فصل: الجزء الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


الجزء الأول

سورة الفاتحة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الحمد‏}‏ مبتدأ، و‏{‏الله‏}‏ خبر، وأصله النصب، وقرئ به، والأصل‏:‏ أحمد الله حمداً، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته، دون تجدده وحدوثه، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء‏.‏ أي‏:‏ الحمد لله وإن لم تحمدوه‏.‏ ولو قال ‏(‏أحمد الله‏)‏ لما أفاد هذا المعنى، وهو من المصادر التي تُنْصَب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها‏.‏ والتعريف للجنس؛ أي‏:‏ للحقيقة من حيث هي، من غير قيد شيوعها، ومعناه‏:‏ الإشارة إلى ما يَعْرِفه كل أحد أن الحمد ما هو‏.‏ أو للاستغراق؛ إذ الحمد في الحقيقة كُلُّه لله؛ إذ ما من خير إلا وهو مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 53‏]‏، وقيل‏:‏ للعهد، والمعهودُ حمدُه تعالى نَفْسَه في أزله‏.‏

وقُرِئ ‏{‏الحمد لله‏}‏ بإتباع الدال للام، وبالعكس، تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة‏.‏

ومعناه في اللغة‏:‏ الثناءُ بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل، وفي العُرف‏:‏ فعل يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً‏.‏ والشكر في اللغة‏:‏ فعل يُشعر بتعظيم المنعم، فهو مرادف للحمد العرفي، وفي العرف‏:‏ صرفُ العبد جميعَ ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خُلِقَ لأجله وأعطاه إياه‏.‏ وانظر شرحنا الكبير للفاتحة في النَّسَبِ التي بيناها نظماً ونثراً‏.‏

و‏{‏الله‏}‏ اسم مُرْتَجَلٌ جامد، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف، قال الواحدي‏:‏ اسم تفرِّد به الباري- سبحانه- يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام، لا يُعرف له اشتقاق، وقال الأقْلِيشي‏:‏ إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقّاً كان دليلاً على عين الذات، دون أن يُنظر فيها إلى صفة من الصفات، وليس باسمٍ مشتق من صفة، كالعالِم والحق والخالق والرازق، فالألف واللام على هذا في ‏(‏الله‏)‏ من نفس الكلمة، كالزاي من زيد، وذهب إلى هذا جماعة، واختاره الغزالي، وقال‏:‏ كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف‏.‏

وقيل‏:‏ مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد، وقيل‏:‏ من الوَلَهَان، وهو الحيرة‏؟‏ لتحيُّر العقول في شأنه‏.‏ وقيل‏:‏ أصله‏:‏ الإلهُ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم، إلا إذا كان قبلها كسر‏.‏

و ‏{‏رب‏}‏ نعت ‏{‏لله‏}‏، وهو في الأصل‏:‏ مصدر بمعنى التربية، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً، ثم وُصف به للمبالغة كالصوم والعدل‏.‏

وقيل‏:‏ هو وصفٌ من رَبِّه يَرُبُّهُ، وأصله‏:‏ رَبَبَ ثم أُدغم، سُمي به المالكُ؛ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏يُوسُف‏:‏ 50‏]‏‏.‏ قال ابن جُزَيّ‏:‏ ومعانيه أربعة‏:‏ الإله والسيد والمالك والمصلح، وكلها تصلح في رب العالمين، إلا أن الأرجح في معناه، الإله؛ لاختصاصه بالله تعالى‏.‏

و ‏{‏العالمين‏}‏ جمع عالَم، والعالَمُ‏:‏ اسم لما يُعْلَمُ به، كالخاتم لما يُختم به، والطابع لما يطبع به‏.‏ غلب فيما يُعلم به الصانع‏.‏ وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مُؤثِرٍ واجبٍ لذاته، تدل على وجوده، وإنما جُمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة، وغلب العقلاء منهم فجُمِعَ بالياء والنون كسائر أوصافهم، فهو جمع، لا اسم جمع، خلافاً لابن مالك‏.‏

وقيل‏:‏ اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناولُه لغيرهم على سبيل الاستتباع، وقيل‏:‏ عني به هنا الناس، فإن كل واحد منهم عالَمٌ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال‏:‏ ‏{‏وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذّاريَات‏:‏ 21‏]‏‏.‏

‏{‏قلت‏}‏‏:‏ وإليه يشير قول الشاعر‏:‏

يا تَائهاً في مَهْمَهٍ عَنْ سِرِّه *** انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوُجُودُ بأَسْره

أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً *** يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بِأَسْرِه

و ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ اسمان بُنيا للمبالغة، من رَحِمَ، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة، رَقَّةُ القلب، وانعطافٌ يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم؛ لانعطافها على ما فيها‏.‏ وأسماء الله تعالى إنما تُؤخذ باعتبار الغايات، التي هي أفعال، دون المبادئ التي هي انفعالات، و‏{‏الرحمن‏}‏ أبلغ من ‏{‏الرحيم‏}‏؛ لأن زيادةَ المبنى تدل على زيادة المعنى، كقَطَّعَ وقَطَعَ، وذلك إنما يُؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتباره الكيفية‏.‏

فعلى الأول‏:‏ قيل‏:‏ يا رحمنَ الدنيا؛ لأنه يَعُمُّ المؤمنَ والكافر، ورحيمَ الآخرة؛ لأنه يختص بالمؤمن، وعلى الثاني قيل‏:‏ يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا؛ لأن النعم الأخروية كلها جِسَام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة‏.‏

وإنما قدّم ‏{‏الرحمن‏}‏- والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى- لتقدُّم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعَلَم من حيث إنه لا يوصف به غيره، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغُ في الرحمة غايتَها، وذلك لا يصدُق على غيره تعالى‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏ وسيأتي الكلام عليهما في المعنى‏.‏

و ‏{‏مَلِكَ‏}‏ نِعت لما قبله، قراءةُ الجماعة بغير ألف من ‏(‏المُلك‏)‏ بالضم، وقرأ عاصم والكسائي بالألف، من ‏(‏المِلك‏)‏ بالكسر، والتقدير على هذا‏:‏ مالك مجيء يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين‏.‏ وقراءةُ الجماعة أرجح، لثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن الملك أعظم من مالك، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما المَلِكُ فهو سيد الناس، والثاني‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 73‏]‏، والثالث‏:‏ أنها لا تقتضي حذفاً، والحدف خلاف الأصل‏.‏

و ‏{‏يوم الدين‏}‏ ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع، وأُجري الظرف مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية، أي‏:‏ الملك في يوم الدين، أو ملك الأمر يوم الدين، فيكون فيه حذف‏.‏ وقد رُويت القراءتان- أي‏:‏ القصر والمد- عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد قرئ ‏{‏ملك‏}‏ بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها‏.‏

فإن قيل‏:‏ ملك ومالك نكرة؛ لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص، وكيف يُنعت به ‏{‏الرحمان الرحيم‏}‏ وهما معرفتان‏؟‏ قلت‏:‏ إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال؛ لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ، وأما هذا فهو مستمر دائماً، فإضافته محضة‏.‏ قاله ابن جُزَيّ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله مُعلَّماً لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه‏:‏ يا عبادي قولوا ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ أي‏:‏ الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل، فلا يستحق الحمدَ سواه، إذ لا منعم علىلحقيقة إلا الله، ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 53‏]‏‏.‏ أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله، قبل أن يُوجِدَ خلقّه، فلما أوجد خلقه قال لهم‏:‏ الحمد لله، أي‏:‏ احْمَدُوني بذلك المعهود في الأزل‏.‏

وإنما استحق الحمد وحده لأنه ‏{‏ربّ العالمين‏}‏، وكأن سائلاً سأله‏:‏ لم اختصصت بالحمد‏؟‏ فقال‏:‏ لأني ربُّ العالمين، أنا أوجدتُهم برحمتي، وأمددتهم بنعمتي، فلا منعم غيري، فاستحققت الحمد وحدي، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد، فأنا ربُّ العباد، فالعوالم كلها- على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها- في قبضتي وتحت تربيتي ورعايتي‏.‏

قال بعضهم‏:‏ خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم، نصفها في البر ونصفها في البحر‏.‏ وقال الفخرُ الرازي‏:‏ رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق الواحد من سُرادقات العرش، التي عددُها‏:‏ مائةُ ألف، طول كل سرادق وعرضُه- إذا قُوبلتْ به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما- يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً‏.‏ وما من موضع شِبْرٍ، إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم، وله زَجَل بالتسبيح والتهليل‏.‏ ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر، ولا يَعلم عددّهم إلا الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏المدَّثِّر‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقال وَهْبُ بن مُنَبِّه‏:‏ ‏(‏قائمُ العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء، وفي كل صحراء ستون ألف عالم، وكل عالم قَدْرُ الثقلين‏)‏‏.‏

فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح، من العرش إلى الفرش، كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالُها، محفوظة أشباحُها، معلومات أماكنها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم‏.‏

ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان، لا لزوم عليه وإيجاب، ولذلك وصلَه بقوله‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏، أي‏:‏ الرحمن بنعمة الإيجاد، الرحيم بنعمة الإمداد‏.‏ «نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما‏:‏ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثنى بتوالي الإمداد»‏.‏ كما في ‏(‏الحِكَم‏)‏‏.‏ فاسمُه ‏{‏الرحمن‏}‏ يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها، واسمه ‏{‏الرحيم‏}‏ يقتضي تربيتَها وإمدادها‏.‏ ولذلك لا يجوز إطلاق اسم ‏{‏الرحمان‏}‏ على أحد، ولم يَتَسَمَّ أحد به؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى، بخلاف اسمه ‏{‏الرحيم‏}‏ فيجوز إطلاقه على غيره تعالى؛ لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً‏.‏

أو‏:‏ الرحمن في الدنيا والآخرة، والرحيم في الآخرة‏:‏ لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين‏.‏ أو الرحمن بجلائل النعم والرحيم بدقائقها، فجلائل النعم مثل‏:‏ نعمة الإسلام والإيمان والإحسان، والمعرفة والهداية، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب، ودقائقُ النعم مثل‏:‏ الصحة والعافية والمال الحلال، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم‏.‏

ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال‏:‏ ‏{‏ملك يوم الدين‏}‏ أي‏:‏ المتصرف في عباده كيف شاء، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار‏.‏

وإنما خصّ يوم الدين- وهو يوم الجزاء- بالملكية؛ لأن ذلك اليوم يظهرُ فيه المُلْكُ لله عيَاناً لجميع الخلق، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده، حتى يراه المؤمنون عياناً، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكَمَلَةُ من المؤمنين، ولذلك ادَّعى كثير من الجهلة الملكَ ونسبوه لأنفسهم‏.‏ ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِّمَنِ الْمَلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غَافر‏:‏ 16‏]‏‏.‏

‏{‏الإشارة‏}‏ لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت، أو تقول‏:‏ من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حمد نفسه بنفسه، ومجَّد نفسه بنفسه، ووحَّد نفسه بنفسه، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ، حيث قال‏:‏

ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ *** إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ

توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ *** عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ

توحيدُه إياه توحيدُه *** ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ

فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه‏:‏ ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه‏:‏ أنا الحامد والمحمود، وأنا القائم بكل موجود، أنا رب الأرباب، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب، أنا رب العالمين، أنا قيوم السموات والأرَضين، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي‏.‏

قال رجل بين يدي الجنيد‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏{‏رب العالمين‏}‏، فقال له الجنيد‏:‏ كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل‏:‏ وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه‏؟‏‏!‏ فقال الجنيد‏:‏ قُلها يا أخي؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم‏.‏

يقول سبحانه‏:‏ «يا مَن هو مني قريب، تَدبر سِرِّي فإنه غريب أنا المحبُ، وأنا الحبيب، وأنا القريب، وأنا المجيب، أنا الرحيم الرحمن، وأنا الملك الديّان، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بتوالي الإمداد‏.‏ منِّي كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، وأنا رب العباد، أنا الملك الديَّان، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان، أنا الملك على الإطلاق، لولا جهالة أهل العناد والشقاق، الأمر لنا على الدوام، لمن فهم عنا من الأنام»‏.‏

قال في الرسائل الكبرى‏:‏ لا عبرة بظواهر الأشياء، وإنما العبرة بالسر المكنون، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور، وانقشعت الظلمات بإشراق النور، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين، حين يكون الملك لله رب العالمين، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله‏:‏ ‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الحَجّ‏:‏ 56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الانفِطار‏:‏ 19‏]‏ ‏؟‏‏!‏ لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إياك‏}‏ مفعول ‏{‏نعبد‏}‏، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به، والدلالِ على الحصر، ولذلك قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك‏)‏، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس، وغاب عما عداه، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 40‏]‏، على ما حكاه عن كليمه حيث قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 62‏]‏، أي‏:‏ حيث صرّح بمطلوبه، و‏{‏إياك‏}‏ مفعول ‏{‏نستعين‏}‏ وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام، كما تقدم في ‏{‏إياك نعبد‏}‏‏.‏ وكرّر الضمير ولم يقل‏:‏ إياك نعبد ونستعين؛ لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ، ألا ترى أن قولك‏:‏ بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي- أبلغ وأمدح من قولك‏:‏ بك أنتصر وأحتمي‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏؟‏

وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته، فقال‏:‏ أعطني ما يعينُني عليها، فهو سوء أدب، وأيضاً‏:‏ من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة، وأيضاً‏:‏ لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله‏:‏ ‏{‏وإياك نستعين‏}‏، دفعاً لذلك التوهم‏.‏

والعبادة‏:‏ أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه طريق مُعَبَّدٌ، أي‏:‏ مُذَلل، والاستعانة، طلب المعونة، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها، أو في أداء العبادات‏.‏

والضمير المستتر في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة، أو له ولسائر الموجودين‏.‏ أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله، تتميماً لتعليم عباده‏:‏ فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية، وأظهروا من أنفسكم العبودية، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا‏:‏ ‏{‏إياك نعبد وإياك نستعين‏}‏، وكأنه- جلّ جلاله- لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها؛ لأنه رب العوالِم وقيومها، أصل الأصول وفروعها، أنعم عليها أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، فهو مالكها على الإطلاق، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه؛ إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله، فهو أحقُّ أن يُعبد، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ، والمادة من عَيْنِ الجود، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين، خوطب بذلك، أي‏:‏ يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة، لكون أدلّ على الاختصاص، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود، وكأن المعلومَ صار عياناً، والمعقولَ مُشاهَداً، والغيبة حضوراً، بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ؛ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه، والنظر في آلائه، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر‏.‏ ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 22‏]‏، ولم يقل ‏(‏بكم‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏فَاطِر‏:‏ 9‏]‏، أي‏:‏ ولم يقل‏:‏ فساقه‏.‏‏.‏‏.‏ انظر تمام كلامه‏.‏

والالتفات هذا في قوله‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ ولم يقل‏:‏ إياه نعبد؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً‏.‏

قال الأقليشي‏:‏ فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فإذا قال العبد‏:‏ إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله تعالى‏:‏ هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ» معناه‏:‏ أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها، فالعبادة وصف العبد، والعون من الله تعالى للعبد، فلهذا قال‏:‏ «فهذه بيني وبين عبدي»‏.‏

قال ابن جُزَي‏:‏ أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك‏.‏

‏{‏الإشارة‏}‏‏:‏ لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت، وحَمِدَ نفسه بنفسه، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته؛ لإظهار آثار أسمائه وصفاته، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية، أظهر الحكمة وأبطن القدرة، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة، ويخضع له، ويتعبّد ويستمد، منه الإعانة والهداية، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية‏.‏

فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف، وعالم القدرة محل التصريف، عالم الحكمة عالم الأشباح، وعالم القدرة عالم الأرواح، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ شريعة، و‏{‏إياك نستعين‏}‏ حقيقة، و‏{‏إياك نعبد‏}‏ إسلاماً، و‏{‏إياك نستعين‏}‏ إحساناً، ‏{‏إياك نعبد‏}‏ عبادة، و‏{‏إياك نستعين‏}‏ عبودية، ‏{‏إياك نعبد‏}‏ فَرْقٌ، ‏{‏إياك نسعتين‏}‏ جَمْعٌ‏.‏

ه‏.‏

وإن شئت قلت‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ لأهل العمل لله وهم المخلصون، و‏{‏إياك نستعين‏}‏ لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون، العمل لله يوجب المثوبة، والعمل بالله يوجب القُرْبَة، العمل لله يوجب تحقيق العبادة، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد، والعمل بالله نعت كل قاصد، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر، والعمل بالله قيام بإصلاح الصمائر، قاله القشيري‏.‏

ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام‏:‏ قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة، وقفوا مع قوله‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة، وهم أهل الفناء، وقفوا مع قوله‏:‏ ‏{‏إياك نستعين‏}‏، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه، وهم أهل الكمال من أهل البقاء، جمعوا بين قوله‏:‏ ‏{‏إياك نعبد وإياك نستعين‏}‏، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الهدايةُ في الأصل‏:‏ الدلالة بلطف، ولذلك تُستعمل في الخير، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏ 23‏]‏ على التهكم، والفعل منه ‏(‏هَدَى‏)‏ بالفتح، وأصله أن يُعدى باللام، أو «إلى»، فَعْومل هنا معاملة‏:‏ ‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 155‏]‏‏.‏ والصراط لغة‏:‏ الطريق، مشتق من سَرَط الطعامَ إذا ابتعله، فكأنها تبتلع السابلةَ؛ أي المارَّة به، وَقُلِبَتْ السين صاداً لتطابق الطاء في الإطباق، وقد تُشَمُّ زاياً لقرب المَخرج، و‏{‏المستقيم‏}‏‏:‏ الذي لا عوج فيه، والمراد به طريق الحق المُوصَّلة إلى الله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ مُعلماً لعباده كيف يطلبونه، وما ينبغي لهم أن يطلبوا، أي‏:‏ قُولوا ‏{‏اهدنا‏}‏ أي‏:‏ أَرشِدْنا إلى الطريق المستقيم، الموصلة إلى حضرة النعيم، والطريقُ المستقيم هو السيرُ على الشريعة المحمدية في الظاهر، والتبرِّي من الحول والقوة في الباطن، أو تقول‏:‏ هو أن يكون ظاهرُك شريعةً وباطنك حقيقة، ظاهرك عبودية وباطنك حرية، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود، وفي الحكم‏:‏ «متى جَعَلَك في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره، فقد أعظم المِنَّة عليك»‏.‏

فالصراط المستقيم الذي أمرَنَا الحقُّ بطلبه هو‏:‏ الجمع بين الشريعة والحقيقة، والمفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفَاتِحَة‏:‏ 5‏]‏، ولذلك وصلَه به، فكأن الحق- سبحانه- يقول‏:‏ «يا عبادي احمدوني ومجدوني وأفردوني بالقصد وخُصُّوني بالعبادة، وكونوا في ظاهركم مشتغلين بعبادتي، وفي باطنكم مستعينين بحولي وقوتي، أو كونوا في ظاهركم متأدبين بخدمتي، وفي باطنكم مشاهدين لقدرتي وعظمة ربوبيتي»‏.‏

وقال سيّدنا عليّ- كَرَّمَ الله وجهه-‏:‏ ‏(‏الصراط المستقيم هنا القرآن‏)‏‏.‏ وقال جابر رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏هو الإسلام‏)‏ يعني الحنيفية السمحاء وقال سهل بن عبد الله‏:‏ ‏(‏هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏ يعني اتباعَ ما جاء به‏.‏ وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلطه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدِّيقين‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا كان العبدُ ذاهباً على هذا المنهاج المستقيم، فكيف يطلب ما هو حاصل‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام، الذي هو حاصل، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل، على طريق الصوفية، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام، والعمل الباطن بمقام الإيمان، وأهلُ الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان، والترقي إلى ما لا نهاية له من كشوفات العرفان ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَليمٌ‏}‏ ‏[‏يُوسُف‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وقال الشيخ أبو العباس المرس رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد فيما ليس بحاصل، ثم قال‏:‏ عمومُ المؤمنين يقولون‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي‏:‏ بالتثبيت فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتَهُم درجات الصالحين، والصالحون يقولون‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ معناه‏:‏ نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء، والشهداءُ يقولون‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين، والصديقون يقولون‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي‏:‏ بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنهم حَصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب، والقطبُ يقول‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل، فإنه حصل له رتبة القطبانية، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه‏.‏

ه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الهدايةُ إما للعين وإما للأثرِ الدالَّ على العين، ولا نهاية للأولى، قلت‏:‏ فالأولى لأهل الشهود والعِيان، والثانية لأهل الدليل والبرهان، فالهداية للعين هي الدلالةُ على الله‏.‏ والهداية للأثر هي الدلالة على العمل، «مَنْ دَلَّكَ على الله فقد نصحك، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك»‏.‏ وإنما كانت الأولى لا نهاية لها؛ لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له‏.‏ بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين، إن كان الدالُّ عارفاً بالطريق‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وهداية الله تتنوَّعُ أنواعاً لا يحصيها عد ‏{‏وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحصُوهَآ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏ لكنها تنحصر في أجناس مترتبة‏:‏

الأول‏:‏ إِفاضَةُ الُقُوَى التي بها يتمكنُ المرء من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة‏.‏

الثاني‏:‏ نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ ‏[‏البَلَد‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فُصّلَت‏:‏ 17‏]‏‏.‏

الثالث‏:‏ الهدايةُ بإرسال الرسل وإنزال الكُتُب، وإياها عني بقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 73‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 9‏]‏‏.‏

الرابع‏:‏ أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويُرِيَهُمْ الأشياءَ كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة‏.‏ وهذا يختص بِنَيْله الأنبياءُ والأولياءُ، وإياه عني بقوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏، ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العَنكبوت‏:‏ 69‏]‏‏.‏

فالمطلوب‏:‏ إما زيادةُ ما مُنحوه من الهدى والثباتُ عليه، أو حصولُ المراتب المترتبة عليه، فإذا قال العارفُ الواصل عَنَى بقوله‏:‏ أرشدنا طريق السير فيك، لتمحُوَ عنا ظلماتِ أحوالنا، وتُمِيطَ غواشِيَ أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراكَ بنورك‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ قوله الرابع‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، في عبارته قَلَقٌ واختصار، والصواب أن يقول‏:‏ الرابعُ- أن يكشف عن قلوبهم الظُّلَمَ والأغيار، ويُشرق عليها الأنوار والأسرار، ويُريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام، وباستعمال الفكرة في عظمةِ الملك العلاَّم، حتى تستولي أنوارُ المعاني على حِسِّ الأواني، ثم يقول‏:‏ وهذا قسم يختصّ بنيله الأنبياء والأولياء‏.‏

وقوله‏:‏ فإذا قال العارف‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، الصواب أن يقول‏:‏ فإذا قاله المريد السائر؛ لأن الواصل انمحت عنه الظلماتُ كلها والغواشي وسائرُ الأكدار؛ لأن الله تعالى غطَّى وصفه بوصفه ونعته بنعته، فلم يَبْقَ له وصفٌ ظُلماني‏.‏ وأيضاً قوله‏:‏ ‏[‏أرشدنا إلى طريق السير‏]‏ إنما يناسب السائر دون الواصل؛ لأن الواصل ما بَقِيَ له إلا الترقي، ولا يُسمى في اصطلاح الصوفية ‏[‏السير‏]‏ إلا قبلَ الوصول‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏صراط‏}‏ بدل من الأول- بدل الكل من الكل- وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، وفائدته‏:‏ التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة، على آكد وجه وأبلغه؛ لأنه جعله كالتفسير والبيان له، فكأنه من البيِّن الذي لا خفاء فيه، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين، و‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ بدل من ‏{‏الذين‏}‏ على معنى أن المُنْعَمَ عليهم هم الذي سَلِمُوا من الغضب والضلال‏.‏ أو صفة له مُبيَّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال، وذلك إنما يصح بأحد تأويلين‏:‏ إجراء الموصول مجرى النكرة، إذ لم يُقصد به معهود كالمعرَّف في قوله‏:‏

ولَقَد أَمُرُ علُى اللئيم يَسُبنّي *** أو يُجعل ‏{‏غير‏}‏ مَعْرِفةً؛ لأنه أُضيف إلى مآلَهُ ضدٍّ واحد، وهو المنعمُ عليه، فيتعينُ تَعيُّن الحركة غير السكون، وإلا لزِم عليه نعت المعرفة بالنكرة‏.‏ فتأملْهُ‏.‏

والغضبُ‏:‏ ثَوَرانُ النفس إرادةَ الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد غايته وهو العقوبة، و‏{‏عليهم‏}‏ نائب فاعل‏:‏ و‏{‏لا‏}‏ مَزيدة لتأكيد ما في ‏{‏غير‏}‏ من معنى النفي، فكأنه قال‏:‏ ولا المغضوب عليهم ولا الضالين، وقرأ عمرُ رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏وغير الضالين‏}‏، والضلال‏:‏ والعدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأً، وله عرض عَريضٌ والتفاوت بين أدناه وأقصاه كبير‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

وإنما أَسند النعمة إلى الله والغضبَ إلى المجهول تعليماً للأدب، ‏{‏مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النِّساء‏:‏ 79‏]‏ الآية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله في تفسير الطريق المستقيم‏:‏ هو طريق الذين أنعمتُ عليهم بالهداية والاستقامة، والمعرفة العامة والخاصة، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والمُنعَم عليهم في الآية مطلق، يصدق كل منعَم عليه بالمعرفة والاستقامة في دينه، كالصحابة وأضرابِهِمْ، وقيل‏:‏ المراد بهم أصحاب سيّيدنا موسى عليه السلام قبل التحريف‏.‏ وقيل‏:‏ أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير‏.‏ والتحقيق أنه عام‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ ونِعَمُ الله وإن كانت لا تُحصى كما قال الله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏ تنحصر في جنسين‏:‏ دنيوي وأخروي‏.‏

فالأول‏:‏ وهو الدنيوي- قسمان‏:‏ موهبي وكَسْبِي، والموهبي قسمان‏:‏ رُوحاني، كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوي، كالفهم والفكر والنطق، وجسماني‏:‏ كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء‏.‏ والكسبي‏:‏ كتزكية النفس عن الرذائل، وتحليتها بالأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحُلي المستحسنة، وحصول الجاه والمال‏.‏

والثاني‏:‏ وهو الأُخروي‏:‏ أن يغفر له ما فَرَطَ منه ويرضى عنه ويُبوأهُ في أعلى علِّيين، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين، والمراد القسمُ الأخير، وما يكون وُصْلة إلى نيله من القسم الأول، وأما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن والكافر‏.‏

قال ابن جُزَيّ‏:‏ النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام، دنيوية‏:‏ كالصحة والعافية والمال الحلال‏.‏ ودينية‏:‏ كالعلم والتقوى والمعرفة‏.‏ وأخرويةٌ‏:‏ كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل‏:‏ وقال أيضاً‏:‏ والناس في الشكر على مقامين‏:‏ منهم مَن يشكر على النعم الواصلة إليه، الخاصة به، ومنهم مَن يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم‏.‏ والشكر على ثلاث درجات‏:‏ فدرجة العوام، الشكر على النعم، ودرجة الخواص‏:‏ الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص‏:‏ أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المُنعم‏.‏ قال رجل لإبراهيم بن أدهَمَ رضي الله عنه‏:‏ الفقراء إذا أُعْطُوا شَكَرُوا وإذا مُنعوا صَبَبروا، فقال إبراهيم‏:‏ هذه أخلاقُ الكلاب، ولكن القومَ إذا مُنِعوا شكروا وإذا أُعْطُوا آثروا‏.‏ ه‏.‏

ثم احترس من الطريق غير المستقيمة، فقال‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ أي‏:‏ غير طريق الذين غضبت عليهم، فلا تهدنا إليها ولا تسلك بنا سبيلها، بل سلَّمنَا من مواردها‏.‏ والمراد بهم‏:‏ اليهود، كذا فسرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَصْدُقُ بحسب العموم على كل من غضب الله عليهم، ‏{‏ولا الضالين‏}‏ أي‏:‏ ولا طريق الضالين، أي‏:‏ التالفين عن الحق، وهم النصارى كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏ والتفسيران مأخوذان من كتاب الله تعالى‏.‏ قال تعالى في شأن اليهود‏:‏ ‏{‏فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 90‏]‏، وقال في حق النصارى‏:‏ ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 77‏}‏‏.‏

واعلم أن الحق- سبحانه- قسم خلقه على ثلاثة أقسام‏:‏ قسم أعدَّهم للكرم والإحسان، ليُظْهِرَ فيهم اسم الكريم أو الرحيم، وهو المنعم عليه بالإيمان والاستقامة‏.‏ وقسم أعدَّهم للانتقام والغضب، ليُظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار، وهم المغضوب وعليهم والضالون عن طريق الحق عقلاً أو عملاً، وهم الكفار، وقسم أعدَّهم الله للحِلْم والعفو، ليُظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو، وهم أهل العصيان من المؤمنين‏.‏

فمن رَامَ أن يكونَ الوجودُ خالياً من هذه الأقسام الثلاثة، وأن يكون الناس كلهم سواء في الهداية أو ضدها، فهو جاهل بالله وبأسمائه؛ إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه في هذا الآدمي، من كرم وقهرية وحِلْم وغير ذلك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هي‏:‏ طريق الوصول إلى الحضرة، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وهو مقام التوحيد الخاص، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد، وليس فوقه إلا مقامُ توحيد الأنبياء والرسل، ولا بد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير، قد سلك المقامات ذوقاً وكشفاً، وحاز مقام الفناء والبقاء، وجمع بين الجذب والسلوك؛ لأن الطريق عويص، قليلٌ خُطَّارُهُ، كثيرٌ قُطَّاعُه، وشيطانُ هذا الطريق فَقِيهٌ بمقاماته ونوازِله، فلا بد فيه من دليل، وإلا ضلّ سالكها عن سواء السبيل، وإلا هذا المعنى أشار ابن البنا، حيث قال‏:‏

وَإِنَّمَا القَوْمُ مُسَافِرُونَ *** لِحَضْرَةِ الْحَقِّ وَظَاعِنُونَ

فَافْتَقَرُوا فِيهِ إلَى دَلِيل *** ذِي بَصَرٍ بالسَّيْرِ وَالْمَقِيلِ

قَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ ثُمَّ عَادَ *** لِيُخْبِرَ الْقَوْمَ بِمَا اسْتَفَادَ

وقال في لطائف المنن‏:‏ ‏(‏من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع، ويكشف له عن قلبه القناع، فهو في هذا الشأن لَقيطٌ لا أب له، دَعِيٍّ لا نَسَبَ له، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه، لم تَرْضْهُ سياسةُ التأديب والتهذيب، ولم يَقُدْهُ زمَانمُ التربية والتدريب‏)‏، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ مع الترقي الذي ذكره الشيخ أو العباس المرسي رضي الله عنه المتقدم، وإذا قرأ ‏{‏صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ استشعر، أَيْ‏:‏ أنعمتَ عليهم بالوصول والتمكين في معرفتك‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ اهدنا مُرَادَك مِنَّا؛ لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق، من الصدق والإخلاص في عبوديته وخدمته‏.‏ ثم قال‏:‏ وقيل‏:‏ اهدنا هُدَى العِيَانِ بعد البيان، لتستقيم لك حسب إرادتِك‏.‏ وقيل‏:‏ اهدنا هُدَى مَنْ يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه‏.‏ ثم قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ اهدنا، أي‏:‏ ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه، منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة‏.‏ ثم قال‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ اهدنا، أي‏:‏ ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام، وهو الطريق المستقيم والمنهاج القويم ‏{‏صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ أي‏:‏ منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ يعني‏:‏ المطرودين عن باب العبودية، ‏{‏ولا الضالين‏}‏ يعني المُفْلِسين عن نفائس المعرفة‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ والأحسن أن يقال‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ هم الذين أَوْقَفَهُمْ عن السير اتباعُ الحظوظ والشهوات، فأوقعهم في مَهَاوِي العصيان والمخالفات، ‏{‏ولا الضالين‏}‏ هم الذين حبسهم الجهل والتقليد، فلم تنفُذْ بصائرهم إلى خالص التوحيد، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد والبرهان، وهو ضلال عند أهل الشهود والعِيان، ولو بلغ في الصلاح غايةَ الإمكان‏.‏

وقال في الإحياء‏:‏ إذا قلت‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ فافْهَمْ أن الأمور كلها بالله، وأن المراد ها هنا المُسمَّى، وإذا كانت الأمورُ كلها بالله فلا جرَم أنَّ الحمد كله لله، ثم قال‏:‏ وإذا قلت‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ فأحضرْ في قلبك أنواعَ لطفه لتتفتحَ لك رحمتُه فينبعث به رجاؤُك، ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف من قولك‏:‏ ‏{‏يوم الدين‏}‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ثم جَدَّد الإخلاص بقولك‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏‏.‏ وجدَّد العجز والاحتياج والتبرِّيَ من الحوْل والقوة بقولك‏:‏ ‏{‏وإياك نستعين‏}‏، ثم اطلب اسم حاجتك، وقل‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ الذي يسوقنا إلى جوارك ويُفضي بنا إلى مرضاتك، وزِدْهُ شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين واليهود والنصارى والصابئين‏.‏ ه‏.‏ ملخصاً‏.‏

وقال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ الأمر في هذه الآية مضمر، أي‏:‏ قولوا‏:‏ اهدنا‏.‏ والصراط المستقيم‏:‏ طريق الحق، وهو ما عليه أهل التوحيد، أي‏:‏ أرشدْنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، فيقعَ على وجه التوحيد غُبَارُ الظنون والحسابات لتكون دليلنا عليك، ثم قال‏:‏ ‏{‏صراط الذين أنعمت عليهم‏}‏ أي‏:‏ الواصلين بك إليك، ثم قال‏:‏ ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ بنسيان التوفيق والتَّعامِي عن رؤية التأييد، ‏{‏ولا الضالين‏}‏ عن شهودِ سابقِ الاختيار، وجريان تصاريف الأقدار‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏‏}‏

وقد حارت العقول في رموز الحكماء، فكيف بالأنبياء‏؟‏ فكيف بالمرسلين‏؟‏ فكيف بسيد المرسلين‏؟‏، فكيف يطمع أحد في إدراك حقائق رموز رب العالمين‏؟‏‏!‏ قال الصديق رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏في كل كتاب سر، وسر القرآن فواتح السور‏)‏‏.‏ ه‏.‏ فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء‏.‏ وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه‏.‏

وأقرب ما فيها أنها أشياء أقسم الله بها لشرفها‏.‏ فقيل‏:‏ إنها مختصرة من أسمائه تعالى، فالألف من الله، واللام من اللطيف، والميم من مهيمن أو مجيد‏.‏ وقيل‏:‏ من أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم فالميم مختصرة إما من المصطفى، ويدل عليه زيادة الصاد في ‏{‏المص‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 1‏]‏، أو من المرسل، ويدل عليه زيادة في الراء ‏{‏المر‏}‏ ‏[‏الرعّد‏:‏ 1‏]‏‏.‏ و‏{‏الر‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 1‏]‏ مختصرة من الرسول‏.‏ فكأن الحق تعالى يقول‏:‏ يا أيها المصطفى أو يا أيها الرسول ‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 2‏]‏ أو هذا ‏{‏كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ أو غير ذلك، ويدل على هذا توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بعد هذه الرموز‏.‏ و‏{‏كهيعص‏}‏ ‏[‏مريَم‏:‏ 1‏]‏ مختصرة من الكافي والهادي والولي والعالم والصادق، و‏{‏طه‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 1‏]‏ من طاهر، و‏{‏طس‏}‏ ‏[‏النَّمل‏:‏ 1‏]‏ من يا طاهر يا سيد، ويا محمد في ‏{‏طسم‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 1‏]‏، إلى غير ذلك‏.‏

وعند أهل الإشارة يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ألف‏:‏ أفْرِدْ سِرَّك إِلّيَّ، انفراد الألف عن سائر الحروف، واللام‏:‏ لَيِّنْ جوارحك لعبادتي، والميم‏:‏ أقم معي بمحو رسومك وصفاتك، أزينك بصفاء الأنس والقرب مني‏.‏ قاله الثعلبي‏.‏

قلت‏:‏ والأظهر أنها حروف تشير للعوالم الثلاثة، فالألف لوحدة الذات في عالم الجبروت، واللام لظهور أسرارها في عالم الملكوت، والميم لسريان أمدادها في عالم الرحموت، والصاد لظهور تصرفها في عالم الملك‏.‏ وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر الذات في عالم الشهادة، فالألف يشير إلى سريان الوحدة في مظاهر الأكوان، واللام‏:‏ يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت، والميم يشير إلى تصرف الملك في عالم الملك، وكأن الحق تعالى يقول‏:‏ هذا الكتاب الذي تتلو يا محمد- هو فائض من بحر الجبروت إلى عالم الملكوت، ومن عالم الملكوت إلى الرحموت، ثم نزل به الروح الأمين إلى عالم الملك والشهادة، فلا ينبغي أن يرتاب فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏ذّلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏

قلت‏:‏ الريب‏:‏ تحرُّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام‏.‏

يقول الحقّ جلَ جلاله‏:‏ يا أيها الرسول المصطفى والنبيّ المجتبى ‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ‏}‏ الذي أنزلناه عليه من جبروت قدسنا وملكوت عزِّنا ‏{‏لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ أنه من عندنا‏.‏ فمن ارتاب فيه، أو نسبه إلى غيرنا، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا، وحلّت عليه شدائد نقمتنا، ومن تحقق به أنه من لدنا، وآمن بمن جاء به من عندنا، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا، فإذا أحببته كنت له، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يتكلم‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏ فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين، وكان في ذروة درجات المتقين، الذين يهتدون بهدي القرآن المبين، كما أشار إلى ذلك بقوله‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ قلت‏:‏ ‏{‏هدى‏}‏ خبر عن مبتدأ مضمر، أو مبتدأ بتقديم الخبر‏.‏ أي‏:‏ هو هاد للمتقين، أو فيه الهدى لهم‏.‏ والهدى‏:‏ هو الإرشاد والبيان، ومعناه‏:‏ الدلالة الموصلة إلى الحق‏.‏ والمتقي‏:‏ من جعل بينه وبين مقت الله وقاية، وله ثلاث درجات‏:‏

* حفظ الجوارح من المخالفات،

* وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات،

* وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات،

فالأولى لمقام الإسلام، وإليه توجه الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التّغَابُن‏:‏ 16‏]‏، والثانية لمقام الإيمان، وإليه توجه الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَأُوْلِي الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 100‏]‏، والثالثة لمقام الإحسان، وإليه توجه الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 102‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ الكِتَابُ‏}‏ الذي لا يقرب ساحتَه شكٍّ ولا ارتياب، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوي الألباب، فلا يزالون يَتَرَقَّوْنَ به في المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال، قد انمحت في حقهم الرسوم والأشكال، وهذه غاية الهداية، وتحقيق سابق العناية‏.‏

قال جعفر الصادق‏:‏ ‏(‏والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون‏)‏‏.‏

وقال أيضاً- وقد سألوه عن حالة لحقَته في الصلاة حتى خرّ مغشيّاً عليه، فلما سُرِّيَ عنه، قيل له في ذلك فقال‏:‏ ‏(‏ما زلت أرددت الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته‏)‏‏.‏

فدرجات القراءة ثلاث‏:‏

أدناها‏:‏ أن يقرأ العبد كانه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه، وهو ناظر له ومستمع منه، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرّع والابتهال‏.‏

والثانية‏:‏ أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم‏.‏

والثالثة‏:‏ أن يرى في الكلام المتكلم، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، بل يكون فانيّا عن نفسه، غائباً في شهود ربه، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار‏.‏

فالأولى لأهل الفناء في الأفعال، والثانية لأهل الفناء في الصفات، والثالثة لأهل الفناء في شهود الذات، رضي الله عنهم، وحشرنا على منهاجهم‏.‏‏.‏‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال، الأول‏:‏ عمل قلبي وهو الإيمان، والثاني‏:‏ عمل بدني، وهو الصلاة، والثالث‏:‏ عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها‏.‏

أما العمل القلبي‏:‏ فهو الإيمان أولاً، والمعرفة ثانياً، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى، وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتاً، والمستقبل حالاً، والآتي واقعاً، وقد قلت ذلك‏:‏

فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبّاً *** وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ

تَرَى الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيَانٍ *** تَحْظَى بالوصُولِ وبالتَّلاَقِي

وفي الحكم‏:‏ «لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها» وقال في التنوير‏:‏ ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان‏.‏ ه‏.‏

وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به؛ إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص، والله تعالى أعلم‏.‏

وأما العمل البدني‏:‏ فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها، قال تعالى ‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ‏}‏ ‏[‏الإسرَاء‏:‏ 78‏]‏، ‏{‏وَالْمُقِيمِى الصَّلاَةِ‏}‏ ‏[‏الحَجّ‏:‏ 35‏]‏، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4، 5‏]‏ ولم يقل‏:‏ فويل للمقيمين الصلاة‏)‏‏.‏

وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً، وهو من أفضل القربات، يقول الله- تبارك وتعالى‏:‏ «يا ابنَ آدم أنفِقْ، أنفقْ عليك»، وفي حديث آخر‏:‏ «أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالاً» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا»، قيل‏:‏ لِمَنْ هِي يا رسولَ الله‏؟‏ قال‏:‏ «لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ، وأفْشَى، السلام، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام» وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله- عزّ وجلّ- ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً، الجنةَ‏:‏ رَب البيتِ الآمرَ به، والزوجة تصلحه، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين» وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ باباً من السّوء»

وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صنائِع المعْرُوف تقي مَصارعَ السُّوءِ، وصدقةُ السِّر تُطفِئ غَضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العمرِ»‏.‏

الإشارة‏:‏ يا من غرق في بحر الذات وتيار الصفات ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ الذي تسمع من أنوار ملكوتنا، وأسرار جبروتنا ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أنه من عندنا، فلا تسمعه من غيرها، ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 18‏]‏، فهو هاد لشهود ذاتنا، ومرشد للوصول إلى حضرتنا، لمن اتقى شهود غيرِنا، وغرق في بحر وحدتنا، الذي يؤمن بغيب غيبنا، وأسرار جبروتنا، التي لا تحيط بها العلوم، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والفهوم، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، إظهاراً لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة، فهو على صلاته دائم، وقلبه في غيب الملكوت هائم، ينفق مما رزقه الله من أسرار العلوم ومخازن الفهوم، فهو دائماً ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه، فلا جرم أنه على بينة من ربه‏.‏

ولمَّا ذكر الحق تعالى من آمن من العرب، ذكر من آمن من أهل الكتاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الموصول مبتدأ، و‏{‏أولئك‏}‏ خبره، أو عطف على ‏{‏المتقين‏}‏، وحذف المنزل عليه في جانب الكتب المتقدمة، فلم يقُلْ‏:‏ وما أنزل على مَن قبلك؛ إشارة إلى أن الإيمان بالكتب المتقدمة دون معرفة أعيان المنزل عليهم كاف، إلا من ورد تعيينُه في الكتاب والسنّة فلا بد من الإيمان به، أما القرآن العظيم فلا بد من الإيمان أنه منزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أنه منزل على غيره كالروافض فإنه كافر بإجماع، ولذلك ذكر المتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جل جلاله‏:‏ ‏{‏وَالَّذينَ‏}‏ يصدقون ‏{‏بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ يا محمد من الأخبار الغيبية والأحكام الشرعية، والأسرار الربانية والعلوم اللدنية ‏{‏ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ من الكتب السماوية، والأخبار القدسية، وهم ‏{‏يُوقِنُونَ‏}‏ بالبعث والحساب والرجوع إلينا والمآب، على نعتٍ ما أخبرتُ به في كتابي وأخبار أنبيائي، ‏{‏أُولَئِكَ‏}‏ راكبون على مَتْنِ الهداية، مُسْتَعْلون على محمل العناية، محفوفون بجيش النصر والرعاية، ‏{‏وَأُولَئِكَ هُم‏}‏ الظافرون بكل مطلوب، الناجون من كل مخوف ومرهوب، دون من عداهم ممن سبق له الخذلان، فلم يكن له إيمان ولا إيقان، فلا هداية له ولا نجاح، ولا نجاة له ولا فلاح، نسأل الله العصمة بمنّه وكرمه‏.‏

الإشارة‏:‏ قلت‏:‏ كأن الآية الأولى في الواصلين، والثانية في السائرين، لأن الأولين وصفهم بالإنفاق من سعة علومهم، وهؤلاء وصفهم بالتصديق في قلوبهم، فإن داموا على السير كانوا مفلحين فائزين بما فاز به الأولون‏.‏ فأهل الآية الأولى من أهل الشهود والعيان، وأهل الثانية من أهل التصديق والإيمان‏.‏ أهل الأولى ذاقوا طعم الخصوصية، فقاموا بشهود الربوبية وآداب العبودية، وأهل الثانية صدقوا بنزول الخصوصية ودوامها، واستنشقوا شيئاً من روائح أسرارها وعلومها، فهم يوقنون بوجود الحقيقة، عالمون برسوم الطريقة، فلا جرم أنهم على الجادة وطريق الهداية، وهم مفلحون بالوصول إلى عين العناية‏.‏ دون الفرقة الثالثة التي هي الإنكار موسومة، ومن نيل العناية محرومة، التي أشار إليها الحق تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ خبر مقدم، و‏{‏أنذرتهم‏}‏ مبتدأ لسبك همزة التسوية، أي‏:‏ الإنذار وعدمه سواء في حق هؤلاء الكفرة، والجملة خبر إن، و‏{‏غشاوة‏}‏ مبتدأ، والجار قبله خبره، والغشاوة‏:‏ ما يغشى الشيء ويغطيه، كنى به عن مانع قهرهم عن الإيمان‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ يا محمد ‏{‏إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ بما أنزل إليك جهراً، وسبقت لهم مني الشقاوة سرّاً، لا ينفع فيهم الوعظ والإنذار، ولا البشارة والتذكار، فإنذارك وعدمه في حقهم سواء، لما سبق لهم مني الطرد والشقاء، فالتذكير في حقهم عناء، والغيبة عن أحوالهم راحة وهناء، لأني ختمتُ على قلوبهم بطابع الكفران، فلا يهتدون إلى إسلام ولا إيمان، ومنعت أسماعهم أن تصغي إلى الوعظ والتذكير، فلا ينجع فيهم تخويف ولا تحذير، وغشيت أبصارهم بظلمة الحجاب فلا يبصرون الحق والصواب، قد أعددتُهم لعذابي ونقمتي، وطردتهم عن ساحة رحمتي ونعمتي‏.‏

وإنما أمرتك بإنذارهم لإقامة الحجة عليهم، وإني وإن حكمت عليهم أنهم من أهل مخالفتي وعنادي؛ فإني لا أظلم أحداً من خلقي وعبادي، ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 149‏]‏‏.‏ فما ظلمتُهم؛ لأني بعثتُ الرسلَ مبشرين ومنذرين، ولكن ظلموا أنفسهم فكانوا هم الظالمين، فحكمتي اقتضيت الإنذار، وقدرتي اقتضت القهر والإجبار، فالواجب عليك أيها العبد أن تكون لك عينان‏:‏ عين تنظر لحكمتي وشريعتي فتتأدب، وعينٌ تنظر لقدرتي وحقيقتي فتُسلم، وتكون بي الأمن والرّهْب، فلا تأمَنْ مَكْرِي وإن أمَّنتُك، ولا تيأس من حلمي وإن أبعدتك، فعلمي لا يحيط به محيط، إلا من هو بكل شيء محيط‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الذين أنكروا وجود الخصوصية، جحدوا أهل مشاهدة الربوبية من أهل التربية النبوية، لا ينفع فيهم الوعظ والتذكير، بما سبق لهم في علم الملك القدير، فسواء عليهم أأنذرتهم وبال القطيعة والحجاب، أم لم تنذرهم؛ لعدم فتح الباب، قد ختم الله على قلوبهم بالعوائد والشهوات، أو حلاوة الزهد والطاعات، أو تحرير المسائل والمشكلات، وعلى سمع قلوبهم بالخواطر والغفلات، وجعل على أبصارهم غشاوة الحجاب، فلا يبصرون إلا المحسوسات، غائبون عن أسرار المعاني وأنوار التجليات، بخلاف قلوب العارفين، فإنها ترى من أسرار المعاني ما لا يُرى للناظرين، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

قلوبُ العَارفِينَ لَهَا عُيُونٌ *** تَرى ما لا يُرى للناظرينا

وألسنةٌ بأسْرارٍ تُنَاجِي *** تغيبُ عَنَ الكِرَام الكَاتِبِينَا

وأجنحةٌ تَطِيرُ بغير ريشٍ *** إلى ملكُوتٍ ربِّ العَالَمِينَا

فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم، وحجب العلماء بعلمهم عن معلومهم، واختصّ قوماً بنفوذ عزائمهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم، فهم في رياض ملكوته يتنزهون، وفي بحار جبروته يسبحون، ‏{‏لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافات‏:‏ 61‏]‏‏.‏

ولما ذكر الحق- جلّ جلاله- من أعلن بالإنكار، ذكر من أسَرَّ بالجحود وأظهر الإقرار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من‏}‏ موصوفة مبتدأ، والخبر مقدم، أي‏:‏ ومن الناس ناس يقولون كذا، والمخادعة‏:‏ إظهار خلاف ما يخفي من المكروه، وأصل الخدع‏:‏ الإخفاء، ومنه المخدع للبيت الذي يخبأ فيه المتاع‏.‏ وقيل‏:‏ الفساد لأن المنافقين يفسدون إيمانهم بما يُخْفُون، وجملة ‏{‏وما يشعرون‏}‏ حالية، أي‏:‏ غير شاعرين، والشعور‏:‏ التفطن، وفعله من باب كَرُمَ ونَصَرَ‏.‏ وليت شعري‏:‏ أي‏:‏ ليت فطنتي تدرك هذا، وجملة ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ تعليلية للمخادعة، والمرض‏:‏ الضعف والفتور، وهو هنا مرض القلوب بالشك والنفاق‏.‏ والعياذ بالله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ مَن هم مغموص عليهم بالنفاق كبعض اليهود والمنافقين، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يقولون‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِاللَّهِ وبِاليَومِ الآخِر‏}‏ وما هُم في عداد المؤمنين، ‏{‏يُخَادِعُونَ‏}‏ بزعمهم ‏{‏اللَّهَ وّالَّذينَ آمَنُوا‏}‏ بما يظهرون من الإيمان، ‏{‏وَمَا يَخْدَعُونَ‏}‏ في الحقيقة ‏{‏إلاَّ أَنفُسَهُمْ‏}‏؛ لأن وبال خداعهم راجع إليهم، ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أن خداعهم وبال عليهم، وإنما حصلت لهم هذه المخادعة لأن ‏{‏في قُلُوبِهِم‏}‏ مرضاً من الشك والحسد، فقلوبهم مذبذبة، وأنفسهم مغمومة، ‏{‏فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً‏}‏ على مرضهم بما ينزل عليهم من الآيات التي تفضحهم، ‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ في الآخرة- إذا قدموا على الله- ‏{‏عَذَابٌ‏}‏ موجع بسبب تكذيبهم رسول الله أو كذبهم على الله‏.‏ هذا مُضَمَّنُ الآية‏.‏

افتتح الحق- جلّ جلاله- بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة؛ لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعاً، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار‏.‏

الإشارة‏:‏ ومن الناس مَن يترامى بالدعوى على الخصوصية، ويدعي تحقيق مشاهدة الربوبية، وهو في الدرك الأسفل من العمومية، يظهر خلوص الإيمان وتحقيق العرفان، وهو في أودية الشكوك والخواطر حيران، وفي فيافي القطيعة والفَرْقِ ظمآن، لسانه منطلق بالدعوى، وقلبه خارب من الهدي، يخادع الله بالرضا عن عيوبه ومساوئه، ويخادع المسلمين بتزيين ظاهره، وباطنه معمور بحظوظه ومهاويه، يتزيى بِزِيِّ العارفين ويتعامل معاملة الجاهلين، ويصدق عليه قول القائل‏:‏

أمَّا الخِيَامُ فَإنَّها كخِيَامهمْ *** وأَرَى نِسَاءَ الحيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا

وما يخادع في الحقيقة إلا نفسه، حيث حرمها الوصول، وتركها في أودية الأكوان تجول، قلبه بمرض الفرق والقطعية سقيم، وهو يظن أنه في عداد مَن يأتي الله بقلب سليم، فزاده الله مرضاً على مرضه حيث رضي بسقمه وعيبه، وله عذاب الحرص والتعب في ضيق الحجاب والنصب بسبب كذبه على الله، وإنكاره على أولياء الله، فجزاؤه البعد والخذلان، وسوء العاقبة والحرمان، عائذاً بالله من المكر والطغيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏ ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه، أي‏:‏ قالوا نحن مصلحون، وقت قول القائل لهم‏:‏ لا تفسدوا، والجملة بيان وتقرير لخداعهم، أو معطوفة على ‏{‏مَن يَقُولُ ءَامَنَّا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏، أي‏:‏ ومن الناس فرقة إذا قيل لهم‏:‏ لا تفسدوا، قالوا‏:‏ إنما نحن مصلحون‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَإذَا قيل‏}‏ لهؤلاء المنافقين‏:‏ ‏{‏لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ‏}‏ بالمعاصي والتعويق عن الإيمان، وإغراء أهل الكفر والطغيان على أهل الإسلام والإيمان، وتهييج الحروب والفتن، وإظهار الهرج والمرج والمحن، وإفشاء أسرار المسلمين إلى أعدائهم الكافرين، فإن ذلك يؤدي إلى فساد النظام، وقطع مواد الإنعام، ‏{‏قَالُوا‏}‏ في جوابهم الفاسد‏:‏ ‏{‏إنما نحن مصلحون‏}‏ في ذلك، فلا تصح مخاطبتنا بذلك، فإن من شأننا الإصلاح والإرشاد، وحالنا خالص من شوائب الفساد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ‏}‏ هنالك، ولكن لا شعور لهم بذلك‏.‏

قلت‏:‏ فردّ الله ما ادعوه من الانتظام في سلك المصلحين بأقبح رد وأبلغه، من وجوه الاستئناف الذي في الجملة، والاستفتاح بالتنبيه، والتأكيد بإن وضمير الفعل، وتعريف الخبر، والتعبير بنفي الشعور، إذ لو شعروا أدنى شعور لتحققوا أنهم مفسدون‏.‏

وهذه الآية عامة لكل مَن اشتغل بما لا يعنيه، وعوق عن طريق الخصوص، ففيه شعبة من النفاق، وفي صحيح البخاري‏:‏ «ثَلاثٌ من كُنَّ فِيهِ كان مُنَافِقاً خالِصاً‏:‏ إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا أوْتُمِنَ خانَ»‏.‏

الإشارة‏:‏ وإذ قيل لمن يشتغل بالتعويق عن طريق الله والإنكار على أولياء الله‏:‏ أقصر من هذا الإفساد، وارجع عن هذا الغي والعناد، فقد ظهرت معالم الإرشاد لأهل المحبة والوداد‏.‏ قال‏:‏ إنما أنا مصلح ناصح، وفي أحوالي كلها صالح، يقول له الحق جلّ جلاله‏:‏ بل أفسدت قلوب عبادي، ورددتهم عن طريق محبتي وودادي، وعوقتهم عن دخول حضرتي، وحرمتهم شهود ذاتي وصفاتي، سددت بابي في وجه أحبابي، آيستهم من وجود التربية، وتحكمت على القدرة الأزلية، ولكنك لا تشعر بما أنت فيه من البلية‏.‏

ولقد صدق من سبقت له العناية، وأُتحف بالرعاية والهداية، حيث يقول‏:‏

فَهَذِهِ طريقَةُ الإشْرَاقِ *** كَانَتْ وتَبْقَى ما الوُجُودُ بَاقِ

وقال أيضاً‏:‏

وأَنْكَرُوهُ مَلاٌ عَوَامٌ *** لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُ فَهَامُوا

فَتُبْ أيها المذكر قبل الفوات، واطلب من يأخذ بيدك قبل الممات، لئلا تلقى الله بقلب سقيم، فتكون في الحضيض الأسفل من عذابه الأليم، فسبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم النظر لوجهه الكريم، منحنا الله منه الحظ الأوفى في الدنيا والآخرة‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الكاف من ‏{‏كَمَا آمَنَ‏}‏ صفة لمصدر محذوف، و‏{‏ما‏}‏ مصدرية‏.‏ أي‏:‏ إذا قيل لهم آمنوا إيماناً خالصاً من النفاق مثل إيمان المسلمين، أو من أسلم من جلدتهم، والسفه‏:‏ خفة وطيش في العقل، يقال‏:‏ ثوب سفيه، أي‏:‏ خفيف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَإذَا قِيلَ‏}‏ لهؤلاء المنافقين من المشركين واليهود‏:‏ اتركوا ما أنتم عليه من الكفر والجحود، وراقبوا الملك المعبود، وطهروا قلوبكم من الكفر والنفاق، وأقصروا مما أنتم فيه من العباد والشقاق و‏{‏آمنوا‏}‏ إيماناً خالصاً مثل إيمان المسلمين، لتكونوا معهم في أعلى عليين، «مَنْ أحَبَّ قَوْماً حُشرِ مَعهم»‏.‏ «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، ‏{‏قَالُوا‏}‏ مترجمين عما في قلوبهم من الكفر والنفاق‏:‏ ‏{‏أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفُهَاءُ‏}‏ الذين لا عقل لهم، إذ جُلهم فقراء ومَوَالي‏.‏

قال الحق تعالى في الرد عليهم وتقبيح رأيهم‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ‏}‏ لا غيرهم، حيث تركوا ما هو السبب في الفوز العظيم بالنعيم المقيم، وارتكبوا ما استوجبوا به الخلود في الدرك الأسفل من الجحيم ‏{‏وَلَكَن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏، ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَراء‏:‏ 227‏]‏، عبَّر الحق في هذه الآية ب ‏{‏لا يعلمون‏}‏ وفي الأولى ب ‏{‏لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعرَاف‏:‏ 95‏]‏؛ لأن الفساد في الأرض يدرك بأدنى شعور، بخلاف الإيمان والتمييز بين الحق والباطل؛ فيحتاج إلى زيادة تفكر واكتساب علم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وإذا قيل لأهل الإنكار على أهل الخصوصية، القاصدين مشاهدة عظمة الربوبية، قد تجرّدوا عن لباس العز والاشتهار، ولبسوا أطمار الذل والافتقار، آمنوا بطريق هؤلاء المخصوصين، وادخلوا معهم كي تكونوا من المقربين‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏أنؤمن كما آمن السفهاء‏}‏ ونترك ما نحن عليه من العز والكبرياء، قال الله تعالى في تسفيه رأيهم وتقبيح شأنهم‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم السفهاء‏}‏؛ حيث تعززوا بعز يفنى، وتركوا العز الذي لا يفنى، قال الشاعر‏:‏

تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً *** فَكَمْ عِزَّةً قَدْ نَالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ

إذَا كانَ مَنْ تَهْوَى عَزِيزاً، ولم تكُنْ *** ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ عَلَى الوَصْلِ

فلو علموا ما في طيّ الذل من العز، وما في طي الفقر من الغنى، لجالدوا عليه بالسيوف، ولكن لا يعلمون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ اللقاء‏:‏ المصادفة بلا قصد، والخلو بالشيء أو معه‏:‏ الانفراد به، ضمنه هنا معنى رجع، ولذلك تعدَّى بإلى، و‏(‏الشيطان‏)‏ فَيْعَالٌ، من شَطَنَ، إذا بعد، أو فَعْلاَن من شاط، إذا بطل، والاستهزاء بالشيء‏:‏ الاستخفاف بحقه، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في وصف المنافقين تقريراً لنفاقهم‏:‏ إنهم كانوا ‏{‏إذَا لَقُوا‏}‏ الصحابة أظهروا الإيمان، وإذا رجعوا ‏{‏إلَى شَيَاطِينِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كبرائهم المتمردين في الكفر والطغيان، ‏{‏قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ لم نخرج عن ديننا ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ‏}‏ بهم، ومستسخرون بشأنهم، نزلت في عبد الله بن أُبَيّ- رأس المنافقين- كان إذا لقي سعداً قال‏:‏ نعم الدين دين محمد، وإذا خلا برؤساء قومه من أهل الكفر، شدوا أيديكم على دين آبائكم‏.‏

وخرج ذات يوم مع أصحابه فاستقبلهم نفر من الصحابة- رضوان الله عليهم- فقال عبدُ الله لأصحابه‏:‏ انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال‏:‏ مرحباً بالصدِّيق سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عمر، فقال‏:‏ مرحباً بسيد بني عدي بن كعب، الفاروق، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بيد عَلِيّ؛ فقال‏:‏ مرحباً بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخِتِنِه، سيد بني هاشم، ما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليّ رضي الله عنه‏:‏ يا عبد الله، اتق الله ولا تنافق، فإن المنافقين شرُّ خليقة الله، فقال عبد الله‏:‏ مهلاً يا أبا الحسن، أنى تقول هذا‏؟‏ والله إن إيماننا كإيمانكم، وتصديقنا كتصديقكم، فنزلت الآية‏.‏

ثم ردّ الله تعالى عليهم فقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يفعل بهم فعل المستهزئ؛ بأن يفتح لهم باباً إلى الجنة وهم في النار، ويطلع المؤمنين عليهم، فيقول لهم‏:‏ ادخلوا الجنة، فإذا جاءوا يستبقون إليها وطمعوا في الدخول، سُدَّتْ عليهم ورجعوا إلى النار، ‏{‏فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ‏}‏ ‏[‏المطفّفِين‏:‏ 34‏]‏ الآية‏.‏

‏{‏وَيَمُدُّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يمهلهم ‏{‏فِي‏}‏ كفرهم، و‏{‏طُغْيَانِهِمْ‏}‏ يتحيرون إلى يوم يبعثون؛ لأنهم ‏{‏اشْتَرُوا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى‏}‏ أي‏:‏ استبدلوا بها رأس مالهم، فضلاً عن الربح، إذ الإيمان رأس المال، وأعمال الطاعات ربح، فإذا ذهب الرأس فلا ربح؛ ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ‏}‏، بل خسرت صفقتهم، ‏{‏وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏ إلى أسباب الربح أبداً، لاستبدالهم الهدى- التي هي رأس المال- بالضلالة- التي هي سبب الخسران‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

وها هنا استعارات وبلاغات يطول سردها، إذ مرادنا تربية اليقين بكلام رب العالمين‏.‏

الإشارة‏:‏ الناس في طريق الخصوص على أربعة أقسام‏:‏

قسم‏:‏ سبقت لهم من الله العناية، وهبت عليهم ريح الهداية‏:‏ فصدقوا ودخلوا فيها، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فَتَجِرُوا فيه وربحوا، فعوّضهم الله تعالى جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاءوا، فإذا قدموا عليه أدخلهم جنة الزخارف، يسرحون فيها حيث شاءوا، وأتحفهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم‏.‏

وقسم‏:‏ سبقت لهم من الله الهداية، وحفتهم الرعاية، فصدقوا وأقروا، ولكنهم ضعفوا عن الدخول، ولم تتعلق همتهم بالوصول، فبقوا في ضعفاء المسلمين ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وقسم‏:‏ أنكروا وأظهروا وجحدوا وكفروا، فتجروا وخسروا، «مَنْ عَادَى لي وَلِياً فقَد آذنْتُهُ بالْحَربِ»‏.‏

وقسم رابع‏:‏ هم مذبذبون بين ذلك إذا لقوا أهل الخصوصية قالوا‏:‏ آمنا وصدقنا فأنتم على الجادة، وإذا رجعوا إلى أهل التمرد من المنكرين- طعنوا وجحدوا، وقالوا‏:‏ إنما كنا بهم مستهزئين، ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ بما يظهر لهم من صور الكرامات والاستدراجات، ويمدهم في تعاطي العوائد والشهوات، وطلب العلو والرئاسات، متحيرين في مهامه الخواطر والغفلات، ‏{‏أولئك الذي اشتروا الضلالة‏}‏ عن طريق الخصوص من أهل الوصول، ‏{‏بالهدى‏}‏ الذي كان بيدهم، لو حصل لهم التصديق والدخول، فما ربحوا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين إلى بلوغ المأمول‏.‏ قال بعض العارفين‏:‏ ‏(‏التصديق بطريقتنا ولاية، والدخول فيها عناية، والانتقاد عليها جناية‏)‏‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏استوقد‏}‏ يحتمل أن تكون للطلب، أو زائدة بمعنى أوقد، و‏{‏لما‏}‏ شرطية، و‏{‏ذهب‏}‏ جواب، وإذا كان لفظ الموصول مفرداً واقعاً على جماعة، يصح في الضمير مراعاة لفظه فيفرد، ومعناه فيجمع، فأفرد في الآية أولاً، وجمع ثانياً، ويقال‏:‏ أضاء يضيء إضاءة، وضَاء يضُوء ضَوْءاً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ مثل هؤلاء المنافقين من اليهود ‏{‏كَمَثَلِ‏}‏ رجل في ظلمة، تائه في الطريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق القصد ‏{‏فَلَمَّا‏}‏ اشتغلت و‏{‏أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ فأبصر الطريق، وظهرت له معالم التحقيق، أطفأ الله تلك النار وأذهب نورها، ولم يبق إلا جمرها وحرّها‏.‏ كذلك اليهود كانوا في ظلمة الكفر والمعاصي ينتظرون ظهور نور النبيّ صلى الله عليه وسلم ويطلبونه، فلما قدم عليهم، وأشرقت أنواره بين أيديهم كفروا به، فأذهب الله عنهم نوره، ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ‏}‏ الكفر والشك والنفاق، ‏{‏لاَّ يُبْصِرُونَ‏}‏ ولا يهتدون، ‏{‏صُمٌّ‏}‏ عن سماع الحق، ‏{‏بُكْمٌ‏}‏ عن النطق به ‏{‏عُمْي‏}‏ عن رؤية نوره، ‏{‏فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ عن غيّهم، ولا يقصرون عن ضلالتهم‏.‏

الإشارة‏:‏ مَثَلُ مَنْ كان في ظلمات الحجاب قد أحاطت به الشكوك والارتياب، وهو يطلب من يأخذ بيده ويهديه إلى طريق رشده، فلما ظهرت أنوار العارفين، وأحدقت به أسرار المقربين، حتى أشرقت من نورهم أقطارُ البلاد، وحَيِيَ بهم جلّ العباد، أنكرهم وبعد منهم، فتصامم عن سماع وعظهم، وتباكَمَ عن تصديقهم، وعَمِيَ عن شهود خصوصيتهم، فلا رجوع له عن حظوظه وهواه، ولا انزجار له عن العكوف على متابعة دنياه، مثله كمن كان في ظلمات الليل ضالاً عن الطريق، فاستوقد ناراً لتظهر له الطريق، فلما اشتعلت وأضاءت ما حوله أذهب الله نورها، وبقي جمرها وحرّها، وهذه سنة ماضية‏:‏ لا ينتفع بالولي إلا مَن كان بعيداً منه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أزْهَدُ النَّاسِ في العَالِم جيرانُه»، وقد مَثَّلُوا الولي بالنهر الجاري كلما بَعُدَ جَرْيُه عَمَّ الانتفاعُ به، ومثَّلوه أيضاً بالنخلة لا تُظِلُّ إلا عن بُعْد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ للتنويع، أو بمعنى الواو، و‏{‏الصيب‏}‏‏:‏ المطر، فَيْعِلٌ، من صاب المطر إذا نزل، وهو على حذف مضاف، أي‏:‏ أو كذي صيب، وأصله‏:‏ صيوب، كسيد، قلبت الواو ياء وأدغمت، ولا يوجد هذا إلا في المعتل كميت وهين وضيق وطيب‏.‏

و ‏{‏الرعد‏}‏‏:‏ الصوت الذي يخرج من السحاب، و‏{‏البرق‏}‏‏:‏ النور الذي يخرج منه‏.‏ قال ابن عزيز‏:‏ رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنَّ الله عزَّ وجلَّ ينشىءُ السَّحَابَ فَتنطِقُ أحْسَنَ النطْق، وتَضْحَكُ أحسَنُ الضحك، فنطقها الرعدُ، وضَحِكُها البَرْقُ» وقال ابن عباس‏:‏ «الرعدُ مَلَكٌ يسوقُ السَّحابَ، والبرقُ سَوْطٌ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ بهِ السَّحَاب‏)‏‏.‏ ه‏.‏ والصواعق‏:‏ قطعة من نار تسقط من المخراق الذي بيد سائق السحاب، وقيل‏:‏ تسقط من نار بين السماء والأرض، والله تعالى أعلم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ومثل المنافقين أيضاً كأصحاب مطر غزير ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ‏}‏ وهدير أصابهم في ليلة مظلمة وقفراء مُدْلهمة‏.‏ فيه ‏{‏بَرْقٌ‏}‏ يلمع، وصاعقة تقمع، إذا ضرب الرعد وعظم صوته جعلوا ‏{‏أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم‏}‏ من الهول والخوف حذراً من موت أنفسهم، وقد ماتت أرواحهم وقلوبهم، وإذا ضرب البرق كاد ‏{‏أن يخطف أبصارهم‏}‏، فإذا لمع أبصروا الطريق، و‏{‏مشوا فيه، وإذا أظلم عيهم قاموا‏}‏ متحيرين حائدين عن عين التحقيق، ‏{‏وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُ‏}‏ ‏[‏البُرُوج‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ‏}‏ بصوت ذلك الرعد، ‏{‏وَأَبْصَارِهِمْ‏}‏ بلمعان ذلك البرق، ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ لا يعجزه شيء‏.‏

هذا مثلهم في تحيّرهم واضطرابهم، فيحتمل أن يكون من التشبيه المركب، وهو تشبيه الجملة بالجملة، أو من المفَصَّل، فيكون المطر مثالاً للقرآن، وفيه ذكر الكفر والنفاق المُشَبَّهَيْن بالظلمات، والوعد عليه والزجر المشبّه بالرعد، والحُجج الباهرة التي تكاد أحياناً تبهرهم المشبهة بالبرق، وتخوفهم وروعُهم هو جَعْل أصابعهم في آذانهم، لئلا يسمعون فيميلوا إلى الإيمان، وفَضْحُ نفاقهم وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها هي الصواعق‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل الخصوصية إذا ظهروا بين العموم بأحوال غريبة وعلوم وَهْبية، وأسرار ربانية وأذكار نورانية، دهشوا منهم وتحيّروا في أمرهم، وخافوا على أنفسهم، فإذا سمعوا منهم علوماً لدنية وأسراراً ربانية فرّوا منها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، خوفاً على نفسهم أن تفارق عوائدها وهواها، وإذا خاصمهم أحد من العموم ألجموه بالحجة، فتكاد تلك الحجة تخطفه إلى الحضرة، كلما لمع له شيء من الحق مشى إلى حضرته، وإذا كرّت عليه الخصوم والخواطر، وأظلم عليه الحال، وقف في الباب حيران، ولو شاء الله لذهب بعقله وسمعه وبصره، فيبصر به إلى حضرته‏.‏ من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِراً‏}‏

‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

فالصِّيَّب الذي نزل من السماء كِنَايةٌ عن الواردات والأحوال التي ترد على قلوب العارفين، ويظهر أثرها على جوارحهم، والظلمات التي فيها كناية عن اختفاء بعضها عن أهل الشريعة فينكرونها، والرعد كناية عن اللهج بذكر الله جهراً في المحافل والحلق، والبرق كناية عن العلوم الغريبة التي ينطقون بها والحجج التي يحتجون بها على الخصوم، فإذا سمعها العوام اشمأزت قلوبهم عن قبولها، فإذا وقع منهم إنصاف تحققوا صحتها فمالوا إلى جهتها، ومَشَوْا إلى ناحيتها، فإذا كَرَّت عليهم الخصوم قاموا منكرين، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ ‏[‏هُود‏:‏ 118‏]‏‏.‏

ولما ذكر الحق من تخلق بالإيمان ظاهراً وباطناً، ومن تحلّى به كذلك، ومن أخفى الكفر وأظهر الإيمان، دعا الكل إلى توحيده وعبادته‏.‏