏ أن يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له ‏{‏يجعل صدره ضيقاً حرجاً‏}‏ يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان؛ انتهى‏.‏ وهذا كله إخراج اللفظ عن ظاهره وتأويل على مذهب المعتزلة والجملة التشبيهية معناها أنه كما يزاول أمراً غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يبعد ويمتنع من الاستطاعة ويضيق عليه عند المقدرة قاله الزمخشري‏.‏

وهو قريب من تأويل ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي قالوا‏:‏ أي كان هذا الضيق الصدر الحرج يحاول الصعود في السماء حتى حاول الإيمان أو فكر فيه ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء؛ انتهى‏.‏ ولامتناع ذلك عندهم حكى الله عنهم أنهم اقترحوا قولهم أو ترقى في السماء‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ المعنى لا تجد مسلكاً إلا صعداً من شدة التضايق، يريد ضاقت عليه الأرض فظل مصعداً إلى السماء‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه عازب الرأي طائر القلب في الهواء كما يطير الشيء الخفيف عند عصف الرّياح‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏ضيقاً‏}‏ هنا وفي الفرقان فاحتمل أن يكون مخففاً من ضيق كما قالوا لين‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ الضيق بالتشديد في الإجرام وبالتخفيف في المعاني، واحتمل أن يكون مصدراً قالوا في مصدر ضاق ضيق بفتح الضاد وكسرها بمعنى واحد فإما ينسب إلى الصدر على المبالغة أو على معنى الإضافة، أي ذا ضيق أو على جعله مجازاً عن اسم الفاعل وهذا على الأوجه الثلاثة المقولة في نعت الإجرام بالمصادر‏.‏ وقرأ نافع وأبو بكر ‏{‏حرجاً‏}‏ بفتح الراء وهو مصدر أي ذا حرج أو جعل نفس الحرج، أو بمعنى حرج بكسر الراء ورويت عن عمر وقرأها له ثمة بعض الصحابة بالكسر‏.‏ فقال‏:‏ ابغوني رجلاً من كنانة راعياً ولكن من بني مدلج فلما جاءه قال‏:‏ يا فتى ما الحرجة عندكم‏؟‏ قال‏:‏ الشجرة تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعية ولا وحشية، فقال عمر‏:‏ كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير؛ انتهى‏.‏ وهذا تنبيه والله أعلم على جهة اشتقاق الفعل من نفس العين كقولهم‏:‏ استحجر واستنوق‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏يصعد‏}‏ مضارع صعد‏.‏ وقرأ أبو بكر يصاعد أصله يتصاعد فأدغم‏.‏ وقرأ باقي السبعة ‏{‏يصعد‏}‏ بتشديد الصاد والعين وأصله يتصعد، وبها قرأ عبد الله وابن مصرف والأعمش‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ ‏{‏كأنما يصعد‏}‏ من سفل إلى علو ولم يرد السماء المظلة بعينها كما قال سيبويه والقيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها في الهواء، ويصعد معناه يعلو ويصعد معناه يتكلف من ذلك ما يشق عليه ومنه قول عمر بن الخطاب‏:‏ ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح وروي ما تصعدني خطبة‏.‏

‏{‏كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏ أي مثل ذلك الجعل جعله الصدر ‏{‏ضيقاً حرجاً‏}‏ ويبعد ما قاله الزجاج‏:‏ أي مثل ما قصصنا عليك ‏{‏يجعل‏}‏ ومعنى ‏{‏يجعل الله الرجس‏}‏ يلقى الله أو يصير الله العذاب والرجس بمعنى العذاب قاله أهل اللغة‏.‏ وتعدية ‏{‏يجعل‏}‏ بعلى يحتمل أن يكون معناه نلقي كما تقول‏:‏ جعلت متاعك بعضه على بعض وأن تكون بمعنى يصير و‏{‏على‏}‏ في موضع المفعول الثاني‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏يجعل الله‏}‏ يعني الخذلان ومنع التوفيق وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب؛ انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزالي ونقيض الطيب النتن الرائحة الكريهة، و‏{‏الرجس‏}‏ والنجس بمعنى واحد قاله بعض أهل الكوفة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الرجس‏}‏ كل ما لا خير فيه‏.‏ وقال عطاء وابن زيد وأبو عبيدة‏:‏ ‏{‏الرجس‏}‏ العذاب في الدنيا والآخرة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، وقيل‏:‏ ‏{‏الرجس‏}‏ السخط‏.‏ وقال إسماعيل الضرير‏:‏ ‏{‏الرجس‏}‏ التعذيب وأصله النتن النجس وهو رجاسة الكفر‏.‏

‏{‏وهذا صراط ربك مستقيماً‏}‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وهذا‏}‏ إلى القرآن والشرع الذي جاء به الرسول قاله ابن عباس، أو القرآن قاله ابن مسعود، أو التوحيد قاله بعضهم، أو ما قرره في الآيات المتقدّمة في هذه الآية وفي غيرها من سبل الهدى وسبل الضلالة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏وهذا صراط ربك‏}‏ طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان ونحو منه قول إسماعيل الضرير يعني هذا صنع ربك و‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى الهدى والضلال، وأضيف الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره ‏{‏مستقيماً‏}‏ لا عوج فيه وانتصب ‏{‏مستقيماً‏}‏ على أنه حال مؤكدة‏.‏

‏{‏قد فصلنا الآيات‏}‏ أي بيناها ولم نترك فيها إجمالاً ولا التباساً‏.‏

‏{‏لقوم يذكرون‏}‏ يتدبرون بعقولهم وكأن الآيات كانت شيئاً غائباً عنهم لم يذكروها فلما فصلت تذكروها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 140‏]‏

‏{‏لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏لهم دار السلا م عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون‏}‏ أي لهم الجنة و‏{‏السلام‏}‏ اسم من أسماء الله تعالى كما قيل في الكعبة بيت الله قاله ابن عباس وقتادة وأضيفت إليه تشريفاً أو دار السلامة من كل آفة والسلام والسلامة بمعنى كاللذاد واللذاذة والضلال والضلالة قاله الزجاج، أو ‏{‏دار السلام‏}‏ بمعنى التحية لأن تحية أهلها فيها سلام قاله أبو سليمان الدمشقي، ومعنى ‏{‏عند ربهم‏}‏ في نزله وضيافته كما تقول‏:‏ نحن اليوم عند فلان أي في كرامته وضيافته قاله قوم، أو في الآخرة بعد الحشر قاله ابن عطية، أو في ضمانه كما تقول لفلان‏:‏ عليّ حق لا ينسى أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها لقوله‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين‏}‏ قاله قوم منهم الزمخشري أو على حذف مضاف، أو عند لقاء ربهم قاله قوم أو في جواره كما جاء في جوار الرحمن في جنة عدن على الظرفية المجازية الدالة على شرف الرتبة والمنزلة، كما قاله في صفة الملائكة ‏{‏ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته‏}‏ وكما قال ‏{‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏ وكما قال ‏{‏ابن لي عندك بيتاً في الجنة‏}‏ وهو وليهم أي مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم أو متوليهم بالجزاء على أعمالهم‏.‏

‏{‏ويوم يحشرهم‏}‏ جميعاً ‏{‏يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس‏}‏ الظاهر العموم في الثقلين لتقدم ذكر الشياطين وهم الجنّ والكفرة أولياؤهم والمؤمنون الذين ‏{‏لهم دار السلام‏}‏ قال معناه الزمخشري وابن عطية، قال ابن عطية‏:‏ ويدل عليه التأكيد العام بقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏‏.‏ وقال التبريزي‏:‏ وهذا النداء يدل على أن الضمير في يحشرهم دخل فيه الجنّ حين حشرهم ثم ناداهم، أما الثقلان فحسب أو هما وغيرهما من الخلائق؛ انتهى‏.‏ ومن جعل ويوم معطوفاً على ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ ويوم نحشرهم فالعامل في الظرف وليهم وكان الضمير خاصاً بالمؤمنين وهو بعيد، والأولى أن يكون الظرف معمولاً لفعل القول المحكى به النداء أي ويوم نحشرهم نقول يا معشر الجن وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولاً به لخروجه عن الظرفية ومما أجاز الزمخشري من نصبه بفعل مضمر غير فعل القول واذكر تقديره عنده ‏{‏ويوم نحشرهم‏}‏ وقلنا ‏{‏يا معشر الجن‏}‏ كان ما لا يوصف لفظاعته لاستلزامه حذف جملتين من الكلام جملة وقلنا وجملة العامل، وقدر الزجاج فعل القول المحذوف مبنياً للمفعول التقدير فيقال لهم لأنه يبعد أن يكلمهم الله شفاها بدليل قوله ‏{‏ولا يكلمهم الله‏}‏ ونداؤهم نداء شهرة وتوبيخ على رؤوس الأشهاد والمعشر الجماعة ويجمع على المعاشر كما جاء نحن معاشر الأنبياء لا نورث‏.‏ وقال الأفوه‏:‏

فينا معاشر لن يبنوا لقومهم *** وإن بنى قومهم ما أفسدوا وعادوا

ومعنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيراً وجعلهم أتباعهم كما تقول‏:‏ استكثر فلان من الجنود واستكثر فلان من الأشياع‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ أفرطتم في إضلالهم وإغوائهم‏.‏ وقرأ حفص يحشرهم بالياء وباقي السبعة بالنون‏.‏

‏{‏وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏}‏ وقال‏:‏ أولياء الجن أي الكفار من الإنس ‏{‏ربنا استمتع‏}‏ انتفع ‏{‏بعضنا ببعض‏}‏ فانتفاع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى التوصلات إليها، وانتفاع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في إغوائهم روي هذا المعنى عن ابن عباس وبه قال محمد بن كعب والزجاج‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً ومقاتل‏:‏ استمتاع الإنس بالجن قول بعضهم‏:‏ أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله إذا بات بالوادي في سفره، واستمتاع الجن بالإنس افتخارهم على قومهم وقولهم‏:‏ قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا‏.‏ قال الكرماني‏:‏ كانوا يعتقدون أن الأرض مملوءة جناً وأن من لم يدخله جني في جواره خبله الآخرون، وكذلك كانوا إذا قتلوا صيد استعاذوا بهم لأنهم يعتقدون أن هذه البهائم للجن منها مراكبهم‏.‏ وقيل‏:‏ في كون عظامهم طعاماً للجن وأرواث دوابهم علفاً واستمتاع الإنس بالجن استعانتهم بهم على مقاصدهم حين يستخدمونهم بالعزائم، أو يلقون إليهم بالمودة؛ انتهى‏.‏ ووجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذه الأقوال كلها تحتها فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال أنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها، وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏استمتع بعضنا ببعض‏}‏ أي بعض الإنس بالجن وبعض الجن بالإنس‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى استمتع بعض الإنس ببعضه وبعض الجن ببعضه، جعل الاستمتاع لبعض الصنف لبعض والقول السابق بعض الصنفين ببعض الصنفين والأجل الذي بلغوه الموت قاله الجمهور وابن عباس والسدي وغيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ البعث والحشر ولم يذكر الزمخشري غيره‏.‏ وقيل‏:‏ هو الغاية التي انتهى إليها جميعهم من الاستمتاع وهذا القول منهم اعتذار عن الجن في كونهم استكثروا منهم وإشارة إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل واعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام وتحسر على حالهم‏.‏ وقرئ آجالنا على الجمع الذي على التذكير والإفراد‏.‏ قال أبو علي‏:‏ هو جنس أوقع الذي موقع التي؛ انتهى‏.‏ وإعرابه عندي بدل كأنه قيل‏:‏ الوقت الذي وحينئذ يكون جنساً ولا يكون إعرابه نعتاً لعدم المطابقة وفي قوله‏:‏ ‏{‏وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏}‏ دليل على المعتزلة في قولهم‏:‏ بالأجلين لأنهم أقروا بذلك وفيهم المعقول وغيره‏.‏

‏{‏قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله‏}‏ أي مكان نوائكم أي إقامتكم قال الزجاج وقال أبو علي‏:‏ هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي ‏{‏خالدين‏}‏ والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً والتقدير النار ذات ثوائكم؛ انتهى‏.‏ ويصح قول الزجاج على إضمار يدل عليه ‏{‏مثواكم‏}‏ أي يثوون ‏{‏خالدين فيها‏}‏ والظاهر أن هذا الاستثناء من الجملة التي يليها الاستثناء‏.‏

وقال أبو مسلم‏:‏ هو من قوله‏:‏ ‏{‏وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏}‏ أي إلا من أهلكته واخترمته‏.‏ قيل‏:‏ الأجل الذي سميته لكفره وضلاله وهذا ليس بجيد، لأنه لو كان على ما زعم لكان التركيب إلا ما شئت، ولأن القول بالأجلين أجل الاخترام والأجل الذي سماه الله باطل والفصل بين المستثنى منه والمستثنى بقوله‏:‏ ‏{‏قال النار مثواكم خالدين فيها‏}‏ وفي ذلك تنافر التركيب، والظاهر أن هذا الاستثناء مراد حقيقة وليس بمجاز‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يخرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عنه خناقه أهلكني الله إن نفّست عنك إلا إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع؛ انتهى‏.‏

وإذا كان استثناء حقيقة فاختلفوا في الذي استثنى ما هو‏؟‏ فقال قوم‏:‏ هو استثناء أشخاص من المخاطبين وهم من آمن في الدنيا بعذاب كان من هؤلاء الكفرة، ولما كان هؤلاء صنفاً ساغ في العبارة عنهم ما فصار كقوله‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ حيث وقعت على نوع من يعقل وهذا القول بعد لأن هذا خطاب للكفار يوم القيامة فكيف يصح الاستثناء فيمن آمن منهم في الدنيا وشرط من أخرج بالاستثناء اتحاد زمانه وزمان المخرج منه‏.‏ فإذا قلت‏:‏ قام القوم إلا زيداً فمعناه إلا زيداً فإنه ما قام، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإنه ما يقوم في المستقبل وكذلك سأضرب القوم إلا زيداً معناه إلا زيداً فإني لا أضربه في المستقبل، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيداً فإني ضربته أمس إلا إن كان الاستثناء منقطعاً فإنه يسوغ، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ أي لكن الموتة الأولى في الدنيا فإنهم ذاقوها‏.‏ وقال قوم‏:‏ المستثنى هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد أي إلا النوع الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يخلدون في النار‏.‏ وقال قوم‏:‏ الاستثناء من الأزمان أي ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أبداً إلا الزمان الذي شاء الله أن لا يخلدون فيها، واختلف هؤلاء في تعيين الزمان‏.‏ فقال الطبري‏:‏ هي المدّة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وساغ هذا من حيث العبارة بقوله‏:‏ ‏{‏النار مثواكم‏}‏ لا يخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إلا ما شاء الله أي يخلدون في عذاب الأبد كله إلا ما شاء الله أي الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون وادياً من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وهذا راجع إلى الزمان أي إلا الزمان الذي كانوا فيه في الدنيا بغير عذاب، ويرد على هذا القول ما يرد على من جعله استثناء من الأشخاص الذين آمنوا في الدنيا‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إلا بمعنى سواء والمعنى سواء ما يشاء من زيادة في العذاب ويجيء إلى هذا الزجاج‏.‏ وقال غيره‏:‏ إلا ما شاء الله من النكال والزيادة على العذاب وهذا راجع إلى الاستثناء من المصدر يدل عليه معنى الكلام، إذ المعنى تعذبون بالنار ‏{‏خالدين فيها‏}‏ إلا ما شاء من العذاب الزائد على النار فإنه يعذبكم به ويكون إذ ذاك استثناء منقطعاً إذ العذاب الزائد على عذاب النار لم يندرج تحت عذاب النار، والظاهر أن هذا الاستثناء هو من تمام كلام الله للمخاطبين وعليه جاءت تفاسير الاستثناء‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وليس مما يقال يوم القيامة والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه يقال للكفار ‏{‏مثواكم‏}‏ استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافراً ويقع ما على صفة من يعقل، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ أي من يمكن أن يؤمن منهم؛ انتهى، وهو تأويل حسن‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار‏.‏ قيل‏:‏ ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت إذ قد يسلم وروي عنه أيضاً أنه قال‏:‏ جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدّته إلى مشيئته حتى لا يحكم الله في خلقه، وعنه أيضاً أنه قال في هذه الآية‏:‏ أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا ناراً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ الإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس؛ انتهى‏.‏ وقد تعلق قوم بظاهر هذا الاستثناء فزعموا أن الله يخرج من النار كل بر وفاجر ومسلم وكافر وأن النار تخلو وتخرب، وقد ذكر هذا عن بعض الصحابة ولا يصح ولا يعتبر خلاف هؤلاء ولا يلتفت إليه‏.‏ ‏{‏إن ربك حكيم عليم‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ لا يفعل شيئاً إلا بموجب الحكمة عليهم بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد؛ انتهى‏.‏ وهذا على مذهبه الاعتزالي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ صفتان مناسبتان بهذه الآية لأن تخليد هؤلاء الكفرة في النار صادر عن حكمة، وقال التبريزي‏:‏ ‏{‏حكيم‏}‏ في تدبير المبدإ والمعاد ‏{‏عليم‏}‏ بما يؤول إليه أمر العباد‏.‏ وقال إسماعيل الضرير‏:‏ ‏{‏حكيم‏}‏ حكم عليهم بالخلود ‏{‏عليم‏}‏ بهم وبعقوبتهم‏.‏ وقال البغوي‏:‏ ‏{‏عليم‏}‏ بالذي استثناه وبما في قلوبهم من البر والتقوى‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ ‏{‏حكيم‏}‏ في عقوبتهم ‏{‏عليم‏}‏ بمقدار مجازاتهم‏.‏

‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون‏}‏ لما ذكر تعالى أنه ولى المؤمنين بمعنى أنه يحفظهم وينصرهم على أن الكافرين بعضهم أولياء بعض في الظلم والخزي‏.‏ قال قتادة‏:‏ يجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم، يريد ما تقدّم من ذكر الجنّ والإنس واستمتاع بعضهم ببعض‏.‏ وقال قتادة أيضاً‏:‏ يتبع بعضهم بعضاً في دخول النار أي يجعل بعضهم يلي بعضاً في الدخول‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ معناه نسلط ‏{‏بعض الظالمين‏}‏ على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم، وهذا تأويل بعيد وحين قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد الأشدق قال عبد الله بن الزبير‏:‏ وصعد المنبر إن فم الذئاب قتل لطيم الشيطان وتلا ‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً‏}‏ الآية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تفسيرها أن الله إذا أراد بقوم شراً ولى عليهم شرارهم أو خيراً ولى عليهم خيارهم، وفي بعض الكتب المنزلة أفني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي‏.‏ وقال إسماعيل الضرير‏:‏ نترك المشركين إلى بعضهم في النصرة والمعونة والحاجة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا ‏{‏بما كانوا يكسبون‏}‏ من الكفر والمعاصي؛ انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ نخليهم هو على طريقة الاعتزالي‏.‏

‏{‏يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا‏}‏ هذا النداء أيضاً يوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع، حيث أعذر الله إليهم بإرسال الرسل فلم يقبلوا منهم، والظاهر أن من الجنّ رسلاً إليهم كما أن من الإنس رسلاً لهم‏.‏ فقيل‏:‏ بعث الله رسولاً واحداً من الجنّ إليهم اسمه يوسف‏.‏ وقيل‏:‏ رسل الجنّ هم رسل الإنس فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله، ويؤيده قوله‏:‏ ‏{‏ولوا إلى قومهم منذرين‏}‏ قاله ابن عباس والضحاك‏.‏ وروي أن قوماً من الجنّ استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم فأخبروهم كما جرى لهم مع الرسول، فيقال لهم رسل الله وإن لم يكونوا رسله حقيقة وعلى هذين القولين يكون الضمير عائداً على ‏{‏الجنّ والإنس‏}‏ وقد تعلق قوم بهذا الظاهر فزعموا أن الله تعالى بعث إلى الجنّ رسلاً منهم ولم يفرقوا بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم لأنهم به آنس وآلف‏.‏ وقال مجاهد والضحاك وابن جريج والجمهور‏:‏ والرسل من الإنس دون الجن ولكن لما كان النداء لهما والتوبيخ معاً جرى الخطاب عليهما على سبيل التجوز المعهود في كلام العرب تغليباً للإنس لشرفهم، وتأوّله الفراء على حذف مضاف أي من أحدكم كقوله‏:‏ ‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏ أي من أحدهما وهو الملح وكقوله‏:‏ ‏{‏وجعل القمر فيهنّ نوراً‏}‏ أي في إحداهن وهي سماء الدنيا ‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات‏}‏ أراد بالذكر التكبير وبالأيام المعلومات العشر أي في أحد أيام وهو يوم النحر‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ كان الرسل يبعثون إلى الإنس وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس‏.‏ وروي هذا أيضاً عن ابن عباس ومعنى قصص الآيات الإخبار بما أوحى إليهم من التنبيه على مواضع الحج والتعريف بأدلة التوحيد والامتثال لأوامره والاجتناب بمناهيه، والإنذار الإعلام بالمخوف و‏{‏لقاء يومكم هذا‏}‏ أي يوم القيامة والإنذار بما يكون فيه من الأهوال والمخاوف وصيرورة الكفار المكذبين إلى العذاب الأبدي‏.‏ وقرأ الأعرج ألم تأتكم على تأنيث لفظ الرسل بالتاء‏.‏

‏{‏قالوا شهدنا على أنفسنا‏}‏ الظاهر أن هذه حكاية لتصديقهم وإلجائهم قوله‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم‏}‏ لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار فكان تقريراً لهم والمعنى قالوا‏:‏ شهدنا على أنفسنا بإتيان الرسل إلينا وإنذارهم إيانا هذا اليوم، وهذه الجملة نابت مناب بلى هنا وقد صرح بها في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا‏}‏ قالوا‏:‏ بلى أقروا بأن حجة الله لازمة لهم وأنهم محجوجون بها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏شهدنا‏}‏ إقرار منهم بالكفر واعتراف أي ‏{‏شهدنا على أنفسنا‏}‏ بالتقصير؛ انتهى‏.‏ والظاهر في ‏{‏شهدنا‏}‏ شهادة كل واحد على نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ شهد بعضنا على بعض بإنذار الرسل‏.‏

‏{‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ هذا إخبار عنهم من الله تعالى وتنبيه على السبب الموجب لكفرهم وإفصاح لهم بأذم الوجود الذي هو الخداع‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون من غر الطائر فرخه أي أطعمهم وأشبعهم والتوسيع في الرزق والبسط سبب للبغي ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض‏.‏

‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏ ظاهره شهادة كل واحد على نفسه بالكفر‏.‏ وقيل‏:‏ شهد بعضهم على بعض‏.‏ وقيل‏:‏ شهدت جوارحهم عليهم بعد إنكارهم والختم على أفواههم وهو بعيد من سياق الآية، وتنافى بين قوله‏:‏ ‏{‏شهدوا على أنفسهم‏}‏ وبين الآيات التي تدل على الإنكار لاحتمال أن يكون ذلك من طوائف طائفة تشهد وطائفة تنكر، أو من طائفة واحدة لاختلاف الأحوال ومواطن القيامة في ذلك المتطاول فيقرون في بعض ويجحدون في بعض‏.‏ وقال التبريزي‏:‏ ‏{‏وشهدوا‏}‏ أقروا على أنفسهم اضطراراً لا اختياراً ولو أرادوا أن يقولوا غيره ما طاوعتهم أنفسهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ الأولى حكاية لقولهم‏:‏ كيف يقولون ويعترفون، والثانية ذمّ لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستنجاز عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين مثل حالهم؛ انتهى‏.‏ ونقول لم تتكرر الشهادة لاختلاف المخبر ومتعلقها فالأولى إخبارهم عن أنفسهم والثانية‏:‏ إخباره تعالى عنهم أنهم شهدوا على أنفسهم بالكفر فهذه الشهادة غير الأولى‏.‏

‏{‏ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون‏}‏ الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور دل عليه الكلام وهو إتيان الرسل قاصين الآيات ومنذرين بالحشر والحساب والجزاء بسبب انتفاء إهلاك القرى بظلم وأهلها لم ينتهوا ببعثة الرسل إليهم والإعذار إليهم والتقدم بالأخبار بما يحل بهم، إذا لم يتبعوا الرسل وفي الحديث‏:‏

«ليس أحد أحب إليه العذر من الله»‏.‏ فمن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل‏.‏ وقال الزجاج قريباً من هذا أي ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذب لأنه لم يكن كذا أي لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولاً‏.‏ وقيل‏:‏ الإشارة بذلك إلى السؤال وهو ‏{‏ألم يأتكم‏}‏ أن لم يكن أي لبيان أن لم يكن حكاه التبريزي‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ الإشارة إلى ما وجد منهم من التكذيب والمعاصي ويحتمل أن يشار به إلى الهلاك الذي كان بالأمم الخالية؛ انتهى‏.‏ ولا يستقيم هذان القولان مع قوله ‏{‏إن لم يكن‏}‏ لأن المعاصي أو الإهلاك ليس معللاً بأن لم يكون وجوّزوا في ذلك الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي ذلك الأمر، وخبر محذوف المبتدأ أي الأمر ذلك والنصب على فعلنا ذلك وإن لم يكن تعليل ويحتمل أن تكون أن الناصبة للمضارع والمخففة من الثقيلة أي لأن الشأن لم يكن ربك وأجاز الزمخشري أن لا يكون ‏{‏إن لم يكن‏}‏ تعليلاً فأجاز فيه أن يكون بدلاً من ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع‏}‏ فإذا كان تعليلاً فهو على إسقاط حرف العلة على الخلاف أموضعه نصب أو جر وإن كان بدلاً فهو في موضع رفع، لأن الزمخشري لم يذكر في ذلك إلا أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وبظلم يحتمل أن يكون مضافاً إلى الله أي ظالماً لهم كقوله‏:‏ ‏{‏وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون‏}‏ ومعنى ‏{‏وأهلها غافلون‏}‏ أي دون أن يتقدم إليهم بالنذارة ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ ويحتمل أن يكون مضافاً إلى القرى أي ظالمة دون أن ينذرهم وهذا معنى قول القشيري أي لا يهلكهم بذنوبهم ما لم يبعث إليهم الرسل وهذا الوجه أليق لأن الأول يوهم أنه تعالى لو آخذهم قبل بعثة الرسل كان ظالماً وليس الأمر كذلك عندنا لأنه تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وعند المعتزلة لو أهلكهم وهم غافلون لم ينتهوا بكتاب ولا رسول لكان ظالماً وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏بظلم‏}‏ بشرك من أشرك منهم فهو مثل ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ وقال الماتريدي‏:‏ أي لم يكن يهلكهم بظلم أنفسهم إهلاك استئصال وتعذيب لا بعد تقدم وعيد أو سؤالهم العذاب، ولا يهلكهم مع الغفلة عن الظلم والعصيان لأنه يجوز له ذلك بل سنته هكذا لئلا يقولوا‏:‏ لولا أرسلت إلينا وكل ذلك فضل منه ورحمة‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ لا يهلكهم بظلم بعضهم بعضاً وقيل‏:‏ بظلم واحد منهم‏.‏ وقيل‏:‏ بجنس الظلم حتى يرتكبوا مع الظلم غيره مما لا يرضاه الله من سائر القبائح ذكره التبريري‏.‏ ومعنى ‏{‏وأهلها غافلون‏}‏ أي لا يبين لهم كيفية الحال ولا يزيل عددهم وليس المعنى أنهم غافلون عما يوعظون به‏.‏

‏{‏ولكل درجات مما عملوا‏}‏ أي ولكل من المكلفين مؤمنهم وكافرهم درجات متفاوتة من جزاء أعمالهم وتفاوتها بنسبة بعضهم إلى بعض أو بنسبة عمل كل عامل فيكون هو في درجة فيترقى إلى أخرى كاملة ثم إلى أكمل، والظاهر اندراج الجن في العموم في الجزاء كما اندرجوا في التكليف وفي إرسال الرسل إليهم‏.‏ قال الضحاك‏:‏ مؤمنو الجن في الجنة كمؤمني الإنس‏.‏ وقيل‏:‏ لا يدخلون الجنة ولا النار يقال لهم كونوا تراباً فيصيرون تراباً كالبهائم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ جزاء مؤمني الجن إجارتهم من النار‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ليس للجن ثواب لأن الثواب فضل من الله فلا يقال به لهم إلا ببيان من الله ولم يذكر الله في حقهم إلا عقوبة عاصيهم لا ثواب طائعهم وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا‏:‏ لهم ثواب على الطاعات وعقاب على المعاصي ودليلهما عموم الكتاب والسنة‏.‏ وقيل‏:‏ ولكل من المؤمنين خاصة‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ ولكل من الكفار خاصة درجات دركات ومراتب من العقاب مما عملوا من الكفر والمعاصي، لأنه جاء عقيب خطاب الكفار فيكون راجعاً عليهم‏.‏

‏{‏وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏ أي ليس بساه بخفيّ عليه مقادير الأعمال وما يترتب عليها من الأجور وفي ذلك تهديد ووعيد‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ تعملون بالتاء على الخطاب‏.‏

‏{‏وربك الغني ذو الرحمة‏}‏ لما ذكر تعالى من أطاع ومن عصى والثواب والعقاب ذكر أنه هو الغني من جميع الجهات لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ومع كونه غنياً هو ذو الرحمة أي التفضل التام‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ بأوليائه وأهل طاعته‏.‏ وقيل‏:‏ بكل خلقه ومن رحمته تأخير الانتقام من العصاة‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ جاعل نفع الخلائق بعضهم ببعض‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ يترحم عليهم بالتكليف ليعرضهم للمنافع الدائمة‏.‏

‏{‏إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين‏}‏ هذا فيه إظهار القدرة التامة والغنى المطلق والخطاب عام للخلق كلهم، كما قال‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ أيها الناس ويأت بآخرين فالمعنى إن يشأ إفناء هذا العالم واستخلاف ما يشاء من الخلق غيرهم فعل، والإذهاب هنا الإهلاك إهلاك الاستئصال لا الإماتة ناساً بعد ناس لأن ذلك واقع فلا يعلق الواقع على ‏{‏أن يشأ‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب لأهل مكة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يعني الأنصار والتابعين‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏يذهبكم‏}‏ أيها العصاة ‏{‏ويستخلف من بعدكم ما يشاء‏}‏ من النوع الطائع و‏{‏كما أنشأكم‏}‏ في موضع مصدر على غير الصدر لقوله‏:‏ ‏{‏ويستخلف‏}‏ لأن معناه وينشئ والمعنى إن يشأ الإذهاب والاستخلاف يذهبكم ويستخلف فكل من الإذهاب والاستخلاف معذوق بمشيئته و‏{‏من‏}‏ لابتداء الغاية‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ للتبعيض‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وتبعه مكي هي بمعنى أخذت من ثوبي ديناراً بمعنى عنه وعوضه؛ انتهى، يعني إنها بدلية والمعنى من أولاد قوم متقدّمين أصلهم آدم عليه السلام‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ من أولاد ‏{‏قوم آخرين‏}‏ لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح؛ انتهى‏.‏ ويعني أنكم ‏{‏من ذرية قوم‏}‏ صالحين فلو شاء أذهبكم أيها العصاة ويستخلف بعدكم طائعين، كما أنكم عصاة أنشأكم من قوم طائعين وما في قوله‏:‏ ‏{‏ما يشاء‏}‏ قيل بمعنى من والأولى إن كان المقدار استخلافه من غير العاقل فهي واقعة موقعها وإن كان عاقلاً فيكون قد أريد بها النوع‏.‏ وقرأ زيد بن ثابت ‏{‏ذرية‏}‏ بفتح الذال وكذا في آل عمران وأبان بن عثمان ‏{‏ذرية‏}‏ بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة وعند ‏{‏ذرية‏}‏ على وزن ضربة وتضمنت هذه الآية التحذير من بطش الله في التعجيل بذلك‏.‏

‏{‏إن ما توعدون لآت‏}‏ ظاهر ما العموم في كل ما يوعد به‏.‏ وقال الحسن‏:‏ من مجيء الساعة لأنهم كانوا يكذبون بها‏.‏ وقيل‏:‏ من الوعد والوعيد‏.‏ وقيل‏:‏ من النصر للرسول لكائن‏.‏ وقيل‏:‏ من العذاب ‏{‏لآت‏}‏ يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ من الوعد يوم القيامة لقرينة ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدّم خصوصاً وإما أن يكون للعموم مطلقاً فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد والعقائد ترى ذلك؛ انتهى‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب فهو آت لا محالة، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه أنه قال‏:‏ ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ أي لا تخرجون عن قدرتنا وحكمتنا فلما ذكر الوعد جزم، ولما ذكر الوعيد ما زاد على ‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ وذلك يدل على أن جانب الرحمة غالب فتلخص في قوله‏:‏ ‏{‏ما توعدون‏}‏ العموم ويخرج منه ما خرج بالدليل أو يراد به الخصوص من الحشر أو النصر أو الوعيد أو الوعد أي بلازمهما من الثواب أو العقاب أو مجموعهما ستة أقوال‏.‏ وكتبت أن مفصولة من ما وما بمعنى الذي وفي هذه الجملة إشعار بقصر الأمل وقرب الأجل والمجازاة على العمل‏.‏

‏{‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ أي فائتين أعجزني الشيء‏:‏ فاتني أي لا يفوتنا عن ما أردنا بكم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ معناه بناجين وهنا تفسير باللازم‏.‏

‏{‏قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ قرأ أبو بكر على مكاناتكم على الجمع حيث وقع فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع ومن أفرد فعلى الجنس والمكانة، مصدر مكن فالميم أصلية وبمعنى المكان ويقال‏:‏ المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون فالميم زائدة فيحتمل أن يكون المعنى على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، قال معناه الزجاج، ويحتمل أن يكون المعنى على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، يقال‏:‏ على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ على ناحيتكم والمعنى ما تنحون أي ما تقصدون من صالح وطالح‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ على حالكم‏.‏ وقال يمان‏:‏ على مذاهبكم‏.‏ وقال إسماعيل الضرير‏:‏ على دينكم في منازلكم لهلاكي خطاباً لكفار مكة ‏{‏إني عامل‏}‏ لهلاككم؛ انتهى‏.‏ وهي ألفاظ متقاربة وهذا الأمر أمر تهديد ووعيد كقوله‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه، ومعنى ‏{‏إني عامل‏}‏ أي على مكانتي التي أنا عليها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ اثبتوا على كفركم وعداوتكم فيّ فإني ثابت على الاسلام وعلى مصابرتكم؛ انتهى‏.‏

والظاهر أن ‏{‏من‏}‏ مفعول تعلمون‏}‏ وأجازوا أن يكون مبتدأ اسم استفهام وخبره ‏{‏يوم تكون‏}‏ والفعل معلق والجملة في موضع المفعول إن كان يعلمون معدّى إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كان يتعدّى إلى مفعولين، و‏{‏عاقبة الدار‏}‏ مآلها وما تنتهي إليه والدار يظهر منه أنها دار الآخرة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدّة الوعيد والوثوق بأن المنذر محق وأن المنذر مبطل‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏من تكون له عاقبة الدار‏}‏ أي من له النصرة في دار الإسلام ومن له الدار الآخرة أي الجنة وفي قوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ من التهديد والوعيد ما لا يخفى كقوله‏:‏ ‏{‏سنفرغ لكم أيها الثقلان‏}‏ ‏{‏من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

إذا ما التقينا والتقى الرسل بيننا *** فسوف ترى يا عمر وما الله صانع

وقال آخر‏:‏

ستعلم ليلى أي دين تداينت *** وأي غريم للتقاضي غريمها

‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ أي لا يفوزون قاله الضحاك‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لا يبقون‏.‏ وقال عطاء‏:‏ لا يسعد من كفر نعمتي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يأمنون ولا ينجون من العذاب وفيه إشعار بأنهم هم الظالمون الذين لا يفلحون، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار‏}‏ ترديد بينه عليه السلام وبينهم، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم وأن عاقبة الدار الحسنى هي له عليه السلام ولكنه أجرى مجرى قوله‏:‏ فشركما لخيركما الفداء‏.‏ وقوله‏:‏

فأيّي ما وأيك كان شرا *** فسيق إلى المقادة في هوان

وقد علم ما هو شر وما هو خير ولكنه أبرز في صورة الترديد إظهاراً لصورة الإنصاف ورمياً بالكلام على جهة الاشتراك اتكالاً على فهم المعنى‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي من يكون بالياء على التذكير وكذا في القصص‏.‏

‏{‏وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون‏}‏ روي عن ابن عباس ومجاهد والسدّي أن العرب كانت تجعل من غلاتها وزروعها وأثمارها وأنعامها جزءاً تسميه لله وجزءاً تسميه لأصنامها وكانت عادتها تبالغ وتجتهد في إخراج نصيب الأصنام أكثر منها في نصيب الله، إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم تركوه ولم يردوه إلى نصيب الله ويفعلون عكس هذا، وإذا تفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب شركائهم تركوه وبالعكس سدوه وإذا لم ينجح شيء من نصيب آلهتهم جعلوا نصيب الله لها، وكذا في الأنعام‏.‏ وإذا أجدبوا أكلوا نصيب الله وتركوا نصيبها لما ذكر تعالى قبح طريقة مشركي العرب في إنكارهم البعث ذكر أنواعاً من جهالاتهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مما ذرأ‏}‏ أنه تعالى كان أولى أن يجعل له الأحسن والأجود وأن يكون جانبه تعالى هو الأرجح، إذ كان تعالى هو الموجد لما جعلوا له منه نصيباً والقادر على تنميته دون أصنامهم العاجزة عن ما يحل بها فضلاً عن أن تخلق شيئاً أو تنميه وفي قوله ‏{‏مما‏}‏ بمن التبعيضية دليل على قسم ثالث وهو ما بقي لهم من غير النصيبين، وفي الكلام حذف دل عليه التقسيم أي ونصيباً ‏{‏لشركائهم‏}‏ ألا ترى إلى قولهم ‏{‏هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا‏}‏ و‏{‏الحرث‏}‏ قيل هنا‏:‏ الزرع‏.‏ وقيل‏:‏ الزرع والأشجار وما يكون من الأرض، ‏{‏والأنعام‏}‏ الإبل والبقر والغنم يتقربون بذبح ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي‏.‏ وقيل‏:‏ النصيب من الأنعام هو النفقة عليها وفي قوله‏:‏ ‏{‏فقالوا‏}‏ تأكيد للفعل الذي هو الجعل بالقول ليتطابق ويتظافر الفعل بالقول، ثم إنهم أخلفوا ذلك واعترض أثناء الكلام قوله‏:‏ ‏{‏يزعمهم‏}‏ وجاء أثر قولهم‏:‏ ‏{‏هذا لله‏}‏ لأنه إخبار كذب حيث أخلف ما جعلوه وأكدوه بالقول ولم يأت ذلك إثر قولهم‏:‏ ‏{‏وهذا لشركائنا‏}‏ لتحقيق ما لشركائهم أنه لهم والزعم في أكثر كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق نبه على أنهم فعلوا ذلك من غير أن يأمرهم الله بذلك ولا أن يشرعه لهم، وذلك جرى على عادتهم في شرع أحكام لم يأذن فيها ولم يشرعها‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ ‏{‏بزعمهم‏}‏ فيهما بضم الزاي وهي لغة بني أسد والفتح لغة الحجاز وبه قرأ باقي السبعة وهما مصدران‏.‏ وقيل‏:‏ الفتح في المصدر والضم في الاسم‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ بفتح الزاي والعين فيهما والسكر لغة لبعض قيس وتميم، ولم يقرأ به ويتعلق ‏{‏بزعمهم‏}‏ بقالوا‏.‏

وقيل‏:‏ بما تعلق به ‏{‏لله‏}‏ من الاستقرار وشركاؤهم آلهتهم والشركاء من الشرك والإضافة إضافة تخصيص أي‏:‏ الشركاء الذين أشركوا بينهم وبين الله في القربة وليس معناه الإضافة إلى فاعل ولا مفعول‏.‏ وقيل‏:‏ سموا شركاء لأنهم نزلوها منزلة الشركاء في أموالهم فتكون إضافة إما إلى الفاعل فالتقدير وهذا لأصنامنا التي تشركنا في أموالنا، وإما إلى المفعول فالتقدير التي شركناها في أموالنا‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ سموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم يساهمونهم في الخير والشر، ومعنى ‏{‏فلا يصل إلى الله‏}‏ أي لا يقع موقع ما يصرف في وجوه البر من الصدقة على المساكين وزوّار بيت الله ونحوها، ولو فعلوا ذلك لم ينفع لأنهم أشركوا أو لا يصل البتة إلى تلك الوجوه المقصود بها التقرب إلى الله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كانوا إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك لله‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يصرفون مما جعلوه لله إلى سدنة الأصنام ولا يتصدّقون بشيء مما جعلوه للأوثان، ومعنى ‏{‏فهو يصل إلى شركائهم‏}‏ بإنفاق عليها بذبح نسائك عندها والآخر للنفقة على سدنتها‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ جمهور المتأوّلين أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فلا يصل‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يصل‏}‏ ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله وذكروا آلهتهم على ذلك الذبح، وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله قال‏:‏ ‏{‏فلا يصل‏}‏ إلى ذكر وقال‏:‏ ‏{‏فهو يصل‏}‏ إلى ذكر الله؛ انتهى‏.‏ وظاهر الآية يدل على أن ما جعلوه نصيباً لشركائهم فلا يصرف منه شيء في وجوه البر الذي يقتضيها وجهه، وما جعلوه نصيباً لله أنفق في مصاريف آلهتهم ‏{‏ساء ما يحكمون‏}‏ هذه ذمّ بالغ عام لأحكامهم فيندرج فيه حكمهم هذا السابق وغيره‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ في إيثارهم آلهتهم على الله وعملهم ما لم يشرع لهم‏.‏ وقال الماتريدي‏:‏ أي بئس الحكم حكمهم حيث قرنوا حقي بحق الأصنام وبخسوني‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ساء ما يحكمون‏}‏ لأنفسهم، والظاهر أن ‏{‏ساء‏}‏ هنا مجراة مجرى بئس في الذمّ كقوله‏:‏ ‏{‏قل بئسما يأمركم‏}‏ والخلاف الجاري في ‏{‏بئسما‏}‏ وإعراب ما جاريا هنا وتقدم ذلك مستوفى في قوله‏:‏ ‏{‏بئسما اشتروا به أنفسهم‏}‏ في البقرة وعلى أن حكمهما حكم ‏{‏بئسما‏}‏ فسرها الماتريدي فقال‏:‏ بئس الحكم حكمهم وأعربها الحوفي وجعل ما موصولة بمعنى الذي قال والتقدير ساء الذي يحكمون حكمهم، فيكون حكمهم رفعاً بالابتداء وما قبله الخبر وحذف لدلالة ‏{‏يحكمون‏}‏ عليه‏.‏ ويجوز أن يكون ما تمييزاً على مذهب من يجيز ذلك في ‏{‏بئسما‏}‏ فيكون في موضع نصب التقدير ‏{‏ساء‏}‏ حكماً حكمهم ولا يكون ‏{‏يحكمون‏}‏ صفة لما لأن الغرض الإبهام ولكن في الكلام حذف يدل ما عليه والتقدير سا ما ‏{‏ما يحكمون‏}‏‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ و‏{‏ما‏}‏ في موضع رفع كأنه قال‏:‏ ساء الذي يحكمون ولا يتجه عندي أن تجري هنا ‏{‏ساء‏}‏ مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله‏:‏ ‏{‏ساء مثلاً القوم‏}‏ لأن المفسر ظاهر في الكلام؛ انتهى‏.‏ وهذا قول من شدا يسيراً من العربية ولم يرسخ قدمه فيها بل إذا جرى ساء مجرى نعم وبئس كان حكمها حكمها سواء لا يختلف في شيء البتة من فاعل مضمر أو ظاهر وتمييز، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح والذمّ والتمييز فيها لدلالة الكلام عليه فقوله‏:‏ لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق النحاة إلى آخره كلام ساقط ودعواه الاتفاق مع أن الاتفاق على خلاف ما ذكر عجب عجاب‏.‏

‏{‏وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم‏}‏ أي ومثل تزيين قسمة القربان بين الله وآلهتهم وجعلهم آلهتهم شركاء لله في ذلك‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين وقال ابن الأنباري‏:‏ ويجوز أن يكون ‏{‏وكذلك‏}‏ مستأنفاً غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى وهكذا زين؛ انتهى‏.‏ و‏{‏كثير‏}‏ يراد به من كان من مشركي العرب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ‏{‏شركاؤهم‏}‏ شياطينهم أمروهم أن يدفنوا بناتهم أحياء خشية العيلة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏شركاؤهم‏}‏ سدنتهم وخزنتهم التي لآلهتهم كانوا يزينون لهم دفن البنات أحياء‏.‏ وقيل‏:‏ رؤساؤهم كانوا يقتلون الإناث تكبراً والذكور خوف الفقر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏قتل أولادهم‏}‏ بالوأد أو بنحرهم للآلهة، وكان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد لي كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏زين‏}‏ مبنياً للفاعل ونصب ‏{‏قتل‏}‏ مضافاً إلى ‏{‏أولادهم‏}‏ ورفع ‏{‏شركاؤهم‏}‏ فاعلاً بزين وإعراب هذه القراءة واضح، وقرأت فرقة منهم السلمي والحسن وأبو عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر ‏{‏زين‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏قتل‏}‏ مرفوعاً مضافاً إلى ‏{‏أولادهم شركاؤهم‏}‏ مرفوعاً على إضمار فعل أي زينه شركاؤهم هكذا خرجه سيبويه، أو فاعلاً بالمصدر أي ‏{‏قتل أولادهم شركاؤهم‏}‏ كما تقول‏:‏ حبب لي ركوب الفرس زيد هكذا خرجه قطرب، فعلى توجيه سيبويه الشركاء مزينون لا قاتلون كما ذلك في القراءة الأولى، وعلى توجيه قطرب الشركاء قاتلون‏.‏ ومجازه أنهم لما كانوا مزينين القتل جعلوا هم القاتلين وإن لم يكونوا مباشري القتل، وقرأت فرقة كذلك إلا أنهم خفضوا شركائهم وعلى هذا الشركاء هم الموءودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث، أو لأنهم قسيمو أنفسهم وأبعاض منها‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ إلا أنه نصب ‏{‏أولادهم‏}‏ وجر شركائهم فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول وهي مسألة مختلف في جوازها، فجمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخروهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر، وبعض النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب، ولوجودها أيضاً في لسان العرب في عدة أبيات قد ذكرناها في كتاب منهج السالك من تأليفنا ولا التفات إلى قول ابن عطية وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو لشركاء ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله‏:‏

كما خط الكتاب بكف يوماً *** يهودي يقارب أو يزيل

فكيف بالمفعول في أفصح كلام ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش‏:‏

فزججته بمزجة *** زج القلوص أبي مزاده

وفي بيت الطرماح وهو قوله‏:‏

يطفن بجوزي المراتع لم يرع *** بواديه من قرع القسيّ الكنائن

انتهى كلام ابن عطية، ولا التفات أيضاً إلى قول الزمخشري‏:‏ إن الفصل بينهما يعني بين المضاف والمضاف إليه فشا لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر أكان سمجاً مردوداً فكيف به في القرآن المعجز لحسن نظمه وجزالته‏؟‏ والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب؛ انتهى ما قاله‏.‏ وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقاً وغرباً، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم ولا التفات أيضاً لقول أبي علي الفارسي‏:‏ هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني ابن عامر كان أولى لأنهم لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف وإنما أجازوه في الشعر؛ انتهى‏.‏ وإذا كانوا قد فصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالجملة في قول بعض العرب هو غلام إن شاء الله أخيك فالفصل بالمفرد أسهل، وقد جاء الفصل في اسم الفاعل في الاختيار‏.‏ قرأ بعض السلف‏:‏ مخلف وعده رسله بنصب وعده وخفض رسله وقد استعمل أبو الطيب الفصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول اتباعاً لما ورد عن العرب فقال‏:‏

بعثت إليه من لساني حديقة *** سقاها الحيا سقي الرياض السحائب

وقال أبو الفتح‏:‏ إذا اتفق كل شيء من ذلك نظر في حال العربي وما جاء به فإن كان فصيحاً وكان ما أورده يقبله القياس فالأولى أن يحسن به الظن، لأنه يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها‏.‏

وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير ونحوه ما روى ابن سيرين عن عمر بن الخطاب أنه حفظ أقل ذلك وذهب عنهم كثيره يعني الشعر في حكاية فيها طول‏.‏ وقال أبو الفتح‏:‏ فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح إذا سمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ؛ انتهى، ملخصاً مقتصراً على بعض ما قاله‏.‏ وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر ‏{‏زين‏}‏ بكسر الزاي وسكون الياء على القراءة المتقدمة من الفصل بالمفعول، ومعنى ‏{‏ليردوهم‏}‏ ليهلكوهم من الردى وهو الهلاك ‏{‏وليلبسوا‏}‏ ليخلطوا و‏{‏دينهم‏}‏ ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك‏.‏ وقيل ‏{‏دينهم‏}‏ الذي وجب أن يكونوا عليه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وليوقعوهم في دين ملتبس‏.‏ وقرأ النخعي ‏{‏وليلبسوا‏}‏ بفتح الياء‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة واللام متعلقة ب ‏{‏زين‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة‏.‏

‏{‏ولو شاء الله ما فعلوه‏}‏ الظاهر عود الضمير على القتل لأنه المصرّح به والمحدّث عنه والواو في ‏{‏فعلوه‏}‏ عائد على الكثير‏.‏ وقيل‏:‏ الهاء للتزيين والواو للشركاء‏.‏ وقيل‏:‏ الهاء للبس وهذا بعيد‏.‏ وقيل‏:‏ لجميع ذلك إن جعلت الضمير جار مجرى الإشارة وهذه الجملة ردّ على من زعم أنه يخلق أفعاله‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ مشيئة قسر؛ انتهى، وهو على مذهبه الاعتزالي‏.‏

‏{‏فذرهم وما يفترون‏}‏ أي ما يختلقون من الإفك على الله والأحكام التي يشرعونها وهو أمر تهديد ووعيد‏.‏

‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم‏}‏ أعلم تعالى بأشياء مما شرعوها وتقسيمات ابتدعوها والتزموها على جهة الفرية والكذب منهم على الله، أفردوا من أنعامهم وزروعهم وثمارهم شيئاً وقالوا‏:‏ هذا حجر أي حرام ممنوع‏.‏ وقرأ أبان بن عثمان‏:‏ نعم على الإفراد‏.‏ وقرأ باقي السبعة بكسر الحاء وسكون الجيم والحجر بمعنى المحجور كالذبح والطحن يستوي في الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات قاله الزمخشري‏.‏ وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ قرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم، وعن الحسن أيضاً ‏{‏حجر‏}‏ بضم الحاء‏.‏ وقرأ أبان بن عثمان وعيسى بن عمر بضم الحاء والجيم، وقال هارون‏:‏ كان الحسن يضم الحاء من ‏{‏حجر‏}‏ حيث وقع وقع إلا وحجراً محجوراً فيكسرها وقرأ أبيّ وعبد الله وابن عباس وابن الزبير وعكرمة وعمرو بن دينار والأعمش حرج بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها، وخرج على القلب فمعناه معنى ‏{‏حجر‏}‏ أو من الحرج وهو التضييق ‏{‏لا يطعمها‏}‏ ‏{‏لا يأكلها‏}‏ ‏{‏إلا من نشاء‏}‏ وهم الرجال دون النساء، أو سدنة الأصنام ‏{‏بزعمهم‏}‏ أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق‏.‏

‏{‏وأنعام حرّمت ظهورها‏}‏ هي البحائر والسوائب والحوامي وتقدّم تفسيرها في المائدة‏.‏

‏{‏وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ أي عند الذبح‏.‏ وقال أبو وائل‏:‏ وجماعة لا يحجون عليها ولا يلبون كانت تركب في كل وجه إلا في الحج‏.‏

‏{‏افتراء عليه‏}‏ اختلاقاً وكذباً على الله حيث قسموا هذه الأنعام هذا التقسيم ونسبوا ذلك إلى الله وانتصب ‏{‏افتراء‏}‏ على أنه مفعول من أجله أو مصدر على إضمار فعل، أي يفترون أو مصدر على معنى وقالوا‏:‏ لأنه في معنى افتروا أو مصدر في موضع الحال‏.‏

‏{‏سيجزيهم بما كانوا يفترون‏}‏ تهديد شديد ووعيد‏.‏

‏{‏وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا‏}‏ الذي في بطونها هو الأجنة قاله السدّي‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حياً فهو خالص لذكورنا ولا تأكل منه الإناث، وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة والشعبي‏:‏ الذي في بطونها هو اللبن‏.‏ وقال الطبري‏:‏ اللفظ يعم الأجنة واللبن؛ انتهى‏.‏ والظاهر الأجنة لأنها التي في البطن حقيقة، وأما اللبن‏:‏ ففي الضرع لا في البطن إلا بمجاز بعيد‏.‏ وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة‏:‏ خالص بالرفع بغير تاء وهو خبر ما و‏{‏لذكورنا‏}‏ متعلق به‏.‏ وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني خالصاً بالنصب بغير تاء، وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة أو على الحال من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها؛ انتهى ملخصاً‏.‏ ويعني بقوله‏:‏ على الحال من ‏{‏ما‏}‏ أي من ضمير ‏{‏ما‏}‏ الذي تضمنه خبر ‏{‏ما‏}‏ وهو ‏{‏لذكورنا‏}‏ ويعني بقوله‏:‏ في إجازته إلى آخره على العامل فيها إذا كان ظرفاً أو مجروراً نحو زيد قائماً في الدار، وخبر ‏{‏ما‏}‏ على هذه القراءة هو ‏{‏لذكورنا‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير أيضاً ‏{‏خالصة‏}‏ بالنصب وإعرابها كإعراب خالصاً بالنصب وخرّج ذلك الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية‏.‏ وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري ‏{‏خالصة‏}‏ على الإضافة وهو بدل من ‏{‏ما‏}‏ أو مبتدأ خبره ‏{‏لذكورنا‏}‏ والجملة خبر ما‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏خالصة‏}‏ بالرفع وبالتاء وهل التاء للمبالغة كراوية أو حملاً على معنى ما لأنها أجنة والعام أو هو مصدر يبنى على فاعلة كالعافية والعافية أي ذو خلوص‏؟‏ أقوال‏:‏ وكان قد سبق لنا أن شيخنا علم الدين العراقي رحمه الله ذكر أنه لم يوجد في القرآن حمل على المعنى أولاً ثم حمل على اللفظ بعده إلا في هذه الآية، ووعدنا أن نحرر ذلك في مكان وما ذكره قاله مكي، قال‏:‏ الآية في قراءة الجماعة أتت على خلاف نظائرها في القرآن لأن كل ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة إنما يبتدأ أولاً بالحمل على اللفظ، ثم يليه الحمل على معنى نحو

‏{‏من آمن بالله‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فلهم أجرهم‏}‏ هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب‏.‏ وهذه الآية تقدم فيها الحمل على المعنى فقال‏:‏ ‏{‏خالصة‏}‏ ثم حمل على اللفظ فقال‏:‏ و‏{‏محرم‏}‏ ومثله كل ذلك كان سيئة في قراءة نافع ومن تابعه فأنث على معنى كل لأنها اسم لجمع ما تقدّم مما نهي عنه من الخطايا، ثم قال‏:‏ ‏{‏عند ربك مكروهاً‏}‏ فذكر على لفظ كل، وكذلك ‏{‏ما تركبون لتستووا على ظهوره‏}‏ حملاً على ما، ووحد الهاء حملاً على لفظ ما‏.‏ وحكي عن العرب هذا الجراد قد ذهب فأراحنا من أنفسه جمع الأنفس ووحد الهاء وذكرها انتهى وفيه بعض تلخيص‏.‏ ومن ذهب إلى أن الهاء للمبالغة أو التي في المصدر كالعافية فلا يكون التأنيث حملاً على معنى ما، وعلى تسليم أنه حمل على المعنى فلا يتعين أن يكون بدأ أولاً بالحمل على المعنى ثم بالجمل على اللفظ لأن صلة ما متعلقة بفعل محذوف وذلك الفعل مسند إلى ضمير ما ولا يتعين أن يكون وقالوا‏:‏ ما استقرت في بطون الأنعام، بل الظاهر أن يكون التقدير ما استقر فيكون حمل أولاً على التذكير ثم ثانياً على التأنيث، وإذا احتمل هذا الوجه وهو الراجح لم يكن دليلاً على أنه بدأ بالحمل على التأنيث أولاً ثم بالحمل على اللفظ وقول مكي هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، أما القرآن فكذلك هو، وأما كلام العرب فجاء فيه الحمل على اللفظ أولاً ثم على المعنى وهو الأكثر وجاء الحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ، وأما قوله‏:‏ ومثله كل ذلك كان سيئة فليس مثله، بل حمل أولاً على اللفظ في قوله‏:‏ كان ألا ترى أنه أعاد الضمير مذكراً ثم على المعنى فقال‏:‏ سيئة وأما قوله‏:‏ وكذلك ما تركبون فليس مثله، لأنه يحتمل أن يكون التقدير ما تركبونه فيكون قد حمل أولاً على اللفظ ثم على المعنى في قوله‏:‏ ظهوره ثم على اللفظ في إفراد الضمير، وأما هذا الجراد قد ذهب فقد حمل أولاً على إفراد الضمير على اللفظ ثم جمع على المعنى ثم على اللفظ في إفراد الضمير، ومعنى لأزواجنا‏:‏ لنسائنا أي معدّة أن تكون أزواجاً قاله مجاهد‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لبناتنا‏.‏

‏{‏وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء‏}‏ كانوا إذا خرج الجنين ميتاً اشترك في أكله الرجال والنساء، وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها‏.‏ وقرأ أبو بكر‏:‏ وإن تكن بتاء التأنيث ‏{‏ميتة‏}‏ بالنصب أي وإن تكن الأجنة التي تخرج ميتة‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ وإن يكن ‏{‏ميتة‏}‏ بالتذكير وبالرفع على كان التامة وأجاز الأخفش أن تكون الناقصة وجعل الخبر محذوفاً التقدير وإن تكن في بطونها ميتة وفيه بعد‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ وقرأ أهل مكة وإن تكن ‏{‏ميتة‏}‏ بالتأنيث والرفع؛ انتهى‏.‏ فإن عنى ابن كثير فهو وهم وإن عنى غيره من أهل مكة فيمكن أن يكون نقلاً صحيحاً وهذه القراءة التي عزاها الزمخشري لأهل مكة هي قراءة ابن عامر‏.‏ وقرأ باقي السبعة ‏{‏وإن يكن‏}‏ التذكير ‏{‏ميتة‏}‏ بالنصب على تقدير وإن يكن ما في بطونها ميتة‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ ويقوي هذه القراءة قوله‏:‏ ‏{‏فهم فيه شركاء‏}‏ ولم يقل فيها؛ انتهى‏.‏

وهذا ليس بجيد لأن الميتة لكل ميت ذكراً كان أو أنثى فكأنه قيل‏:‏ وإن يكن ميتاً ‏{‏فهم فيه شركاء‏}‏‏.‏ وقرأ يزيد‏:‏ ‏{‏ميتة‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏فهم فيه‏}‏ سواء‏.‏

‏{‏سيجزيهم وصفهم‏}‏ أي جزاء ‏{‏وصفهم‏}‏ الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله ‏{‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام‏}‏ ‏{‏إنه حكيم عليم‏}‏ أي ‏{‏حكيم‏}‏ في عذابهم ‏{‏عليم‏}‏ بأحوالهم‏.‏

‏{‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين‏}‏ كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة ومضر يئدوهنّ وهو دفنهن أحياء، فبعضهم يئد خوف العيلة والإقتار وبعضهم خوف السبي فنزلت هذه الآية‏.‏ في ذلك إخباراً بخسران فاعل ذلك ولما تقدّم تزيين قتل الأولاد وتحريم ما حرموه في قولهم ‏{‏هذه أنعام وحرث حجر‏}‏ جاء هنا تقديم قتل الأولاد وتلاه التحريم وفي قوله‏:‏ ‏{‏سفهاً بغير علم‏}‏ إشارة إلى خفة عقولهم وجهلهم بأن الله هو الرزاق والمقدّر السبي وغيره، ما رزقهم الله إظهار لإباحته لهم فقابلوا إباحة الله بتحريمهم هم وما رزقهم الله يعم السوائب والبحائر والزروع، وترتب على قتلهم أولادهم الخسران معللاً بالسفه والجهل وعلى تحريم ‏{‏ما رزقهم‏}‏ الخسران معللاً بالافتراء ثم الإخبار بالضلال وانتفاء الهداية؛ وكل واحدة من هذه السبعة سبب تام في حصول الذم فأما الخسران فلأن الولد نعمة عظيمة من الله فإذا سعى في إبطال تلك النعمة والهبة فقد خسر واستحق الذم في الدنيا بقولهم‏:‏ قتل ولده خوف أن يأكل معه وفي الآخرة العقاب لأن ثمرة الولد المحبة، ومع حصولها ألحق به أعظم المضار وهو القتل كان أعظم الذنوب فيستحق أعظم العقاب، وأما السفه وهي الخفة المذمومة فقتل الولد لخوف الفقر وإن كان ضرراً فالقتل أعظم منه؛ وأيضاً فالقتل ناجز والفقر موهوم، وأما الجهل فيتولد عنه السفاهة والجهل أعظم القبائح، وأما تحريم ما أحل الله فهو من أعظم الجنايات وأما الافتراء فجراءة على الله وهو من أعظم الذنوب، وأما الضلال فهو أن لا يرشدوا في مصالح الدنيا ولا الآخرة، وأما انتفاء الهداية فتنبيه على أنهم لم يكونوا قط فيما سلكوه من ذلك ذوي هداية‏.‏ وقرأ الحسن والسلمي وأهل مكة والشام ومنهما ابن كثير وابن عامر‏:‏ ‏{‏قتلوا‏}‏ بالتشديد‏.‏ وقرأ اليمني سفهاء على الجمع‏.‏