فصل: سورة القيامة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا أُقسم‏}‏ أي‏:‏ أُقسم‏.‏ وإدخال «لا» النافية على فعل القسم شائع، كإدخاله على المقسم به في «لا وربك» و«لا والله»، وفائدتها‏:‏ توكيد القسم، وقيل‏:‏ صلة، كقوله‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ وقيل‏:‏ هي نفي وَرَدَ لكلام معهود قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث، فقيل‏:‏ لا، أي‏:‏ ليس الأمر كذلك، ثم قال‏:‏ أُقسم ‏{‏بيوم القيامة‏}‏ إنَّ البعث لواقع‏.‏ وأيًّا ما كان ففي الإقسام على تحقيق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا يخفى‏.‏ وقيل‏:‏ أصله‏:‏ لأُقسم، كقراءة ابن كثير على أنَّ اللام للابتداء، و«أٌقسم»‏:‏ خبر مبتدأ مضمر، أي‏:‏ لأنا أُقسم، ويُقويه أنه في الإمام بغير ألف ثم أشبع فجاء الألف‏.‏

‏{‏ولا أٌقسم بالنفس اللوّامة‏}‏، الجمهور على أنه قسم آخر، وقال الحسن‏:‏ الثانية نفي، أي‏:‏ أُقسم بيوم القيامة لا بالنفس اللوّامة، فيكون ذمًّا لها، وعلى أنه قسم يكون مدحاً لها، أي‏:‏ أقسم بالنفس المتقية، التي تلوم صاحبها على التقصير، وإن اجتهدت في الطاعة‏.‏ أو‏:‏ بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمّارة، وقيل‏:‏ المراد الجنس، لِما رُوي أنه عليه السلام قال‏:‏ «مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فَاجِرَةٍ إِلاَّ وتلُومُ نفسها يوم القِيامَة، إنْ عَملت خَيْراً، قالت‏:‏ كيف لم أزدْ‏؟‏‏!‏ وإِنْ عملت شرًّا قالت‏:‏ ليتني كُنتُ قصرتُ» وذكره الثعلبي من كلام البراء‏:‏ قال أبو السعود‏:‏ ولا يخفى ضعفه؛ لأنِّ هذا القدر من اللوم لا يكون مدراراً للإعظام بالإقسام، وإن صدَر عن النفس المؤمنة المحسنة، فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس، وقيل‏:‏ بنفس آدم عليه السلام فإنها لا تزال تتلوَّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة‏.‏

وجواب القسم‏:‏ لتُبعثنّ، دليله‏:‏ ‏{‏أيَحْسَبُ الإِنسانُ‏}‏ أي‏:‏ الكافر المنكرِ للبعث ‏{‏ألَّن نجمعَ عِظامه‏}‏ بعد تفرّقها ورجوعها عظاماً رفاتاً مختلطاً بالتراب، أو‏:‏ نسفَتْها الرياح وطيَّرتها في أقطار الأرض، أو‏:‏ ألقتها في البحار‏.‏ وقيل‏:‏ إنَّ عَدِيّ بن ربيعة، خَتنَ الأخنس بن شريق، وهما اللذان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم اكفني جارَيْ السوء، عَدياً والأخنس» قال عَدِيّ‏:‏ يا محمد، حدِّثنا عن يوم القيامة متى يكون، وكيف أمرها وحالها‏؟‏ فأخبره عليه السلام، فقال‏:‏ يا محمد؛ لو عاينتُ ذلك لم أصدقك، ولم أُومِنْ بك، أَوَيجمعُ الله هذه العظام‏؟‏ فنزلت‏.‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي‏:‏ نجمعها حال كوننا ‏{‏قادرين على أن نُسَوّي بنانه‏}‏ أي‏:‏ أصابعه كما كانت في الدنيا بلا انفصال ولا تفاوت مع صغرها، فكيف بكبار العِظام‏؟‏‏!‏ ‏{‏بل يريد الإِنسانُ لِيَفجُر أمامه‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏أيحسب‏}‏ إمّا على أنه استفهام توبيخي، أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو‏:‏ على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام، أي‏:‏ بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وما يستقبله من الزمان، لا يرعوي عنه‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏لِيفجُر أمامه‏}‏ أي‏:‏ يعزم على أنه يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته، ولا يحلّ عقدةَ الإصرار من قلبه، فلا تصحّ توبتُه؛ لأنّ التوبة من شرطها‏:‏ العزم على أن لا يعودَ إلى مثل ما عَمِل، فإذا كان استحلى الزلّة في قلبه، وتفكّر في الرجوع إلى مثله فلا تصح ندامتُه‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏ليفجُرَ أَمامَه‏}‏ أي‏:‏ يكفر بما قُدامه، ويدل على هذا قوله‏:‏ ‏{‏يسأل أيَّانَ يومُ القيامةِ‏}‏ أي‏:‏ متى يكون‏؟‏ استبعاداً واستهزاءً‏.‏

‏{‏فإِذا بَرِقَ البصرُ‏}‏ أي‏:‏ تحيَّر، من‏:‏ برق الرجل‏:‏ إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، وقرأ نافع بفتح الراء، وهي لغة، أو من البريق، بمعنى لمع من شدة شخوصه، ‏{‏وخَسَفَ القمرُ‏}‏؛ ذهب ضوؤه أو غاب، من قوله‏:‏ ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 81‏]‏ وقرىء‏:‏ خُسف، بضم الخاء‏.‏ ‏{‏وجُمعَ الشمسُ والقمرُ‏}‏ أي‏:‏ جُمع بينهما، ثم يُكوّران ويُقذفان في النار، أو يُجمعان أسودين مكورين، كأنهما ثوران عقِيران‏.‏ وفي قراءة عبد الله‏:‏ «وجمع بين الشمس والقمر»‏.‏ وقال عطاء بن يسار‏:‏ يجمع بينهما يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، أو‏:‏ جمع بينهما في الطلوع من المغرب‏.‏ ‏{‏يقول الإِنسانُ يومَئذٍ‏}‏ أي‏:‏ حين تقع هذه الأمور العظام‏:‏ ‏{‏أين المفَرُّ‏}‏ أي‏:‏ الفرار من النار، يائساً منه، والمراد بالإنسان‏:‏ الكافر، أو‏:‏ الجنس، لشدة الهول‏.‏ قال القشيري‏:‏ وذلك حين تُقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك، فيقول الإنسان‏:‏ أين المفر‏؟‏ فيقال‏:‏ لا مهرب من قضاء الله، «إلى ربك يومئذ المستقر»، أي‏:‏ لا محيد عن حكمه‏.‏ ه‏.‏ والمفر‏:‏ مصدر، وقرأ الحسن بكسر الفاء، فيحتمل المكان أو المصدر‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏؛ ردعٌ عن طلب المفرّ وتمنِّيه، ‏{‏لا وَزرَ‏}‏؛ لا ملجأ ولا حصن، وأصل الوَزر‏:‏ الجبل الذي يمتنع فيه‏.‏ قال السدي‏:‏ كانوا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال تعالى‏:‏ لا جبل يعصمكم يومئذ مني، ‏{‏إِلى ربك يومئذ المستقَرُّ‏}‏ أي‏:‏ إليه خاصة استقرار العباد ومنتهى سيرهم، أو‏:‏ إلى حُكمه استقرار أمرهم، أو‏:‏ إلى مشيئته موضع قرارهم، يُدخل مَن يشاء الجَنة ومَن يشاء النار، ‏{‏يُنبّأُ الإِنسانُ يومئذٍ‏}‏ أي‏:‏ يُخبر كل امرىء، برًّا كان أو فاجراً، عند وزن الأعمال ‏{‏بما قَدَّم‏}‏ من عمله خيراً كان أو شرًّا، فيُثاب على الأول، ويُعَاقب على الثاني، ‏{‏وما أخَّرَ‏}‏ أي‏:‏ لم يعمله خيراً كان أو شرًّا، فيُعاقب بالأول ويثاب على الثاني، أو‏:‏ بما قدّم من حسنة أو سيئة قبل موته، وبما أَخَّرَ من حسنة أو سيئة سَنَّها فعُمل بها بعد موته، أو‏:‏ بما قدّم في أول عمره، وأخَّرَ عمله في آخر عمره، أو‏:‏ بما قَدَّم من أمواله أمامه، وأخَّرَ آخره لورثته، نظيره‏.‏

‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 5‏]‏‏.‏

‏{‏بل الإِنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ‏}‏ أي‏:‏ شاهِدٌ بما صدر عنه من الأعمال السيئة، كما يُعرب عنه التعبير ب «على» وما سيأتي من الجملة الحالية، والتاء للمبالغة، كعلاّمة، أو‏:‏ أنّثه لأنه أراد به جوارحه؛ إذ هي التي تشهد عليه، أو‏:‏ هو حُجّة على نفسه، والبصيرة‏:‏ الحُجة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 104‏]‏ وتقول لغيرك‏:‏ أنت حُجّة على نفسك‏.‏ ومعنى «بل»‏:‏ الترقي، أي‏:‏ يُنبأ الإنسان بأعماله، بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله، شاهد على نفسه، لأنّ جوارحه تنطق بذلك‏.‏ و«بصيرة»‏:‏ مبتدأ، و«على نفسه»‏:‏ خبر مقدّم، والجملة‏:‏ خبر «الإنسان»، ‏{‏ولو أَلْقَى معاذِيرَه‏}‏‏:‏ حال من الضمير في «بصيرة»، أو‏:‏ من مرفوع ‏(‏ينبأ‏)‏ أي‏:‏ ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه أي‏:‏ هو بصيرة على نفسه، تشهد عليه جوارحُه، ويُعمل بشهادتها، ولو اعتذر بكل معذرة، أو يُنبأ بأعماله ولو اعتذر‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ والمعاذير‏:‏ اسم جمع للمعذرة، كالمناكير اسم جمع للمنكَر، لا جمع؛ لأنّ جمعها معاذِر بالقصر، وقيل‏:‏ جمع «مِعْذار» وهو‏:‏ الستر، أي‏:‏ ولو أرخى ستوره‏.‏ وقيل‏:‏ الجملة استئنافية، أي‏:‏ لو ألقى معاذيره ما قُبلت منه، لأنَّ عليه مَن يُكذِّب عُذره، وهي جوارحه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد قرن الله تعالى قسَمَه بالنفس اللوّامة بِقسَمِه بيوم القيامة، لمشاركتها له في التعظيم، بل النفس اللوَّامة أعظم رتبة عند الله، لأنها تكون لوّامة تلوم صاحبها على القبائح، ثم تكون لهَّامة تُلهمه الخيرات والعلوم اللدنية، ثم تكون مطمئنة، حين تطمئن بشهود الحق بلا واسطة، بل تستدل بالله على غيره، فلا ترى سواه، فحينئذ ترجع إلى أصلها، وتُرجع الأشياء كلها إلى أصولها، وهو القِدَم والأبد، فيتلاشى الحادث ويبقى القديم وحده، كما كان وحده‏.‏ فالنفوس أربعة‏:‏ أمّارة، ولوّامة، ولهّامة، ومطمئنة، وهي في الحقيقة نفس واحدة، تتطور وتتقلب من حال إلى حال، باعتبار التخلية والتحلية، والترقية والتردية فأصلها الروح، فلما تظلّمت سميت نفساً أمّارة ثم لوّامة، ثم لهّامة، ثم مطمئنة‏.‏

قال القشيري‏:‏ أيحسب الإنسان، أي‏:‏ الإنسان المحجوب بنفسه وهواه، ألَّن نجمع عِظامه؛ أعماله الحسنة والسيئة، بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه، أي‏:‏ صغار أفعاله الحسنة والسيئة، بل يُريد الإنسان المحجوب لِيَفْجُرَ أمامه، بحسب الاعتقاد والنية، قبل الإتيان بالفعل، أي‏:‏ يعزم على المعاصي في المستقبل قبل أن يفعل، يسأل أيَّان يوم القيامة‏؟‏ لطول أمله، ونسيان آخرته، ولو فُتحت بصيرتُه لَشَاهد القيامة في كل ساعة ولحظة، بتعاقب تجلي الإفناء والإبقاء‏.‏ فإذا بَرِقَ البصرُ‏:‏ تحيّر من سطوات أشعة سبحات التجلِّي الأحدي الجمعي، وخسَف القمر أي‏:‏ ستر نور قمر القلب بنور شمس الروح، وجُمع الشمس والقمر، أي‏:‏ جُمع شمس الروح وقمر القلب، بالتجلِّي الأحدي الجمعي، يعني‏:‏ فيغيب نور قمر الإيمان في شعاع شمس العرفان، يقول الإنسان يومئذ‏:‏ أين المفر‏؟‏ من خوف الاضمحلال والاستهلاك، وليس عنده حينئذ قوة التمكين فيخاف من الاصطلام، إلى ربك يومئذ المستقر بالرسوخ والتمكين، بعد الفرار إلى الله، قال تعالى‏:‏

‏{‏فَفِرُّوا إِلَى اللهِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 50‏]‏‏.‏ ه‏.‏ بالمعنى‏.‏

يُنبأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّم من المجاهدة، حيث يرى ثمرتها، وما أَخَّرَ، حيث يرى شؤم تفريطه فيها، فالمشاهدة على قدر المجاهدة، فبقدر ما يُقَدِّم منها تعظم مشاهدته، وبقدر ما يُؤخِّر منها تَقِلّ‏.‏ بل الإنسان على نفسه بصيرة، يرى ما ينقص من قلبه وما يزيد فيه، ويشعر بضعفه وقوته، إن صحّت بصيرته، وطهرت سريرته، فإذا فرط في حال سيره لا يقبل عذره، ولو ألقى معاذيره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ اختلف المفسرون في وجه المناسبة في هذه الآية، فقال بعضهم‏:‏ ما تضمنه من الاقتدار على حفظه وإبقائه في قلبه، بإخراجه عن كسبه وإمساكه وحفظه، فالقادر على ذلك قادر على إحياء الموتى وجمع عظامها، وتسوية بنانها‏.‏ ونَقَل الطيبي عن الإمام الفخر‏:‏ أنه تعالى لمّا أخبر عن الكفار أنهم يُحبون العاجلة، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏بل يُريد الإنسان لِيفجُر أَمامه‏}‏ بيَّن أنَّ العَجَلة مذمومة، ولو فيما هو أهم الأمور وأصل الدين، بقوله‏:‏ ‏{‏لا تُحرِّكْ به لسانَك‏}‏ فاعترض به، ليؤكد التوبيخ على حب العاجلة بالطريق الأولى‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ اعترض نزولُها في وسطِ السورة قبل أن تكمل، فوُضعت في ذلك المحل، كمَن كان يسرد كتاباً ثم جاء سائل يسأل عن نازلةٍ، فيطوي الكتابَ حتى يُجيبه، ثم يرجع إلى تمام سرده‏.‏ انظر الإتقان‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لا تُحرِّكْ به‏}‏؛ بالقرآن ‏{‏لسانَكَ لِتعجَلَ به‏}‏، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل، كراهة أن يتفلّت منه، فقيل له‏:‏ لا تُحرك لسانك بقراءة الوحي، ما دام جبريل يقرأ، ‏{‏لِتعجَلَ به‏}‏؛ لتأخذه على عجلة، لئلا يتفلّت منك، ثم ضَمِنَه له بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ علينا جَمْعَه‏}‏ في صدرك، ‏{‏وقرآنه‏}‏؛ وإثبات قراءته في لسانك، فالمراد بالقرآن هنا‏:‏ القراءة، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَلآ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏، ‏{‏فإِذا قرأناه‏}‏ على لسان جبريل ‏{‏فاتَّبعْ قرآنه‏}‏ أي‏:‏ قراءته، ‏{‏ثم إِنَّ علينا بيانَهُ‏}‏ إذا أشكل عليك شيء مِن معانيه وأحكامه‏.‏

الإشارة‏:‏ لا تُحرِّكْ بالواردات الإلهية لسانك لِتَعْجَل به حين الإلقاء، بل تمهّل في إلقائه ليُفهم عنك، إنَّ علينا جمعه وقرآنه، أي‏:‏ حفظه وقراءته، فإذا قرأناه على لسانك في حال الفيض فاتبع قرآنه، ثم إنَّ علينا بيانه‏.‏ وفي الحِكم‏:‏ «الحقائق ترد في حال التجلي جملة، وبعد الوعي يكون البيان، ‏{‏فإذا قرأناه فاتبعْ قرآنه إنَّ علينا بيانه‏}‏»‏.‏ ولا شك أنَّ الواردات في حال الفيض تبرز مجملةً، لا يقدر على حصرها ولا تَفَهُّمِها، فإذا فَرَغَ منها قولاً وكتابة فتَدَبرها وجدها صحيحةَ المعنى، واضحةَ المبنى، لا نقص فيها ولا خلل، لأنها من وحي الإلهام، وكان بعض المشايخ يقول لأصحابه‏:‏ إني لأستفيد مني كما تستفيدون أنتم، وكان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إذا فاض بالمواهب يقول‏:‏ هلاَّ مَن يكتب عنا هذه الأسرار‏.‏ إلى غير ذلك مما هو مُدوَّن عند أهل الفن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 40‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏كلاَّ‏}‏ أي‏:‏ انزجروا عما أنتم عليه من إنكار البعث والفجور، ‏{‏بل تُّحبون العاجلةَ وتَذَرون الآخرة‏}‏ أي‏:‏ بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل، وجُبلتم عليه، تَعْجلون في كل شيء، ولذلك تُحبون العاجلة مع فنائها وسرعة ذهابها، ‏{‏وتذرون الآخرة‏}‏ مع بقائها ودوام نعيمها‏.‏ قال بعضهم‏:‏ لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والعكس، الآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من طين يفنى‏.‏ ومَن قرأ بالغيب فالكلام مع الكفرة‏.‏

‏{‏وجوه يومئذٍ ناضرةٌ‏}‏ أي‏:‏ وجوه كثيرة، وهي وجوه المؤمنين المخلصين، يوم إذ تقوم القيامة، بهية متهللة، يشاهَدُ عليها نَضْرة النعيم، ‏{‏إِلى ربها ناظرةٌ‏}‏ أي‏:‏ مستغرِقة في مشاهدة جماله، فتغيب عما سواه‏.‏ ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا، فيتنعّم كل واحد في النظرة على قدر حضوره هنا، ومعرفته‏.‏

ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة، واقعة في الدارين عند العارفين، وهذه الآية شاهدة لذلك، وهي مخصَّصة لقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ أي‏:‏ لا تراه، على قولٍ‏.‏ قال بعضُهم‏:‏ هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده، حسبما ورد في الصحيح‏.‏ وقوله في الحديث‏:‏ «فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها»، المراد بالصورة‏:‏ الصفة، والمعنى‏:‏ أنهم يرونه ثانياً على ما يعرفونه من صفاته العلية، وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال‏.‏

والمقصود من الآية‏:‏ تقبيح رأي حب العاجلة بذكر حسن عاقبة حب الآجلة، أي‏:‏ كيف يذر العاقل مثل تلك المسرّة، التي ليس فوقها شيء، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدنية، أم كيف يغتر بعروض هذا السرور وعاقبته الهلاك والثبور‏؟‏ انظر الطيبي‏.‏ وحَمْل النظرعلى الانتظار لأمر ربها، أو لثوابها، لا يصح خلافاً للمعتزلة؛ لأنَّ الانتظار لا يُسْند إلى الوجه، وأيضاً‏:‏ المستعمل بمعنى الانتظار لا يتعدّى ب «إلى»، مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار‏.‏

‏{‏ووجوه يومئذٍ باسرٍةٌ‏}‏ أيك كالحة، شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار‏.‏ ‏{‏تظن‏}‏ أي‏:‏ يتوقع أربابُها ‏{‏أن يُفعل بها فاقِرة‏}‏ أي‏:‏ داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر‏.‏ ‏{‏كلاَّ‏}‏، ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة، أي‏:‏ ارتدعوا عن ذلك وتنبّهوا لِما بين أيديكم من الموت، الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلّدين، وذلك ‏{‏إِذا بلغتِ‏}‏ الروح ‏{‏التراقيَ‏}‏، ولم يتقدّم للروح ذكر؛ إلاَّ أنَّ السياق يدل عليها، والتراقي‏:‏ العظام المكتنفة لحفرة النحر عن يمين وشمال، جمع‏:‏ ترقوة، أي‏:‏ إذا بلغت أعالي الصدور، ‏{‏وقيلَ مَن راقٍ‏}‏ أي‏:‏ قال مَن حضر المحتضر‏:‏ مَن يرقيه وينجيه مما هو فيه من الموت‏؟‏ وهو من الرُقية، وقيل‏:‏ هو من كلام ملائكة الموت، أي‏:‏ أيكم يَرْقَى بروحه، ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب‏؟‏ من الترقِّي‏.‏

‏{‏وظنَّ أنه الفِراقُ‏}‏ أي‏:‏ تيقّن المحتضرُ أنَّ ما نزل به هو الفِراق من دار الدنيا ونعيمها التي كان يحبها ‏{‏والتفَّتِ الساقُ بالساقِ‏}‏ أي‏:‏ التوت ساقاه بعضها على بعض عند موته‏.‏ وعن سعيد بن المسيِّب‏:‏ هما ساقاه حين تُلفّان في أكفانه، وقيل‏:‏ شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة على أنَّ الساق مَثَلٌ في الشدة‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ هَمَّان‏:‏ هَمٌّ الولد، وهَمُّ القدوم على الواحد الصمد‏.‏ ‏{‏إِلى ربك يومئذٍ المساقُ‏}‏ أي‏:‏ إلى الله وإلى حكمه يُساق، لا إلى غيره، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار، وهو مصدر‏:‏ ساقه مساقاً‏.‏

‏{‏فلا صدَّق‏}‏ ما يجب به التصديق، من الرسول والقرآن الذي نزل عليه، أو‏:‏ فلا صدّق ماله زكاه، ‏{‏ولا صَلَّى‏}‏ مافُرض عليه، والضمير فيها للإنسان المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏، أو‏:‏ إلى المحتضر المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏إذا بلغت التراقي‏}‏، وهو أقرب‏.‏ ‏{‏ولكن كذَّب‏}‏ بما ذكر من الرسول والقرآن ‏{‏وَتَولَّى‏}‏ عن الإيمان والطاعة، ‏{‏ثم ذهب إلى أهله يَتَمطَّى‏}‏؛ يبختر بذلك، وأصله‏:‏ يتمطط، أي‏:‏ يتمدّد؛ لأنّ المتبختر يَمُدُّ خطاه، فأبدلت الطاءُ ياءً؛ لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة، قال في النهاية‏:‏ مِشْيةٌ مُطيْطاء، بالقصر والمد، أي‏:‏ فيها تَبخْتُرن ويقال‏:‏ مَطَوْتُ ومَطَطْتُ بمعنى مدَدْتُ، وهي من المُصَغَّراتٍ التي لم يُستعمل لها مُكَبَّرٌ‏.‏ ه‏.‏ أو‏:‏ من المطا، وهو الظَّهْر فإنه يلويه‏.‏

‏{‏أَوْلَى لك فأَوْلَى‏}‏ أي‏:‏ ويل لك، وأصله‏:‏ أولاك الله ما تكره، واللام مزيدة، كما في قوله‏:‏ ‏{‏رَدِفَ لَكُم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ أو‏:‏ أولى الهلاك لك فأولى، وقيل‏:‏ هو مقلوب من الويل، وقيل‏:‏ أولى بالعذاب وأحق به، وقيل‏:‏ من الوَلى، وهو القرب أي‏:‏ قاربه ما يهلكه‏.‏ ‏{‏ثم أَوْلَى لك فأَوْلَى‏}‏، كرر للتأكيد، كأنه قيل‏:‏ ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك، وقيل‏:‏ التكرير فيه، لأنه أراد بالأول‏:‏ الهلاك الدنيوي وفي القبر والبرزخ ثم في القيامة، ثم في النار‏.‏ ‏{‏أيَحْسَبُ الإِنسانُ أن يُترك سُدىً‏}‏؛ أيظن الكافرُ أن يُترك مُهْمَلاً، لا يُؤمر ولا يُنهى ولا يُبعث ولا يُجازَى، ‏{‏ألم يكُ نطفة مِن مَنِيٍّ تُمنى‏}‏ ‏؟‏ أي‏:‏ تُراق في الأرحام، ‏{‏ثم كان علقةً‏}‏ أي‏:‏ صار المَنِي قطعة دم جامد، بعد أربعين يوماً ‏{‏فخَلَقَ فسَوّى‏}‏ أي‏:‏ فخلق الله منها بشراً سويًّا‏؟‏ ‏{‏فجعل منه‏}‏؛ من الإنسان، أو‏:‏ من المَنِي ‏{‏الزوجين‏}‏؛ الصنفين ‏{‏الذكرَ والأُنثى‏}‏ لحكمه بقاء النسل، ‏{‏أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى‏}‏ وهو أهون من البدء في قياس العقول‏؟‏ كان عليه السلام إذا قرأها يقول‏:‏ «سبحانك‏!‏ بلى»‏.‏

الإشارة‏:‏ قال في الإحياء‏:‏ اعلم أنَّ رأس الخطايا والمهِلكة هو حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة هو‏:‏ التجافي بالقلب عن دار الغرور‏.‏

ثم قال‏:‏ واعلم أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلاَّ بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلاَّ بدوام الفكر، ولا يحصل الأنس إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسَّر المواظبة على الذكر إلاَّ بإقلاع حب الدنيا من القلب، ولا يقع ذلك إلاّ بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوات بشيءٍ كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات‏.‏ ه‏.‏ على نقل صاحب الجواهر‏.‏

ومَن أسعده الله بلقاء شيخ التربية هان عليه معالجة النفس من غير تعب، في أقرب وقت، بحيث يُغيّبه عنها، ويزُجه في الحضرة، في أقرب زمان، فيدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوده يومئذ ناضرةٌ إِلى ربها ناظرةٌ‏}‏ فتحصل له النضرة والنظرة في الدنيا والآخرة فيفنى عن نظره حسُّ الكائنات وتظهر أسرار الذات الأزلية للعيان بادية، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى سواه، وينشد ما قال الشاعر‏:‏

فَلم يَبْق إلاّ الله لم يبقَ كائن *** فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثَمَّ بائِنُ

بِذَا جاء بُرهانُ العَيانِ فما أرى *** بِعَيني إلاَّ عينَه إذْ أُعايِنُ

قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ ناضرةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، يُقال‏:‏ هذه الآية دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا يداخلهم حيرة ولا دهش، لأنَّ النضرة من أمارات البسط، والبقاء في حال اللقاء أتم من اللقاء، والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي‏.‏‏.‏ الخ كلامه‏.‏ ‏{‏ووجوه يومئذ باسِرة‏}‏ وهي وجوه أهل الغفلة، المحجوبين في الدنيا عن شهود الحق، تظن أن يُفعل بها داهية فاقرة، لِما فرّطت في جنبه تعالى من عدم التوجه إليه، كلاَّ، فلترتدع اليوم، ولتنهض قبل فوات الإبان، وهو إذا بلغت الروحُ التراقي، وقيل‏:‏ مَن راقٍ‏؟‏ والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق، فيحصل الندم، وقد زلّت القدم، فلا صدّق بوجود الخصوصية عند أربابها، فيصحبهم ليزول عنه الغين والمرض، أي‏:‏ غين الحجاب ومرض الخواطر والشكوك، ولا صلَّى صلاةَ القلوب، ولكن كذَّب بوجود الطبيب، وتولِّى عنه مع ظهوره، ثم ذهب إلى هواه ودنياه يتمطى، أَوْلَى لك فأَوْلى، أي‏:‏ أبعدك الله وطردك، ثم أَوْلَى لك فأوْلى، أيحسب الإنسانُ أن يتركه الحقُ سدىً، من غير أن يُرسل له داعياً يدعوه إلى الحق‏؟‏ ألم يك نطفة مهينة، ثم صوَّره ونفخ فيه من روحه، أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى‏؟‏ أي‏:‏ القلوب والأرواح الميتة، بالعلم والمعرفة، بلى وعزة ربنا إنه لَقادر، «مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدراً» وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله‏.‏

سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏هل أتى على الإِنسان‏}‏، والاستفهام للتقرير والتعريف، أو بمعنى «قد»، أي‏:‏ قد مضى على الإنسان قبل زمانٍ قريبٍ ‏{‏حِينٌ من الدهر‏}‏ أي‏:‏ طائفة محدودة كائنة من الزمن الممتد ‏{‏لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإنسانية أصلاً، كالعنصر والنطفة وغير ذلك‏.‏ والجملة المنفية‏:‏ حال من الإنسان، أي‏:‏ مضى عليه زمان غير مذكور، أو صفة ل «حين» على حذف العائد، أي‏:‏ لم يكن فيه شيئاً، والمراد بالإنسان‏:‏ الجنس‏.‏

والإظهار في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا خلقنا الإنسانَ‏}‏ لزيادة التقرير، أو‏:‏ يراد آدم عليه السلام، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة، فقد أتى عليه حين من الدهر، وهو أربعون سنة مصوَّراً قبل نفخ الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف، وفي رواية الضحاك عنه‏:‏ أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون، فأقام أربعين سنة، ثم من صلصال، فأقام أربعين، ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ جمهور المؤرخين أنَّ آدم صُوِّر في السماء، ويقال‏:‏ كان على باب الجنة، تمر به الملائكة وتتعجب منه، ويمكن أن يكون صُوّر في الأرض، ثم رُفع إلى السماء، القدرة صالحة‏.‏ والله تعالى أعلم بما كان‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ المراد بالإنسان الأول‏:‏ آدم عليه السلام، وبالثاني‏:‏ أولاده، أي‏:‏ خلقنا نسل الإنسان ‏{‏من نُطفةٍ أمشاجٍ‏}‏ أي‏:‏ أخلاط من‏:‏ مشجت الشيء‏:‏ إذا خلطته ومزجته، وصف به النطفة؛ لأنها مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، ولكل منهما أوصاف مختلفة، من اللون، والرقّة، والغلظ، وخواص متباينة، فإنَّ ماء الرجل أبيض غليظ، فيه قوة العصب، وماء المرأة أصفر رقيق، فيه قوة الانعقاد، وتخلّق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمِن ماء المرأة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وقد رُوي هذا مرفوعاً‏.‏ وقيل‏:‏ إذا علا ماءُ الرجل أشبهه الولد، وإذا علا ماء المرأة أشبهها‏.‏ وقيل‏:‏ إذا سبق أحدهما فالشبه له‏.‏ وقيل‏:‏ «أمشاج» مفرد غير جمع، كبَرْمة أعشار، وثوب أخلاق‏.‏ وقيل‏:‏ أمشاج‏:‏ ألوان وأطوار فإنَّ النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ الأمشاج‏:‏ الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع الأغذية من نبات الأرض، فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة‏.‏ ه‏.‏

‏{‏نبتليهِ‏}‏ حال، أي‏:‏ خلقناه مبتلين له، أي‏:‏ مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي في المستقبل، ‏{‏فجعلناه سميعاً بصيراً‏}‏ ليتمكن من سماع الآيات التنزيلية، ومشاهدة الآيات التكوينية، فهو كالمسبب عن الابتلاء، فلذلك عطف على الخلق بالفاء، ورتّب عليه قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا هديناه السبيلَ‏}‏؛ بيَّنَّا له الطريق، بإنزال الآيات، ونصب الأدلة العقلية والسمعية، ‏{‏إِمَّا شاكراً وإِمَّا كفوراً‏}‏‏:‏ حال من مفعول ‏{‏هديناه‏}‏، أي‏:‏ مكّنّاه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البُغية، في حالتي الشكر والكفر، أي‏:‏ إن شكر أو كفر فقد هديناه السبيل في الحالين، فإن شكر نفع نفسه، وإن كفر رجع وبال كفره عليه، أو‏:‏ حال من «السبيل»، أي‏:‏ عرفناه السبيل، إمّا سبيلاً شاكراً، وإمّا سبيلاً كفوراً‏.‏

ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز، والمراد‏:‏ سالكه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أتى على الإنسان حين من الدهر، وهو قبل وقوع التجلِّي به، لم يكن شيئاً مذكوراً، بل كان شيئاً معلوماً موجوداً في المعنى دون الحس، غير مذكور في الحس، فلمّا وقع به التجلِّي صار شيئاً مذكوراً، يذكر بالخطاب والتكليف، ويمكن أن يكون الاستفهام إنكارياً، أي‏:‏ هل أتى عليه زمان لم نذكره فيه، بل لم يأتِ عليه وقت إلاَّ وكان مذكوراً لي‏.‏ ويُقال‏:‏ هل غفلتُ ساعة عن حفظك‏؟‏ هل ألقيتُ ساعة حبلك على غاربك‏؟‏ هل أخليتك ساعة من رعاية جديدة، وحماية مزيدة‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏

ثم بيَّن كيفية التجلِّي به فقال‏:‏ ‏{‏إنَّا خلقنا الإنسان‏}‏ أي‏:‏ بشريته ‏{‏من نُطفة أمشاج‏}‏ أي‏:‏ من نطفة من أخلاط الأرض، فلذلك كانت تنزع إلى أصلها، وتخلد إلى أرض الحظوظ والهوى، نبتليه بذلك، ليظهر الصادق في طلب الحق بمجاهدة نفسه في إخراجها عن طبعها الأصلى، والمُعرض عن الطلب باسترساله مع طبعها البشري، ويقال‏:‏ خلقته من أمشاج النطفتين فينزع طبعُ الولد إلى الإغلب منهما، فإن غَلَبَ ماء الرجل نزع إلى طبع أبيه، خيراً كان أو شرًّا، وإن غلب ماء المرأة، نزع إلى طبع أمه كذلك، ابتلاء من الله وقهرية، فلا بد أن يغلب الطبع، ولو جاهد جهده، ولذلك قال عليه ا لسلام‏:‏ «إذا سمعتم أنَّ الجبال انتقلت فصَدِّقوا، وإذا سمعتم أنَّ الطباع انتقلت فلا تُصَدِّقوا» وفائدة الصُحبة والمجاهدة‏:‏ خمود الطبع وقهر صولته، لا نزعه بكليته، فيقع الرجوع إلى الله من الطبع الدنيء، ولا يقدح في خصوصيته إن رجع إلى الله في الحين، ولذلك تلونت أحوال الأولياء بعد مجاهدتهم ورياضتهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ فجعلناه سميعاً بصيراً، ونفخنا فيه روحاً سماوية وقدسية، تحن دائماً إلى أصلها، فمنها مَن غلبت عليه النطفةُ الطينية، فأخلدت بها إلى الأرض، فبقيت مسجونة في هيكلها، محجوبة عن ربها، ومنها‏:‏ مَن غلبت روحانيتها على الطينية، فعرجت بها إلى الحضرة القدسية، حتى رجعت إلى أصلها وإلى هذا أشار بقوله‏:‏ ‏{‏إنا هديناه السبيل‏}‏ أي‏:‏ بيَّنَّا له الطريق الموصل إلى الحضرة، فصار إمّا شاكراً بسلوكها أو كافراً بالإعراض عنها، وعدم الدخول تحت تربية العارف بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 18‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أعتدْنا‏}‏؛ أعددنا ‏{‏للكافرين سلاسلاً‏}‏ يُقادون بها إلى النار ‏{‏وأغلالاً‏}‏ يُقيَّدون بها ‏{‏وسعيراً‏}‏ يُحرقون بها‏.‏ و«سلاسل» لا ينصرف؛ لصيغة منتهى الجموع، ومَن صرفه فليناسب أغلالاً، إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب‏.‏ وتقديم وعيد الكفرة مع تأخرهم في الجمع على طريق اللف والنشر المعكوس، كقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106‏]‏ الآية ليتخلّص إلى الكلام على الفريق الأول بطريق الإطناب، فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الأبرارَ‏}‏ جمع بر وبار، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد، وهو مَن يبر خالقه، أي‏:‏ يُطيعه وقيل‏:‏ الأبرار هم الصادقون في الإيمان، أو‏:‏ الذين لا يؤذون الذر، ولا يعمدون الشر‏.‏ ‏{‏يشربون من كأس‏}‏ وهو الزجاجة إذا كان فيها خمر، ويُطلق على نفس الخمر، ف «مِن» على الأول ابتدائية، وعلى الثاني تبعيضية، ‏{‏كان مِزاجُها‏}‏ أي‏:‏ ما تمزج به ‏{‏كافوراً‏}‏ أي‏:‏ ماءٌ كافورٌ، وهو عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور ورائحتِه وبردِه‏.‏ وفي القاموس‏:‏ الكافور‏:‏ نبت طيب، نَوره كنَور الأُقحوان، وطِيب معروف، يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين، يُظل خلقاً كثيراً، وتألفه النمور، وخشبه أبيض هش، ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواع، ولونها أحمر، وإنما يبيّض بالتصعيد، والتصعيد‏:‏ الإذابة‏.‏ ه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عيناً‏}‏‏:‏ بدل من «كافور»، وعن قتادة‏:‏ تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك، وقيل‏:‏ يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه ويرده، فكأنها مزجت بالكافور، وهذا أنسب بأحوال الجنة، ف «عيناً» على هذين القولين‏:‏ بدل من محل ‏(‏من كأس‏)‏ على حذف مضاف، أي‏:‏ يشربون خمر عين، أو‏:‏ نصب على الاختصاص، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يشرب بها عبادُ الله‏}‏‏:‏ صفة لعين، أي‏:‏ يشربون منها، أو‏:‏ الباء زائدة، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة‏:‏ «يشربها»، أو‏:‏ هو محمول على المعنى، أي‏:‏ يتلذذون بها، أو يروون بها، وإنما عبّر أولاً بحرف «من» وثانياً بحرف الباء؛ لأنَّ الكأس مبتداً شرابهم وأول غايته، وأمّا العين فيها يمزجون شرابهم‏.‏ قاله النسفي‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير للكأس، أي‏:‏ يشربون العين بتلك الكأس، ‏{‏يُفجِّرُونها تفجيراً‏}‏ أي‏:‏ يُجْرُونَها حيث شاؤوا من منازلهم إجراءاً سهلاً، لا يمتنع عليهم، بل يجري جرياً بقوة واندفاع‏.‏

‏{‏يُوفُون بالنَّدْرٍ‏}‏ بما أَوجبوا على أنفسهم من الطاعات، وهو استئناف مسوق لبيان ما لأجله رُزقوا ما ذكر من النعيم، كأنه قيل‏:‏ ماذا كانوا يفعلون حتى نالوا تلك الرتبة العالية‏؟‏ فقال‏:‏ يُوفون بما أوجبوا على أنفسهم، فكيف بما أوجبه اللهُ عليهم‏؟‏ ‏{‏ويخافون يوماً كان شَرُّه‏}‏؛ شدائده أو عذابه ‏{‏مُسْتَطِيراً‏}‏؛ منتشراً فاشياً في أقطار الأرض غاية الانتشار، من‏:‏ استطار الفجر‏:‏ انتشر‏.‏ ‏{‏ويُطعِمون الطعامَ على حُبه‏}‏ أي‏:‏ كائنين على حب الطعام والحاجة إليه، كقوله تعالى‏:‏

‏{‏لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ أو‏:‏ على حب الإطعام، بأن يكون ذلك بطيب النفس، أو‏:‏ على حب الله، وهو الأنسب بقوله‏:‏ ‏{‏لوجه الله‏}‏، ‏{‏مسكيناً‏}‏؛ فقيراً عاجزاً عن الاكتساب أسكنه الفقرُ في بيته، ‏{‏ويتيماً‏}‏؛ صغيراً لا أب له، ‏{‏وأسيراً‏}‏ أي‏:‏ مأسوراً كافراً‏.‏ كان عليه السلام يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول له‏:‏ «أحسِن إليه» أو‏:‏ أسيراً مؤمناً، فيدخل فيه المملوك والمسجون، وقد سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغريم أسيراً فقال‏:‏ «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك»‏.‏

ثم علّلوا إطعامهم فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنما نُطعمكم لوجه الله‏}‏ أي‏:‏ لطلب ثوابه، أو‏:‏ هو بيان من الله تعالى عما في ضمائرهم من الإخلاص، لأنَّ الله تعالى عَلِمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً، وفيه نظر؛ إذ لو كان كذلك لقال‏:‏ «يطعمهم» بضمير الغيب، فالجملة على الأول محكية بقول محذوف، حال من فاعل «يُطعمون» أي‏:‏ قائلين بلسان الحال أو المقال؛ لإزاحة توهم المنّ المبطل للصدقة، وتوقع المكافآت المنقصة للأجر‏:‏ ‏{‏إنما نُطعمكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ وعن الصدّيقة رضي الله عنها كانت تبعث بالصدقة، ثم تسأل الرسولَ ما قالوا، فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله، ليبقى لها ثواب الصدقة خالصاً‏.‏ ‏{‏لا نُريد منكم جزاءً ولا شُكوراً‏}‏ أي‏:‏ لا نطلب على طعامنا مكافأة هدية ولاثناءً، وهو مصدر‏:‏ شكر شكراً وشُكوراً‏.‏

‏{‏إِنَّا نخافُ من ربنا‏}‏ أي‏:‏ إنا لا نُريد منكم المكافأة لخوف عذاب الله على طلب المكافأة في الصدقة، أو‏:‏ إنا نخاف من ربنا فنتصدّق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف، ‏{‏يوماً عَبُوساً قمْطريراً‏}‏، وصف اليوم بصفة أهله، نحو‏:‏ نهاره صائم‏.‏ والقمطرير‏:‏ الشديد العبوس، الذي يجمع ما بين عينيه، أي‏:‏ نخاف عذاب يوم تعبس فيه الوجوه أشد العبوسة‏.‏

‏{‏فوقاهم اللهُ شَرَّ ذلك اليوم‏}‏؛ صانهم من شدائده، لسبب خوفهم وتحفُّظهم منه، ‏{‏ولَّقاهم‏}‏ أي‏:‏ أعطاهم بدل عبوس الفجار ‏{‏نضرةً‏}‏؛ حُسناً في الوجوه ‏{‏وسُروراً‏}‏ في القلب، ‏{‏وجزاهم بما صبروا‏}‏؛ بصبرهم على مشاق الطاعات، ومهاجرة المحرمات، وإيثار الغير بالعطاء في الأزمات، ‏{‏جنةً‏}‏؛ بستاناً يأكلون منه ما يشاؤون ‏{‏وحَرِيراً‏}‏ يلبسونه ويتزينون به‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ أنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مَرِضا فعادهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أّناس معه، فقالوا لعليّ رضي الله عنه‏:‏ لو نذرت على ولدك، فنذر عليّ وفاطمةُ وجاريتهما يقال لها‏:‏ فِضة إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام، فشُفيا، فاستقرض عليّ من يهودي ثلاث أصُوع من الشعير فطحنت رضي الله عنها صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال‏:‏ السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني، أطعمكم اللهُ من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم، فوقف عليهم يتيم، فأثروه، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير، ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ بيد الحسن والحسين، وأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون، كالفراخ من شدة الجوع، قال عليه السلام‏:‏

«ما أشد ما يسوؤني مما أرى بكم»، وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبريل عليه السلام وقال‏:‏ يا محمد هنّاك الله في بيتك، فأقرأه السورة‏.‏ هكذا ذكر القصة الزمخشري وجمهور المفسرين، وأنكر ذلك الترمذي الحكيم في نوادره، وجزم بعدم صحتها لمخالفتها لأصول الشريعة، وعدم جريه على ما تقتضيه من إنفاق العفو، وكذا «ابْدَأ بمَن تَعُولُ» و«كفى بالمرء إثماً أن يَضيّع مَن يقوت»، وغير ذلك‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ ويُجاب بأنَّ هذا من باب الأحوال، وللصحابة في الإيثار أحوال خاصة بهم؛ لشدة يقينهم رضي الله عنهم، وقد خرج الصدّيق رضي الله عنه عن ماله مِراراً، وقال‏:‏ ‏(‏تركت لأهلي الله ورسوله‏)‏، وكذلك فعل الصحابي الذي قال لامرأته‏:‏ نوِّمِي صبيانك ليتعشّى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل فيه، ‏{‏وَيُؤْثِرُون عَلَى أَنفُسِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ الآية، وصاحب الأحوال معذور، غير أنه لا يُقتدى به في مثل تلك الحال، فإنكار الترمذي بما ذَكَر غير صحيح‏.‏

‏{‏متكئين فيها‏}‏؛ في الجنة، حال من «جزاهم»، والعامل جزاء، ‏{‏على الأرائك‏}‏؛ على الأسِرة في الحجال، ‏{‏لا يَرَون فيها شمساً ولا زمهريراً‏}‏ لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير أي‏:‏ بردٌ فظِلها دائم؛ وهواها معتدل، لا حرَّ شمس يحمي، ولا شدّة بردٍ يؤذي، فالزمهرير‏:‏ البرد الشديد، وقيل‏:‏ القمر، في لغة طيء، أي‏:‏ الجنة مضيئة لا يُحتاج فيها إلى شمس ولا قمر‏.‏ وجملة النفي إمّا حال ثانية، أو‏:‏ من المستكن في ‏(‏متكئين‏)‏‏.‏

‏{‏ودانيةً‏}‏‏:‏ عطف على ‏(‏جنة‏)‏، أي‏:‏ وجنة أخرى دانية ‏{‏عليهم ظِلالها‏}‏؛ قريبة منهم ظلال أشجارها؛ قال الطيبي‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏(‏دانية عليهم‏)‏ ولم يقل «منهم»؛ لأنَّ الظلال عالية عليهم‏.‏ ه‏.‏ فظلالها فاعل بدانية، كأنهم وُعدوا جنتين؛ لأنهم وُصفوا بالخوف، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏، ‏{‏وذًللت قُطوفُها تذليلا‏}‏ أي‏:‏ سُخَّرت ثمارها للقائم والقاعد، والمتكىء، وهو حال من «دانية» أي‏:‏ تدنو عليهم ظلالها في حال تذليل قطوفها‏.‏ وقال في الحاشية‏:‏ جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية؛ وفيه لطيفة‏:‏ أنَّ استدامة الظل مطلوبة هناك، وأمّا الذليل للقطْف فهو على التجدًّد شيئاً بعد شيء، كلما أرادوا أن يقطعوا شيئاً منها ذل لهم، ودنا لهم، قعداً كانوا أو مضطجعين‏.‏

ه‏.‏ وظاهر كلامه‏:‏ أنَّ «ظلالها» مبتدأ، و«عليهم» خبر، وظاهر كلام الطيبي‏:‏ أنه فاعل‏.‏ والقطوف‏:‏ جمع قِطْف، وهو ما يجتنى من ثمارها‏.‏

‏{‏ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضةٍ‏}‏ أي‏:‏ يدير عليهم خَدَمُهم كؤوس الشراب، وكأنه تعالى لَمَّا وصف لباسهم، وهيئة جلوسهم، وطعامهم، ذكر شرابهم، ثم يذكر خدمهم، وما هيأ لهم من المُلك الكبير، و‏(‏آنية‏)‏‏:‏ جمع إناء، وهو‏:‏ وعاء الماء ‏{‏وأكواب‏}‏ أي‏:‏ مِن فضة، جمع كوب، وهو الكوز العظيم الذي لا أُذن له ولاعروة، ‏{‏كانت قواريراً‏}‏ «كان» تامة، أي‏:‏ كُونت فكانت قوارير بتكوين الله‏.‏ و‏(‏قواريرَ‏)‏‏:‏ حال، أو‏:‏ ناقصة، أي‏:‏ كانت في علم الله قوارير، ‏{‏قواريرا من فِضةٍ‏}‏‏:‏ بدل من الأول أي‏:‏ مخلوقة من فضة قال ابن عطية‏:‏ يقتضي أنها من زجاج ومن فضة وذلك ممكن؛ لكونه من زجاج في شفوفه، ومن فضة في جوهره، وكذلك فضة الجنة شفافة‏.‏ ه‏.‏ فهي جامعة لبياض الفضة وحُسنها، وصفاء القوارير وشفيفها، حتى يُرى ما فيها من الشراب من خارجها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة فضة‏.‏ ه‏.‏ و«قوارير» ممنوع من الصرف، ومَن نَوّنه فلتناسب الآي المتقدّمة والمتأخّرة، ‏{‏قدَّروها تقديراً‏}‏؛ صفة للقوارير، يعني‏:‏ أنَّ أهل الجنة قدَّروها في أنفسهم، وتمنوها، وأرادوا أن تكون على مقادير وأشكال معينة، موافقة لشهواتهم، فجاءت حسبما قدَّروها، تكرمةً لهم، أو‏:‏ السُّقاة جعلوها على قّدْر ريّ شاربها؛ لتكون ألذّ لهم وأخف عليهم‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ لا تُفيض ولا تَغيض، أو‏:‏ قَدَّروها بأعمالهم الصالحة، فجاءت على حسبها‏.‏

‏{‏ويُسقون فيها كأساً‏}‏؛ خمراً ‏{‏كان مِزَاجُهَا زَنجبِيلاً‏}‏ أي‏:‏ ما يشبه الزنجبيل في الطعم والرائحة‏.‏ وفي القاموس‏:‏ الزنجبيل‏:‏ الخمر، وعُروق تسري في الأرض، ونباته كالقصب والبرد، له قوة سخنة هاضمة ملينة‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ قلت‏:‏ وهو السكنجيبر بالراء ولعل العرب كانت تمزج شرابها به للرائحة والتداوي‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عيناً‏}‏‏:‏ بدل من «زنجبيلا»، ‏{‏فيها‏}‏ أي‏:‏ في الجنة ‏{‏تُسمى سلسبيلا‏}‏، سُميت العين زنجبيلاً؛ لأنَّ ماءها فيه رائحة الزنجبيل، والعرب تستلذه وتستطيبه، وسميت سلسبيلاً لسلاسة انحدارها، وسهولة مساغها، قال أبو عُبيدة‏:‏ ماء سلسبيل، أي‏:‏ عذب طيب‏.‏ ه‏.‏ ويقال‏:‏ شراب سلسبيل وسَلسَال وسلَسيل، ولذلك حُكم بزيادة الباء، والمراد‏:‏ بيان أنها في طعم الزنجبيل، وليس فيها مرارة ولا زعقة، بل فيها سهولة وسلاسة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إِنَّا أعتدنا للكافرين بطريق الخصوص، وهم أهل الحجاب سلاسل الأشغال والعلائق، وأغلال الحظوظ والعوائق، فلا يرحلون إلى الله وهم مكبّلون بشهواتهم، مغلولون بعوائقهم‏.‏ وأعتدنا لهم سعير القطيعة والطرد‏.‏ إنَّ الأبرارَ، وهم المطهرون من درن العيوب، المتجرَّدون من علائق القلوب، يشربون من كأس خمر المحبة كان مزاجها كافورَ بردِ اليقين، عيناً يشرب منها عبادُ الله المخلصون، يُفجِّرونها على قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم تفجيراً، فتمتلىء محبةً ويقيناً، يُوفون بما عقدوا على أنفسهم من المجاهدة والمكابدة إلى وضوع أنوار المشاهدة ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً، إذ فيه يفتضح المدّعون، ويظهر المخلصون ويُطعمون طعام الأرواح والأسرار من العلوم والمعارف، على حُبه إذ لا شيء أعز منه عندهم، إذ هو الإكسير الأكبر والغنى الأوفر، مسكيناً، أي‏:‏ ضعيفاً من اليقين ويتيماً لا شيخ له، وأسيراً في أيدي العلائق والحظوظ وإنما نفعل ذلك لوجه الله، لا يريدون بذلك جزاء، أي‏:‏ عِوضاً دنيوياً ولا أخروياً، ولا شكوراً؛ مدحاً أو ثناءً؛ إذ قد استوى عندهم المدح والذم، والمنع والعطاء، قائلين‏:‏ إنا نخاف من ربنا، إن طلبنا عوضاً، أو قَصَّرنا في الدعاء إلى الله، يوماً شديداً تُعبّس فيه وجوه الجاهلين، وتُشرق وتتهلّل وجوه العارفين‏.‏

فوقاهم اللهُ شرَّ ذلك اليوم، فصبروا قليلاً، واستراحوا كثيراً، ولقَّاهم نضرةً؛ بهجة في أجسادهم، وسُروراً دائماً في قلوبهم وأسرارهم‏.‏ وجزاهم بما صبروا في أيام سيرهم جنة المعارف والزخارف، متكئين فيها على الأرائك؛ على أَسِرة القبول، وفُرُش الرضا وبلوغ المأمول، لا يَرون فيها حَرّ التدبير والاختيار ولا زمهرير الضعف والانكسار؛ لأنَّ العارف باطنه قوي على الدوام، لأنَّ مَن عنده الكنز قلبه سخين به دائماً‏.‏

وقال القشيري‏:‏ لا يؤذيهم شمس المشاهدة؛ لأنَّ سطوة الشهود ربما تفني صاحبها بالكلية، فيغلب عليه السُكْر، فلا يتنعّم بلذة الشهود، ولا زمهرير الحجاب والاستتار‏.‏ ه‏.‏ باختصار‏.‏ ودانية، أي‏:‏ وجنة أخرى دانية، وهي جنة البقاء والأُولى جنة الفناء، عليهم ظلالها، وهي روح الرضا ونسيم التسليم، وذُللت قُطوفها من الحِكَم والمواهب، تذليلاً، فمهما احتاجوا إلى علم أو حكمة أجالوا أفكارهم، فتأتيهم بطرائف العلوم وغرائب الحِكَم، ويُطاف عليهم بأواني الخمرة الأزلية، فيشربون منها في كل وقت وحين، كيف شاؤوا وحيث شاؤوا‏.‏ جعلنا الله مِن حزبهم، آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويطوفُ عليه ولدان‏}‏ أي‏:‏ غلمان ينشئهم اللهُ لخدمة المؤمنين‏.‏ أو‏:‏ ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة‏.‏ ‏{‏مخلَّدون‏}‏ لا يموتون، أو‏:‏ دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء، ‏{‏إِذا رأيتهم حَسِبْتَهُم لؤلؤاً منثوراً‏}‏ لحُسْنهم، وصفاء ألوانهم، وإشراق وجوههم، وانبثاثِهم في مجالسهم ومنازلهم‏.‏ وتخصيص المنثور لأنه أزين في المنظر من المنظوم‏.‏

‏{‏وإِذا رأيتَ ثَمَّ‏}‏ أي‏:‏ وإذا وقعت منك رؤية هناك، ف «رأيت» هنا‏:‏ لازم، ليس له مفعول لا ملفوظ ولا مُقدّر، بل معناه‏:‏ أنَّ بصرك أينما وقع في الجنة ‏{‏رأيتَ نعيماً‏}‏ عظيماً ‏{‏ومُلكاً كبيراً‏}‏ أي‏:‏ هنيئاً واسعاً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «أَدْنَى أهل الجنةِ منزلاً مَن ينظرُ في مُلكه مَسيرة ألف عام، ويَرَى أقصاهُ كما يرى أدناه»، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ أدنى أهل الجنة منزلاً الذي يركبُ في ألف ألف من خَدَمه من الولدان، على خيل من ياقوت أحمر، لها أجنحة من ذهب»، ثم قرأ عليه السلام‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت ثَمَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ‏.‏ وقيل‏:‏ مُلكاً لا يعقبه زوال، وقال الترمذي‏:‏ مُلك التكوين، إذا أرادوا شيئاً كان ه‏.‏ وقيل‏:‏ تستأذن عليهم الملائكة استئذان الملوك‏.‏ رُوي‏:‏ إنَّ الملائكة تأتيهم بالتُحف، فتستأذن عليهم، حاجباً بعد حاجب، حتى يأذن لهم الآخر، فيدخلون عليهم من كل باب بالتُحف والتحية والتهنئة‏.‏ ه‏.‏

ثم وصف لباس أهل الجنة فقال‏:‏ ‏{‏عَالِيَهُم ثِيَابُ سُندُسٍ‏}‏ فمَن نصبه جعله حالاً من الضمير في «يطوف عليهم» أي‏:‏ يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثيابُ سندس، ومَن قرأه بالسكون فمبتدأ، و«ثياب» خبر، أي‏:‏ الذي يعلوهم من لباسهم ثياب سندس، وهو رقيق الديباج، ‏{‏خُضْرٌ‏}‏؛ جمع أخضر، ‏{‏وإِستَبرقٌ‏}‏؛ غليظ الديباج، فمَن رفعهما حملهما على الثياب، ومَن جَرَّهما فعلى سندس‏.‏ ‏{‏وحُلُّوا أساوِرَ من فضةٍ‏}‏ وفي سورة الملائكة‏:‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33‏]‏، والجمع بينهما‏:‏ بأنه يجمع في التحلية بينهما‏.‏ قال ابن المسيب‏:‏ ‏(‏لا أحدٌ من أهل الجنة إلاّ وفي يده ثلاثة أسْوِرة، واحد من فضة، وآخر من ذهب، وآخر من لؤلؤ‏)‏ أو‏:‏ يختلف ذلك باختلاف الأعمال، فبعضهم يُحلّى بالفضة، وبعضهم بالذهب، وبعضهم باللؤلؤ‏.‏

‏{‏وسقاهم ربُّهم‏}‏، أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص، وقيل‏:‏ إنَّ الملائكة يعرضون عليهم الشراب، فيأبون قبولَه منهم ويقولون‏:‏ قد طال أخْذُنا مِن الوسائط، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواههم بغير أكفٍّ من غيبٍ إلى عَبْدٍ‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ولعل هؤلاء كانوا محجوبين في الدنيا، وأمّا العارفون فالوسائط محذوفة في نظرهم مع وجودنا‏.‏ فيسقيهم ‏{‏شراباً طهوراً‏}‏ أي‏:‏ ليس برجْسٍ كخمر الدنيا، لأنَّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل، أو‏:‏ لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضِرة، وتدوسه الأرجل الوسخة، والوضر‏:‏ الوسخ‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ يريد به نوعاً آخر، يفوق النوعين المتقدمين، ولذلك أسند سقيه إلى الله، ووصفه بالطهورية، فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرّد لمطالعة جماله، ملتذًّا بلقائه، باقياً ببقائه، وهو منتهى درجات الصدِّيقين، ولذلك خُتِم به ثواب الأبرار‏.‏ ه‏.‏ ويُقال لأهل الجنة‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا‏}‏ أي‏:‏ الذي ذكر من فنون الكرامات ‏{‏كان لكم جزاء‏}‏ في مقابلة أعمالكم الحسنة، ‏{‏وكان سعيُكم مشكوراً‏}‏؛ مرضياً مقبولاً عندنا، حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير‏:‏ لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً‏.‏

الإشارة‏:‏ ويطوف على قلوبهم وأسرارهم جواهر العلوم، ويواقيت الحِكَم كأنها اللآلىء المنثورة، وإذا رأيتَ ثَمَّ إذا جالت فكرتك، وعامت في بحار الأحدية، رأيت ببصيرتك نعيماً من نعيم الأرواح، وهي لذة الشهود والفرح برؤية الملك الودود ومُلكاً كبيراً، وهي عظمة الذات الأولية والآخرية، والظاهرة والباطنة‏.‏ وإذا رأيتَ ذلك كان الوجود كله تابعاً لك، ينبسط ببسطك، وينقبض بقبضك وحكمه حكمك، وأمره عند أمرك، تتصرف بهمتك على وفق إرادة مولاك، عاليَهم ثياب العز والبهاء، وثياب الهيبة والجلال؛ وحُلُّوا أساورَ من مقامات اليقين، وسقاهم ربُّهم شراباً طهوراً، وهو شراب الخمرة، فإنها تطهر القلوب والأسرار من البقايا والأكدار‏.‏

وقال القشيري‏:‏ ويقال‏:‏ يُطهرهم من محبة الأغيار، ويقال‏:‏ من الغل والغِشِّ والدعوى‏.‏ ثم قال ويقال‏:‏ مَن سقاه اليوم شرابَ محبَّتِه لا يستوحِش في وقته من شيء، ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كل أحدٍ بالكونين من غير تمييز، لا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار، ومَن آثر شربه بذل كله لكل أحدٍ لأجل محبوبه؛ فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم، لا يتحرك فيه للتكبُّر عرقٌ، وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضاً في بعض الأحيان أن يَتِيه على أهل الدارين، وأن يَمْلِكَه سرورٌ، ولا يَتَمَالَكُ معه عن خَلْع العذارِ، وإلقاء قناع الحياء وإظهار ما به من المواجيد‏.‏ ومن موجبات ذلك السُكْر‏:‏ سقوطَ الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لطف السكون بما لا يستخرج منه في حال صَحْوه شُبهة بالمناقيش،، وعلى هذا قول موسى‏:‏ ‏{‏رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ قالوا‏:‏ سَكِرَ مِن سماع كلامه، فَنَطَقَ بذلك لسانُه، وأمّا حين يسقيهم شرابَ التوحيد فينتفي عنهم شهود كلِّ غَيْرٍ، فيهيمون في أودية العِزِّ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء، وتتلاشى جملتُهم في هوى الفردانية، فلا عقلَ ولا تمييز، ولا فهمَ ولا إدراك‏.‏ والعبد يكون في ابتداء الكشفِ مستوعباً، ثم يصير مستغرقاً، ثم يصير مُسْتَهلَكاً ‏{‏وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 42‏]‏‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ فتلك الكائنات المروقات عن علل الحجاب والعتاب دارت عليها في الدنيا حتى ترجع إلى معادنها من الغيب‏.‏ ثم قال‏:‏ فإذا شَرِبوا تلين جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله، سقاهم ذلك في الدنيا، في ميدان ذكره، بكأس محبته، على منابر أُنسه بمخاطبة الإيمان، وسقاهم في الآخرة، في ميدان قربه، بكأس رؤيته، على منابر مِن نورٍ بمخاطبة العيان‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ تفريقه بين الدنيا والآخرة غير لائق بمقام المحقِّقين من العارفين، فالعارف لم تبقَ له دنيا ولا آخرة، لم يبقَ له إلاّ الله، تتلوّن تجلياته فما هناك هو حاصل اليوم، لولا تكثيف الحجاب‏.‏ ثم يُقال لأهل التمكين‏:‏ إنَّ هذا كان لكم جزاء على مجاهدتكم وصبركم، وكان سعيكم مشكوراً، وحضكم منه موفوراً‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 31‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّا نحن نزَّلنا عليك القرآن تنزيلا‏}‏ أي‏:‏ مفرّقاً منجماً، شيئاً فشيئاً، لحِكَم بالغة مقتضية لتفريقه، لا غيرنا، كما يُعرب عنه تكرير الضمير مع «إن»، فهو تأكيد لاسم إن، أو‏:‏ ضمير فصل لا محل له ‏{‏فاصبر لِحُكم ربك‏}‏ في تأخير نصرك، فإنّ له عاقبة حميدة، أو‏:‏ اصبر لتبليغ الرسالة، وتحمل الأذى؛ فإن العاقبة لك، ‏{‏ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كفوراً‏}‏ أي‏:‏ لا تُطع الآثم في إثمه، ولا الكافر في كفره، أي‏:‏ لا تُطع كل واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه، أو من الغَالي في الكفر الداعي إليه، و«أو» للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به، باعتبار ما يدعون إليه، فإنَّ ترتيب الوصف على الوصفين مشعر بعليتهما، فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر، لا فيما ليس بإثم ولا كفر‏.‏

وقيل‏:‏ الآثم‏:‏ عُتبة، فإنه كان ركّاباً متعاطياً لأنواع الفسوق، والكفور‏:‏ الوليد، فإنه كان غالياً في الكفر شديد الشكيمة في العتو‏.‏ والظاهر‏:‏ أنّ المراد كل آثم وكافر، اي‏:‏ لا تُطع أحدهما، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه، فقد نهى عن طاعتهما معاً، ولو كان بالواو لجاز أن يُطيع أحدهما؛ لأن الواو للجمع، فيكون منهياً عن طاعتهما، لا عن طاعة أحدهما‏.‏

‏{‏واذكر اسمَ ربك بُكرةً وأصيلا‏}‏ اي‏:‏ دُم على ذكره في جميع الأوقات‏.‏ وتخصيص الوقتين لشرفهما‏.‏ قيل‏:‏ لمّا نهى حبيبه عن طاعة الآثم والكفور، وحَثه على الصبر على آذاهم وإفراطهم في العداوة؛ عقّب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته في ذكره وعبادته، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَكَ يَضِيقُ صَدْرَكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 97، 98‏]‏ الآية، وفي إقباله راحة له من وحشته؛ لجهلهم بأنسه بربه، وقرّة عينه به‏.‏ وفي ذلك أمُره بالإفراد لربه بطاعته، دون مَن يدعوه، لخلاف ذلك من ألإثم والكفور‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏ أو‏:‏ بكرة‏:‏ صلاة الفجر، وأصيلاً‏:‏ الظهر والعصر، ‏{‏ومن الليل فاسجدْ له‏}‏؛ وبعض الليل فصلِّ صلاة العشاءين، ‏{‏وسبِّحه ليلاً طويلاً‏}‏ أي‏:‏ تهجّد له قِطْعاً من الليل طويلاً؛ ثلثه أو نصفه أو ثلثيه‏.‏ وتقديم الظرف في ‏(‏مِن الليل‏)‏ لِما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص‏.‏

‏{‏إِنّ هؤلاء‏}‏ الكفرة ‏{‏يُحبون العاجلةَ‏}‏ وينهمكون في لذاتها الفانية، ويؤثرونها على الآخرة، فلا يلتفتون إلى ذكرٍ ولا صلاة، ‏{‏ويذرون وراءهم‏}‏؛ قدّامهم، فلا يستعدُّون له، أو‏:‏ ينبذونه وراء ظهورهم، ‏{‏يوماً ثقيلاً‏}‏؛ شديداً لا يعبؤون به، وهو يوم القيامة؛ لأنّ شدائده تثقل على الكفار‏.‏ ووصفه بالثقل لتشبيه شدته وهوله بثقل شيء فادح، وهو كالتعليل لِما أمر به ونَهَى عنه‏.‏

‏{‏نحن خلقناهم‏}‏ لا غيرنا، ‏{‏وشَدَدْنا أسْرَهُم‏}‏ أي‏:‏ قوّينا خِلقتهم حتى صاروا أقوياء يُقال‏:‏ رجل حسن الأسر‏:‏ الخلق، وفرس شديد الأسر، أي‏:‏ الخلقة، ومنه قوله لبيد‏:‏

ساهِمُ الوجه شديدٌ أسْرُهُ *** مُشرِفُ الحاركِ محبوكُ الكَتَدْ

أو‏:‏ أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب، أو‏:‏ أخذنا ميثاقهم على الإقرار، ‏{‏وإِذا شئنا بدّلنا أمثالهم تبديلاً‏}‏ أي‏:‏ إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدّلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع ولا يعصي‏.‏ أو‏:‏ بدلنا أمثالهم تبديلاً بديعاً لا ريب فيه، وهو البعث كما ينبىء عنه كلمة ‏(‏إذا‏)‏ لدلالتها على تحقُّق القدرة وقوة الداعية‏.‏

‏{‏إِنَّ هذه تَذْكِرةُ‏}‏، الإشارة إلى السورة، أو الآيات القريبة أي‏:‏ هذه موعظة بليغة، ‏{‏فمَن شاء اتخذ إِلى ربه سبيلاً‏}‏ بالتقرُّب إليه بالطاعة واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وما تشاؤون‏}‏ اتخاذَ السبيل إلى الله، أو‏:‏ مايشاء الكفرة ‏{‏إِلاّ أن يشاء الله‏}‏، وهو تحقيق للحق، ببيان أنَّ مجرد مشيئَتهم غير كافية في اتخاذ السبيل، ولا يقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات، إلاَّ وقت مشيئته في تحصيله لهم، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلاّ في الكسب، وإنما التأثير لمشيئة الله تعالى، ‏{‏إِنَّ الله كان عليماً حكيماً‏}‏؛ عليماً بما يكون منهم من الأحوال، حكيماً مصيباً في الأقوال والأفعال، وهو بيان لكون مشيئته تعالى مبنية على أساس العلم والحكمة، أي‏:‏ هو تعالى مبالغ في العلم والحكمة، فيعلم ما يستأهله كل أحد، فلا يشاء لهم إلاّ ما يستدعيه علمه وتقضيه حكمته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدخل من يشاء في رحمته‏}‏، بيان لأحكام مشيئته، المترتبة على علمه وحكمته، أي‏:‏ يُدخل في رحمته مَن يشاء أن يدخله فيها، وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ سبيل الله تعالى، حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة‏.‏ ‏{‏والظالمين‏}‏ وهم الذين صرفوا مشيئَتهم إلى خلاف ما ذكر ‏{‏أعدَّ لهم عذاباً أليماً‏}‏ متناهياً في الإيلام، و«الظالمين» منصوب بمضمر يُفسره معنى ما بعده، أي‏:‏ أهان الظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً‏.‏

الإشارة‏:‏ إنّا أنزلنا عليك أيها الخليفة القرآن، أي‏:‏ الجمع على ربك في قلبك وسرك تنزيلاً مترتباً شيئاً فشيئاً على حسب التهذيب والتدريب، فاصبرْ لحُكم ربك، أي‏:‏ ما حَكَم به عليك من قهرية الجلال، وارتكاب الأهوال، ومقاسات الأحوال، فإنَّ العاقبةَ شهودُ الكبير المتعالي، وبذلُ المُهج والأرواح قليل في حقه، ولا تُطع في حال سيرك آثماً يريد أن يميلك عن قصد السبيل، أو كفوراً بطريق الخصوص يريد أن يصرفك عنها، واذكر اسم ربك، أي‏:‏ استغرق أنفاسك في ذكر اسمه الأعظم، وهو الاسم المفرد؛ الله الله، فتكثر منه بكرة وأصيلاً، وآناء الليل والنهار ومن الليل فاسجدْ له وسبَّحه ليلاً طويلاً، أي‏:‏ ومن أجل ليل القطيعة اخضع وتضرَّع وسَبِّح في الأسحار، خوفاً من أن يقطعك عنه، فيظلم عليك ليل وجودك، فتحجب به عن ربك إنَّ هؤلاء المحجوبين بوجودهم وحظوظِ نفوسهم، يُحبون العاجلة، فيؤثرون هواهم على محبة مولاهم، ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً، يوم يُساق أهل التخفيف من المريدين إلى مقعد صدق زُمراً، ويتخلّف أهل النفوس في موقف الحساب‏.‏ إنَّ هذه تذكرة لمَن فتحت بصيرته وأبصر الحق وأهله، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، بإيثار صحبته أهل الحق والتحقيق، حتى يردون به حضرة التحقُّق، لكن الأمر كله بيد الله، وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله، فمَن شاء عنايته أدخله في رحمة هدايته، ومَن شاء خذلانه سلك به مسلك الضلالة، والعياذ بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والمُرسلاتِ‏}‏ أي‏:‏ والملائكة المرسلات ‏{‏عُرْفاً‏}‏ أي‏:‏ بالمعروف من الأمر والنهي، وانتصابه بإسقاط الخافض، أو‏:‏ فضلاً وإنعاماً، فيكون نقيض المنكر، وانتصابه على العلة، أي‏:‏ أرسلهن للإنعام والإحسان، أو‏:‏ متتابعة، وانتصابه على الحال، أي‏:‏ يتلو بعضها بعضاً، وفي القاموس‏:‏ عُرفاً، أي‏:‏ بعضٌ خلف بعض‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏فالعاصفاتِ عَصْفاً‏}‏ أي‏:‏ تعصفن في مُضِيهنّ عصف الرياح، ‏{‏والناشراتِ‏}‏ أجنحتها في الجو ‏{‏نَشْراً‏}‏ عند انحطاطها بالوحي، أو‏:‏ الناشرات للشرائع نشراً في الأقطار، أون‏:‏ الناشرات للنفوس الميتة بالكفر والجهل بما أوحين من الإيمان والعلم‏.‏ ‏{‏فالفارقات‏}‏ بين الحق والباطل ‏{‏فرقاً‏}‏، ‏{‏فالملقيات‏}‏، إلى الأنبياء ‏{‏ذِكْراً عُذْراً‏}‏ للمحقّين ‏{‏أو نُذْراً‏}‏ للمبطلين، ولعل تقديم النشر على الإلقاء؛ للإيذان بكونه غاية للإلقاء، فهو حقيق بالاعتناء به‏.‏

أو‏:‏ والرياح المرسلات متتابعة، فتعصف عصفاً، وتنشر السحاب في الجو نشراً، وتفرّق السحاب فرقاً على المواضع التي أراد الله إن يُمطر عليها، فيلقين ذكراً، أي‏:‏ موعظة وخوفاً عند مشاهدة آثار قدرته تعالى، إمّا عذراً للمعتذرين إلى الله تعالى برهبتهم وتوبتهم، وإمّا نُذراً للذين يكفرونها وينسبونها إلى الأنواء‏.‏ أو يكون تعالى أقسم بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصفن سائر الكتب بالنسخ، ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل، فألقين الحق في أكناف العالمين، عذراً للمؤمنين، ونُذراً للكافرين‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ والأظهر في المرسلات والعاصفات‏:‏ أنها الرياح؛ لأنَّ وصف الريح بالعصف حقيقة، والأظهر في الناشرات والفارقات‏:‏ أنها الملائكة؛ لأنَّ الوصف بالفارقات أليق بهم، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء، ثم عطف ما ليس من جنسهما بالواو‏.‏ ه مختصراً‏.‏

ثم ذكر المُقْسَم عليه، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ ما تُوعدون‏}‏ أي‏:‏ إن الذي تُوعدونه من مجيء يوم القيامة ونزول العذاب بكم ‏{‏لواقع‏}‏ لا محالة‏.‏

الإشارة‏:‏ أقسم تعالى بنفوس العارفين، المرسَلة إلى كل عصر، بما يُعرف ويُستحس شرعاً وطبعاً، من التطهير من الرذائل والتحلية بالفضائل، فعصفت البدعَ والغفلة من أقطار الأرض عصفاً، ونشرت الهداية في أقطار البلاد، وحييت بهم العباد، ففرقت بين الحق والباطل، وبين أهل الغفلة واليقظة، وبين أهل الحجاب وأهل العيان، فألقت في قلوب مَن صَحبها ذكراً حتى سرى في جميع أركانها، فأظهرت عُذراً للمنتسبين الذاكرين، ونُذراً للمنكرين، الغافلين‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ أو أقسم بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها، فعصفن ما سوى الحق، ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء، وفرقن بين الحق بذاته، والباطل في نفسه، فرأوا كل شيء هالكاً إلاّ وجهه، وألقين ذكراً، بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلاّ ذكر الله تعالى‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 15‏]‏

‏{‏فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فإِذا النجومُ طُمِستْ‏}‏؛ مُحيت ومُحقت، أو ذُهب بنورها‏.‏ وجواب «إذا» محذوف، وهو العامل فيها، أي‏:‏ وقع الفصل ونحوه، أو‏:‏ وقع ما وُعدتم به‏.‏ و«النجوم»‏:‏ فاعل بمحذوف يُفسره ما بعده، ‏{‏وإِذا السماءُ فُرِجَتْ‏}‏؛ فُتحت فكانت أبواباً لنزول الملائكة، ‏{‏وإِذا الجبال نُسِفَتْ‏}‏؛ قُطعت من أماكنها، وأُخذت من مقارها بسرعة، فكانت هباءً منبثاً، ‏{‏وإِذا الرُسل أُقِتَتْ‏}‏ أي‏:‏ وُقتت وعُين لهم الوقت الذي يحضرون للشهادة على أممهم، فَفَجَأن ذلك الوقت، وجُمعت للشهادة على أممهم، أي‏:‏ وإذا الرسل عاينت الوقت الذي كانت تنتظره، ‏{‏لأيَّ يوم أُجِّلَتْ‏}‏ أي‏:‏ ليوم عظيم أخّرت وأُمهلت، وفيه تعظيم لليوم، وتعجيب من هوله‏.‏ والتأجيل من الأجل، كالتوقيت من الوقت‏.‏

ثم بيّن ذلك اليوم، فقال‏:‏ ‏{‏ليوم الفصْلِ‏}‏ أي‏:‏ أُجِّلت ليوم يفصل فيه بين الخلائق، وقال ابن عطاء‏:‏ هو اليوم الذي يفصل فيه بين المرء وقرنائه وإخوانه وخِلاّنه، إلاّ ما كان منها للّه وفي الله‏.‏ ه‏.‏ وهو داخل في الفصل بين الخلائق، وجزء من جزئياته، ‏{‏وما أدراك ما يومُ الفصل‏}‏ أي‏:‏ أيّ شيء جعلك دارياً ما هو يوم الفصل، فوضع الظاهر موضع الضمير، تهويل وتفظيع لشأنه، ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذِّبين‏}‏ بذلك اليوم، أي‏:‏ ويل لهم في ذلك اليوم الهائل، و«ويل» أصله‏:‏ مصدر منصوب بفعل سدّ مسده، لكن عدل به إلى الرفع على الابتداء، للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعوّ عليه، و«يومئذ» ظرف له، و«للمكذِّبين» خبره، أي‏:‏ الويل في ذلك اليوم حاصل لهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وأمّا تكرير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذِّبين‏}‏ في هذه السورة، فقيل‏:‏ لمعنى التأكيد فقط، وقيل‏:‏ بل في كل آية منها ما يقتضي التصديق، فجاء الوعيد على التكذيب بذلك‏.‏ ه‏.‏ وهذا الآخر هو الصواب وسيأتي التنبيه عليه في كل آية‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أشرقت شموس العرفان، وبدت أسرارُ الذات للعيان، انطمس نور نجوم علم الفروقات الكونية، والفروعات الوهمية، ولم يبقَ إلاّ علم الوحدة الذاتية ومعنى انطماسها‏:‏ الغيبة عنها والفناء عنها بما هو أمتع وأحلى منها، من شهود الذات الأقدس، والاستغراق في شهود أنوارها وأسرارها‏.‏ وإذا السماء، أي‏:‏ سماء الأرواح فُرجت عنها ظُلمة الحس، فظهرت للعيان‏.‏ واعلم أنَّ أرض الأشباح وسماء الأرواح محلهما واحد، وإنما تختلف باختلاف النظرة، فَمَن نَظَر الأشياءَ بعين الفرق في محل الحدوث تُسمى في حقه عالم الأشباح، ومَن رآها بعين الجمع في مقام القِدَم تسمى في حقه عالم الأرواح، والمظهر واحد‏.‏ وإذا الجبال؛ جبال الوهم والخيالات، أو‏:‏ جبال العقل الأصغر، نُسفت، أي‏:‏ تلاشت وذهبت، وإذا الرسل أي‏:‏ الدعاة إلى الله من أهل التربية، أُقتت‏:‏ عُين لها وقت وقوع ذلك، وهو يوم الفتح الأكبر بالاستشراف على الفناء في الذات، وأي يوم ذلك، وهو يوم لقاء العبد ربه في دار الدنيا، وهو يوم الفصل، يفصل فيه بين الخصوص والعموم، بين المقربين وأهل اليمين، بين أهل الشهود والعيان وأهل الدليل والبرهان، ويل يومئذ للمكذِّبين بطريق هذا السر العظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم نُهلِكِ الأولينَ‏}‏ كقوم نوح وعاد وثمود، لتكذيبهم بذلك اليوم، وقُرىءَ بفتح النون، من‏:‏ هلكه بمعنى أهلكه، ‏{‏ثم نُتبِعُهم الآخِرِين‏}‏ أي‏:‏ ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بهم، لأنهم كذّبوا مثل تكذيبهم‏.‏ و«ثم» وما بعده‏:‏ استئناف، تهديد لأهل مكة، وقُرىءَ بالجزم عطف على «نُهلك» فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكاً من المذكورين، كقوم لوط وشعيب وموسى عليه السلام ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الفعل الفظيع ‏{‏نفعل بالمجرمين‏}‏ أي‏:‏ بكل مَن أجرم من كل أمة، ‏{‏ويل يومئذٍ‏}‏ أي‏:‏ يوم وقوع الهلاك بهم ‏{‏للمكذِّبين‏}‏ بما أوعدنا‏.‏

‏{‏ألم نَخْلُقْكُمْ من ماءٍ مهينٍ‏}‏؛ حقير، وهو النطفة، ‏{‏فجعلناه في قرارٍ مكينٍ‏}‏ أي‏:‏ مقرّ يتمكّن فيه، وهو الرحم، ‏{‏إِلى قَدَرٍ معلوم‏}‏؛ إلى مقدار معلوم من الوقت، قدّره اللهُ تعالى في أزله، لا يتقدّم عليه ولا يتأخر عنه، وهو تسعة أشهر في الغالب، أو أكثر أو أقل على حسب المشيئة، ‏{‏فقدّرنا‏}‏ ذلك تقديراً لا يتبدل أو‏:‏ فَقَدرْنا على ذلك ‏{‏فَنِعْمَ القادرون‏}‏ أي‏:‏ المقدِّرون له نحن، أو‏:‏ فنعم القادرون على أمثال ذلك، ‏{‏ويل يومئذ للمُكذِّبين‏}‏ لقدرتنا على ذلك، أو‏:‏ على الإعادة، أو‏:‏ بنعمة الفطرة من النشأة الدالة على صدق الوعيد بالبعث‏.‏

‏{‏ألم نجعل الأرضَ كِفَاتاً‏}‏؛‏.‏‏.‏‏.‏ وجامعة، والكِفَات‏:‏ اسم ما يَجمع ويضم، من‏:‏ كَفَتَ شعره‏:‏ إذا ضمه بخرقة، كالضمام والجماع لما يَضُمّ ويجمع، أي‏:‏ ألم نجعلها كفاتاً تكفت ‏{‏أحياءً‏}‏ كثيرة في ظهرها ‏{‏وأمواتاً‏}‏ غير محصورة في بطنها‏.‏ ونظر الشعبي إلى الجبانة فقال‏:‏ هذه كِفَاتُ الموتى، ثم نظر إلى البيوت فقال‏:‏ هذه كِفَات الأحياء‏.‏ ه‏.‏ ولمّا كان القبر كفاتاً كالبيت قُطع مَن سَرق منه‏.‏ و«أحياء وأمواتاً» منصوبان ب «كِفاتاً» لأنه في معنى اسم الفاعل، أي‏:‏ كافتة أحياء وأمواتاً، أو‏:‏ بفعل محذوف، أي‏:‏ تكفت على الحال، أي‏:‏ تكفتهم في حال حياتهم ومماتهم‏.‏

‏{‏وجعلنا فيها رواسيَ‏}‏، أي‏:‏ جبالاً ثوابت ‏{‏شامخاتٍ‏}‏؛ طوالاً شواهق، ووصْفُ جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد، وتنكيرها للتفخيم، وللإشعار بأنَّ فيها ما لم يُعرف، ‏{‏وأسقيانكم ماءً‏}‏ بأن خلقنا فيها أنهاراً ومنابع ‏{‏فُراتاً‏}‏؛ عذباً صافياً ‏{‏ويل يومئذ للمُكذِّبين‏}‏ بأمثال هذه النِعم العظيمة‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم نُهلك الجبابرة الأولين، المتكبرين على الضعفاء والمساكين، ثم نُتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين في كل زمان، أو‏:‏ ألم نُهلك الغافلين المتقدمين والمتأخرين، بموت قلوبهم وأرواحهم، بالانهماك في الشهوات، كذلك نفعل بالطغاة المتكبرين، ويل يومئذ للمكذِّبين الشاكّين في وقوع هذا الوعيد‏.‏ ألم نخلقكم من ماء مهين حقير‏؟‏ فكيف تتكبّرون وأصلكم حقير، وآخركم لحم منتن عقير‏؟‏ ولعليّ كرّم الله وجهه‏:‏ ما لابن آدم والفخر، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بينهما يحمل العذرة‏.‏

ه‏.‏ هذا في الصورة البشرية وأمّا الروح السارية فيها، فأصلها عز وشرف، فمَن غلبت روحُه على بشريته، وعقله على هواه، التحق بالملائكة الكرام في الشرف والنزاهة، ومَن غلبت بشريتُه على روحانيته، وهواه على عقله، التحق بالبهائم في الخسة والدناءة‏.‏

ألم نجعل أرض البشرية جامعة للقلوب والأرواح والأحياء بالعلم والمعرفة، حين غلبت الروح والعقل على البشرية والهوى، وللنفوس والقلوب الميتة، حين غلب الهوى‏.‏ وجعلنا فيها رواسي من العقول الثابتة، لتميز بين النافع الضار، وأسقيانكم من ماء العلوم التي تحيا به القلوب والأرواح، ماءً عذباً لمَن وفّقه اللهُ لشُربه على أيدي الرجال‏.‏ ويل يومئذ للمكذِّبين بها، فإنه يعيش ظمآناً، ويموت عطشاناً، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 40‏]‏

‏{‏انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله للكفرة المكذِّبين‏:‏ ‏{‏انطلِقوا‏}‏ أي‏:‏ سيروا ‏{‏إِلى ما كنتم به تُكَذِّبون‏}‏ من النار المؤبَدة عليكم، ‏{‏انطلقوا إِلى ظِلًّ‏}‏؛ دخان جهنم ‏{‏ذي ثَلاثٍ شُعَبٍ‏}‏، يتشعّب لِعظَمه ثلاث شعب، كما هو شأن الدخال العظيم، تراه يتفرّق ذوائب، وقيل‏:‏ يخرج لسان من النار يحيط بالكفار كالسرداق، ويتشعّب من دخانها ثلاث شُعب، فتُظلم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش‏.‏ قيل‏:‏ الحكمة في خصوصية الثلاث‏:‏ أن حجاب النفس عن أنوار القدس ثلاث، الحس والخيال والوهم، وقيل‏:‏ إنّ المؤدِّي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية، الحالة في الدماغ، والقوة الغضبية التي عن يمين القلب، والقوة الشهوانية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل‏:‏ تقف شُعبة فوق الكافر وشُعبة عن يمينه، وشُعبة عن يساره‏.‏

ثم وصف ذلك الظل بقوله‏:‏ ‏{‏لا ظليلٍ‏}‏ أي‏:‏ لا مُظِلّ من حرّ ذلك اليوم أو من حرّ النار، ‏{‏ولا يُغنِي من اللهب‏}‏ أي‏:‏ وغير مغنٍ عن حر اللهب شيئاً لعدم البرودة فيه، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَظِلٍ مِن يَحْمُومٍ لاَّ بَارٍدٍ َولآ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 43، 44‏]‏، ‏{‏إِنها ترمي بشَرَرٍ‏}‏ وهو ما تطاير من النار ‏{‏كالقَصْرِ‏}‏ في العِظم، أي‏:‏ كل شررة كقصر من القصور في العِظم‏.‏ وقيل‏:‏ هو الغليظ من الشجر، الواحدة‏:‏ قَصْرةٌ، كجمْر وجمرة، ‏{‏كأنه جمالاتٌ‏}‏ جمع جَمَلَ‏.‏ وقرأ أهل الكوفة، غير شعبة «جِمَالةٌ» وهو أيضاً جمع جَمَل، وجمالات جمع الجمع‏.‏ ‏{‏صُفرٌ‏}‏ فإنَّ الشرار لِما فيه من النار يكون أصفر، وقيل‏:‏ سود؛ لأنَّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة، والأول تشبيه لها في العِظم، وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في «إنه» يعود إلى القصر، فيذهب به إلى تصوير عجيب وتطوير غريب‏.‏ شبهت الشرارة حين تنقض من النار في العظم بالقصر، ثم شبّه القصر المشبّه به، حين يأخذ في الارتفاع والانبساط بأن ينشق عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات المتكاثرة، فيتصوّر فيها حينئذٍ العِظَم أولاً، والانشقاق مع الكثرة والصُفرة والحركة ثانياً، فيبلغ بالتشبيه إلى الذروة العليا‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏

‏{‏ويل يومئذٍ للمكذّبين‏}‏ بنارٍ هذه صفتها مع شواهد القدرة على ذلك وعلى أكبر منه، ‏{‏هذا يومُ لا ينطقون‏}‏، الإشارة إلى وقت دخولهم النار، أي‏:‏ هذا يوم لاينطقون فيه بشيءٍ، إمَّا لأنَّ السؤال والجواب والحساب قد انقضت قبل ذلك، ويوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت، فينطقون في وقتٍ دون وقتٍ، فعبّر عن كل وقت بيوم، أو‏:‏ لا ينطقون بشيءٍ ينفعهم، فإنَّ ذلك كلا نُطق‏.‏ وقُرىءَ بنصب اليوم، أي‏:‏ هذا الذي ذكروا وقع يومَ لا ينطقون، ‏{‏ولا يُؤذَنُ لهم‏}‏ في الاعتذار ‏{‏فيعتذِرُون‏}‏‏:‏ عطف على «يُؤذَن» منخرط في سلك النفي، أي‏:‏ لا يكون لهم إذن ولا اعتذار يتعقب له، وليس الإذن سبباً للأعتذار وإلاّ لنصب‏.‏

قال الطيبي عن صاحب الكشف‏:‏ التقدير‏:‏ هذا يوم لا ينطقون بمنطق ينفعهم، ولا يعتذرون بعذرٍ يدفع عنهم، ف «يعتذرن» داخل في النفي، ولو حملناه على الظاهر لتَنَاقض؛ لأنه يصير‏:‏ هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون؛ لأن الاعتذار نُطق أيضاً‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذِّبين‏}‏ بالبعث وما بعده‏.‏

‏{‏هذا يومُ الفَصْلِ‏}‏ بين الحق والباطل، أو‏:‏ بين المُحق والمُبطل، ‏{‏جمعناكم‏}‏ فيه، والخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والأولينَ‏}‏ من الأمم، فيقع الفصل بين الخلائق، ‏{‏فإِن كان لكم كَيْدٌ‏}‏ هنا كما كان في الدنيا ‏{‏فكِيدُونِ‏}‏ فإنَّ جميع مَن كنتم تُقلدون وتقتدُون بهم حاضرون معكم‏.‏ وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم هناك، ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذِّبين‏}‏ بهذا، حيث أظهر ألاَّ حِيلة لهم في الخلاص من العذاب‏.‏

الإشارة‏:‏ انطلِقوا إلى ضد ما كنتم به تُكذِّبونن مِن رفع درجات المجتهدين المقربين وسقوط درجة البطالين، فانحطوا إلى نار البُعد والحجاب‏.‏ وتكذيبهم بذلك هو من حيث لم يعملوا بمقتضاه‏.‏ انطلقوا إلى ظل الحجاب، ذي ثلاث شُعب، تشعب عليه الحجاب، وانسدل عليه ثلاث مرات، ظِل حجاب الغفلة، وظِل حجاب الهوى، وظِل حجاب حس الكائنات‏.‏ لا ظليل؛ ليس فيه نسيم القُرب، ولا برد الرضا والتسليم، ولا يُغني من لهب حر القطيعة والبُعد، أو حرّ التدبير والاختيار، إنها ترمي بشررٍ، مَن كان باطنه في نار القطيعة رمَى بشررها على ظاهره، فيظهر منه الغضب والقسوة والغِلظة والفظاظة‏.‏ قال القشيري‏:‏ يُشير إلى ما يترتب على هذه الشُعب من الأوصاف البهيمية والسبُعية والشيطانية، وأنَّ كل صفة منها بحسب الغلظة والشدة كالقصور المرتفعة، والبروج المشيّدة، كأنه جمالات عظيمة الهيكل، طويلة الأثر صُفر من شدة قوة النارية في ذلك الشرر، وهي القوة الغضبية‏.‏ ويل يومئذ للمكذِّبين بهذه التشبيهات اللطيفة والإشعارات الظريفة، المنبئة عن الحقائق والدقائق‏.‏ ه‏.‏

هذا يوم لا ينطقون من شدة تحيرهم، وقوة دهشهم، ولا يُؤذن لهم فيعتذرون عن بطالتهم وتقصيرهم وقلة استعدادهم لهذا اليوم‏.‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذِّبين‏}‏ قال القشيري‏:‏ لأنهم أفسدوا الاستعداد، بالركون إلى الدنيا وشهواتها والميل عن الآخرة ودرجاتها‏.‏ ه‏.‏ هذا يوم الفصل بين أهل الجد والاجتهاد، وأهل البطالة والفساد، أو بين أهل القرب والوصال، وبين أهل البُعد والانفصال، أو بين أهل الشهود والعيان وأهل الدليل والبرهان، أو‏:‏ بين المقربين وعامة أهل اليمين، جمعناكم والأولين، فيقع التمييز بين الفريقين من المتقدمين والمتأخرين، فإن كان لكم كيد وحيلة ترتفعون بها إلى درجات المقربين، فكيدونن ولا قُدرة على ذلك، حيث فاتهم ذلك في الدنيا‏.‏ ويل يومئذ للمكذَّبين بهذا الفصل والتمييز‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 50‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ المتقين‏}‏ الكفرَ والتكذيب ‏{‏في ظلالٍ‏}‏ ممدودة ‏{‏وعيون‏}‏ جارية ‏{‏وفواكهَ مما يشتهون‏}‏؛ مما يستلذون من فنون الترفُّه وأنواع التنعُّم‏.‏ يقال لهم‏:‏ ‏{‏كُلوا واشربوا‏}‏، فالجملة‏:‏ حال من الضمير المستقر في الظرف، أي‏:‏ هم يستقرُّون في ظلالٍ مقولاً لهم‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا هنيئاً‏}‏ لا تباعة عليه ولا عتاب، ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ في الدنيا من الأعمال الصالحة، ‏{‏إنَّا كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل هذا الجزاء العظيم ‏{‏نجزي المحسنينَ‏}‏ في عقائدهم وأعمالهم، فأحسِنوا تنالوا مثل هذا أو أعظم‏.‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ بهذا، حيث نال المؤمنون هذا الجزاء الجزيل، وبقوا هم في العذاب المخلَّد الوبيل‏.‏

ويُقال لهم في الدنيا على وجه التحذير‏:‏ ‏{‏كُلوا وتمتعوا‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ أو‏:‏ في الآخرة، أي‏:‏ الويل ثابت لهم، مقولاً لهم ذلك، تذكيراً لهم بحالهم في الدنيا، بما جَنوا على أنفسهم من إيثارهم المتاع الفاني عن قريب على التمتُّع الخالد، أي‏:‏ تمتّعوا زمناً ‏{‏قليلاً‏}‏ أو متاعاً قليلاً، لأنَّ متاع الدنيا كله قليل، ‏{‏إِنكم مجرمون‏}‏ أي‏:‏ كافرون، أي‏:‏ إنَّ كلّ مجرم يأكل ويتمتّع أياماً قلائل، ثم يبقى في الهلاك الدائم‏.‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذِّبين‏}‏، زيادة توبيخ وتقريع، أو‏:‏ ويل يومئذ للمكذِّبين الذين كذَّبوا‏.‏

‏{‏وإِذا قيل لهم اركعوا‏}‏ أي‏:‏ أطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا للّه، بقبول وحيه واتباع رسوله، وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة، ‏{‏لا يركعون‏}‏؛ لا يخشعون ولا يقبلون ذلك، ويُصرون على ماهم عليه من الاستكبار‏.‏ وقيل‏:‏ وإذا أُمروا بالصلاة لا يفعلون، إذ رُوي أنها نزلت حين أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثقيفاً بالصلاة، فقالوا‏:‏ لا ننحني، فإنها خسّة علينا، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» وقيل‏:‏ هو يوم القيامة، حين يُدْعَوْن إلى السجود فلا يستطيعون‏.‏

‏{‏ويل يومئذ للمكذِّبين‏}‏ بأمره ونهيه‏.‏ وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع‏.‏ ‏{‏فبأيِّ حديث بعده‏}‏ أي‏:‏ بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين، وأخبار النشأتين، على نمط بديع، ولفظ بليغ مُعجِز، مؤسس على حُجج قاطعة، وأنوار ساطعة، فإذا لم يؤمنوا به ‏{‏فبأي حديثٍ بعده يؤمنون‏}‏ أي‏:‏ إن لم يؤمنوا بالقرآن، مع أنه آية مبصرة، ومعجزة باهرة، من بين الكتب السماوية، فبأي كتاب بعده يؤمنون‏؟‏ فينبغي للقارىء أن يقول‏:‏ آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر‏.‏

الإشارة‏:‏ إنَّ المتقين ما سوى الله في ظلال التقريب، وبرد التسليم، ونسيم الوصال، فما أطيب نسيمهم وما ألذ مشربهم، كما قال الشاعر‏:‏

يا نسيمَ القُرب ما أطيبكا *** ذاق طعم الأُنس مَن حَلَّ بكا

أيُّ عيشٍ لأناس قُرِّبوا *** قد سُقوا بالقدس من مشربكا

‏{‏وعيون‏}‏ أي‏:‏ مناهل الشرب من رحيق الوجدان، وفواكه النظر، مما يشتهون، أي‏:‏ وقت يشتهون، كُلوا من رزق أرواحكم وأسراركم، وهو الترقي في معاريج العرفان، وأشربوا من رحيق أذواقكم، هنيئاً بما كنتم تعملون أيام مجاهدتكم، إنَّا كذلك نجزي المحسنين المتقين علومَهم وأعمالَهم‏.‏

ويل يومئذ للمكذِّبين بطريق هذا المقام الرفيع، يُقال لهم‏:‏ كُلوا وتمتّعوا وانهمكوا في الشهوات أياماً قلائل، إنكم مجرمون، وسيندم المفرّط إذا حان وقت الحصاد‏.‏ وإذا قيل لهم‏:‏ اخضعوا لمَن يُربيكم ويُرقيكم إلى تلك المراتب العلية المتقدمة للمتقين، لا يخضعون، فالويل لهم على تكذيبهم، فبأي حديث وأيّ طريق بعد هذا يؤمنون، وأيّ طريق يسلكون، وبأيّ كتاب يهتدون‏؟‏ إن حادوا عن طريق السلوك على أيدي الرجال، فماذا بعد الحق إلاّ الضلال‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلّم‏.‏