فصل: سورة الملك

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة الملك

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏تباركَ‏}‏ أي‏:‏ تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين فالبركة‏:‏ السمو والزيادة، حسية أو عقلية، وكثرة الخير ودوامه، والمعنى الأول أنسب للمقام، باعتبار تعاليه عزّ وجل عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله، وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك؛ فإنَّ ما لا يصح نسبته إليه تعالى من الصيغ، كالتكثُّر ونحوه، إنما يُنسب إليه تعالى باعتبار غاياتها‏.‏ وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه تعالى على مخلوقاته من فنون الخيرات، أي‏:‏ تعالى بالذات عن كل ما سواه‏.‏ ‏{‏الذي بيده المُلك‏}‏ أي‏:‏ بيده التصرُّف التام والاستيلا ء على كل موجود، وهو مالك المُلك، يُؤتيه مَن يشاء، وينزعه عمن يشاء، واليد‏:‏ مجاز عن القدرة التامة، والاستيلاء الكامل‏.‏ ‏{‏وهو على كل شيءٍ‏}‏ من المقدورات، أو من الإنعام والانتقام ‏{‏قديرٌ‏}‏؛ مبالغ في القدرة يتصرف فيه على حسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكم البالغة‏.‏

والجملة‏:‏ معطوفة على الصلة، مقرِّرة لمضمونها، مفيدة لجريان أحكام مُلكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها، دالة على العموم والشمول في أنه متصرف في أحوال المُلك في إيجاد أعيان الأشياء؛ المتصرّف فيها وفي إيجاد عوارضها الذاتية‏.‏ ولو اقتصر على قوله‏:‏ ‏{‏بيده الملك‏}‏ لأوهم قصوره على تغيُّر أحوال المُلك فقط‏.‏

ثم أحال على ما هو مُشاهد من التصرُّف بقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق الموتَ والحياةَ‏}‏ أي‏:‏ موتكم وحياتكم أيها المكلّفون‏.‏ ومعنى خلق الموت والحياة‏:‏ إيجاد ما يصحح الإحساس وإعدامه‏.‏ والموت عند أهل السنة‏:‏ صفة وجودية مضادة للحياة، وأمّا ما رُوي عن ابن عباس‏:‏ أنه تعالى خلق الموتَ في صورة كبش أملح، لا يمر بشيء ويجد ريحه إلاّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس، لا يَمر والا يجد رائحتها شيء إلاّ حيى «فوارد على منهاج التمثيل والتصوير، ويجوز أن يكون حقيقة، إذ القدرة صالحة‏.‏ وتقديم الموت لأنه أدعى لأحسن العمل، الذي هو حكمة خلق الموت والحياة، المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم أَيُّكم أحسنُ عملا‏}‏ أي‏:‏ خلق موتكم الذي يعمّ الأمير والأسير، والحياة التي لا تبقى لعليل ولا طبيب، ليُعاملكم معالمة مَن يختبركم أيكم أحسن عملاً؛ فيُجازيكم على مراتب متفاوتة، حسب طبقات علومكم وأعمالكم؛ فإنَّ العمل غير مختص بالجوارح، ولذلك فسَّره صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏» أيكم أحسن عقلاً، وأردع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله «، وفي رواية‏:‏» أيكم أحسن عقلاً، وأشدكم له خوفاً، وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً، ون كانوا أقلّكم تطوُّعاً «وقال ابن عباس وغيره‏:‏ أيكم أزهد في الدنيا‏.‏

قال القشيري‏:‏ كيف تكونوا في الصبر في المحنة، والشكر عند المنّة‏.‏ وقال النسفي‏:‏ ‏{‏أيكم أحسن عملاً‏}‏‏:‏ أخلصه وأصوبه، فالخالص‏:‏ أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السُنَّة والمراد‏:‏ أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلّط عليكم الموت، الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، فما وراءه إلاّ البعث والجزاء، الذي لا بدّ منه، ولمّا قدّم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر صفة اللطف قدّم صفة القهر على صفة اللطف بقوله‏:‏ ‏{‏وهو العزيزُ‏}‏‏:‏ الغالب، الذي لا يُعجزه مَن أساء العمل، ‏{‏الغفور‏}‏؛ الستور، الذي لاييأس منه أهل الإساءة والزلل‏.‏

ه‏.‏

ثم استشهد على تمام قدرته بقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق سبعَ سمواتٍ طِباقاً‏}‏ أي‏:‏ متطابقة بعضها فوق بعض، من طباق النعلَ‏:‏ أذا خصفها طبقاً على طبق، وهو مصدر وصف به، أو‏:‏ ذات طباق، أو‏:‏ طوبقت طباقاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ترى في خَلْقِ الرحمنِ من تفاوتٍ‏}‏ صفة أخرى لسبع سموات، وضع فيها «خَلْق الرحمن» موضع الضمير للتعظيم، والإشعار بعلة الحكم، وبأنه تعالى خلقها بقدرته، رحمةً وتفضُّلاٍ، ولأنَّ في إبداعها نعماً جليلة‏.‏ أو‏:‏ استئناف‏.‏ والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحدٍ يصلح للخطاب، و«مِن» لتأكيد النفي، أي‏:‏ ما ترى فيه شيئاً من تفاوت، أي‏:‏ اختلاف وعدم تناسب أو اضطراب‏.‏ وعن السدي‏:‏ من عيْبٍ‏.‏ وحقيقة التفاوت‏:‏ عدم التناسب، كأنّ بعضاً يفوت بعضاً‏.‏ وقرأ الأخوان‏:‏ «تَفَوُّت» كالتعاهد والتعهّد والبناء لواحد‏.‏ ‏{‏فارجع البصرَ‏}‏ أي‏:‏ ردَّه إلى السماء، حتى يصحَّ عندك ما أُخْبِرْت به معاينةً، حتى لا يبقى شُبهة‏.‏ ‏{‏هل ترى من فطورٍ‏}‏؛ صدروع وشقوق، جمع‏:‏ فَطَر، وهو الشقّ، يقال‏:‏ فطره فانفطر‏.‏

‏{‏ثم ارجع البصرَ كرتينِ‏}‏ أي‏:‏ كرّره رجعتين مع الأُولى، فتكون ثلاثاً، أو‏:‏ بالأُولى، وقيل‏:‏ لمَ يُرد الاقتصار على مرتين، بل أراد به التكرير بكثرةٍ، أي‏:‏ كرر نظرك ودقّقه مراراً، هل ترى خللاً أو عيباً في السموات‏؟‏ وجواب الأمر‏:‏ ‏{‏ينقلبْ‏}‏؛ يرجع ‏{‏إليك البصرُ خاسئاً‏}‏؛ ذليلاً، أو‏:‏ بعيداً مما تريد، وهو حال من البصر، ‏{‏وهو حَسِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ كليل لطول المعاودة، وكثرة المراجعة، ولم يحصل ما قصد‏.‏

ثم بيَّن حُسنها وبهجتها، فقال‏:‏ ‏{‏ولقد زيَّنا السماءَ الدنيا‏}‏ أي‏:‏ القُربى منكم ‏{‏بمصابيحَ‏}‏ أي‏:‏ بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السراج فيه، زينةً لسقف هذه الدار، من السيارة والثوابت، تتراءى كأنها كلها مركوزة فيها، مع أنَّ بعضها في سائر السموات، وما ذلك إلاَّ لأنَّ كل واحدة منها مخلوقة على نمط رائق، تحار في فهمه الأفكار، وطراز فائق تهيم في دركه الأنظار‏.‏ قال الفخر‏:‏ وليس في هذه الآية ما يدل على أنَّ الكواكب مركوزة في سماء الدنيا، وذلك لأنَّ السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في سماء الدنيا، أو في سماء أخرى فوقها، فهي لا بد أن تظهر في سماء الدنيا، وتلوح فيها، فعلى كِلا التقديرين فالسماء الدنيا مُزَيّنة بها‏.‏

ه‏.‏

‏{‏وجعلناها رُجوماً للشياطين‏}‏ أي‏:‏ وجعلنا فيها فائدة أخرى، هي‏:‏ رجم أعدائكم الذي يُخرجونكم من النور إلى الظلمات، بانقضاض الشُهب المقتَبسة منها، فيأخذ المَلك شعلة من نار الكوكب ويضرب بها الجني، فيقتله، أو يخبِّله فيرجع غُولاً يُفزع الناسَ، وأمّا الكواكب فلا تزول عن أماكنها؛ لأنها قارّة في الفلك‏.‏ قال قتادة‏:‏ خلق الله النجوم لثلاث‏:‏ زينة السماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمَن تأوّل فيها غير ذلك، فقد تكلّف ما لا علم له به‏.‏ ‏{‏وأعتدنا لهم‏}‏؛ للشياطين ‏{‏عذابَ السعير‏}‏ بعد الإحراق في الدنيا بالشُهب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ تبارك الذي بيده المُلك الملُك الظاهري والمُلك الباطني، يُعطيهما مَن يشاء، ويمنعهما مَن يشاء، فالمُلك الظاهري عز يفنى والملك الباطني عز يبقى، وهما ضدان لا يجتمعان في شخص واحد، ولا يتفقان بل أحدهما يغير من الآخر، والمراد بالملك الباطني‏:‏ معرفة الشهود والعيان، فلا يناسبها إلاّ الخمول، ولا تقوم إلاّ به، ومهما ظهرت أخذ صاحبها وصدمته الحوافر‏.‏ الذي خلق الموتَ في بعض القلوب والأرواح، فكانت ميتة جاهلة ذليلة حقيرة، والحياةَ في بعضها، فكانت حيّة عارفة مالكة عزيزة، فعل ذلك ليبلوكم أيك أحسنُ عملاً بالإقبال على الله، والتوجٌّه بكليته إليه، أو بالإدبار عنه، والإعراض عن الداعي إليه‏.‏ وقيل‏:‏ أحسن العمل‏:‏ نيسان العمل ورؤية الفضل‏.‏ ه‏.‏ والمراد‏:‏ أنه يجتهد في العمل، ويغيب عنه، ومَن جعل الموتَ نُصب عينيه لا محالة يجتهد، ولله در القائل‏:‏

وَفِي ذِكْرِ هولِ الموتِ والقَبْر والبلاَ *** عَن الشغْل باللذَّاتِ للمرء زَاجِر

أَبَعْدَ اقْتِرابِ الأَربَعينَ تَربُّص *** وشَيْب فَذاك مُنْذِرٌ لك ذَاعِر

فَكَمْ في بُطون الأرضِ بعد ظُهورها *** مَحَاسِنهم فيها بوَالٍ دَوَاثِر

وأنت على الدنيا مُكب مُنَافِس *** لِحُطَامِها فيها حَريص مُكاثر

علَى خطرٍ تُمسي وتُصبح لاَهِياً *** أَتدْرِي بماذا لَوْ عقلت تُخاطِر

وَإِنْ أحد يَسعى لدُنياه جَاهداً *** ويَذْهلُ عن أخراه لآ شَكَّ خاسِر

فَجدّ ولا تَغفَل، فَعَيشك زائِل *** وأَنْتِ إِلى دارِ الْمَنِيَّةِ صَائِر

وهو العزيز يُعز مَن أقبل عليه، والغفور لمَن رجع بعد الإعراض إليه‏.‏ الذي خلق سبعَ سموات الأرواح، وتقدّم قريباً تفسيرها، وعالم الأوراح في غاية الإتقان، ليس فيه خلل ولا تفاوت، ولقد زيَّنا السماء الدنيا‏.‏ قال القشيري‏:‏ أراد بسماء الدنيا سماء القلب، لدنوه من سماء الروح، أي‏:‏ زيّنا ونوّرنا سماء القلب بمصابيح العلم وأنوار الواردات القلبية، وسبحات الإلهامات الربانية، وجعلناها رجوماً للشياطين؛ الخواطر النفاسية، والهواجس الظلمانية الشيطانية، وأعتدنا لتلك الخواطر عذابَ السعير، فيحترق بالخواطر الملكية والرحمانية‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏6‏)‏ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ‏(‏7‏)‏ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ‏(‏8‏)‏ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏10‏)‏ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وللذين كفروا بربهم‏}‏ أي‏:‏ ولكل مَن كفر بالله مِن الشياطين وغيرهم ‏{‏عَذابُ جهنم‏}‏ يُعذّبون بها جميعاً، ‏{‏وبئس المصيرُ‏}‏، المرجع جهنم‏.‏ ‏{‏إِذا أُلقوا فيها‏}‏؛ طُرحوا في جهنم، كما يُطرح الحطب في النار، ‏{‏سَمِعُوا لها‏}‏؛ لجهنم ‏{‏شهيقاً‏}‏؛ صوتاً منكراً، كصوت الحمير‏.‏ شبّه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق‏.‏ ‏{‏وهي تفور‏}‏؛ تغلي بهم كغليان المِرُجَل بما فيه‏.‏

‏{‏تكاد تميَّزُ‏}‏ أي‏:‏ تتميّز، يعني‏:‏ تتقطّع وتتفرّق وينفصل بعضها من بعض ‏{‏من الغيظ‏}‏ وذلك حين تمد عنقها إليهم، لتستولي عليهم‏.‏ وغيظها حقيقة بالإدراك الذي خلقه الله فيها‏.‏ ‏{‏كلما أُلْقِي فيها فوجٌ‏}‏؛ جماعة من الكفار ‏{‏سألهم خزنتُها‏}‏ مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم نذير‏}‏؛ رسولٌ يُخوفكم من هذا العذاب الفظيع‏؟‏ ‏{‏قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ‏}‏، اعترفوا بعدل الله، وأنَّ الله أزاح عذرهم ببعث الرسل، وإنذارهم ما وقعوا فيه، تحسُّراً على ما فاتهم من السعادة وتمهيداً لِما وقع منهم من التفريط تندُّماً اغتماماً على ذلك، ‏{‏فكذَّبنا‏}‏ ذلك النذير في كونه نذيراً من جهته تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا ما نزَّل اللهُ من شيءٍ‏}‏ مما يقولون من وعد ووعيد، وغير ذلك، ‏{‏إِن أنتم إِلاَّ في ضلالٍ كبير‏}‏ أي‏:‏ قال الكفار للمنذِّرين‏:‏ ما أنتم إلاّ في خطأ عظيم، بعيد عن الصواب‏.‏

وجمع ضمير الخطاب مع أنَّ مخاطب كل فوج نذيرُه؛ لتغليبه على أمثاله، مبالغةً في التكذيب، وتمادياً في التضليل، كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه، فإنه مُلوح لعمومه حتماً، أو‏:‏ إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل‏.‏ ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلا في ضلال كبير‏}‏ من كلام الخزنة للكفار، على إرادة القول، ومرادهم بالضلال‏:‏ الهلاك، أو‏:‏ سمُّوا جزاء الضلال باسمه، كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ مشاكلة، أو‏:‏ يكون من كلام الرسل، حكوه للخزنة، اي‏:‏ قالوا لنا هذا فلم نهتبله‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ أيضاً معترفين بتفريطهم‏:‏ ‏{‏لو كنا نسمعُ‏}‏ الإنذار سماع طالب الحقّ ‏{‏أو نعقلُ‏}‏ شيئاً ‏{‏ما كنا في أصحاب السعير‏}‏ في عِددهم، ومن أتباعهم، من الشياطين وغيرهم، وفيه دليل على أنَّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل، وأنهما حجتان‏.‏ ‏{‏فاعترَفوا بذنبهم‏}‏، الذي هو كفرهم وتكذيبهم الرسل في وقت لا ينفعهم، ‏{‏فسُحقاً لأصحابٍ السعير‏}‏ أي‏:‏ أبعدهم من رحمته وكرامته، وهو مصدر مؤكد لعامله، أي‏:‏ فسُحقوا سحقاً، أو‏:‏ فأسحقهم الله سحقاً، بحذف الزوائد‏.‏ وفيه معنى الدعاء‏.‏

الإشارة‏:‏ وللذين كفروا بشهود ربهم في الدنيا عذابُ جهنم، وهو البُعد والحجاب، وبئس المرجع حين يرجع المقربون إلى مقعد صدق، عند مليك مقتدر، إذا أُلقوا في الحُجبة والقطيعة سمعوا لها شهيقاً غيظاً عليهم، وسخطة بهم، وبصفاتهم المضلة، وهي تفور من قُبح أعمالهم‏.‏ تكاد تميّز من الغيظ عليهم، كلما أُلقي فيها فوج من أهل الغفلة، قال لهم خزنتها وهم صور أعمالهم وهيئة أخلاقهم الردية‏:‏ ألم يأتكم نذير؛ داع يدعوكم إلى الله، من العارفين بالله‏؟‏ فاعترفوا بأنهم أنكروهم وجحدوا خصوصيتهم، فماتوا محجوبين عن الله، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏12‏)‏ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏13‏)‏ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يخشَون ربهم بالغيب‏}‏ أي‏:‏ يخافون عذابه غائباً عنهم، أو‏:‏ عن أعين الناس، أو‏:‏ بالقلب؛ لأنّ القلب أمر غيبي، أو‏:‏ يخشون ربهم ولم يروه معاينة، ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ لذنوبهم ‏{‏وأجر كبير‏}‏ لا يقادر قدره، الجنة وما فيها‏.‏

‏{‏وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به‏}‏، ظاهره‏:‏ الأمر بأحد الأمرين؛ الإسرار والإجهار ومعناه‏:‏ ليستوِ عندكم إسراركم وإجهاركم، فإنه في عِلْم الله سواء‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏سَوَآءٌ مِنكُم مَّنْ أَسَرَ القول وَمَن جَهَرَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏، وكأنه تعالى لمّا قال‏:‏ ‏{‏يخشون ربهم بالغيب‏}‏ ربما يتوهم أن الله تعالى يغيب عنه شيء، رفع ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إنَّ المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُخبره جبريلُ عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فقالوا فيما بينهم‏:‏ أسِروا قولكم لئلا يسمع رب محمد فيخبره، فنزلت‏.‏ وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم، ووقوع ما يحذرونه، وللمبالغة في شمول علمه تعالى، المحيط بجميع المعلومات، كأنَّ عِلْمَه تعالى بما يُسرونه أقدم منه بما يجهرونه، مع كونهما في الحقيقة على السواء، ولأنَّ مرتبة السر أقدم وجوداً؛ لأنّ ما يقع به الجهر يتقدّم التحدُّث به في النفس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه عليم بذات الصدور‏}‏ تعليل لِما قبله، أي‏:‏ عليم بضمائر الصدور قبل أن تترجم الألسنة، فكيف لا يعلم ما تتكلم به‏.‏ وفي صيغة «فعيل»، وتحلية «الصدور» بلام الاستغراق، ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا غاية وراءه، كأنه قيل‏:‏ إنه مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية، المستكنة في صدروهم فكيف يخفى عليه ما يُبدونه‏؟‏ ويجوز أن يراد ب ‏{‏ذات الصدور‏}‏‏:‏ القلوب التي في الصدور، أي‏:‏ عليم بالقلوب وأحوالها، فلا يخفى عليه من أسرارها، ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ «مَنْ» فاعل بيعلم، ‏{‏وهو اللطيفُ الخبيرُ‏}‏ أنكر أن يكون مَن خلق الأشياء وأوجدها غير عالم بباطنها وظاهرها، وصفته أنه اللطيف، أي‏:‏ العالِم بدقائق الأشياء الخبير؛ العالم بحقائقها‏.‏ ويجوز أن يكون ‏(‏مَن‏)‏ مفعولاً، أي‏:‏ ألاَ يعلم اللهُ مَن خلقه‏.‏

وفيه على الأول دليل على خلق أفعال العباد، وهو مذهب أهل السنة، ووجه الدليل‏:‏ أنه تعالى لمّا قرر أنه عالم بالسر والجهر، وبكل ما في الصدور، قال بعده‏:‏ ‏{‏ألا يعلم مَن خَلَقَ‏}‏، وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله إذا كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر، وفي القلوب والصدور، فأنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله‏:‏ ‏{‏ألا يعلم مَن خلق‏}‏ مقتضياً كونَه تعالى عالماً بتلك الأشياء، وهو خالق الأشياء وأحوالها، وعالم بجميع ذلك، ولذلك عقَّب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وهو اللطيف الخبير‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ إنَّ الذين يخشون ربهم بالغيب، فراقَبوه وعبدوه، حتى عرفوه فصار الغيب عندهم شهادة‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ وصف الله معرفة العارفين به، قبل رؤيتهم مشاهدته، فإذا عاينوه استفادوا من رؤيته علم المعاينة، وهو المعرفة بالحقيقة، خشوا منه في غيبة منه، وهو خشية القلب، فلما رأوه على الخشية الإجلال، وهو علم الروح والسر‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو اللطيفُ الخبير‏}‏، قال بعضهم‏:‏ الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة، والكيف، والمادة والصورة، ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان، ولا كم، ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر، ولا عرض؛ لأنه للطفه سارٍ في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف، غير متقيد بذلك، ومَن لم يذق هذا، أو لم يشهده، فهو أعمى البصيرة، محروم عن مشاهدة الحق‏.‏ ه‏.‏ وقال الغزالي‏:‏ إنما يستحق هذا الاسم يعني اللطيف مَن يطلع على غوامض الأشياء، وما دقّ منها وما لطف، ثم سلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العُنف، والخبير هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في المُلك والملكوت شيء، ولا يتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلاّ ويكون عنده خبرها‏.‏ وهو بمعنى العلم، لكن العلم إذا أُضيف إلى الخفايا الباطنة يسمى خِبرة، ويسمى صاحبها خبيراً‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ‏(‏15‏)‏ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ‏(‏16‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ‏(‏17‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل لكم الأرضَ ذلولا‏}‏؛ مذلّلة ليّنة يسهل عليكم سلوكها‏.‏ وتقديم ‏(‏لكم‏)‏ على مفعول الجعل؛ للاهتمام والتشويق، ‏{‏فامشُوا في مناكبها‏}‏؛ جوانبها، وهو تمثيل لفرط التذلُّل، فإنَّ منكب البعير أرقّ أعضائه وأصعبها على أن يطأها الراكب بقدميه، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يتأتى المشي في مناكبها لم يبقَ منها شد لم يتذلّل، ‏{‏وكُلوا من رزقه‏}‏ أي‏:‏ والتمسوا من رزق الله في سلوكها، أو إذا تعذّر العيس في أرضٍ فامشوا في مناكبها إلى أرض أخرى، كما قال الشاعر‏:‏

يا نفس مالكِ تهوي الإقامةَ في *** أرض تعيش بين من ناواكِ بها

أما سمعتِ وعجز المرء منقصَةٌ *** في محكم الوحي‏:‏ فامشوا في مناكبها

أو‏:‏ كُلوا من رزق الله الخارج منها، ‏{‏وإِليه النُشورُ‏}‏ أي‏:‏ الرجوع بالبعث، فتُسألون عن شكر هذه النعم‏.‏

ثم هدَّد مَن لم يشكر فقال‏:‏ ‏{‏أأمِنْتُم مَن في السماء‏}‏ من ملكوته وأسرار ذاته، وعبّر بها؛ لأنها منزل قضاياه، وتدبيراته ووحيه، ومسكن ملائكته وأوامره ونواهيه، فكل ما يظهر في الأرض إنما يقضي به في السماء، وحينئذ يبرز، فكأنه قال‏:‏ أأمِنتم خالق السموات‏؟‏ وقال اللجائي‏:‏ كل شيء علا فهو سماء، وسماء البيت‏:‏ سقفه، وليس المقصود في الآية سماء الدنيا؛ ولا غيرها من السبع الطباق، وإنما المعنى‏:‏ أأمِنتم مَن في العلو، وهو علو الجلال، وليس كون الله في سماء الحوادث من صفات الكمال، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً‏.‏ ه‏.‏ وسيأتي في الإشارة تحقيقة عند أهل التوحيد‏.‏ أي‏:‏ أأمِنتم مَن في السماء أسرار ذاته ‏{‏أن يخسف بكم الأرضَ‏}‏ كما خسف بقارون بعد ما جَعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه فيها، بحيث كفرتم تلك النعمة، فقلبها لكم ‏{‏فإِذا هي تمورُ‏}‏؛ تضطرب وتتحرّك‏.‏

‏{‏أم أَمِنْتُم مَن في السماء أن يُرسل عليكم حاصباً‏}‏؛ حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، أو‏:‏ ريحاً فيها حجارة‏.‏ و«أن»‏:‏ بدل اشتمال في الموضعين‏.‏ ‏{‏فستعلمون‏}‏ عن قريب ‏{‏كيف نذيرٍ‏}‏ أي‏:‏ إنذاري عن مشاهدتكم للمنذَر به، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ‏.‏

‏{‏ولقد كذَّب الذين مِن قبلهم‏}‏؛ من قبل كفار مكة، من كفار الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وأضرابهم، والالتفات إلى الغيبة؛ لإبراز كمال الإعراض عنهم، ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏؛ إنكاري عليهم، بإنزال العذاب، أي‏:‏ كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط، وفيه من المبالغة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتشديد التهويل ما لا يخفى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ هو الذي جعل لكم أرض البشرية مذلّلة للعبودية، والقيام بآداب الربوبية، فامشوا في مناكبها؛ فسيحوا بقلوبكم في جوانبها، تفكُّراً واعتباراً لِما فيهم من عجائب الإتقان، وبدائع الحِكم، فقد جمعت أسرار الوجود بأسره، وكُلوا من رزقه مما اكتسبه القلب بالنظر والتفكُّر، من قوة الإيمان، وهو قوت القلوب، وشهود الحق فيها، وهو قوت الأرواح والأسرار، وإليه النُشور ببعث الأرواح من موت الغفلة والجهل، إلى حياة اليقظة والمعرفة، أأمِنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض، أي‏:‏ إذا أسأتم معه الأدب‏.‏

واعلم أن ذات الحق جلّ جلاله عمّت الوجود، فليست محصورة في مكان ولا زمان، ‏{‏فأينما تُولوا فَثَمّ وجه الله‏}‏، فأسرار ذاته تعالى سارية في كل شيء، قائمة بكل شيء، كما تقدّم، فهو موجود في كل شيء، لا يخلو منه شيء، أسرار المعاني قائمة بالأواني، وإنما خصّ الحق تعالى السماء بالذكر؛ لأنها مرتفعة معظّمة، فناسب ذكر العظيم فيها، وعلى هذا تُحمل الأحاديث والآيات الواردة على هذا المنوال‏.‏ وليس هنا حلول ولا اتحاد؛ إذ ليس في الوجود إلاّ تجليات الحق ومظاهر ذاته وصفاته، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه، فما مثال الكون إلا كجبريل حين يتطوّر على صورة دحية، غير أنَّ رداء الكبرياء منشور على وجه ذاته وأسرار معانيه، وهو ما ظهر من حسن الكائنات، وما تلوّنت به الخمرة من أوصاف العبوية‏.‏ ولا يفهم هذا إلاَّ أهل الذوق السليم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ‏(‏19‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏(‏21‏)‏ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏22‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوُا‏}‏ أي‏:‏ أَغَفلُوا ولم ينظروا ‏{‏إِلى الطيرِ‏}‏؛ جمع طائر ‏{‏فوقهم‏}‏ في الهواء ‏{‏صافاتٍ‏}‏؛ باسطاتٍ أجنحتها في الجو عند طيرانها ‏{‏ويقبِضْنَ‏}‏؛ ويضممنها إذا ضربن بها حيناً فحيناً، للاستظهار به على التحرُّك، وهو السر في إيثار ‏(‏ويقبضن‏)‏ الدال على تجدُّد القبض تارة بعد تارة على «قابضات»، ف «يقبضن»‏:‏ معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى، أي‏:‏ يصففن ويقبضن، أو‏:‏ صافات وقابضات‏.‏ والطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والهواء للطائر كالماء للسابح، والأصل في السباحة‏:‏ مدّ الأطراف وبسطها، وأمّا القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرُّك‏.‏ ‏{‏ما يُمسِكُهُنَّ‏}‏ في الجو عند البسط والقبض على خلاف مقتضى الطبع ‏{‏إلاَّ الرحمنُ‏}‏ الواسع رحمته كل شيء، ومن جملتها‏:‏ إمساكه الطير في الهواء بقدرته، وإلا فالثقيل يسفل طبعاً ولا يطفو، وكذلك لو أمسك حِفظَه وتدبيره للعالم لتهافت وتلاشى‏.‏ ‏{‏إِنه بكل شيءٍ بصيرٌ‏}‏ يعلم كيفية إبداع المبدعات، وتدبير المصنوعات، ومن مبدعاته‏:‏ أنَّ الطير على أشكال وخصائص هيّأهن للجري في الهواء‏.‏

‏{‏أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دون الرحمن‏}‏، هو تبكيت لهم ينفي أن يكون لهم ناصر من عذابه غير الله، أي‏:‏ لا ناصر لكم إلاّ الرحمن برحمته‏.‏ «أم» منقطعة مقدرة ببل؛ للانتقال من توبيخهم على ترك التأمُّل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب قدرة الله تعالى إلى التبكيت بما ذكر من نفي نصرة غيره تعالى، والالتفات للتشديد في ذلك، و‏(‏من‏)‏‏:‏ مبتدأ و‏(‏هذا‏)‏‏:‏ خبره، و‏(‏الذي‏)‏ وما بعده‏:‏ صفتهن وإيثار «هذا» تحقيراً له، و‏(‏ينصركم‏)‏‏:‏ صفة لجُند، باعتبار لفظه، و‏(‏من دون‏)‏‏:‏ إما حال من فاعل «ينصركم» أو لمصدر محذوف، أي‏:‏ نصراً حاصلاً من دون الرحمن، أو‏:‏ متعلق بينصركم، كقوله‏:‏ ‏{‏مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 30‏]‏، والمعنى‏:‏ بل مَن هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم نصراً كائناً من دون نصرة الرحمن‏؟‏‏!‏ ‏{‏إِنِ الكافرون إلاّ في غرورٍ‏}‏ أي‏:‏ ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم، لا بحفظه تعالى فقط، إلاّ في غرور عظيم، وضلال فاحش من الشيطان‏.‏ والالتفات إلى الغيبة؛ للإيذان بافتضاح حالهم، والإعراض عنهم، وإظهار قبائحهم، والإظهار في موضع الإضمار لذمّهم بالكفر وتعليل غرورهم به‏.‏

‏{‏أمّنْ هذا الذي يرزقكم إِنْ أمسك‏}‏ اللهُ عزّ وجل ‏{‏رزقَه‏}‏ بإمساك المطر وسائر مبادئه، أي‏:‏ مَن هذا الحقير الذي يقدر على إتيان رزقكم من آلهتكم إن أمسكه الله‏؟‏ ‏{‏بل لَجُّوا في عَتُوٍّ ونفورٍ‏}‏، إضراب عن مُقدّر يستدعيه المقام، كأنه قيل بعد تمام التبكيت والتعجيز‏:‏ لم يتأثروا بشيء من ذلك، ولم يذعنوا للحق، ‏{‏بل لجُّوا‏}‏ أي‏:‏ تمادوا ‏{‏في عتوٍّ‏}‏ أي‏:‏ استكبار وطغيان ‏{‏ونفورٍ‏}‏؛ وشُرود عن الحق لِثقله عليهم‏.‏

ثم ضرب مثلاً للمشرِك والموحِّد، فقال‏:‏ ‏{‏أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه‏}‏ أي‏:‏ ساقطاً على وجهه ‏{‏أهْدى‏}‏، والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سواء حالهم، وسقوطهم في مهاوي الغرور، وركوبهم متن عشواء العتو والنفور‏.‏ والمُكب‏:‏ الساقط على وجهه، والمعنى‏:‏ أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة، ويخرّ على وجهه في كل خطوة أهدى إلى المقصود ‏{‏أَمَّنْ يمشي سَوِياً‏}‏ أي‏:‏ قائماً سالماً من الخبط والعِثار ‏{‏على صراط مستقيم‏}‏ مستوي الأجزاء لا عوج فيه، ولا انحراف‏؟‏ و«من» الثانية‏:‏ معطوفة على الأُلى عطف المفرد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالمكب‏:‏ الأعمى، وبالسوي‏:‏ البصير‏.‏ وقيل‏:‏ مَن يمشي مُكباً هو الذي يُحشر على وجهه إلى النار، ومَن يمشي سويًّا‏:‏ الذي يُحشر على قدميه إلى الجنة‏.‏

‏{‏قل هو الذي أنشأكم‏}‏ إنشاءً بديعاً، ‏{‏وجعل لكم السمعَ‏}‏ لتسمعوا آيات الله، وتمتثلوا ما فيها من الأوامر والنواهي، وتتعظوا بمواعظها، ‏{‏والأبصارَ‏}‏ لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله تعالى، ‏{‏والأفئدةَ‏}‏ لتتفكروا بها فيما تسمعونه وتشاهدونه من الآيات التنزيلية والتكوينية؛ لتترقوا في معاريج الإيمان والمعرفة، ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏ باستعمالها فيما خُلقت له‏.‏ و«قليلاً»‏:‏ إما نعت لمحذوف، أو‏:‏ ظرف، و‏(‏ما‏)‏‏:‏ صلة لمحذوف، أي‏:‏ شكراً قليلاً، أو‏:‏ زمناً قليلاً‏.‏ وقيل‏:‏ القلة عبارة عن العدم‏.‏ ‏{‏قل هو الذي ذرأكم في الأرض‏}‏ أي‏:‏ خلقكم وكثَّركم فيها ‏{‏وإِليه تُحشرون‏}‏ للجزاء لا إلى غيره، فتهيؤوا للقائه‏.‏

الإشارة‏:‏ أَوَلَم يَرَوا إلى طيور أفكار العارفين فوقهم منزلةً ورفعة، صافاتٍ، تجول في ميادين الغيوب، ويقبضن عنانهن عكوفاً في الحضرة، وسكوناً في النظرة، ما يُمسِكُهن فيها إلاَّ الرحمن الذي مَنَّ عليهم برحمته، فأسكنهم فيها، إنه بكل شيء بصير، فيُبصر مَن توجه إليه ومَن لا، أمَّنْ هذا الذي هو جند لكم ينصركم على طريق السلوك، ويُبلغكم إلى حضرة مالك المَلوك، من دون الرحمن‏؟‏ إنِ الكافرون بهذا إلاّ في غرور، حيث حسبوا أنَّ وصولهم بحسب جهادهم وطاعتهم، أمَّن هذا الذي يرزقكم إمداد قلوبكم من العلوم والمعارف واليقين الكبير، إن أمسك رزقه فلم يتوجه إليكم إلاَّ القليل، بل لجُّوا في عُتو ونفور، أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه، حيث رام سلوك الطريق بلا شيخ ولا دليل عارف، أهدى أمَّنْ يمشي سويًّا سالماً من الانحراف، على صراط مستقيم، تُوصله إلى حضرة العيان، وهو مَن سلك الطريق على يد الخبير، بل مَن سلكه على يد الخبير أهدى وأصوب، قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم دلائل السلوك إلى معرفته، لتستدلوا عليه بالأدلة السمعية والعقلية، ثم تَتَرَقون إلى صريح معرفته، بسلوك الطريق على يد الخبير، قل هو الذي ذرأكم في أرض العبودية، وإليه تُحشرون بشهود عظمة الربوبية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 30‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏26‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ‏(‏27‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏29‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ مِن فرط عتوهم وعنادهم استهزاءً‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعدُ‏}‏ أي‏:‏ الحشر الموعود ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ فيما تعدونه من مجيء الساعة‏؟‏ والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المشاركين له عليه السلام في الوعد، وتلاوة الآيات المتضمنة له، وجواب الشرط‏:‏ محذوف، أي‏:‏ إن صدقتم فيه فبيَّنوا وقته‏؟‏ ‏{‏قل إِنما العلمُ‏}‏ أي‏:‏ العلم بوقته ‏{‏عند الله‏}‏ تعالى، لا يطلع عليه غيره ‏{‏وإِنما أنا نذير مبينٌ‏}‏ أُنذركم وقوع الموعود لا محالة، وأمّا العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار‏.‏

‏{‏فلما رَأَوه‏}‏ أي‏:‏ العذاب الموعود‏.‏ والفاء فصيحة مُعربة عن تقدير جملة، كأنه قيل‏:‏ قد أتاهم الموعود فلما رأوه‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، نزّل ما سيقع بمنزلة الواقع لتحقق وقوعه، و‏{‏زُلفةً‏}‏‏:‏ حال من مفعول «رَأَوه» أي‏:‏ قريباً منهم، وهو مصدر، أي‏:‏ ذا زلفة، ‏{‏سِيئَتْ‏}‏ أي‏:‏ تغيرت ‏{‏وجوهُ الذين كفروا‏}‏ بأن غشيها الكآبة ورهقها القَترُ والذلة‏.‏ ووضع الموصول موضع ضميرهم؛ لذمهم بالكفر، وتعليل المساءة به‏.‏ ‏{‏وقيل‏}‏ توبيخاً لهم، وتشديداً لعذابهم‏:‏ ‏{‏هذا الذي كنتم به تَدَّعون‏}‏؛ تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكاراً واستهزاءً، وهو «تفتعلون» من الدعاء، وقيل‏:‏ من الدعوى، أي‏:‏ تدعون ألاَّ بعث ولا حشر‏.‏ ورُوي عن مجاهد‏:‏ أنَّ الموعود يوم بدر، وهو بعيد‏.‏

‏{‏قل أرأيتم‏}‏ أي‏:‏ أخبروني ‏{‏إِن أهلكنيَ اللهُ‏}‏ أي‏:‏ أماتني‏.‏ والتعبير عنه بالهلاك لِما كانوا يدعون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك، ‏{‏ومَن معيَ‏}‏ مِن المؤمنين ‏{‏أو رَحِمَنا‏}‏ باخير آجالنا، فنحن في جوار رحمته متربصون إحدى الحسنيين ‏{‏فمَن يُجير الكافرين من عذاب أليم‏}‏ أي‏:‏ لا يُنجيكم منه أحد، متنا أو بَقينا‏.‏ ووضع «الكافرين» موضع ضميرهم؛ للتسجيل عليهم بالكفر، وتعليل نفي الإنجاء به، أي‏:‏ لا بد من لحوق العذاب لكفركم، مُتنا أو بقينا، فلا فائدة في دعائكم علينا‏.‏

‏{‏قل هو‏}‏ أي‏:‏ الذي أدعوكم إليه ‏{‏الرحمن‏}‏ مولى النعم كلها، ‏{‏آمَنَّا به‏}‏ وحده؛ لعِلْمنا ألاَّ راحم سواه، ‏{‏وعليه توكلنا‏}‏ وحده؛ لعِلْمنا أنَّ ما عداه كائناً ما كان بمعزل عن النفع والضر‏.‏ ‏{‏فستعلمون‏}‏ عن قريب ‏{‏مَن هو في ضلالٍ مبينٍ‏}‏ منا ومنكم، ‏{‏قل أرأيتم‏}‏؛ أخبروني ‏{‏إِن أصبحَ ماؤُكم غوراً‏}‏؛ غائراً في الأرض بالكلية، أو‏:‏ لا تناله الدلاء ‏{‏فمَن يأتيكم بماءٍ معين‏}‏؛ جارٍ أو ظاهر سهل المأخذ، يصل إليه مَن وصله‏؟‏‏.‏ وفي القاموس‏:‏ ماء معيون ومعين‏:‏ ظاهر‏.‏ ه‏.‏ وقال مكي‏:‏ ويجوز أن يكون معين «فعيل» من مَعَن الماء‏:‏ كثر، ويجوز أن يكون مفعولاً من العَين، وأصله‏:‏ معيون، ثم أعل، أي‏:‏ فمَن يأتيكم بماء يُرى بالعين‏.‏ ه‏.‏ مختصراً‏.‏

وقرئت الآية عند مُلحدٍ، فقال‏:‏ يأتي بالمعول والفؤوس، فذهبت عيناه تلك الليلة وَعمِيَ، وقيل‏:‏ إنه محمد بن زكريا المتطبب، أعاذنا الله من سوء الأدب مع كتابه‏.‏

قال ابن عرفة‏:‏ ذكر ابن عطية في فضل السورة أربعة أحاديث، وقد تقرّر أنَّ أحاديث الفضائل لم تصح إلاَّ أحاديث قليلة، ليس هذا منها‏.‏ ه‏.‏ وفي الموطأ‏:‏ إنها تُجادل عن صاحبها‏.‏

الإشارة‏:‏ ويقولون أي‏:‏ أهل الإنكار على المريدين‏:‏ متى هذا الوعد بالفتح إن كنتم صادقين في الوعد بالفتح على أهل التوجه‏؟‏ قل أيها العارف الداعي إلى الله‏:‏ إنما العلمُ عند الله، وإنما أنا نذير مبين، أُنذر البقاء في غم الحجاب وسوء الحساب، فلما رأوه أي رأوا أثر الفتح على المتوجهين، بظهور سيما العارفين على وجوههم، ونبع الحِكَم من قلوبهم على ألسنتهم زلفةً، أي‏:‏ قريباً، سيئت وجوه الذين كفروا بطريق الخصوص، وأنكروها أي ساءهم ذلك حسداً أو ندماً، وقيل هذا الذي كنتم به تَدَّعون، أي‏:‏ تدَّعون أنه لا يكون، وأنه قد انقضى زمانه، وأهل الإنكار لا محالة يتمنون هلاكَ أهل النِسبة، فيُقال لهم‏:‏ أرأيتم إن أهلكنا الله بالموت، أو رَحِمَنا بالحياة، فمَن يُجيركم أنتم من عذاب القطيعة والبُعد، أي‏:‏ هو لا حق لكم لا محالة، متنا أو عشنا، قل هو، أي‏:‏ الذي توجهنا إليه، الرحمن وضمّنا إليه، آمنّا به وعليه توكلنا في كفاية شروركم، فستعلمون حين يُرفع المقربون في أعلى عليين، ويسقط أهل الحجاب في الحضيض الأسفل من الجنة، مَن هو اليوم في ضلال مبين، قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم ماء حياة قلوبكم من الإيمان والتوحيد، غَوْراً، فمَن يأتيكم بماء معين‏؟‏ أي‏:‏ فمَن يُظهره لكم، ما يأتي به إلاَّ أهل العلم بالله‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏ وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة القلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ن‏}‏، هو من جملة الرموز، ك ‏{‏ص‏}‏ و‏{‏ق‏}‏، وكأنه والله أعلم يُشير إلى ما خصّ به نبيَّه من أسرار النبوة والخلافة، أي‏:‏ نبأناك ونبَّهناك ونوّبناك خليفة عنا، أو نوّهنا بك في مُلكنا وملكوتنا، أو‏:‏ أيها النبي المفخّم، والرسول المعظّم، وحق نون والقلم ما أنت بمجنون‏.‏ وقيل‏:‏ مختصر من نور وناصر ونصير، وقيل‏:‏ من الرحمن، لكن ورد في الحديث‏:‏ «أول ما خلق اللهُ القلم، ثم خَلَقَ النون»، وهو الدواة، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏ن والقلم‏}‏ فإن صَحّ الحديث فهو أولى في تفسير الآية، وقد رُوي عن ابن عباس وغيره، في تفسير الآية‏:‏ أنه الدواة والقلم الذي بأيدي الناس، ورُوي عن ابن عباس أيضاً‏:‏ أنه الحوت الأعظم، الذي عليه الأرضون السبع‏.‏

قال الكلبي ومقاتل‏:‏ اسمه يهموت بالياء وقيل‏:‏ ليُوثا، وقيل‏:‏ باهوتا‏.‏ رُوي‏:‏ أنّ الله تعالى لمّا خلق الأرض وفَتَقَها، بعث مِن تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق، والأخرى بالمغرب، باسطتين، قابضتين على الأرضين السبع، فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله من الفردوس ثوراً، له أربعون ألف قرنٍ، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأهبط الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها خمسمائة عام، فوضعها على سنام الثور إلى أذنه، فاستقرت قدما المَلك عليه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخاره في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفساً، فإذا تنفّس مدَّ البحرُ، وإذا هدأ نَفَسُه جزرَ البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء، كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه‏:‏ ‏{‏فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏ الآية، فلم تستقر الصخرة، فخلق الله نوناً وهو الحوت العظيم فوضع الصخرة على ظهره، وسائر جسده عارٍ، والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة الأزلية، يُقلُّ الدنيا بما فيها حرفان «كن فيكون»‏.‏ ه‏.‏ من الثعلبي، وهذا من باب عالَم الحكمة، وإلاّ فما ثَمَّ إلا تجليات الحق وأسرار الذات، والصفات الأزلية‏.‏ وتفسير ‏{‏ن‏}‏ بهذا الحوت ضعيف‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ ويُبطل قول مَن قال‏:‏ إنه الحوت أو الدواة، بأنه لو كان كذلك لكان مُعرباً، ولَكَان في آخره تنوين، فكونه موقوفاً دليل على أنه حرف هجاء، نحو‏:‏ ‏{‏الام‏}‏ وغيره‏.‏ ه‏.‏

ثم أقسم بالقلم، فقال‏:‏ ‏{‏والقلم وما يسطرون‏}‏، قيل‏:‏ هو القلم الذي كتب اللوح المحفوظ، فالضمير في ‏{‏يسطرون‏}‏ للملائكة، وقيل‏:‏ القلم المعروف عند الناس، أقسم له بِما فيه من المنافع والحِكم‏.‏

قال ابن الهيثم‏:‏ من جلالة القلم أنه لم يكتب الله كتاباً إلا به، ولذلك أقسم به‏.‏ الأقلام مطايا الفِطن ورسل الكرام، وقيل‏:‏ البيان اثنان‏:‏ بيان لسان، وبيان بَنَان، ومِن فضل بيان البنان أنَّ ما تبيَّنته الأقلام باق على الأيام، وبيان اللسان تدْرُسه الأعوام، ولبعض الحكماء‏:‏ قِوام أمور الدين والدنيا‏:‏ القلم، والسيف تحت القلم‏.‏ وأنشد بعضهم في هذا المعنى‏:‏

قَلَمٌ مِنَ القَصَبِ الضَّعيف الأجْوفِ *** أَمضَى من الرُّمْح الطويل الأهيَفِ

ومِن النِّصال إذا انْبَرَتْ لِقسِيِّها *** ومِن المُهَنَّد في الصِّقال المُرْهَفِ

وأَشَدُّ إِقدَاماً من الليْثِ الذي *** يَكْوِي القُلوبَ إذا بدا في الموقِفِ

وقال آخر‏:‏

قَوْمٌ إذا عَرَفوا عَداوةَ حَاسِدٍ *** سَفَكُوا الدِّمَا بأَسِنَّةِ الأَقْلامِ

ولَضَرْبَةٌ مِن كاتبٍ بِبَنَانِهِ *** أَمْضَى وأَبْلَغُ من رقيق حُسَامِ

فالضمير في ‏{‏يَسْطُرون‏}‏ على هذا لبني آدم، فالضمير يعود على الكتبة المفهومة من القلم اللازمة له‏.‏

ثم ذكر المقسَم عليه، فقال‏:‏ ‏{‏ما أنت بنعمةِ ربك بمجنونٍ‏}‏ أي‏:‏ ليس بك جنون كما يزعمه الكفرة، ف ‏(‏بنعمة ربك‏)‏‏:‏ اعتراض بين «ما» وخبرها، كما تقول‏:‏ أنت بحمد الله فاضل، وقيل‏:‏ المجرور في موضع الحال، والعامل فيه معنى النفي، كأنه قيل‏:‏ أنت بريء من الجنون، ملتبساً بنعمة ربك، التي هي النبوة والرسالة‏.‏ والتعبير بعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معاريج الكمال، مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه السلام والإيذان بأنه تعالى يُتم نعمته عليه، ويُبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءه، والمراد‏:‏ تنزيهه عليه السلام عما كانوا ينسبونه من الجنون حسداً وعداوة ومكابرة، مع جزمهم بأنه صلى الله عليه وسلم في غاية الغايات القاصية، ونهاية النهايات الثابتة من حصافة العقل، ورزانة الرأي‏.‏ ‏{‏وإِنَّ لك‏}‏ في مقابلةِ مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم، وتحمُّلك لأعباء الرسالة ‏{‏لأجراً‏}‏ عظيماً لا يُقادَر قدره ‏{‏غيرَ ممنونٍ‏}‏؛ غير مقطوع، أو‏:‏ غير ممنون به عليك من جهة الناس، بأن أعطاه تعالى لك بلا واسطة‏.‏

‏{‏وإنك لعلى خُلُقِ عظيم‏}‏ لا يُدْرِك شأوَه أحدٌ مِن الخلق، ولذلك تَحْتَمِل من جهتهم ما لا يحتمله أحد من البشر‏.‏ وسُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقة صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ كان خُلقه القرأن، ألست تقرأ القرآن‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ التأدُّب بآداب القرآن، بامتثال أمره واجتناب نهيه‏.‏

قال ابن جُزي‏:‏ وتفصيل ذلك‏:‏ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلك‏:‏ شرف النسب، ووفور العقل، وكثرة العلم والعبادة، وشدة الحياء، والسخاء، والصدْق، والشجاعة، والصبر، والشكر، والمروءة، والتوءدة، والاقتصاد، والزهد، والتواضع، والشفقة، والعدل، والعفو، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة، وحسن التدبير، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، وحسن الصورة، وغير ذلك، حسبما ورد في أخباره وسِيرَه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال‏:‏ «بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق»

، قال الجنيد‏:‏ سُمي خُلقه عظيماً؛ لأنه لم تكن له همة سوى الله عزّ وجل‏.‏ ه‏.‏ والخُلق‏:‏ السجية والطبع‏.‏ قال في القاموس‏:‏ الخُلْق بالضم وبضمتين‏:‏ السجية، والطبع، والمروءة والدين‏.‏ ه‏.‏

وعرَّف بعضهم حقيقة الخُلق، فقال‏:‏ مَلكة للنفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير فكر ولا رَوية، فخرج الصبر؛ لأنه بصُعوبة، والفكرة؛ لأنها تكون بروية، ثم ينظر في تلك الأفعال الصادرة عن تلك المَلكة؛ فإن كانت سيئة، كالغضب، والعَجَلة، والكِبر، والفظاظة، والغلظة، والقسوة، والبُخل، والجُبن، وغير ذلك من القبائح، سُمي خُلقاً سيئاً، وإن كانت تلك الأفعال حسنة، كالعفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، ولين الجانب، وتحمل الأذى، سُمي خلقاً حسناً، الذي اتصف به صلى الله عليه سلم على أكمل الوجوه، ومَدَحه بقوله‏:‏ «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم» وبقوله‏:‏ «أفضل ما أُعطي المرء الخلق الحسن» في أحاديث كثيرة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ قد يُقال‏:‏ أشار بقوله‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ إلى سرعة إنفاذ أمره بين الكاف والنون، ثم أقسم بالقلم على تنزيه نبيه من الجنون، ويُقال مثل ذلك لخلفائه، إذا رُمُوا بالجنون أو السحر أو سخافة العقل، ويُقال لهم في إرشاد الناس وتذكيرهم ما قيل لنبيّهم‏:‏ ‏{‏وإِنَّ لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏، فحُسن الخلق دليل على ثبوت الخصوصية، وعدمه دليل على عدم وجودها؛ لأنّ الخمرة إذا دخلت القلب والروح هَذّبت أخلاقهما، وطهّرت أكدارهما، وما تُبقي إلاَّ الذهب الإبريز‏.‏

وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم على خُلقٍ عظيم؛ لشرح صدره بالنور، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏، ولحديث شرح صدره وشقه وتطهيره، ونزع حظ الشيطان منه، ثم إفراغ الحكمة والنور فيه، حتى مُلىء بذلك، فكان شيئاً محضاً لله تعالى، لا تعلُّق له بغيره، فناسب القرأن، وصار خُلقاً له، منقوشاَ فيه، من غير روية، ولا تكسب في ذلك، بل طُبع على ذلك، وسرى فيه أمر الوحي، وجرى على مقتضاه في جميع أحواله، ولذلك تجد السُنة مشرعة من القرآن، وخارجة منه خروج اللبن من الضرع، والزبد من اللبن، فصار متخلّقاً بالقرآن، وفي الحقيقة متخلّقاً بخُلق الله، ومظهرَ أوصافه، ومجلاة سره وشأنه، ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ الآية، ومَن رآه فقد رأى الحق‏.‏ والله أعلم‏.‏ ه‏.‏ فعائشة رضي الله عنها احتشمت وسترت حيث عبّرت بالقرآن، ولم تقل كان خلقه خلق الرحمن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 16‏]‏

‏{‏فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فسَتُبْصِرُ‏}‏ يا محمد ‏{‏ويُبصرون‏}‏ أي‏:‏ كفارُ قريش عاقبةَ أمرك وأمرهم، أو‏:‏ مَن هو المجنون منكم‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبيّن الحق من الباطل‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ في الدنيا بظهور عاقبة أمرك بظهور الإسلام، واستيلائك عليهم بالقتل والنهب، ويبصرونك مُهاباً معظّماً في قلوب العالمين، وكونهم أذلةً صاغرين‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هذا وعيد بعذاب يوم بدر‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بأيِّكم المفتونُ‏}‏ قيل‏:‏ زائدة، أي‏:‏ تُبصرون أيكم المفتون، أي‏:‏ المجنون، وقيل‏:‏ غير زائدة، أي‏:‏ بأيكم الفتنة، فالمفتون مصدر، كقولهم‏:‏ ما لك معقول، أي‏:‏ عقل، وقيل‏:‏ الباء بمعنى «في»، أي‏:‏ في أي فريق منكم المفتون، هل في فريق المؤمنين أم المشركين‏؟‏ والآية تعريض بأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأضرابهما، وتهديد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر ‏(‏26‏)‏‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 26‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّ ربك هو أعلمُ بمَن ضلَّ عن سبيله‏}‏ تعليل لمضمون ما قبله، من ظهور جنونهم، بحيث لا يخفى على أحد، وتأكيد لِما فيه من الوعد والوعيد، أي‏:‏ هو أعلم بمَن ضلّ عن طريقه الموصلة إلى سعادة الدارين، وبمن هو في تيه الضلال، متوجهاً إلى ما يسوقه إلى الشقاوة الأبدية، وهذا هو المجنون الذي لا يُفرّق بين الضرر والنفع، بل يحسب الضررَ نفعاً فيؤثره، والنفعَ ضرراً فيهجره، ‏{‏وهو أعلمُ بالمهتدين‏}‏ إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل مرهوب، وهم العقلاء المراجيح، فيجزي كُلاًّ من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب‏.‏ وإعادة ‏{‏هو أعلم‏}‏ لزيادة التقرير‏.‏

وإذا تقرّر أنك على الهدى، ومُكَذَبوك على الضلال ‏{‏فلا تُطع المكذِّبين‏}‏، فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي‏:‏ دُم على ما أنت عليه، من عدم طاعتهم، وتَصَلّبْ في ذلك‏.‏ وهذا تهييج للتصميم على عصيانهم، وقد أرادوه على أن يعبدوا الله مدة، ويعبد آلهتهم مدة، ويكفُّوا عنه غوائلهم، فنهاه عن ذلك، أو‏:‏ نُهي عن مداهنتهم ومداراتهم، بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله عليه وسلم؛ استجلاباً لقلوبهم‏.‏ ‏{‏وَدُّوا لو تُدْهِنُ‏}‏؛ لو تلين لهم ‏{‏فيُدْهِنُون‏}‏؛ فيلينون لك، ولم ينصب بإضمار «أن» مع أنه جواب التمني؛ لأنه عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعله خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ فهم مدهنون، أي‏:‏ فهم الآن يُدهنون لطمعهم في إدهانك، فليس داخلاً في حيّز تمنيهم؛ بل هو حاصل لهم، وفي بعض المصاحف‏:‏ ‏{‏فيدهنوا‏}‏ على أنه جواب التمني‏.‏

‏{‏ولا تُطعْ كلَّ حلاّفٍ‏}‏؛ كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به زجراً لمَن يُكثر الحلف، ‏{‏مَهِينٍ‏}‏؛ حقير في الرأي والتدبير، من المهانة، وهي القلة والحقارة، أو‏:‏ كذَّاب؛ لأنه صغير عند الناس، ‏{‏هَمَّازٍ‏}‏؛ عيّابٍ طعَّان مغتاب ‏{‏مشَّاء بنميم‏}‏؛ نقّال للحديث من قوم إلى قوم، على وجه السِّعاية والفساد بينهم، فالنميم والنميمة‏:‏ السعاية في إفساد ذات البيْن، ‏{‏مناعٍ للخير‏}‏؛ بخيل، والخير‏:‏ المال، أو‏:‏ منّاع أهلَه من الخير، وهو الإسلام، والمراد‏:‏ الوليد بن المغيرة، عند الجمهور، وكان يقول لبنيه العشرة‏:‏ مَن أسلم منكم منعته رفدي‏.‏

ه ‏{‏مُعْتَدٍ‏}‏؛ مجاوز في الظلم حدّه، ‏{‏أثيمٍ‏}‏؛ كثير الإثم، ‏{‏عُتُلٍّ‏}‏؛ غليظ جافٍ، مِن عتله‏:‏ إذا قاده بعنف وغلظةٍ، ‏{‏بعد ذلك‏}‏؛ بعدما عدّ له من المثالب ‏{‏زنيمٍ‏}‏؛ دَعِيّ، أي‏:‏ ولد زنا، وكان الوليد دَعِياً في قريش، ليس من سِنْخهم، ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده، وقيل‏:‏ بغَت أمه ولم يعرف حتى فضحته الآية‏:‏ والنطفة إذا خبثت خبث الناشىء عنها‏.‏ رُوي‏:‏ أنه دخل على أمه، وقال لها‏:‏ إنَّ محمداً وصفني بشعرة أوصاف، وجدت تسعة فِيّ، فأما الزنيم فلا علم لي به، فإن أخبرتني بحقيقته، وإلاّ ضربت عنقك، فقالت‏:‏ إنَّ أباك عنّين، وخفتُ أن يموت، فيصل المال إلى غير ولده، فدعوت راعياً، فأنت من ذلك الراعي‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الأخنس بن شريق، أصله من ثقيف، وعِدادُه في بني زهرة‏.‏

‏{‏أن كان ذا مالٍ وبنينَ‏}‏‏:‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لا تُطع‏}‏ أي‏:‏ لاتُطع مَن هذه مثالِبه لأن كان صاحب مال وبنينَ مستظهراً بهم، فإنه حظه من الدنيا، وقيل‏:‏ متعلق بما بعده، أي‏:‏ لأن كان ذا مال وبنين كذّب بآياتنا، يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا تُتلى عليه آياتُنا‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏قال أساطيرُ الأولين‏}‏ أي‏:‏ أكاذيب المتقدمين، ولا يعمل فيه «قال»؛ لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله‏.‏ ومَن قرأ بكسر «إن» فشرط حُذف جوابه، أي‏:‏ إن كان ذا مال فلا تُطعه، والمعنى‏:‏ لا تُطع كل حلاّف شارطاً يَسَارَه‏.‏ قيل‏:‏ لمّا عاب الوليدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كاذباً بأمر واحد، وهو الجنون، سمّاه اللهُ تعالى صادقاً بعشرة أسماء، فإذا كان مِن عدله أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر، كان من فضله أن يجزي المُصلِّي عليه أو المادح له بعشر فأكثر‏.‏

‏{‏سَنَسِمُه على الخرطوم‏}‏؛ سنعلِّمه على أنفه بالكي بالنار إهانةً له، وتخصيص الأنف بالذكر؛ لأنَّ الوسم عليه أبشع، وقيل‏:‏ خطم بالسيف يوم بدر، فبقيت سمة على خرطومه، وفيه نظر إذا قلنا هو الوليد، فإنه مات قبل بدر، لأنه من المستنصرين الخمسة، وقد ماتوا كلهم قبل وقعة بدر، وقيل‏:‏ سنعلمه يوم القيامة بعلامة يُشوه بها من بين سائر الكفرة‏.‏

الإشارة‏:‏ فستُبصر أيها العارف، والمتوجّه إلى الله، ويُبصر أهل الانتقاد من أهل الغفلة، أيكم المفتون، هل أنتم حين اجتمعت قلوبكم بالله، وجعلتم الهموم هَمًّا واحداً، فكفاكم الله همّ دنياكم، أو‏:‏ هُم الذين تفرّقت قلوبهم، وتشعّبت همومهم، حتى ماتوا في أودية الفتن، فلم يُبالِ الله بهم في أيّ أودية الدنيا هلكوا، كما في الأثر‏.‏

إن ربك هو أعلم بمَن ضَلّ عن طريقه الموصلة إليه، وهو أعلم بالمهتدين إليها، السائرين فيها، حتى وصلوا إلى حضرة قدسه، فلا تُطع أيها المتوجّه المكذّبين لهذه الطريق، ودُّوا لو تلينون إليهم، وتشاركونهم فيما هم فيه من الحظوظ، فيميلون إليكم، طمعاً فيكم أن يصرفوكم عن طريق الجد والاجتهاد، ولا تُطع كل حلاّف مهين، قال القشيري‏:‏ مّهين‏:‏ هو الذي سقط من عيننا، فأقمناه بالبُعد عنا، همّاز مشاء بنميم، مُعذَّب بالوقيعة في أوليائنا‏.‏ ه‏.‏

قال بعضهم‏:‏ بُحث عن النمَّام فلم يوجد إلا ابن الزنا، واستدل بالآية في قوله‏:‏ ‏{‏بعد ذلك زنيم‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منَّاعٍ للخير‏}‏، وضده من أخلاق الصوفية، وهو أن يكون وصّالاً للخير لعباد الله، حسًّا ومعنىً، ‏{‏معتد أثيم‏}‏ وضده‏:‏ كثير الإحسان والطاعة، ‏{‏عُتل‏}‏ وضده‏:‏ سهل لين، ‏{‏بعد ذلك زنيم‏}‏ أي‏:‏ لقيط، لا أب له، وكل مَن لا شيخ له يصلح للتربية فهو لقيط، لا أب له، فلا يصلح للاقتداء كما لا يؤم الناسَ ابنُ الزنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ أي‏:‏ إنما حمله على التكذيب طغيانه بالمال، وهذه عادته تعالى‏:‏ أنَّ المترفين لا ينالون من طريق السابقين شيئاً إلاَّ النادر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 33‏]‏

‏{‏إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّا بلوناهم‏}‏؛ أهل مكة، أي‏:‏ امتحنّاهم بالقحط والجوع، حتى أكلوا الجِيفَ الرِّممَ، بدعاء النبي صلى الله عليه سلم حيث قال‏:‏ «اللهم اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ، واجعلها عليهم سِنينَ كسِني يوسفَ» ‏{‏كما بلونا أصحابَ الجنةِ‏}‏، وهم قوم من أهل الصلاة، قيل‏:‏ كانوا مؤمنين، أهل كتاب، بعد رفع عيسى عليه السلام وكانوا ب «ضرْوان» على فراسخ من صنعاء اليمن‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ كانوا من بني إسرائيل‏.‏ ه‏.‏ والجنة، قال ابن عباس‏:‏ هو بستان، يقال له‏:‏ الضّروان، دون صنعاء بفرسخين، يطؤه أهل الطريق، كان غَرَسه رجل من أهل الصلاح، فورثه ثلاثة بنين، فإذا أصرموه كان للمساكين كل ما تعدّاه المنجل والقِطاف، فإذا طرح من فوق النخل إلى البساط، فكل شيء سقط عن البساط؛ فهو للمساكين، فكان أبوهم يتصدّق منها على المساكين، فكان يعيش من ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، وفي رواية‏:‏ كان يأخذ قوت سنة، ويتصدّق بالباقي، وكان ينادي على الفقراء وقت الصرام، فلما مات أبوهم؛ قالوا‏:‏ لقد قلَّ المال، وكثر العيال، فتحالفوا بينهم ليغدوا غدوة قبل خروج الناس، ويصرمونه، ولا يشعر المساكين، وهو قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِذْ أقسَموا‏}‏؛ حلفوا ‏{‏لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين‏}‏؛ ليقطفنّها داخلين في الصباح، قبل انتشار الفقراء، ‏{‏ولا يستثنون‏}‏؛ لا يقولون إن شاء الله، وسمي استثناء، وإن كان شرطاً صورةً؛ لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء؛ لأنّ قولك‏:‏ لأخرجنّ إن شاء الله، و‏:‏ لا أخرج إلاّ أن يشاء الله، واحدٌ، أو‏:‏ لا يستثنون؛ حصة المساكين، كما كان يفعل أبوهم‏.‏

‏{‏فطاف عليها‏}‏ أي‏:‏ على الجنة ‏{‏طائف من ربك‏}‏ أي‏:‏ نزل عليها بلاء من جهته تعالى، قيل‏:‏ أنزل الله عليها ناراً فأحرقتها، وقيل‏:‏ طاف بها جبريل، لأنه الموكل بالخسف، فاقتلعها، وطاف بها حول البيت، ثم وضعها بالطائف، وليس بمكة وما قرب منها بستان غيرها، وهي مدينة الطائف‏.‏ انظر اللباب‏.‏ ‏{‏وهم نائمون‏}‏ أي‏:‏ في حال نومهم، أو‏:‏ غافلون عما جرت به المقادير، ‏{‏فأصبحتْ‏}‏ أي‏:‏ فصارت الجنة ‏{‏كالصَّرِيم‏}‏؛ كالبستان الذي صرمت ثماره، بحيث لم يبقَ فيها شيء، وقيل‏:‏ كالليل المُظلم، احترقت فاسودّت، أو‏:‏ كالصبح، أي‏:‏ صارت أرضاً بيضاء بلا شجر‏.‏ وفي القاموس‏:‏ الصريم‏:‏ الأرض المحصود زرعها، والصبح والليل‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فَتَنَادَوا‏}‏ أي‏:‏ نادى بعضُهم بعضاً ‏{‏مصبحين‏}‏؛ داخلين في الصباح‏:‏ ‏{‏أَنِ اغْدوا‏}‏ أي‏:‏ اخرجوا غدوه ‏{‏على حَرْثِكم‏}‏؛ بستانكم وضيعتكم، وتعدية الغدو ب «على» لتضمنه معنى الإقبال والاستيلاء، ‏{‏إِن كنتم صارمين‏}‏؛ قاصدين الصرم‏.‏ ‏{‏فانطلقوا وهم يتخافتون‏}‏؛ يتساررون فيما بينهم بطريق المخافتة، لئلا يسمع المساكين ‏{‏أن لا يدخلنَّها‏}‏ أي‏:‏ الجنة، و«أن» مفسرة، أي‏:‏ قائلين في تلك المخافتة‏:‏ لايدخلنها ‏{‏اليومَ عليكم مسكين‏}‏، والنهي عن دخول المساكين نهي عن التمكين على وجه المبالغة، أي‏:‏ لا تُمكنوهم من الدخول‏.‏

‏{‏وغَدَوا على حَرْدٍ‏}‏؛ على جِدٍّ في المنع ‏{‏قادرين‏}‏ عند أنفسهم على المنع، كذا عن نفطوية، من قولهم‏:‏ حردت الإبل إذا قلَّت ألبانها فمنعتها، و«حاردت السنة» إذا كانت شهباء، من قلة مطرها، أو‏:‏ الحرد‏:‏ القصد والسرعة، يقال‏:‏ حَرَدَ حَرْده، أي‏:‏ قصد قصده، قال الشاعر‏:‏

أقْبَلَ سَيْلٌ جاء من أَمْرِ الله *** يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنةِ المُغِلَّهْ

أي‏:‏ يقْصد قصدها، أي‏:‏ وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين على صِرامها عند أنفسهم، وقيل‏:‏ معنى الحرد‏:‏ الغضب، يقال‏:‏ حَرِدَ الرجل حَرْداً‏:‏ غضب، أي‏:‏ غدوا على غضبٍ على المسكين قادرين على المنع، أو على صِرامها في زعمهم، وقيل‏:‏ الحرد‏:‏ اسم للجنة، أي‏:‏ غدوا على تلك الجنة قادرين على صِرامها عند أنفسهم‏.‏

‏{‏فلما رَأَوها‏}‏ أي‏:‏ جنتهم محترقة ‏{‏قالوا إِنَّا لضالون‏}‏ أي‏:‏ ضللنا جنتنا، وما هي بها، لِما رأوا من هلاكها، فلما تأمّلوا وعرفوا أنها هي، قالوا‏:‏ ‏{‏بل نحن محرومون‏}‏؛ حُرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، ‏{‏قال أوسطُهم‏}‏ أي‏:‏ أعدلُهم وخيرُهم رأياً، أو‏:‏ أكبرهم سنًّا‏:‏ ‏{‏ألم أقل لكم لولا تُسبِّحون‏}‏ ‏؟‏ تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نياتكم، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك‏:‏ اذكروا الله، وتوبوا إليه من هذه الجريمة الخبيثة من فوركم، وسارِعوا إلى حَسْم شرها قبل حلول النقمة، فَعَصوه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالتسبيح‏:‏ الاستثناء؛ لأنه تعظيم لله تعالى في الجملة؛ لأنَّ الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم، والأول أنسب بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا سبحان ربنا إِنَّا كنا ظالمين‏}‏ فيما عزمنا عليه من المنع، أو‏:‏ في عدم الاستثناء، فتكلّموا بعد نزول العذاب بما كان يدعوهم إلى التكلُّم به قبل نزوله‏.‏

‏{‏فأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون‏}‏ أي‏:‏ يلوم بعضُهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويُحيل كلُّ واحد منهم اللائمة على الآخر، ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا يا ويلنا إِنَّا كنا ظالمين‏}‏؛ متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء حقهم، وتَرْكِ الاستثناء، ‏{‏عسى ربُّنا أن يُبْدلنا خيراً منها‏}‏ أي‏:‏ يعطينا خيراً من جنتنا ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة، ‏{‏إِنَّا إِلى ربنا راغبون‏}‏؛ طالبون منه الخير، راجون العفو منه‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ ثابوا فأُبدلوا خيراً منها، وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ بلغني أنهم أخلصوا، فأبدلهم الله جنة تُسمى الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً، وعن أبي خالد اليماني أنه رآها، ورأى كل عنقود منها كالرجُل الأسود القائم، وقد تقدّم أنهم مؤمنون، إمّا من بني إسرائيل أو غيرهم، فلا معنى لمَن توقف في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا إِلى ربنا راغبون‏}‏ هل يكون إسلاماً أم لا‏؟‏ نعم، قد قيل‏:‏ إنهم كانوا كفاراً، فيحتمل أن يكون قولهم هذا إسلاماً، أو يكون على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم شدة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك العذابُ‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه في حق أصحاب الجنة هو عذاب الدنيا لمَن تخالف أمرنا، ولم يشكر نِعمنا، ‏{‏ولَعذابُ الآخرة أكبرُ‏}‏؛ أعظم منه وأشد، ‏{‏لو كانوا يعلمون‏}‏ أنه أكبر لا حترزوا عما يؤديهم إليه‏.‏

قال الطيبي‏:‏ قال الإمام أي الفخر‏:‏ المقصود من القصة أنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ؛ أي‏:‏ لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمّر الله عليه؛ لأنّ أصحاب الجنة لَمَّا أَتوا بهذا القدر اليسير من المعصية، دمَّر الله على جنتهم، فكيف حال مَن عاند الرسولَ، وأصرّ على الكفر والمعصية‏؟‏ أو‏:‏ لأنَّ أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة، ويمنعوا الفقراء منها، فقلب الله عليهم القضية، فكذا أهل ممكة، حَردُوا إلى بدر أرادوا الكيد بمحمد وأصحابه صلوات الله عليه فأخلف الله ظنّهم، فقُتلوا وأُسروا‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن كان يفعل الإحسان، ويُوسع في العطاء، ثم قبض يده، فإنَّ الله يقبض فيضه عنه، كما قبض هو إحسانه عن عباده، فما دام يُوسّع فإنَّ الله يُوسّع عليه، فإذا قبض قبض الله عنه، ‏{‏سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏، وكذلك مَن خالف عادة أسلافه في العطاء وشدّ يده؛ فإنَّ الله يُخالف عنه ما كان يفعل مع أسلافه، من فَيْض الأرزاق الحسية أو المعنوية، فإن تاب ورجع إلى فعل ما كان عليه أسلافه؛ أعاد الله عليه إحسانه، كما فعل بأصحاب الجنة حين تابوا، وهذا صريح الآية، وتَصْدق أيضاً بمَن كان يُنفق من سعة علومه ومواهبه، ثم قبض ذلك من غير عذر، فإنَّ الله تعالى يقبض عنه زيادة المواهب، وربما يطوف على باطنه طائف من الله، فيُصبح خالياً من ثمار المواهب، حتى يتوب ويرجع إلى ما كان عليه، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 43‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ للمتقين عند ربهم‏}‏ في الآخرة، أو‏:‏ في جوار القدس ‏{‏جناتِ النعيم‏}‏ أي‏:‏ جنات ليس فيها إلاَّ التنعُّم الخالص عن شائبة ما ينقصه من المكدّرات، وخوف الزوال، بخلاف جنات الدنيا ونعيمها، وقال بعضهم‏:‏ لهم جنات النعيم، مِن صفتها‏:‏ أنَّ العبد فيها مُقيم، والنبي فيها نديم، والمضيف فيها الكريم، والثواب فيها عظيم، والعطاء فيها جسيم، والحزن فيها عديم‏.‏ ه‏.‏

‏{‏أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين‏}‏، تقرير لِما قبله من فوز المتقين بجنات النعيم، ورَدٌّ لما يقوله الكفرة عند سماعهم لحديث الآخرة، وما أعدّ للمسلمين، فإنهم كانوا يقولون‏:‏ إن صحّ أنَّا نُبعث كما يزعم محمد ومَن معه، لم يكن حالنا وحالهم إلاَّ مثل ما هي في الدنيا، لم يزيدوا علينا، ولم يفضلونا، فرَدّ الله عليهم‏.‏ والهمزة للإنكار، والعطف على مُقدّر يقتضيه المقام، أي‏:‏ أنحِيفُ في الحُكم، فنجعل المسلمين الذين كابدوا مشاقَ الطاعات، وترك المخالفات، كالكافرين الذين عُجِّلت طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم قيل لهم بطريق الالتفات؛ لتأكيد الرد والتشديد‏:‏ ‏{‏ما لكم كيف تحكمون‏}‏ هذا الحُكم الأعوج، وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأنَّ أمر الجزاء مُفوض إليكم، تحكمون فيه كيف شئتم‏!‏ وهو تعجيب واستبعاد وإيذان بأنه لا يصدر عن عاقل‏.‏ ‏{‏أم لكم كتاب‏}‏ نازل من السماء ‏{‏فيه تدرُسُون‏}‏؛ تقرؤون في ذلك الكتاب، ‏{‏إنَّ لكم فيه‏}‏ أي‏:‏ في ذلك الكتاب ‏{‏لَمَا تخيَّرون‏}‏ أي‏:‏ إن ما تختارونه وتشتهونه حاصل لكم‏!‏ والأصل‏:‏ تدرسون أنَّ لكم ما تتخيرون، بفتح «أنّ» لأنه مدروس، لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام في خبره، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس بلفظه، كقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأخرين سلام عَلَى نُوحٍ فِي العالمين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 78، 79‏]‏ أي‏:‏ تركنا عليه السلام على قولٍ‏.‏ وتخيّر الشيء واختاره‏:‏ أخذ خيره‏.‏

‏{‏أم لكم أَيْمَانٌ علينا‏}‏ أي‏:‏ عهود مؤكدة بالأيمان ‏{‏بالغةٌ‏}‏؛ متناهية في التوكيد ‏{‏إِلى يوم القيامة‏}‏ متعلق بالمقدّر في ‏{‏لكم‏}‏ أي‏:‏ ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو‏:‏ ب «بالغة»، أي‏:‏ تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه، وافرة لم تبطل منها يمين، إلى أن يحصل المقسَم عليه من التحكيم، ‏{‏إِنَّ لكم لَمَا تحكمون‏}‏ به لأنفسكم، وهو جواب القسم، لأنَّ معنى ‏{‏أم لكم أَيمان علينا‏}‏‏:‏ أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد وقلنا والله إنَّ لكم لَمَا تحكمون ‏{‏سَلْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ المشركين، وهو تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، أي‏:‏ سَلْهم مبكتاً لهم‏:‏ ‏{‏أَيُّهُم بذلك‏}‏ الحكم ‏{‏زعيمٌ‏}‏؛ كفيل بأنه لا بد أن يكون ذلك‏.‏

‏{‏أم لهم شركاءُ‏}‏ أي‏:‏ ناس يُشاركونهم في هذا القو، ويذهبون مذهبهم فيه‏؟‏ ‏{‏فليأتوا بشركائهم إِن كانوا صادقين‏}‏ في دعواهم، إذ لا أقل من التقليد فيه، يعني‏:‏ أنَّ أحداً لا يسلّم لهم هذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم بعد عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله هذا، وإنما هو اختلاق وأماني من أنفسهم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالشركاء‏:‏ الأصنام، أي‏:‏ أم لهم أصنام يعبدونها تضمن لهم ذلك‏؟‏ فليحضروها حتى يسمعوا منهم ذلك، وهو تهكُّم به‏.‏

واذكر ‏{‏يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ‏}‏، وجمهور المفسرين على أن الكشف عن ساق عبارة عن شدة الأمر، وصعوبة الخطب، أي‏:‏ يوم يشتد الأمر ويصعب، وقيل‏:‏ ساق الشيء‏:‏ أصله الذي به قوامه، كساق الشجرة وساق الإنسان، أي‏:‏ يوم يُكشف عن أصل الأمر، فتظهر حقائق الأمور وأصولها، بحيث تصير عياناً‏.‏ وتنكيره للتهويل العظيم‏.‏ قال النسفي‏:‏ ولا كشف ثمَّ ولا ساق، ولكن كنّى به عن شدة الأمر؛ لأنهم إذا ابتلوا بالشدّة كَشفوا عن الساق، وقال‏:‏ كشفت الحرب عن ساقها، وهذا كما تقول للشحيح‏:‏ يده مغلولة، ولا يد ثَمَّ ولا غل، وإنما هو كناية عن البخل، وأمّا مَن شبّه فلِضيق عِطفه وقلّة نظره في علم البيان، ولو كان الأمر كما زعم المشبَّه؛ لكان من حقِّ الساق أن يُعرَّف؛ لأنها ساق معهودة عنده‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ انظر الثعلبي، فقد نقل أحاديث الحشر، وكلها تدل على أنَّ كشف الساق حقيقة، وذكر حديث أبي موسى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «‏{‏يوم يُكشف عن ساق‏}‏ قال‏:‏ عن نور عظيم، يخرُّون له سجداً»، ثم ذكر حديث الحشر بتمامه، ومَن كحّل عينيه بإثمد التوحيد الخاص لم يصعب عليه أمثال هذه المتشابهات؛ إذ الحق جلّ جلاله غير محصور، بل يتجلّى كيف شاء، وقد ورد أنه يتجلّى لفصل عباده، فيجلس على كرسيه، وورد أيضاً في حديث كشف الساق‏:‏ أنه يتقدّم أمامهم بعد كشف الساق وسجود المؤمنين له، ثم ينطلق بهم إلى الجنة‏.‏ ذكر الحديث المنذري وغيره، ونقله المحشي الفاسي في سورة البقرة، عند قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلآ أّن يَأْتِيَهُمُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏ الآية، وليس هذا تجسيم ولا حصر؛ إذا ما في الوجود إلاّ تجليات الحق، ومظاهر ذاته‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويُدْعَون إِلى السجود‏}‏ توبيخاً وتعنيفاً على تركهم له في الدنيا، وتحسُّراً لهم على تفريطهم في ذلك، لا تكليفاً، إذ ليست دار تكليف، ‏{‏فلا يستطيعون‏}‏ ذلك؛ لأنَّ ظهورهم تصير كصياصي البقر، وفيه دلالة على أنهم يقصدون السجود فلا يتأتى منهم ذلك‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ تَفقُم أصلابهم، أي‏:‏ تُرد عظماً بلا مفاصل، لا تثنى عند الرفع والخفض‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ «يخرُّون لله سُجداً أجمعون، ولا يبقى أحد كان يسجد لله رياء وسمعة ونفاقاً إلاَّ صار ظهره طبقاً واحداً، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه»‏.‏

‏{‏خاشعةً أبصارُهم‏}‏ أي‏:‏ ذليلة، حال من الضمير في «يُدْعَون»، أي‏:‏ يُدعون في حال خشوع أبصارهم، ونسبة الخشوع إلى الأبصار؛ لظهور أثره فيها، ‏{‏تَرْهَقهم‏}‏ أي‏:‏ تلحقهم وتغشاهم ‏{‏ذلَّةٌ‏}‏ شديدة، ‏{‏وقد كانوا‏}‏ في الدنيا ‏{‏يُدْعَون‏}‏ على ألسنة الرسل ‏{‏إِلى السجود‏}‏، والأصل‏:‏ إليه، وإنما أظهر لزيادة التقرير، أو‏:‏ لأنَّ المراد به الصلاة بما فيها من السجود، والدعوة دعوة تكليف، ‏{‏وهم سالِمون‏}‏ متمكنون منه أقوى تمكُّن، فلا يُجيبون إليه ويأبونه، وإنما لم يذكره معه لظهوره‏.‏

الإشارة‏:‏ إنَّ للمتقين ما سوى الله عند ربهم؛ في حضرة قدسه، جناتِ النعيم، وهي جنات المعارف في نعيم دوام الشهود والرؤية، أفنجعل المسلمين المنقادين لأحكامنا القهرية والتكليفية، كالمجرمين العاصين، ثم وبَّخ مَن سوَّى بينهم وطالبه بالحجة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يُكشف عن ساق‏}‏ أي‏:‏ يوم يتجلّى لعباده بنور من نور ذاته، على صورة آدم، تشريفاً لهذا الآدمي، وفي الحديث‏:‏ «إن الله خلق آدم على صورته» أي‏:‏ على صورته التي يتجلّى بها لعباده في المحشر وفي الجنة، ولا يفهم هذا إلاَّ الغواصون في بحر الأحدية، وحسْب مَن لم يبلغ مقامهم التسليم ونفي التشبيه، فالعارفون يعرفون الله في جميع تجلياته، ولا ينكرونه في شيء منها، وأمّا ما ورد في حديث التجلِّي الأول لأهل المحشر فيُنكرونه، ويقولون‏:‏ «حتى يأتينا ربنا»، فإنما يقول ذلك علماء الظاهر، أهل الدليل، وأما العارفون فقد عرفوه وأقرُّوه، وسكتوا ستراً للسر الذي عرّفهم به، ولذلك كتب ابن العربي الحاتمي إلى الفخر الرازي فقال‏:‏ تعال نعرِّفك بالله اليوم، قبل أن يتجلّى لك يوم القيامة، فتُنكره فيمن يُنكره‏.‏ ه‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ أخبر الله سبحانه أنه يكشف يوم الشهود لعشاقه وأحبابه ومُشتاقيه وعُرفائه عن بعض صفاته الخاصة، ويتجلّى منها لهم، وهو كشف في ستر الغَيرة عن أسرار القِدَم، فيُشاهدونها، فيُدعَون إلى السجود من حيث غشيتهم أنوار العظمة، حتى لا يحرقوا في كَشفِ سر الصفة؛ فإنها موضع العظمة والكبرياء، وبُدُوّ لطائف أنوار أسرار الذات تظهر في لباس الالتباس، حتى لا يفنيهم فناء لا بقاء بعده، والمقصود منه زوائد المحبة، والنظر إلى وجود العظمة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وحاصل كلامه‏:‏ أنّ الحق تعالى إنما تجلّى لعباده في الصورة الآدمية، حتى كشف عن ساقه غِيرةَ على سر الربوبية أن يظهر، وهو المراد بقوله‏:‏ يكشف لعشاقه عن بعض صفاته، ويتجلى منها أي‏:‏ من تلك الصورة لهم، وهو كشف في ستر الغيرة‏.‏ وأيضاً‏:‏ لو كشف لهم عن أسرار جبروته بلا واسطة لاحترقوا، لكن تجلّى بأنوار صفاته ليطيقوا رؤيته، يظهر لهم في لباس الالتباس، وهو إظهار الصورة الآدمية، ليبقوا بين فناء وبقاء، بين سكر وصحو، ولو تجلّى بأسرار ذاته الأصلية لاحترقوا، أو سكروا بلا صحو، وفنوا بلا بقاء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 50‏]‏

‏{‏فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فَذَرْني ومَن يُكذِّب بهذا الحديث‏}‏ أي‏:‏ القرآن، والمعنى‏:‏ كِلّ أمره لي، وخلِّ بيني وبينه، فإني أكفيك أمره؛ لأني عليم بما يستحق من العذاب، ومطيق له‏.‏ والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية، أي‏:‏ إذا كان حالهم في الآخرة كذلك فذرْني ومَن يُكَذِّب بالقرآن، وتوكل عليّ في الانتقام منه، ‏{‏سنستدرجُهم‏}‏؛ سنُدْنيهم من العذاب درجة درجة، يقال‏:‏ استدرجه إلى كذا، أي‏:‏ استنزله إليه درجة بدرجة حتى يورطه فيه، واستدراجه تعالى للعصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلون رزقَ الله ذريعة إلى معاصيه‏.‏ والجملة استئناف مسوق لبيان التعذيب المستفاد من الأمر إجمالاً في قوله‏:‏ ‏{‏فذرني‏}‏ والضمير ل «من»، والجمع باعتبار معناها، كما أنَّ الإفراد في «يُكذِّب» باعتبار لفظها، أي‏:‏ سنسوقهم إلى العذاب ‏{‏من حيث لا يعلمون‏}‏ أي‏:‏ من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج، قيل‏:‏ كلما جدّدوا معصيةً جدّدنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا رأيت الله تعالى يُنعم على عبد، وهو مقيم على معصية، فاعلم أنه مُستدرج» ثم تلا هذه الآية‏.‏

‏{‏وأُمْلِي لهم‏}‏؛ وأمهلهم ليزدادوا إثماً، وهم يظنون أنه لإرادة الخير بهم، ‏{‏إِنَّ كيدي متينٌ‏}‏؛ قوي شديد، لا يوقف عليه، فسمّى إحسانه وتمكينه كيداً كما سمّاه استدراجاً؛ لكونه في صورة الكيد، حيث كان سبباً للهلاك‏.‏ والحاصل‏:‏ أن معنى الكيد والمكر والاستدراج، هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يُسمى الله كائداً وماكراً ومُسْتَدْرِجاً؛ لعدم التوقيف، وأسماؤه تعالى توقيفيه‏.‏

‏{‏أم تسألهم‏}‏ على تبليغ الرسالة ‏{‏أجراً‏}‏ دنيوياً ‏{‏فهم من مِغْرَمٍ‏}‏ أي‏:‏ من أجل غرامة ‏{‏مثقَلُون‏}‏؛ مكلفون حملاً ثقيلاً، فيعرضون عنك لأجل ما تكلفهم به‏؟‏ والاستفهام بمعنى النهي‏.‏ ‏{‏أم عندهم الغيب‏}‏ أي‏:‏ اللوح المحفوظ، أو علم المغيبات، ‏{‏فهم يكتبون‏}‏ منه ما يحكمون به، فيستغنون عن علمه‏؟‏

‏{‏فاصبرْ لحُكم ربك‏}‏ أي‏:‏ ما حكم به، وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم؛ لأنهم وإن أُمهلوا لم يُهمَلوا، ‏{‏ولا تكن كصاحِب الحوت‏}‏؛ يونس عليه السلام في العَجَلة والغضب على القوم حتى ابتلي ببلائه، ‏{‏إِذ نادَى‏}‏ في بطن الحوت ‏{‏وهو مكظوم‏}‏ مملوء غيظاً‏.‏ والجملة حال من ضمير «نادى» وعليه يدور النهي، لا على النداءِ؛ فإنه أمر مستحسن، ولذلك لم يذكر المنادَى، و«إذ» منصوب بمضاف محذوف، أي‏:‏ لا يكن حالك كحاله وقت ندائه، أي‏:‏ لا يوجد منك ما وُجد منه من الضجر والمغاضبة فتُبتلى ببلائه، ‏{‏لولا أن تدارَكه نعمةٌ‏}‏؛ رحمة ‏{‏من ربه‏}‏ أي‏:‏ لولا أنَّ الله أنعم عليه بإجابة دعائه، وقبول عذره، أو‏:‏ لتوفيقه للتوبة وقبولها منه، ‏{‏لنُبذ بالعراءِ‏}‏؛ بالأرض الخالية من الأشجار ‏{‏وهو مذموم‏}‏؛ معاتَب بعجلته، لكنه رُحم، فنُبذ غير مذموم، بل مَرْضِي مقبول‏.‏

‏{‏فاجتباه ربُّه‏}‏؛ اصطفاه لرسالته ببركة دعائه وتسبيحه، فأعاد إليه الوحي، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وقيل‏:‏ استنبأه، وكان لم يُنبأ قبل هذه الواقعة، ‏{‏فجعله من الصالحين‏}‏؛ من الكاملين في الصلاح، أو‏:‏ من الأنبياء والمرسَلين‏.‏ والوجه هو الأول؛ لأنه كان نبياً مرسَلاً قبل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ إلىَ الفلك المشحون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 139، 140‏]‏ الخُ‏.‏ رُوي أنها نزلت بأُحد، حين هَمّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين من المؤمنين، وهو ضعيف؛ لأنَّ السورة كلها مكية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ذَرني ومَن يُكذِّب بهذا الحديث؛ حديث أهل الخصوصية، وهو الكلام في علم أسرار التوحيد، الذي هو مدار علم الباطن، فمَن يُنكره أو يُنكر وجودَ أهله فهو مستدرَج مغرور، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، أي‏:‏ ندرجهم إلى مقام البُعد درجة درجة، من حيث لا يشعرون، فهم يحسبون أنهم يصعدون، وهم يسقطون، يطنون أنهم يُرقِّقون الحجاب بينهم وبين الله، وهم يغلظونه‏.‏ قيل‏:‏ حقيقة الاستدراج هو السكون إلى اللذات، والتنعُّم بالنعمة، ونسيان ما تحت النِعم من النقم‏.‏ ه‏.‏ وهذا حال مَن يُنكر وجود التربية، أو دخل فيها ولم يمتثل ما يُشير به عليه شيخُه‏.‏ ويقال لمَن يدعو الناس إلى الله، وهم يفرُّون‏:‏ أم تسألهم أجراً فهم من مَغرم مُثقلون، وإنما يثقل العطاء على مَن لم يذق، وأمّا مَن ذاق فلا يثقل عليه الوجود بأسره، بل يبذل مُهجته ورُوحه وماله، ويستصغره في جانب ما نال من أسرار المعرفة‏.‏ ويقال له أيضاً حين يُؤذَى‏:‏ فاصبر لحُكم ربك، ولا تستعجل حتى يجتبيك ربُّك، فتكون من الصالحين لحضرته، قال الواسطي‏:‏ الاجتبائية أورثت الصلاح، لا الصلاح أورث الاجتبائية‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِن يكادُ الذين كفروا لَيُزْلِقُونك بأبصارهم‏}‏، يقال‏:‏ زَلَقه زَلَقاً، وأزلقه إزلاقاً‏:‏ أزاله عن مكانه، و«إن» مخففة، أي‏:‏ وإن الشأن يقرب الذي كفروا من شدّة عداوتهم، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة أن يزيلوك عن مكانك، ويزلقوا قدمك عن مكانه، أو‏:‏ يهلكوك لشدة حنقهم عليك، وكانت في بني أسد عيانون، فكان الرجل منهم يجوع ثلاثة أيام، فلا يمر به شيء فيقول فيه‏:‏ لم أرَ كاليوم مثله؛ إلاّ هلك، فأراد بعضُهم أن يَعين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فعصمه الله من ذلك، فنزلت‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «العين حق، وإن العين لَتُدْخِل الجمل القِدر، والرجلَ القبر»، وهي من خصائص بعض النفوس‏.‏ وعن الحسن‏:‏ دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية‏.‏ ه‏.‏

و ‏{‏لمَّا سمعوا‏}‏‏:‏ ظرف ليُزلقونك، أي‏:‏ يهلكونك وقت سماعهم ‏{‏الذكرَ‏}‏ أي‏:‏ القرآن، أي‏:‏ لاشتداد بغضهم وحسدهم وقت سماعه، ‏{‏ويقولون‏}‏ لغاية حيرتهم في أمره صلى الله عليه وسلم، ونهاية جهلهم لِما في تضاعيف القرآن من عجائب الحِكَم وبدائع العلوم المحجوبة عن العقول‏:‏ ‏{‏إنه لمجنونٌ‏}‏ أي‏:‏ إنَّ محمداً لمجنون، حيرةً في أمره، وتنفيراً للناس عنه، ‏{‏وما هو‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏إِلاَّ ذكر للعالمين‏}‏ أي‏:‏ وعظ وتذكير للجن والإنس، والجملة‏:‏ حال، أي‏:‏ يقولون ذلك، والحال أنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، فإنَّ مَن أنزل ذلك، وهو مطَّلع على أسراره طرًّا، ومحيط بحقائقه خُبراً، عليم بما قالوه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ شرف وفضل، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ وقيل‏:‏ الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكونه مُذكِّراً وشرفاً للعالمين لا ريب فيه‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم، مع الكفرة من إرادة إزلاقه ببصرهم حسداً، ورميهم له بالجنون، يُقال في أهل الإنكار على الأولياء معهم، فهي سنّة ماضيه، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير‏:‏ ونعوذ بك من شر الحُسَّاد على ما أنعمت‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏